Uploaded by Ahmed Ashour

Kotobati - ملهم العالم - عائض القرني

advertisement
‫د‪ .‬عائض القرين‬
‫ُملِه ُم العاْمل‬
‫مكتبة الحبر اإللكتروني‬
‫مكتبة العرب الحصرية‬
‫الفهرس‬
‫م‬
‫املوضوع‬
‫رقم الصفحة‬
‫م‬
‫املوضوع‬
‫رقم الصفحة‬
‫‪1‬‬
‫الفهرس‬
‫‪5‬‬
‫‪29‬‬
‫حُم مٌد ﷺ داعًيا‬
‫‪404‬‬
‫‪2‬‬
‫املقدمة‬
‫‪7‬‬
‫‪30‬‬
‫حُم مٌد ﷺ زاهًد ا‬
‫‪415‬‬
‫‪3‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمّلهًم ا‬
‫‪13‬‬
‫‪31‬‬
‫حُم مٌد ﷺ وفًّيا‬
‫‪423‬‬
‫‪4‬‬
‫حُم مٌد ﷺ يتيًم ا‬
‫‪28‬‬
‫‪32‬‬
‫حُم مٌد ﷺ صادًقا‬
‫‪432‬‬
‫‪5‬‬
‫حُم مٌد ﷺ نبًيا‬
‫‪38‬‬
‫‪33‬‬
‫حُم مٌد ﷺ أميًنا‬
‫‪440‬‬
‫‪6‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُموحًد ا‬
‫‪80‬‬
‫‪34‬‬
‫حُم مٌد ﷺ شجاًعا‬
‫‪449‬‬
‫‪7‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمهاجًرا‬
‫‪95‬‬
‫‪35‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمتواضًعا‬
‫‪456‬‬
‫‪8‬‬
‫حُم مٌد ﷺ عظيًم ا‬
‫‪106‬‬
‫‪36‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ضاحًك ا‬
‫‪467‬‬
‫‪9‬‬
‫حُم مٌد ﷺ رحيًم ا‬
‫‪122‬‬
‫‪37‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ابكًيا‬
‫‪473‬‬
‫‪10‬‬
‫حُم مٌد ﷺ حليًم ا‬
‫‪135‬‬
‫‪38‬‬
‫حُم مٌد ﷺ فصيًح ا‬
‫‪479‬‬
‫‪11‬‬
‫حُم مٌد ﷺ كرًميا‬
‫‪149‬‬
‫‪39‬‬
‫حُم مٌد ﷺ زوًج ا‬
‫‪495‬‬
‫‪12‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمتفائاًل‬
‫‪158‬‬
‫‪40‬‬
‫حُم مد ﷺ أاًب‬
‫‪504‬‬
‫‪13‬‬
‫حُم مٌد ﷺ راضًيا‬
‫‪175‬‬
‫‪41‬‬
‫حُم مد ﷺ عابًد ا‬
‫‪513‬‬
‫‪14‬‬
‫حُم مٌد ﷺ صابًرا‬
‫‪188‬‬
‫‪42‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمصّلًيا‬
‫‪521‬‬
‫‪15‬‬
‫حُم مٌد ﷺ شاكًرا‬
‫‪207‬‬
‫‪43‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمتهّج ًد ا‬
‫‪537‬‬
‫‪16‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ميسًرا‬
‫‪222‬‬
‫‪44‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمتصدًقا‬
‫‪546‬‬
‫‪17‬‬
‫حُم مد ﷺ ُمبشًرا‬
‫‪234‬‬
‫‪45‬‬
‫حُم مد ﷺ صائًم ا‬
‫‪556‬‬
‫‪18‬‬
‫حُم مٌد ﷺ حمبواًب‬
‫‪245‬‬
‫‪46‬‬
‫حُم مٌد ﷺ حاًج ا‬
‫‪567‬‬
‫‪19‬‬
‫حُم مد ﷺ ُمبارًك ا‬
‫‪261‬‬
‫‪47‬‬
‫حُم مٌد ﷺ اتلًيا‬
‫‪580‬‬
‫‪20‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمعلًم ا‬
‫‪274‬‬
‫‪48‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ذاكًرا‬
‫‪588‬‬
‫‪21‬‬
‫حُم مد ﷺ مصلًح ا‬
‫‪300‬‬
‫‪49‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمسافًرا‬
‫‪629‬‬
‫‪22‬‬
‫حُم مٌد ﷺ مجياًل‬
‫‪315‬‬
‫‪50‬‬
‫حُم مٌد ﷺ زائًرا‬
‫‪638‬‬
‫‪23‬‬
‫حُم مٌد ﷺ فاًحتا‬
‫‪329‬‬
‫‪51‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمناجًيا‬
‫‪648‬‬
‫‪24‬‬
‫حُم مٌد ﷺ انجًح ا‬
‫‪338‬‬
‫‪52‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُمستغفًرا‬
‫‪663‬‬
‫‪25‬‬
‫حُم مٌد ﷺ حمسًنا‬
‫‪348‬‬
‫‪53‬‬
‫حُم مٌد ﷺ ُموِّد ًعا‬
‫‪675‬‬
‫‪26‬‬
‫حُم مٌد ﷺ سعيًد ا‬
‫‪361‬‬
‫‪54‬‬
‫صلوا عليه وسّلموا تسليًم ا‬
‫‪690‬‬
‫‪27‬‬
‫حُم مٌد ﷺ قائًد ا‬
‫‪373‬‬
‫‪55‬‬
‫قصيدة ملهم العامل‬
‫‪710‬‬
‫‪28‬‬
‫حُم مٌد ﷺ عاداًل‬
‫‪388‬‬
‫‪56‬‬
‫اخلامتة‬
‫‪713‬‬
‫املقدمة‬
‫ِإَّن اَلحْم د هلل‪َ ،‬نْح َم ُدُه َو َنْس َتِع يُنُه َو َنْس َتْغِفُر ُه‪َ ،‬و َنُعوُذ باهلل ِم ْن ُشُر وِر َأْنُفِسَنا َو ِم ْن َسِّيَئاِت َأْع َم الِنا‪،‬‬
‫َم ْن َيْه ِدِه ُهللا َفال ُمِض َّل َلُه‪َ ،‬و َم ْن ُيْض ِلْل َفاَل َهاِد َي َلُه‪َ ،‬و َأْش َه ُد َأْن ال ِإَلَه ِإال ُهللا َو ْح َدُه ال َشِر يَك َلُه‪،‬‬
‫َو َأْش َه ُد َأَّن ُمَحَّم ًدا َعْبُدُه َو َر ُسوُلُه ﷺ‪.‬‬
‫أَّم ا بعُد‪ :‬فِم ْن أماِم الكعبِة المشّر فِة ِفي المسجِد الحراِم ‪ ،‬بعَد صالِة الفجِر أكتُب هِذِه األسطَر ‪،‬‬
‫وَم ا توفيِقي ِإال باهلل عليه توكلُت وإليِه ُأنيُب ‪.‬‬
‫آمُل بعوِن هللا وتوفيقِه أْن يكوَن هَذا الكتاُب (ُم لِه ُم الَعاَلم) نقلًة نوعّيًة ِفي تقديِم الّسيرِة النّبوَّيِة‬
‫بطرٍح ُيمّيزُه اإلبداُع واإلمتاُع‪ ،‬واالّتباُع ال االبتداُع‪ ،‬والَّتجديُد ال الّتقليُد‪ ،‬و ُأريُد ِفي هَذا الكتاِب أْن‬
‫ُأقرَر المُقّر َر ‪ ،‬و َأْن أكّر َر المُكّر َر ‪ ،‬لئاَّل ُيقاَل ‪ :‬هِذه هدّيتنَا عادْت علينَا‪ ،‬وَهِذِه بِض اَعُتنَا ُر َّدْت إِلْينَا‪ ،‬وقِد‬
‫ابتعدُت َعِن الّر واياِت الواهَياِت‪ ،‬واألَح اديِث الموضوَعاِت‪ ،‬فإَّن ِفي الّص حيِح َم ا يكِفي‪َ ،‬و ِفي الُسنِّة َم ا‬
‫َيشِفي‪.‬‬
‫إن من يكتب عن الرسول ﷺ ليس كمن يكتب عن عاِلم أو فيلسوف أو َم ِلك أو أمير أو وزير‬
