صلح الحديبية صلح الحديبية عهد واتفاق ،تم بين المسلمين وقريش في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة قرب موضع يقال له الحديبية قبيل مكة .ففي ذلك العام رأى رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام ،وأنهم يطوفون بالبيت ،فأخبر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم -أصحابه بذلك ،ففرحوا فرحا شديدا ،فرؤيا األنبياء حق ،وقد اشتدبهم الحنين إلى تأدية النسك والطواف بالكعبة ودخول مكة ،موطنهم األول ومسقط رأسهم. خرج النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ومعه زوجه أم سلمة في ألف وأربعمائة مسلم ،متجهين إلى مكة لقضاء أول عمرة لهم بعد الهجرة ،وحملوا معهم السالح توقعا لشر قريش ،فلما وصل إلى ذي الحليفة أهل ُمحْ رما هو ومن معه ،وبعث النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ بُسر بن سفيان إلى مكة ليأتيه بأخبار قريش وردود أفعالهم .وحين وصل المسلمون إلى عسفان(مكان بين مكة والمدينة) ،جاءهم بسر بأخبار استعدادات قريش لصد ومنع المسلمين من دخول مكة.. فاستشار النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ أصحابه ،فأشار أبو بكر ـ رضي هللا عنه ـ بالتوجه إلى مكة ألداء العمرة والطواف بالبيت ،وقال ( :فمن صدنا عنه قاتلناه ،فقال ـ صلى هللا عليه وسلم ـ :امضوا على اسم هللا ) ( البخاري ). وصلى الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ بأصحابه في عسفان صالة الخوف ،ثم سلك بهم طريقا وعرة ،متجنبا االصطدام بخالد بن الوليد ـ وكان ال زال على الشرك ـ حيث خرج من مكة بجنود ليمنع النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ من دخولها ..فمضى النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ومعه أصحابه باتجاه مكة حتى إذا اقتربوا من الحديبية بركت ناقته ،فقالوا :خألت القصواء(امتنعت عن المشي)؟ ،فقال ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ( :ما خألت القصواء وما ذلك لها بخلق ،ولكن حبسها حابس الفيل )ثم قال ـ صلى هللا عليه وسلم ( :والذي نفسي بيده، ال يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات هللا إال أعطيتهم إياها ( )البخاري( .. فلما نزل الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ بالحديبية أرسل عثمان ـ رضي هللا عنه ـ إلى قريش وقال له :أخبرهم أنا لم نأت لقتال ،وإنما جئنا عماراً ،وادعهم إلى اإلسالم ،وأَمره أن يأتي رجاالً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات ،فيبشرهم بالفتح ،وأن هللا عز وجل مظهر دينه بمكة.. فانطلق عثمان فمر على قريش ،فقالوا :إلى أين؟ ،فقال :بعثني رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ أدعوكم إلى هللا وإلى اإلسالم ،ويخبركم :أنه لم يأت لقتال ،وإنما جئنا عماراً.. ولكن عثمان احتبسته قريش فتأخر في الرجوع إلى المسلمين ،فخاف الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ عليه ،وخاصة بعد أن شاع أنه قد قتل ،فدعا إلى البيعة ،فتبادروا إليه ،وهو تحت الشجرة ،فبايعوه على أن ال يفروا ،وهذه هي بيعة الرضوان التي نزل فيها قول هللا تعالى: س ِكي َنةَ ع ِن ْال ُمؤْ ِمنِينَ ِإ ْذ يُ َبا ِيعُونَكَ تَحْ تَ ال ه ي ه ش َج َرةِ فَ َع ِل َم َما فِي قُلُو ِب ِه ْم فَأ َ ْنزَ َل ال ه َّللاُ َ { لَقَ ْد َر ِ ض َ علَ ْي ِه ْم َوأَثَا َب ُه ْم فَ ْتحا ً قَ ِريبا ً } (الفتح.)18: َ وأرسلت قريش عروة بن مسعود للتفاوض مع الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ،ثم أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح ،فلما رآه النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ وسلم قال :قد سهل لكم أمركم ،أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل .فتكلم سهيل طويالً ثم اتفقا على قواعد الصلح. وقد روى اإلمام أحمد أن النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ بدأ يُ ْملي شروط الصلح ،و علي بن أبي طالب ـ رضي هللا عنه ـ يكتب ،فأماله النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ( :بسم هللا الرحمن الرحيم ،فقال سهيل :أما الرحمن فوهللا ال ندري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم ،فأمر رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -عليًّا فكتبها كذلك ،ثم أملى ـ صلى هللا عليه وسلم ـ :هذا ما صالح عليه محمد رسول هللا ،فقال سهيل :لو نعلم أنك رسول هللا ما صددناك عن البيت، وال قاتلناك ،ولكن اكتب محمد بن عبد هللا ،فوافق رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ وقال :وهللا ،إني لرسول هللا وإن كذبتموني ،اكتب محمد بن عبد هللا ). ي في التاريخ والسيرة صلحا ،يقضي بأن تكون هناك وأسفرت المفاوضات عن اتفاق ُ س ِم َ هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات ،وأن يرجع المسلمون إلى المدينة هذا العام فال يقضوا العمرة إال العام القادم ،وأن يرد محمد ـ صلى هللا عليه وسلم ـ من يأتي إليه من قريش مسلما دون علم أهله ،وأال ترد قريش من يأتيها مرتدا ،وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه ،ومن أراد أن يدخل في عهد محمد ـ صلى هللا عليه وسلم ـ من غير قريش دخل فيه.. وبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو في قيوده وألقى بنفسه بين المسلمين ،فقال سهيل :هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ،فأعاده النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ للمشركين ،فقال أبو جندل :يا معشر المسلمين أَأُُُ َرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ،فقال له النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ (:إنا عقدنا بيننا وبين القوم عهدا ،وإنا ال نغدر بهم ) ،ثم طمأنه النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ قائال (:يا أبا جندل اصبر واحتسب ،فإن هللا جاعل لك ولمن معك فرجا ومخرجا ) ( أحمد ).. وافق الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ على شروط المعاهدة ،التي بدا للبعض أن فيها إجحافا وذالً للمسلمين ،ومنهم عمر ـ رضي هللا عنه ـ الذي قال للنبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ( :ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ ،قال ـ صلى هللا عليه وسلم ـ بلى ،فقال :فَ ِل َم نعطي الدنية في ديننا إذا ً ؟ ) ( البخاري ) . لكن الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ كان مدركا وموقنا أن هذا الصلح سيكون فاتحة خير وبركة على المسلمين بعد ذلك .ثم انصرف رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ قاصدا المدينة.. والح َكم ،ومنها: ومن خالل صلح الحديبية وأحداثه ،يمكن استخالص العديد من الدروس ِ وجوب طاعة النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ واالنقياد والتسليم ألمره ،فعمر ـ رضي هللا عنه ـ وبعض الصحابة كرهوا هذا الصلح ،ورأوا في شروطه الظلم واإلجحاف بالمسلمين ،لكنهم ندموا على ذلك ،وظلت تلك الحادثة درسا لهم فيما استقبلوا من حياتهم ،فكان سهل بن حنيف ـ رضي هللا عنه ـ يقول " :اتهموا رأيكم،رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ لرددته ".. وبقي عمر ـ رضي هللا عنه ـ زمنا طويال متخوفا أن ينزل هللا به عقابا لما قاله يوم الحديبية، وكان يقول :فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت ،مخافة كالمي الذي تكلمت به يومئذ .وهو القائل ـ رضي هللا عنه ـ بعد ذلك وهو يقبل الحجر األسود ( :إني أعلم أنك حجر ال تضر وال تنفع ولوال أني رأيت النبي -صلى هللا عليه وسلم -يقبلك ما قبلتك )( البخاري ). فتعلم الصحابة من صلح الحديبية وجوب طاعة النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ واالنقياد ألمره وإن خالف ذلك العقول والنفوس ،ففي طاعته ـ صلى هللا عليه وسلم ـ الصالح المتضمن لسعادة الدنيا واآلخرة ،وإن قصر العقل عن إدراك غايته وعاقبة أمره .. وفي هذا الصلح المبارك ظهرت أهمية الشورى ،ومكانة المرأة في اإلسالم ،وأهمية القدوة العملية في موقف واحد. روى اإلمام أحمد بسنده من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم -رضي هللا عنهما قصة صلح الحديبية في حديث طويل ،ذكر فيه أنه لما تم الصلح بين النبي -صلى هللا عليهوسلم -ومشركي قريش قام رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -فقال ( :يا أيها الناس انحروا واحلقوا ) ،قال :فما قام أحد ،قال :ثم عاد بمثلها ،فما قام رجل حتى عاد بمثلها ،فما قام رجل، فرجع رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -فدخل على أم سلمة فقال ( :يا أم سلمة ! ما شأن الناس؟ قالت :يا رسول هللا قد دخلهم ما قد رأيت ،فال تكلمن منهم إنساناً ،واعمد إلى هديك حيث كان فانحره ،واحلق فلو قد فعلت ذلك ،فعل الناس ذلك ،فخرج رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -ال يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق ،فقام الناس ينحرون ويحلقون ). فكان رأي أم سلمة ـ رضي هللا عنها ـ رأيا ً موفقا ومشورة مباركة ،وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة مادامت ذات فكر صائب ورأي سديد ،كما أنه ال فرق في اإلسالم بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة ،طالما أنها مشورة صائبة ،فالشورى سلوك صالة َ ينظم الحياة واألسرة في كل شؤونها ،قال هللا تعالىَ { :والهذِينَ ا ْستَ َجابُوا ِل َر ِب ِه ْم َوأَقَا ُموا ال ه َوأ َ ْم ُر ُه ْم ُ ورى َب ْي َن ُه ْم َو ِم هما َرزَ ْقنَا ُه ْم ُي ْن ِفقُونَ } (الشورى.)38: ش َ وفي قبول النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ لمشورة زوجته أم سلمة تكريم للمرأة ،التي يزعم أعداء اإلسالم أن اإلسالم لم يعطها حقها وتجاهل وجودها ،وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبي مرسل ،ويعمل النبي -صلى هللا عليه وسلم -بمشورتها لحل مشكلة واجهته في حياته . وفي هذا الموقف أيضا التأكيد على أهمية القدوة العملية ،فقد دعا رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ إلى أمر وكرره ،ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته ،فلما أقدم رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة ـ رضي هللا عنها ـ تحقق المراد، فالقدوة العملية أجدى وأنفع ،خاصة في مثل هذه المواقف .. ومن الفوائد الهامة من صلح الحديبية أن المشركين وأهل الفجور ،إذا طلبوا أمرا ً يعظمون فيه حرمة من حرمات هللا تعالى ،أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه ،فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات هللا تعالى ،ال على كفرهم وبغيهم ،ويمنعون مما سوى ذلك ،قال الزهري : وذلك لقوله ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ( :ال يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات هللا ،إال أعطيتهم إياها ) . وظهر في صلح الحديبية مدى حب الصحابة للنبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ،يعبر عن ذلك عروة في قوله لقومه ( :أي قوم ،وهللا لقد وفدت على الملوك ،ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ،وهللا ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ـ صلى هللا عليه وسلم ـ محمدا ،وهللا ما تنخم نخامة إال وقعت في كف رجل منهم ،فدلك بها وجهه وجلده ،وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ،وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ،وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ،وما يحدون إليه النظر تعظيما له ،وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ) ( البخاري ). ومن الحكم الباهرة من صلح الحديبية أنه كان بابا ومفتاحا لفتح مكة .ولئن لم ينتبه المسلمون لهذا في حينه ،فذلك ألن المستقبل غائب عنهم ،فقد اختلط المسلمون بالكفار ـ بعد عقد الصلح ـ وهم في أمان ،ودعوهم إلى هللا ،وأسمعوهم القرآن ،ولم يُكلم أحد باإلسالم يعقل شيئا إال دخل فيه ،ودخل في سنتين مثل من كان في اإلسالم قبل ذلك بل أكثر ..فقد خرج رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ،ثم خرج عام فتح مكة بعد عامين في عشرة آالف ،وهذا ما بشر به رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ أصحابه أثناء رجوعه إلى ي مما ي الليلة سورة لهي أحب إل ه المدينة بعد عقد المعاهدة والصلح ،حينما قال ( :أنزلت عل ه طلعت عليه الشمس .ثم قرأِ { :إ هنا فَتَحْ نَا لَكَ فَ ْتحا ً ُم ِبينا ً } (الفتح () )1:البخاري ) . قال ابن مسعود رضي هللا عنه " :إنكم تعدون الفتح فتح مكة ،ونحن نعد الفتح صلح الحديبية". إن عرض اإلسالم والدعوة إليه في جو من الهدوء واألمان ،وحرية الحوار بالحجة والكلمة الطيبة ،كان له أبلغ األثر ،وذلك ألن الحق له قوة يظهر بها على الباطل ،فإذا أحسن العرض والدعوة إليه ،واختير القول والوقت المناسب ،وكان الداعية عالما بما يدعو له ،حكيما في دعوته ،كانت النتائج أعظم .. والح َكم ،التي ينبغي الوقوف معها واالستفادة منها في لقد كان صلح الحديبية غنيا بالدروس ِ واقعنا ومستقبلنا كأفراد ومجتمعات ...