‫أو شاعر؛ ألن هؤالء قد ُيخطئون وُيصيبون‪ ،‬ويهتدون ويضّلون‪ ،‬وليس من شرط الكاتب أن ُيوافقهم‬
‫أو ُيؤمن بأفكارهم‪ ،‬أّم ا َم ن يكتب عن محمد ابن عبدهللا ﷺ فالبد أن يكون ُم ؤمنًا برسالته‪ُ ،‬م صّدقًا‬
‫بنبوته‪ ،‬يكتب بقلم المتّيم بُح ّبه‪ ،‬العاشق لسيرته‪ ،‬الهائم الذي يذوب شوقًا ألخباره ورؤيته‪:‬‬
‫َأَرٌق عَلى َأَرٍق َو ِم ثِلي أَي َرُق‬
‫َوَج وًى َيزيُد َو عَب َرٌة َترَت قَرُق‬
‫ُج هُد الَص باَبِة َأن َتكوَن َك ما َأرى‬
‫عٌنَي ُمسَّه َد ٌة َو َقلٌب خَي ِف ُق‬
‫والكتاب عن حياة رسول هللا ﷺ الُبد فيه من ثالث قيم عظيمة‪ ،‬وثالث سمات كريمة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أن تكون المعلومة صحيحة النقل ثابتة الُحّج ة لُتصان من الُتهمة والظنون‪ ،‬وُتحمى بسياج األمانة‬
‫والصدق‪ ،‬وأن تكون العبارة إذا ُسّطرت أدبية‪ ،‬ساحرة‪ ،‬آسرة‪ ،‬يهتف لروعتها القلب‪ ،‬وتهّش لجمالها‬
‫النفس‪ ،‬وتطرب لُح سنها األذن‪ ،‬فال ركاكة‪ ،‬وال تبّذل‪ ،‬وال تقّعر‪ ،‬وأن ُيصاحب ذلك ُح سن استنباط‬
‫للنص‪ ،‬وبراعة فقه‪ ،‬ودربة على الغوص في بحر السيرة لجلب أثمن الُّدرر الباهية‪ ،‬وأغلى الجواهر‬
‫الثمينة‪ ،‬وبدون هذه القيم الثالث تبقى الرسالة ناقصة‪ ،‬والمعلومة مبخوسة‪ ،‬والكتاب معلوًال‪.‬‬
‫ُم لهُم العالِم ‪ :‬كتاب عشته كلمًة كلمة‪ ،‬وحرفًا حرفًا‪ ،‬ولم أجرح فيه أحدًا ُألحّبب‬
‫الخلق في خليل الحق‪ ،‬وجعلته موردًا زالًال‪ ،‬وعذبًا فراتًا‪ ،‬وعسًال ُم صّفى‪ ،‬وبردًا وسالمًا‪ ،‬والفضل‬
‫هلل وحده‪ ،‬له الحمد والثناء الحسن‪ ،‬تقبله هللا مني بقبول حسن‪ ،‬وجعله خالصًا لوجهه الكريم‪ ،‬وأقول‬
‫لكل خليٍل من األحباب‪ ،‬وكل صديٍق من األصحاب؛ إذا قرأت هذا الكتاب ف {اْر ُكْض ِبِر ْج ِلَك َهَذا‬
‫ُم ْغَتَسٌل َباِر ٌد َو َشَر اٌب } [ص‪ :‬اآلية ‪.] 42‬‬
‫ُم لهُم العالِم ‪ :‬ليَس فيِه ِإعادٌة لَم ا ُكتَب ِفي الّسيرِة‪ ،‬و تقليٌد لمْن َسبقِني ِفي هِذه‬
‫المِسيرِة‪ ،‬و جمُع منقوالٍت‪ ،‬و حْش ُد ِر واياٍت‪ ،‬بْل تفّقٌه واعتباٌر ‪ ،‬وتفّكٌر ِفي تلَك األخباِر ‪ ،‬وَعرٌض‬
‫لروِح الّسيرِة‪ ،‬وربُطَه ا بحياِة اإلنساِن ‪ ،‬وذلك بالَغوِص ِفي بحارَها‪ ،‬ومحاولة اكتَشاِف ْاسراِر َها‪،‬‬
‫وإظهاِر أنواِر َها‪ ،‬واالْه تماِم بمَقاصِدَها‪ ،‬وإبراِز فَر ائِدَها‪ ،‬واْستنباِط َفواِئدَها‪.‬‬
‫ُم لهُم العالِم ‪ :‬ديواُن ُسّنٍة‪ ،‬ومذكراُت ُأسوٍة‪ ،‬وِر حالُت ُقدوٍة‪ ،‬ومْنهُج حياٍة‪ ،‬وُدستوُر‬
‫أخالٍق ‪ ،‬وقانوُن ُم ثٍل ‪ ،‬وميثاُق َشَر ٍف ‪ ،‬وَدعوُة إنقاٍذ‪ ،‬ومْش روُع إْص الٍح‪ ،‬وِر سالُة توحيٍد‪ ،‬وِخ َطاُب‬
‫تجديٍد‪.‬‬
‫ُم لهُم العالِم ‪ِ :‬قصُة نبٍّي‪ ،‬وحكايُة رُسوٍل ‪ ،‬وِس يرُة مْعصوٍم ‪ ،‬وِس جٌّل َح افٌل للّر حمِة‬
‫الُم هداِة‪ ،‬والّنعمِة الُم سداِة‪ ،‬حيُث الُفتوَح اُت الَّر ّبانّيُة‪ ،‬والّنفَح اُت الّنبوَّيُة‪ ،‬والُم عجزُة الُكبرى‪ ،‬والّنبُأ‬
‫العظيُم ‪ ،‬والِّر سالُة الخالدُة الخاِتمُة‪.‬‬
‫ُم لهُم العالِم ‪ :‬رحلُة نصِف قرٍن ‪ ،‬صحبُت فيَه ا الُم لهَم ﷺ لياًل ونهاًر ا‪ ،‬حضًر ا‬
‫وسفًر ا‪ ،‬سًّر ا وجهًر ا‪ ،‬شّدًة ورخاًء ‪ُ ،‬عسًر ا وُيسًر ا‪ ،‬فعشُت مَع ُسَّنِتِه الّز كّيِة ‪ ،‬وسيرِته العطرِة الّندّية‪،‬‬
‫ورأيُت أَّن زكاَة الّنَص اِب‪ ،‬وَم ا أخَذه ُهللا َعلى أهِل الكتاِب‪َ ،‬أْن أقوَم ِبواجِب نشر ُسّنتِه ‪ ،‬وَبِّث شريعتِه ‪.‬‬
‫ُم لهُم العالِم ‪ :‬قد عشت نصف قرن مع سيرة رسول رب العالمين‪ ،‬أنهل ِم ْن ذاَك‬
‫الَم عيِن ‪ ،‬جعلُت حديثُه ِلي أنيًسا وهِّج يًر ا‪ ،‬ونهلُت ِم ْن َم ورِدِه {َعْيًنا َيْش َر ُب ِبَه ا ِع َباُد ِهَّللا ُيَفِّج ُر وَنَه ا‬
‫َتْفِج يًر ا} [اإلنسان‪ :‬اآلية ‪.]6‬‬
‫لقْد أمهرُت الُّسنَة ُج فوني وأهديُتَه ا َسهِر ي وُشُج وني َم رًة تحضؤني الّدموُع‪ ،‬ومرًة الهيبُة‬
‫والُخُشوُع‪ ،‬وهَذا َجْه ُد الُم قّل ‪َ{ ،‬فِإْن َلْم ُيِص ْبَه ا َو اِبٌل َفَطٌّل } [البقرة‪ :‬اآلية ‪َ ،] 265‬و َم ا أجمَل الُعمَر مَع الَّنبِّي‬
‫المْعُص وِم ﷺ! َفسيرُتُه تجلي الهُم وَم ‪ ،‬وحديُثُه يكِش ُف الُغموَم ‪ ،‬وأنَفاُسُه الّطاهرُة ُتْز كيِني‪ ،‬وِذكرياُتُه‬
‫العامرُة ُتبِك يِني‪ ،‬وَم ا كنُت أظُّن أّن القلَب َيبِك ي قبَل الَعيِن حَّتى َطالعُت سيرَة سِّيِد الُم رسِليَن ﷺ‪.‬‬
‫إَّن حياَة رُسولَنا ﷺ ِه ي الّص فحُة البيضاُء ِفي هَذا العالِم ‪َ ،‬و ِه ي الّشجرُة الَخضَر اُء ِفي الَكوِن ‪،‬‬
‫َو ِه ي الّنهُر العذُب الّز الُل ِفي َص حَر اِء الحياِة‪ ،‬فَيا حْسرتاُه َعلى ُكِّل َدقيقٍة َفاتْت ِفي غيِر دقائِق‬
‫ْاسرارِه! وَيا أَسفاُه َعلى كّل نَفٍس ذهَب ِبدوِن ِع طِر أْخ بارِه!‪.‬‬
‫تاهلل لسيرُته قد جّم لت الوجوَد‪ ،‬وأَنارِت الّدنَيا‪ ،‬وَبَه رِت العالَم ‪ ،‬فِه َي عصمُة نبّو ة‪ ،‬وجاللُة‬
‫رسالٍة‪ ،‬وتعاليُم فاتٍح‪ ،‬وأخالُق إنساٍن ‪ ،‬وإْنجاُز قائٍد‪ِ ،‬بعثتُه رحمٌة‪ ،‬وحياُتُه إلهام‪ ،‬وُو جوُده أَم اٌن ‪،‬‬
‫وأْخ باُر ه َشريعٌة‪ ،‬وكاَل ُم ُه وْح ٌي ‪.‬‬
‫هَو للعَدالِة عْنواٌن ‪ ،‬وللبياِن ديواٌن ‪ُ ،‬هو جامعُة اإلْح ساِن ِفي ُدنَيا الُّشِّح‪ ،‬وُهو صْر ُح الُحِّب ِفي‬
‫َعالِم الَج فاِء ‪َ ،‬طّه ر ُهللا المعمورَة بالّنبِّي الُم ختاِر ‪َ ،‬كَم ا طّه َر األرَض ِبالغيِث الِم ْدراِر ‪َ ،‬شرُف البشرّيِة‬
‫أَّن مَنها ُم حمًدا‪ ،‬وفخُر اإلنسانّيِة أَّن ِم ْن بنيَه ا َأَح مدا‪:‬‬
‫قْد شّرَف ُهللا أرًض ا أنَت َس اِكُنَه ا‬
‫وشّرَف الّناَس إْذ سّو اَك إنسااَن‬
‫إْن كاَن أبوَك ُهو والدَك الُج ثماني‪َ ،‬فالّر سوُل ﷺ ُهو والُدَك الّر ّباني‪ ،‬وإْن كاَن والدَك أطعمَك‬
‫خبًز ا‪ ،‬فإَّن الّر سوَل ﷺ قْد أطعمَك مْن مائدِة الوْح ِي عًّز ا‪ ،‬وإْن كاَن والدَك كساَك ثوًبا‪ ،‬فإَّن ُم عّلَم الخير‬
‫ﷺ كساَك مْن رحمِة هللا ثواًبا‪ ،‬وإْن كاْن والدَك أسكنَك بيًتا مْن ِح جارٍة وِط يٍن ‪ ،‬فإَّن رسوَل الُه دى ﷺ‬
‫َبّشرك بيًتا ِفي الفرَدوِس بجواِر رِّب العالميَن ‪ ،‬وإْن كاَن أبوَك قْد أرشَدَك ِإَلى كسِب الّدرهِم والّديناِر ‪،‬‬
‫فإَّن نبّيَك ﷺ قْد أرشَدَك إَلى هداَيِة الغّفاِر ‪ ،‬وُفتوحاِت الواحِد القّه اِر ‪.‬‬
‫وَلقد ُز رُت ِفي َح ياِتي أكثَر مْن ِم ئَتْي مدينٍة مْن ُم دِن الَعالِم ‪ ،‬وشّر قُت وغّر بُت ‪ ،‬وَشاهدُت مدَن‬
‫الّضباِب‪ ،‬وناطَح اِت الّسحاِب‪ ،‬ورأيُت الحدائَق الغنّاَء ‪ ،‬والبساتيَن الفيحاَء ‪ ،‬واألنهاَر الجاريَة‪ ،‬والبحاَر‬
‫الماِئجَة؛ لكَّن قلِبي يعلُم ُهللا أَّنُه يطوُف ِفي َم عاهِد الّر سوِل عليِه الّص الُة والَّسالُم وِد َياِر ِه‪ ،‬وَيحِّن إِلى‬
‫آثاِر ه‪ ،‬ويشتاق إلى أخباره‪ ،‬وَيُطوُف بالبيِت الِذي طاَف ِبِه ‪ ،‬ويقُف ِفي الَم قاِم الِذي وقَف فيِه ‪ ،‬وُيعّر ُج‬
‫َعلى الَح ِط يِم وَز مَز َم ‪ ،‬وُيحّب جبَل ُأحٍد الِذي َأحَّبه‪ ،‬وَيُز وُر بقيَع الَغرَقِد الِذي زاَر ه‪ ،‬وُيسّلُم عليِه ِفي‬
‫قبِر ِه بأِبي ُهو وأِّم ي‪ ،‬ويشتاُق لِر وضتِه َو ِم نبِر ِه‪َ ،‬فقلبِي هاِئٌم بيَن مدينَتْيِه ﷺ‪ ،‬مكَة والمدينَة‪:‬‬
‫كاَن يِل قلٌب َجِبْرَعاِء اِحلَم ى‬
‫َض اَع ميّن هْل لُه َرٌّد َعَلّي‬
‫َفاسأُلوا ُس كاَن واِد ي َس َلم‬
‫فْه و َما بني ُك َد اٍء وُك َد ي‬
‫فحُّقه ﷺ َعلى كِّل تابٍع ُم حٍّب‪ُ ،‬نصرُته بالّلساِن والِّسناِن ‪ ،‬والبرهان والبياِن ‪ ،‬فإْن فاتنا أن نبكي‬
‫َخ ْلَفُه ُم تهّج دين فلُنِسل دموعنا ُم قتدين‪ ،‬وِإْن فاتتَنا صحبُته ﷺ فال ينبغي أن َيفوَتَنا َنشُر ِس يرِتِه‬
‫واالهتداُء بُسّنتِه ‪ ،‬وإْن فاَتَنا الّذُّب عْن منهِج ِه بالّنفوِس ‪َ ،‬ذبْبَنا عْنُه باألقالِم والّطروِس ‪ ،‬وإْن لْم نحضْر‬
‫مَعُه ِفي بدٍر وأحٍد‪َ ،‬ح ضرنا بأْر واحَنا‬
‫َمَع تراتيِل ‪ُ{ :‬قْل ُهَو ُهَّللا َأَح ٌد} [اإلخالص‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬وإْن لْم نشرف برفقِتِه ﷺ ِفي َغاِر ِح راٍء‬
‫وثْو ٍر ‪ ،‬فإَّن دماَء َنا ِبُح ِّبه تثوُر ‪ ،‬وإْن لْم نكْن مَعُه ‪ِ -‬بأِبي َهو وُأِّم ي – ِفي َعريِش َبْدٍر ‪ ،‬فْلَنْبِن لُه عريَش‬
‫حٍّب ِفي الَّص دِر ‪:‬‬
‫يِف كفَك الّش هِم مْن حبِل اهُلدى طرٌف‬
‫على الّصراِط ويِف أْرواِح َنا َطرُف‬
‫فكْن َش هيًد ا على بْيِع الّنفوِس َفَم ا‬
‫حَت ْتِوي الّضماِئُر مَّنا َفوَق َما َنِص ُف‬
‫َو إْن َفاتَنا أّنَنا َم ا َص ليَنا َخلَفُه ِإماًم ا ِفي الّص الِة‪َ ،‬فقْد َج علَناُه لَنا ِإماًم ا ِفي الَح ياِة‪َ ،‬و إْن لْم نجلْس‬
‫مَعُه باألْش باِح‪ ،‬فقْد جلْسَنا َمَع حديِثِه باألْر َو اِح‪ ،‬وإْن لْم نْبُذْل ِفي سبيِل رَسالِتِه الُم هَج ‪ ،‬فقْد ذبْبَنا َعْن مّلِتِه‬
‫بالُح جِج‪ ،‬وإْن لْم نحمْل َمَع ابِن مسعوٍد حذاَء ُه‪ ،‬ولْم نجلْس َمَع َأِبي هريرَة ِح ذاَء ه‪ ،‬فسوَف نْح مُل حديَثُه‬
‫ِفي الَّنواِدي‪ ،‬وُنبّلُغ ديَنُه للحواِض ِر والَبَو اِدي‪ ،‬ونْج لُس ِفي َح ضرة ُسَّنِتِه ‪ ،‬ونقُف تحَت ب ْقرِي مّلِتِه ‪،‬‬
‫وإْن لْم نظفْر بالُقعوِد معه ِفي َر وِض ِه ‪َ ،‬فَعَسى أْن نشرَب ِم ْن َح وِض ِه ‪.‬‬
‫وْلُنحّدْث أنفسَنا بمشهِد الّلقَيا‪ ،‬ويوَم الّسقَيا‪ ،‬ونسأْل أنفسَنا‪ :‬أيُن نكوُن يوَم الّشفاعِة ؟‪ ،‬وِبَم اَذا‬
‫ُنالقيِه ِفي تلِك الّساعِة ؟‪ ،‬و تْنَس أْن تأِتي بالعالمِة يوَم القيامِة ‪َ ،‬و ِه َي الغّر ُة والّتْح جيُل‪ ،‬وَقْد ُم ِدحَنا ِبَه ا‬
‫ِفي الّتوراِة واإلنجيِل ‪.‬‬
‫فنْس أُل َم ْن شّر فَنا بنبّو ِته‪ ،‬وأكَر مَنا ِبرَسالِته‪ ،‬أْن َيجَعلَنا ِم ْن طائفِته المْنُص ورِة‪ ،‬وِفرَقِته الّناجيِة‬
‫المبرُو َر ِة‪ ،‬وَعَز اؤَنا إْن لْم نكْن ِم َن الُم هاِج ريَن أو األنَص اِر ‪ ،‬أْن نْنشَر َبَّز نبّو ِتِه‬
‫ِفي األْم َص اِر ‪ ،‬وُنرّتَل أْنَغاَم الصَّالِة عليِه َعلى مِّر األعصار‪َ ،‬عَسى ُهللا أْن ُيلِّبي َأَم لي‬
‫َو َأمَل ُكِّل ُم سلٍم وُم سلمٍة ِفي الّسعاَدِة ِبُص حبِة نبّيِه ‪ ،‬والّسالِم عليِه ‪ ،‬وُم َص اَفحِتِه ِفي الِفْر َدوس‬
‫اَألْعلى َفَم ا َبعَد َهِذه اُألمنَيِة ِم ْن ُأمنَيٍة‪ ،‬و َفوَق َهَذا الَم ْط َلِب ِم ْن َم ْط َلٍب‪:‬‬
‫ِه‬
‫َي الَغرُض األْقَص ى َوُرؤيُتَك اُملىَن‬
‫َوَمْنزلَك الُّدنيا‪َ ،‬وأنَت اَخلالِئُق‬
‫َشفيعَنا أّنا َشهدَنا ِبرسالتِه ﷺ‪ ،‬وآمَّنا بدينِه ‪ ،‬واْج تهدَنا ِفي اّتباعِه َفَص لى ُهللا وَسّلَم علْيِه عَدَد َم ا‬
‫َذَكَر ُه الّذاكروَن ‪َ ،‬و َص لى ُهللا وَسّلَم علْيِه عدَد َم ا غفَل عْن ِذكِر ِه الغاِفلوَن ‪َ ،‬و َص لى ُهللا وَسّلَم علْيِه ِفي‬
‫األوليَن ‪َ ،‬و َص لى ُهللا وَسّلَم علْيِه في اآلخريَن ‪،‬‬
‫َو َص لى ُهللا وَسّلَم علْيِه صالًة وسالًم ا دائميِن ِإَلى يوِم الّديِن ‪َ ،‬و َص لى ُهللا وَسّلَم علْيِه َم ا تفّتَح‬
‫أقحواٌن ‪ ،‬وَم ا َفاَح رْيحاٌن ‪ ،‬وَم ا َهمَع َسحاٌب ‪ ،‬وَم ا لمَع سراٌب ‪ ،‬وَم ا اْفُتتَح خطاٌب ‪ ،‬وَم ا ُتلي كتاٌب ‪ ،‬الّلُهَّم‬
‫أسعدَنا ِبرؤيِتِه ‪ ،‬وشّر فَنا ِبرفقِتِه ‪ ،‬واْح شرنا ِفي ُز مرِته‪.‬‬
‫إْن كاَن أحببُت بعَد هللا مثلَك يف‬
‫َبدٍو وَح ْض ٍر َو يِف ُعرٍب ويِف َعَج ِم‬
‫فال اْش َت َف ى اَن ِظ ِري ِم ْن مْنظٍر َح سٍن‬
‫و ال َت َفَّو ه اِب لَق ْو ِل الَّس ديِد َفِم ي‬
‫حمبكم‬
‫عائض بن عبدهللا القرين‬
‫‪ 15/6/1442‬هـ‬
‫‪ 27/1/2021‬م‬
‫حممد ﷺ ُملِه مًا‬
‫رسوُلنا محمد ﷺ الّنبي المعصوم‪ ،‬ألهمه الحّي القيوم‪ ،‬فصار ألمته ُم لهًم ا‪ ،‬وللمؤمنين ُم عّلًم ا‪،‬‬
‫سرت بركته في أتباعه إلى يوم الّدين‪ ،‬وبقدر اهتداء المسلم بهديه يترّقى في ُسّلم الُم قّر بين‪.‬‬
‫فكل َم ن ُفتح عليه في باب من أبواب الّديانة‪ ،‬فذلك ببركة اّتباعه للّنبي الكريم ﷺ‪ ،‬وكل ُم سلم‬
‫ُفتح له في باٍب من أبواب العبادة‪ ،‬أو العلم الشّـرعِّي الّنافع‪ ،‬أو أّي فضيلة من الفضائل الّدينية‪،‬‬
‫فُم لهمه في ذلك هو رسولنا ﷺ الذي أنزل عليه رّبه الوحَي ‪ ،‬فهو ﷺ ُم لهم العلماء‪ ،‬والقّر اء‪ ،‬والفقهاء‪،‬‬
‫والحّكام العدول‪ ،‬والمجاهدين‪ ،‬والُم ْنفقين‪ ،‬والُم صّلين‪ ،‬والصائمين‪ ،‬فكلمة تصدر منه ألحدهم تبعث‬
‫فيه روًح ا من األمل‪ ،‬واالستعداد‪ ،‬والموهبة بإذن هللا‪ ،‬وموقف يظفر به صحابّي من الّر سول ﷺ قد‬
‫يغّير حياته حتى يلقى رّبه؛ ألّنه ﷺ ُم لهم الجميع ومصدر اليقظة والّتوّقد للكل‪.‬‬
‫فإن أردَت أن تختصر حياة أبي بكر الصديق في عبارة ملهمة‪ ،‬موحية‪ ،‬مؤثرة ِم ن ُم لهم‬
‫العالم ﷺ اخترَت قوله‪َ« :‬لْو ُكْنُت ُم َّتِخ ًذا ِم ن الّناِس َخ ِلياًل ؛ الَّتَخ ْذُت أبا بكٍر َخ ِليل» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وهنا ال حديث وال تعليق بعد هذه الومضة الّنبوّية الّشريفة‪ ،‬فهو الُم لهم والمحّفز ألبي بكر‬
‫الّص ديق في اصطناع المعروف‪ ،‬والمبادرة إلى أعمال البّر ‪ ،‬من هجرٍة‪ ،‬وجهاٍد‪ ،‬وصدقٍة‪ ،‬وصالٍة‪،‬‬
‫وبٍّر ‪ ،‬وصلٍة ‪...‬إلى آخر تلك الفضائل‪.‬‬
‫وفي صحيح مسلم أّنه ﷺ قال‪َ« :‬م ن أصبَح منكم اليوَم صائًم ا؟»‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪« :‬فَم ن‬
‫تبَع منكم اليوَم ِج ناَز ًة؟»‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪« :‬فَم ن أطعَم منكم اليوَم مسكيًنا؟»‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪،‬‬
‫قال‪« :‬فَم ن عاَد منكم اليوَم مريًض ا؟»‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ ،‬فقال رسوُل هللا ﷺ‪« :‬ما اجتمعَن في امرٍئ‬
‫ِإاّل دخَل الجنَة»‪ .‬فدخول أبي بكر الّص ديق الجّنة إّنما هو بسبب هداية رسول الهدى ﷺ له‪ ،‬وهذا إلهام‬
‫رّباني‪ ،‬وتوفيق إلهّي ‪.‬‬
‫وهذا ُعمر بن الخطاب(رضي هللا عنه) يبعث فيه رسول هللا ﷺ الُبشرى واألمل‪ ،‬ويسكب في‬
‫قلبه ‪-‬بإذن هللا‪ -‬اليقين‪ ،‬وُيرشده بقبسات ُم ضيئة‪ ،‬منها ما ورد في الّص حيحين عنه ﷺ‪ ،‬حيث رأى في‬
‫المنام أّنه شرب لبًنا ثم أعطى فضلته عمر بن الخطاب‪ ،‬ففسـره ﷺ بالعلم‪.‬‬
‫ورأى أيًض ا في المنام ُأناًسا عليهم ُقُمِص ‪ ،‬وعلى ُعمر(رضي هللا عنه) ثوب يجّر ه‪ ،‬ففّسـر ﷺ‬
‫ذلك بالّدين‪[ .‬متفق عليه]‪ .‬ويقول له كلمًة صارت نبراًسا في حياة عمر‪ ،‬كما روي عند أبي داود‬
‫والّترمذي لّم ا استأذنه عمُر ألداء الُعمرة‪« :‬ال َتْنَسَنا يا أخي من دعائك»‪.‬‬
‫وهنا يقف ُعمر مشدوًها مذهواًل أمام هذه العبارة‪ُ ،‬يكّر رها بتلّذذ واستمتاع‪ ،‬وُحٍّب واحتفاء‪،‬‬
‫ويقول عنها‪ :‬كلمة ما َيُسُّر ني أّن لي بها الّدنيا‪.‬‬
‫فانظر إلى هذا اإللهام الذي جعل الفاروق ينطلق عاداًل في الحّق ‪ ،‬قوًّيا في المنافحة عن‬
‫الّدين‪ ،‬صارًم ا في نصرة المّلة‪ ،‬ولو لم يلهمُه ُم عّلم الُه َدى ﷺ بإذن هللا؛ لكان نسًيا منسًّيا في عالم‬
‫الجاهلّية والوثنّية‪.‬‬
‫وها هو ذو الّنورين‪ ،‬عثمان بن عفان يأخذ إلهام البذل والعطاء من ُم لهم العاَلم ﷺ فُيجّه ز‬
‫جيش تبوك ُج ّله‪ ،‬ويشتري بئر ُر وَم ة وُيوقفها على المسلمين‪ ،‬ويقول له ﷺ كلمًة لو بحثَت عن تاج‬
‫ِلُتلبسه عثمان بن عفان لما وجدَت أشرف من هذه الكلمة تاًج ا له‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬ما ضَّر عثماَن ما َعِم َل‬
‫بعَد اليوِم مَّر تيِن » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫ماذا بقي من تشريف؟! وماذا بقي من تعريف بعد هذه اإلضاءة الّنبوية الّساطعة؟! ففضُل‬
‫عثمان إّنما هو قبٌس من هديه عليه الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫ولو أتيَت لسجل أبي الحسن علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه)‪ ،‬وأردت أن تختار له وساًم ا‬
‫مقّدًسا تضعه على صدره‪ ،‬لما وجدَت أجمل من وسام الّنبي الُم لهم عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬حيث يقول‬
‫عن علي (رضي هللا عنه)‪« :‬رجٌل ُيِح ُّب هللا وَر سوله وُيِح ُّبُه هللا وَر سوُلُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وكّل أصحاب هذا الّنبي ﷺ وأحباب وأتباعه رجا ونساًء إلى يوم ُيبعثون إّنما َيشْـرف الواحد‬
‫منهم بقدر ما اقَتبس من هذا الّنور الباهر‪ ،‬وبقدر ما اغَترف من هذا الّنهر العذب الّز الل‪.‬‬
‫وانظر إلى هذا التاج الذي يتّو جه الّر سول الُم لهم ﷺ لعلي بن أبي طالب فيقول له‪« :‬أما‬
‫َتْر َض ى أْن َتُكوَن ِم ِّني بَم ْنِز َلِة َهاُر وَن ِم ن ُم وَسى؟!» [متفق عليه]‪ .‬فأّي تحفيز وأّي تشجيع وأّي إلهام‬
‫يبعثه هذا اإلمام العظيم ﷺ في قلوب ُم حّبيه وأتباعه؟!‬
‫وأمانة أبي عبيدة (رضي هللا عنه) الذي قال عنه ﷺ‪ِ« :‬لُكِّل ُأَّم ٍة أِم يٌن ‪ ،‬وَأِم يُن هِذه اُألَّم ِة أبو‬
‫ُعَبْيَدَة بُن الَج ّر اِح»‪[ .‬متفق عليه]؛ إّنما أخذ هذه األمانة تعليًم ا منه عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فأفاضها هللا‬
‫على قلب هذا الصحابي الجليل‪ ،‬حتى صار مضرب المثل في األمانة على مّر األجيال‪.‬‬
‫والّر سول ﷺ هو ُم لهم ُعلماء ُأّم ته إلى يوم الدين‪ ،‬وقدوتهم على مّر التاريخ‪ ،‬وأّو لهم وسّيدهم‬
‫ُم عاذ بن جبل الذي قال عنه ﷺ‪َ« :‬أعلم أّم تي بالحالل والحرام معاذ بن جبل» [رواه الترمذي]‪ ،‬فقد‬
‫نهل من علم نبّينا ﷺ‪ ،‬حيث أرشده لفهم الّنص والفقه في الّدين‪.‬‬
‫وعبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما) َح بر األمة‪ ،‬وبحرها‪ ،‬وترجمان القرآن‪ ،‬يأخذ إلهامه‬
‫في الّتفسير من الّر سول عليه الّص الة والّسالم في ليلة مباركة؛ يوم بات عند النبي ﷺ وقّر ب له ماء‬
‫الوضوء‪ ،‬وهي أعظم ليلة في حياة ابن عباس بركًة وفتًح ا‪ ،‬فقد دعا له ﷺ قائاًل ‪« :‬الّلهم فِّقْه ُه في‬
‫الّدين» [متفق عليه]‪ .‬فكان أعظم مفسٍر للقرآن حتى قيام الساعة‪.‬‬
‫وزيد بن ثابت (رضي هللا عنه) إّنما أخذ إلهام علم الفرائض من الّر سول عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬وقد ورد عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬أْفَر ُض ُكْم َز ْيٌد»‪[ .‬رواه الّترمذي]‪ ،‬فِع لم المواريث والفهم الّدقيق‬
‫في تقسيم الفرائض لهذا اإلمام الكبير زيد بن ثابت (رضي هللا عنه) هو قطرة من بحر ِع لمه عليه‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫وسّيد القراء ُأَبي بن كعب (رضي هللا عنه) إّنما أخذ هذا العلم الّشريف والّتخصص الجليل‬
‫من تعليم الّنبي ﷺ له‪ ،‬ففي «الّص حيحين» عن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) أّن الّر سول ﷺ قال‬
‫ُألبّي (رضي هللا عنه)‪« :‬إَّن هللا َأَم ر َأْن َأْقَر َأ َعَلْيَك الُقْر آَن »‪ ،‬قاَل ُأَبٌّي ‪ :‬آهلل َسّم اِني َلَك ؟ قاَل ‪« :‬هللا‬
‫َسّم اَك لي‪َ ،‬فَج َعَل ُأَبٌّي َيْبِك ي»‪.‬‬
‫وسأله ﷺ ليثبت له الّتخصص وُيعِّم َق اإللهام في نفسه كما في صحيح مسلم‪َ« :‬يا َأَبا الُم ْنِذ ِر ‪،‬‬
‫َأَتْدِر ي َأُّي آَيٍة ِم ْن ِك َتاِب هللا َمَعَك َأْع َظُم ؟»‪ .‬قال ُأَبّي ‪ :‬هللا وَر سوُلُه أْع َلُم ‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬يا أبا الُم ْنِذرِ‪،‬‬
‫َأَتْدِر ي أُّي آَيٍة ِم ن ِك َتاِب هللا َمَعَك أْع َظُم ؟» قال‪ُ{ :‬هَّللا َال ِإَلَه ِإَّال ُهَو اْلَح ُّي اْلَقُّيوُم } [البقرة‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]255‬فضرب ﷺ في صدره (رضي هللا عنه) وقال‪ِ« :‬لَيْه ِنَك العلُم أبا الُم ْنِذ ِر »‪ ،‬فكأّنه طابُع الّنبوة‬
‫َو ضعه على صدره؛ ليثير في نفسه اإللهام واالهتمام‪.‬‬
‫والّر سول ﷺ شحذ همة خالد بن الوليد (رضي هللا عنه) وشّج عه على االنتصار للّدين‬
‫والبطولة‪ ،‬فقال‪ِ« :‬نعَم عبُدهللا خالُد بُن الوليِد‪ ،‬سيٌف من سيوِف هللا» [رواه الترمذي]‪ .‬فشجاعة خالد‬
‫وإقدامه في نصـرة الحق‪ ،‬تلك الشجاعة اإليمانية اإلسالمية‪ ،‬إّنما أخذها من بعض شجاعته عليه‬
‫الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫وقد كان ﷺ ُيحيي في كل فرد من أفراد صحابته ما يصلح له‪ ،‬ويناسب استعداده وموهبته؛‬
‫يأتيه حّسان بن ثابت األنصاري (رضي هللا عنه)‪ ،‬الّشاعر الكبير وهو ال يملك صناعة الحرف‬
‫وتحبير القوافي‪ ،‬ونظم الشعر‪ ،‬فيقّر ب له المنبر ويقول له ﷺ‪« :‬اْه ُج ُهْم وِج ْبِر يُل معَك » [متفق عليه]‪،‬‬
‫ويقول ﷺ‪« :‬إَّن ُر وَح الُقُدِس ال َيزاُل ُيَؤ ِّيُدَك ‪ ،‬ما ناَفْح َت َعِن هللا وَر سوِلِه » [رواه مسلم]‪ .‬فينطلق‬
‫حّسان آخًذا اإللهام والّتشجيع من سّيد ولد آدم ﷺ‪ ،‬ويذّب عن المّلة بشعره البديع الّر ائع‪.‬‬
‫ولو أردت أن تْص طفي جائزًة لحسان بن ثابت شاعر الّر سالة؛ لما وجدت أغلى وأثمن من‬
‫قول الُم لهم ﷺ له‪« :‬اْه ُج ُهْم وِج ْبِر يُل معَك »‪ ،‬إّنه تكريٌم فخم‪ ،‬وتشريف ضخم‪.‬‬
‫وهذا خطيب الّنبّي ﷺ ثابت بن قيس بن شَّم اس األنصاري (رضي هللا عنه) كان تمّيزه‬
‫وتخّص صه‪ ،‬وموهبته في الخطابة البليغة المتمّيزة‪ ،‬فنصب له الّنبّي ﷺ المنبر وشحذ هّم ته وأرشده‬
‫وأعانه على مصاولة األقران في ميدان البيان‪ ،‬كما في السيرة النبوية البن هشام‪.‬‬
‫وأبو موسى األشعري (رضي هللا عنه) كان يتمّيز بالّص وت الجميل العذب‪ ،‬فيسكب ﷺ في‬
‫روحه من إلهامه‪ ،‬ويشّج عه على التفّر د بهذا الصوت‪ ،‬واإلبداع بالّتغِّني بكتاب هللا ويقول له‪« :‬لقد‬
‫ُأوتيَت مزماًر ا من مزامير آل داود» [متفق عليه]‪ ،‬فصارت هذه الكلمة أعظم هدية يتلّقاها أبو موسى‬
‫األشعري (رضي هللا عنه)‪ ،‬ومضـى إلى تالوة القرآن وتجويده وتعليمه طيلة حياته‪.‬‬
‫وبالل بن رباح (رضي هللا عنه) له صوٌت باألذان شجٌّي ‪ ،‬وكان ُيحسن الُحَداء ‪ -‬وهو الّنشيد‬
‫الُم غّنى‪ -‬فيرشده ﷺ‪ ،‬ويفيض عليه من بركة نبّو ته‪ ،‬ويجعله مؤّذن اإلسالم‪ ،‬ويبّشرهبقصٍر في الجنة‪.‬‬
‫ولو أردت أن تقيم لبالل (رضي هللا عنه) احتفاًء َخاًص ا يحّبذه ويحّبه‪ ،‬لما وجدت أرفع من‬
‫بشرى الّر سول الُم لهم ﷺ لّم ا قال له‪َ« :‬سِم ْعُت َدَّف َنْعَلْيَك بْيَن َيَدَّي في الَج َّنِة » [متفق عليه]‪.‬‬
‫كانت أُّي كلمٍة‪ ،‬أو بسمٍة‪ ،‬أو همسٍة‪ ،‬أو لمسٍة‪ ،‬أو موقٍف إيجابي‪ ،‬أو هديٍة‪ ،‬أو حديٍث خاص‪،‬‬
‫أو دعاٍء ‪ ،‬يكفي الّص حابّي من الرسول ﷺ لينسى حياته‪ ،‬ومذكراته‪ ،‬وقصص عمره أمام هذا المشهد‬
‫من الّنبي عليه الّص الة والّسالم؛ فهذا معمر بن عبدهللا (رضي هللا عنه) ُيعرف بقصة عظيمة‪ ،‬وهي‬
‫حلق رأس الّنبّي ﷺ في حّج ه بعد رمي الجمرات بمنى [رواه أحمد]‪ .‬فأخذ (رضي هللا عنه) يتحدث‬
‫بهذا الحديث‪ ،‬ويرِّح ب به الّناس ويكرمونه‪ ،‬ويستعيدون منه الحديث‪ ،‬ويطلبون منه تكراره لطرافته‬
‫وحسنه‪ ،‬وألّنه مع أكرم خلق هللا‪:‬‬
‫أعْد ذكَر ُنعماٍن لَنا إّن ِذكره‬
‫كاملسِك ما َك ررَته يتضّوُع‬
‫وهذا أبو ذر الغفاري (رضي هللا عنه) يقول‪َ« :‬م ا َلِقيُتُه ﷺ َقُّط إاَّل َص اَفَح ِني‪َ ،‬و َبَعَث إَلَّي َيْو ًم ا‬
‫َو َلْس ُت ِفي اْلَبْيِت‪َ ،‬فلَّم ا ِج ْئُت ُأْخ ِبْر ُت ِبَر ُسوِلِه َفَأَتْيُتُه َو ُهَو َعَلى َسِر يٍر َلُه‪َ ،‬فاْلَتَز َم ِني‪َ ،‬فَكاَنْت َأْج َو َد‬
‫َو َأْج َو َد»‪[ .‬رواه أحمد]‪ ،‬فالتصاُق جسد أبي ذر بجسد الّنبّي ﷺ ُأمنّية طامحة‪ ،‬وهدّية غالية على قلبه‬
‫من اإلمام األعظم ﷺ‪.‬‬
‫وَعْن ُم َعاِذ ْبِن َجَبٍل (رضي هللا عنه)‪َ ،‬أَّن َر ُسوَل ﷺ َأَخ َذ‬
‫ُأَلِح ُّبَك ‪ ،‬وهللا ِإِّني ُأَلِح ُّبَك »‪َ ،‬فَقاَل ‪ُ« :‬أوِص يَك َيا ُم عاُذ اَل َتَدَعَّن في ُدُبِر‬
‫ِبَيِدِه‪َ ،‬و َقاَل ‪« :‬يا ُم عاُذ‪ ،‬وهللا ِإِّني‬
‫ُكِّل صالٍة َتُقوُل‪ :‬الَّلُه م َأِعِّني َعَلى‬
‫ِذ ْك ِر َك َو ُشْك ِر َك ‪ ،‬وُح سِن ِع َبادِتك»‪[ .‬رواه أحمد وأبو داود]‬
‫وفي [صحيح البخاري] أن عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنهما) قال‪ :‬أخذ َر ُسوُل هللا ﷺ‬
‫بَم ْنِك بي‪ ،‬وقال‪ُ« :‬كْن في الّدنيا كأّنَك غريٌب أو عابُر سبيٍل »‪.‬‬
‫لكن عند ابن عمر «أخذ بمنكبي» لها معنى آخر غير ما يسمعه السامع‪ ،‬أو يقرؤه القارئ‪ ،‬إّن‬
‫«أَخذ بمنكبي» نهاية اإلكرام وغاية الّلطف من الّر سول ﷺ عند ابن عمر (رضي هللا عنه)‪ ،‬فظل‬
‫يكررها ُم تلذًذا حتى لقَي رّبه‪.‬‬
‫وهذا الّص حابي عمرو بن تغلب (رضي هللا عنه)‪ ،‬ال ُيحفظ له عند الّناس إاّل حديث في‬
‫«صحيح البخاري»‪ ،‬وهو أّن الّنبي ﷺ‪َ« :‬أْع َطى َقْو ًم ا وَم َنَع آَخ ِر يَن ‪َ ،‬فَكأّنُهْم َعَتُبوا عليه‪َ ،‬فَقاَل ‪ :‬إّني‬
‫ُأْع ِط ي َقْو ًم ا أَخاُف َظَلَعُهْم وَج َز َعُهْم ‪ ،‬وَأِك ُل أْقَو اًم ا إلى ما َج َعَل ُهللا في ُقُلوِبِه ْم ِم َن الَخْيِر والِغ َنى‪ ،‬منهْم‬
‫َعْم ُر و بُن َتْغِلَب »‪ ،‬يقولها ﷺ له أمام الّناس في كلمة عامة في المسجد‪ ،‬فينسى عمرو بن تغلب الّدنيا‬
‫وما فيها‪ ،‬وينسى البشر‪ ،‬ويقول معلًقا مسروًر ا‪« :‬ما ُأِح ُّب أَّن لي بَكِلَم ِة َر سوِل هللا ﷺ ُحْم َر الَّنَعِم »‪،‬‬
‫ويا لها من كلمة عظيمة ومن موقف لم ينسه عمرو بن َتْغِلب حتى لقي رّبه!‬
‫وقوله ﷺ للحسن بن علي (رضي هللا عنهما)‪ِ« :‬إَّن ابِني هذا َسِّيٌد‪َ ،‬و َلَعَّل هللا َأْن ُيْصِلَح ِبِه َبْيَن‬
‫ِفَئَتْيِن َعِظ يَم َتْيِن ِم َن اْلُم ْسِلِم يَن » [رواه البخاري]‪ .‬فتبقى هذه الكلمة نبراًسا للحسن بن علي (رضي هللا‬
‫عنه) حتى يقوم بتنفيذها في حقن الّدماء بين جيشه وجيش معاوية (رضي هللا عنه)‪ ،‬فتظهردالئل‬
‫نبّو ته ﷺ في إلهامه لهذا االبن الكريم‪.‬‬
‫وجرير بن عبدهللا سيد بجيلة (رضي هللا عنه) يقول‪« :‬ما رآني ﷺ إاّل تبّسم في وجهي»‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫فكم قيمة هذه البسمة عند جرير؟! وكم هو في غاية االمتنان‪ ،‬وغاية الُح بور لهذه البسمة‬
‫اآلسرة الّساحرة التي وصلت إلى أعماق قلبه؟! يقولها بانتشاء؛ ألّن الُم لهم ﷺ أرسلها مقصودة‬
‫لجرير البطل سّيد قومه‪ ،‬فأسره من أّو ل لحظة‪ ،‬وطبعه بطابع البسمة الّر ائقة الّر ائعة التي ُطبعت‬
‫على لوح قلبه‪.‬‬
‫وربيعة بن كعب األسلمي (رضي هللا عنه) كان أشرَف حديث له‪ ،‬وأشرف مناسبة عاشها‬
‫حين قال له الّر سول ﷺ في ليلة مباركة‪« :‬ألك حاجة؟» قال‪ :‬مرافقتك في الجّنة‪ ،‬قال‪« :‬أَو غير‬
‫ذلك؟» قال‪ :‬هو ذاك‪ ،‬قال‪َ« :‬فَأِعِّني على َنْفِسَك ِبَكْثَر ِة الُّسُج وِد» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫تلك الجملة هي أجمل ما سمعه ربيعة في عمره‪ ،‬وأجّل ساعة في حياته‪ ،‬يرويها وال يروي‬
‫ما قبلها وال ما بعدها من األحداث اليومية التي مّر ت به في حياته‪ ،‬بل انغمس في هذه المناسبة‬
‫الّنبوية المباركة وهو في غاية الفرح والّسـرور‪.‬‬
‫وفي الّترمذي نجُد حديث عبدهللا بن ُبْسر ‪( -‬رضي هللا عنهما)‪ -‬عن الّشيخ الكبير الذي وفد‬
‫إلى الّنبّي ﷺ فقال له‪« :‬إّن شرائع اإلسالم قد كثرت علّي فأخبرني بشيء أتشّبث به»‪ ،‬قال‪« :‬ال يزال‬
‫لسانك رطًبا من ذكر هللا»‪.‬‬
‫فهذا الّشيخ الُم سن لزم هذه الكلمة الُم لهمة من إمام اإللهام‪ ،‬وصارت هي ذكراه الجميلة في‬
‫حياته‪ ،‬حتى أنسته كّل الوصايا والّنصائح التي سمعها من القبائل واألسر والعشائر؛ ألّن هذه‬
‫الّنصيحة نبويٌة مصدرها الوحي الّسماوي‪ ،‬فصار يمتثل هذه الوصّية في حياته‪ ،‬وصارت له منهًج ا‬
‫فيما بقي من عمره‪.‬‬
‫وعمرو بن العاص (رضي هللا عنه) تأّخ ر إسالمه‪ ،‬ثم قدم إلى الّنبّي ﷺ فلما جلس بين يديه‬
‫قال‪« :‬اْبُسْط َيِم يَنَك َفُألباِيْعَك ‪َ ،‬فَبَسَط َيِم يَنُه‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَقَبْض ُت َيِدي‪ ،‬قاَل ‪ :‬ما لَك يا َعْم ُر و؟‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬قلُت ‪:‬‬
‫أَر ْدُت أْن أْش َتِر َط‪ ،‬قاَل ‪َ :‬تْش َتِر ُط بماذا؟‪ُ ،‬قلُت ‪ :‬أْن ُيْغَفَر لي‪ ،‬قاَل ‪ :‬أما َعِلْم َت أَّن اإلْسالَم َيْه ِد ُم ما كاَن‬
‫َقْبَلُه؟‪ ،‬وأَّن الِه ْج َر َة َتْه ِد ُم ما كاَن َقْبَلها؟» [رواه مسلم]‪ .‬وهذه الكلمة والمناسبة يذكرها عمرو بن‬
‫العاص طيلة حياته‪ ،‬حتى في سكرات الموت كما في الحديث السابق؛ ألّنها لفتة من خاتم المرسلين‪،‬‬
‫وسيد الّناس أجمعين‪ ،‬ونفحُة إلهاٍم يرسلها ﷺ ُبشرى في وجه عمرو‪ ،‬في أّو ل لقاء بعد إسالمه‪ ،‬فأُّي‬
‫إلهام وتشجيع وتحفيز أعظم من هذا؟!‬
‫إّن من عظمة إلهام هذا الّنبّي الملهم عليه الّص الة والّسالم أّن الّص حابة الذين عاشوا معه‬
‫يعرفون من دقائق حياته ﷺ وتفاصيل سيرته‪ ،‬وخصائص شمائله‪ ،‬وأوصاف حياته اليومية ما ال‬
‫يعرفونه عن آبائهم الذين هم من أصالبهم‪ ،‬وال عن أمهاتهم الالئي ولدنهم‪ ،‬وال عن أطفالهم الذين‬
‫رّبوهم‪ ،‬وال عن أزواجهم الالتي عاشروهّن ‪ ،‬فكأّن الحياة عندهم اْخ ُتصرت فقط في حياتهم مع الّنبّي‬
‫عليه الّص الة والّسالم؛ ألن اهتمام الواحد منهم بحياة الّنبي‪ ،‬بصالته‪ ،‬وصيامه‪ ،‬ولباسه‪ ،‬ونومه‪،‬‬
‫وكالمه‪ ،‬ورضاه‪ ،‬وغضبه‪ ،‬وِج ّده‪ ،‬ومزحه؛ طريقه إلى الجّنة‪ ،‬أما اهتمامه بمن حوله من اآلباء‬
‫واألمهات‪ ،‬واألبناء والبنات‪ ،‬واإلخوان والّز وجات‪ ،‬فهذا أمر عادي يمر بكل البشر على اختالف‬
‫أديانهم ولغاتهم وألوانهم‪.‬‬
‫إّن من قوة إلهامه ﷺ ألصحابه أّنهم وردوا الموت بين يديه مستبسلين‪ ،‬فرحين مسرورين؛‬
‫ألّنه غرس فيهم حّب هللا وحّب رسوله‪ ،‬وطلب الفردوس األعلى‪ ،‬وكانوا يرون في مالبسة الّنبّي ﷺ‪،‬‬
‫ومصاحبته‪ ،‬والّتبرك بكالمه وآثاره‪ ،‬أغلى أمنياتهم في هذه الحياة‪ ،‬وغاية سعادتهم وسرورهم طيلة‬
‫أعمارهم‪ ،‬فكانوا يحرصون على كل كلمة‪ ،‬وعلى كل التفاتة‪ ،‬وكل لحظة‪ ،‬وكل لفظة؛ ألّنهم جعلوا‬
‫هذا الّنبي الكريم ﷺ إمامهم وقدوتهم في الحياة‪ ،‬وأسوتهم التي ال يحصل لهم فالح‪ ،‬وال نجاح‪ ،‬وال‬
‫صالح‪ ،‬إاّل باالهتداء بهديه‪ ،‬واالستضاءة بنور نبوته‪.‬‬
‫وإذا كنا نحن بعد أربعة عشر قرًنا نشتاق غاية الّشوق‪ ،‬ونتمنى غاية األمنية‪ ،‬ونِح ُّن لرؤيته‬
‫ﷺ‪ ،‬وصحبته‪ ،‬وسماع حديثه‪ ،‬وحضور مجالسه‪ ،‬حتى يغلبنا البكاء‪ ،‬ويشهد الّدمع على ما نقول‪،‬‬
‫فكيف بمن عاشره‪ ،‬ورآه‪ ،‬وأحبه‪ ،‬وآمن به‪ ،‬وسعد بصحبته‪ ،‬وأنس بمرافقته؟ فنسأل الذي أسعدهم‬
‫بهذه الّر فقة أن ُيسعدنا برفقته ﷺ في الفردوس األعلى‪:‬‬
‫َأرواُح نا َس اَفرْت للخلِد يف أَلٍق‬
‫من نور هديَك حَي ُد وان وَيْه ِد يَنا‬
‫(إن كاَن قد َعّز يِف الّد نيا الّلقاُء بكْم‬
‫يف جّنة اخللد َنلقاُك م ويكفيَنا)‬
‫إّن قوًم ا أحُّبوا الّنبّي ﷺ لمغبطون‪ ،‬وإّن صحًبا ناصروه لمشكورون‪ ،‬وإن أناًسا عشقوا مبادئه‬
‫لمأجورون‪ ،‬ولهذا ال تتعّج ب أن يضعوا نحورهم دون نحره وقت المصاولة في ميادين االستبسال‪،‬‬
‫وال تستغرب أن يعرضوا صدورهم دون صدره وقت الّنزال ومصاولة األبطال‪ ،‬فلم ُيوجد عبر‬
‫صفحات الّز من قوٌم أحبوا إمامهم ورئيسهم‪ ،‬وزعيمهم وقدوتهم كما أحَّب أصحاب محمد ﷺ محمًدا‪.‬‬
‫يقول عروة بن مسعود الّثقفي لقريش في الحديث الصحيح‪ -‬وقد وفد على الّنبي ﷺ يوم‬
‫الحديبية في المفاوضة وطلب الصلح‪« :‬وهللا لَقْد وَفْدُت عَلى الُم ُلوِك ‪ ،‬وَو َفْدُت عَلى َقْيَصَر ‪ ،‬وِك ْسـَر ى‪،‬‬
‫والَّنَج اِش ِّي‪ ،‬وهللا إْن َر َأْيُت َم ِلًكا َقُّط ُيَعِّظ ُم ُه أْص َح اُبُه ما ُيَعِّظ ُم أْص َح اُب ُمَحَّم ٍد ﷺ ُمَحَّم ًدا؛ وهللا إْن َتَنَّخ َم‬
‫ُنَخاَم ًة إاَّل وَقَعْت في َكِّف َر ُج ٍل منهْم ‪َ ،‬فَدَلَك بَه ا وْج َه ُه وِج ْلَدُه‪ ،‬وإَذا أَمَر ُهُم اْبَتَدُر وا أْم َر ُه‪ ،‬وإَذا َتَو َّض َأ‬
‫َكاُدوا َيْقَتِتُلوَن عَلى َو ُض وِئِه ‪ ،‬وإَذا َتَكَّلَم َخ َفُض وا أْص َو اَتُهْم ِع ْنَدُه‪ ،‬وما ُيِح ُّدوَن إَلْيِه الَّنَظَر َتْعِظ يًم ا َلُه»‪.‬‬
‫[رواه البخاري]‬
‫طوبى للّص حابة األبرار‪ ،‬وهنيًئا لهم نعمة ُم صاحبة الّنبي المختار ﷺ‪ ،‬فقد مأل نفوسهم ِع لًم ا‪،‬‬
‫وحًبا‪ ،‬وبشرى‪ ،‬وبرًدا‪ ،‬وسالًم ا‪ ،‬ويقيًنا‪ ،‬وإخالًص ا‪ ،‬وإنابة‪.‬‬
‫وقد كان الّص حابي يعبر عن هذه الذكريات والمواقف الجليلة واألمنيات الجميلة‪ ،‬مرة‬
‫بدموعه‪ ،‬ومرة بزفراته‪ ،‬ومرة بالبكاء إلى درجة الّنشيج كما حصل لكثير منهم‪ ،‬وهم في غاية الحب‬
‫له ﷺ‪ ،‬حًبا أسر قلوبهم وجعلهم يقدمونه على نفوسهم‪ ،‬وآبائهم‪ ،‬وأمهاتهم‪ ،‬وأبنائهم‪ ،‬وزوجاتهم‪ ،‬وهذا‬
‫هو الواجب على كل ُم سلم وُم سلمة‪.‬‬
‫وتستمر بركته وإلهامه ﷺ ألتباعه إلى يوم الدين‪ ،‬وبقدر اقتفائهم لسّنته واتباعهم لهديه تكون‬
‫هدايتهم واستقامتهم وإلهامهم‪ ،‬فاألئمة الكبار عبر التاريخ اإلسالمي إّنما أخذوا هذا الّر شد‪ ،‬والفهم‪،‬‬
‫والمكانة‪ ،‬من بركة اّتباعه عليه الصالة والسالم واالّتساء به‪ ،‬فسعيد بن المسيب‪ ،‬والحسن البصري‪،‬‬
‫والزهري‪ ،‬وعمر بن عبدالعزيز‪ ،‬وغيرهم من أئمة التابعين إّنما صاروا نجوًم ا وأعالًم ا في سماء‬
‫الّر بانية؛ بسبب طلبهم لهديه ﷺ والعمل بسّنته‪ ،‬واإلمام أبو حنيفة إّنما أخذ مكانًة في األمة ودّقة في‬
‫الفهم؛ ألّنه أخذ جانًبا من هذا الميراث الّنبوي المبارك‪ ،‬واإلمام مالك إّنما صار نجم العلماء وإمام دار‬
‫الهجرة؛ ألّنه نثل من تركته ﷺ واستضاء بنوره وُهداه‪ ،‬واإلمام الّشافعي صار َعَلًم ا في الفهم وقوة‬
‫االستنباط وحسن التأصيل ببركة ركوبه في سفينة سيد الخلق ﷺ‪ .‬واإلمام أحمد بن حنبل إمام أهل‬
‫السنة والجماعة إّنما صار مرجعية في هذا الباب وبيرًقا منصوًبا للصالحين المقتفين لألثر الّنبوي؛‬
‫بفضل حرصه على حديثه ﷺ والّتسنن بسّنته ﷺ‪ .‬وقس على ذلك كّل علماء اإلسالم وأئمة الّدين‪،‬‬
‫والصالحين‪ ،‬والعابدين‪ ،‬والمجاهدين‪ ،‬والُم نفقين‪ ،‬والمخلصين‪ ،‬إلى أن نلقى رب العالمين‪.‬‬
‫إّن جميع الُم لهمين في العالم سوى نبّينا ﷺ من زعماء‪ ،‬وعباقرة‪ ،‬وفاتحين‪ ،‬وُم جددين‪،‬‬
‫وُم بدعين‪ ،‬وُم خترعين‪ ،‬وُم كتشفين‪ ..‬لهم إلهام خاص في باب خاص‪ ،‬لكّنه إلهام محدود‪ ،‬ومؤقت‪،‬‬
‫ودنيوي‪ ،‬أّم ا الّنبّي ﷺ فإلهامه رّباني من عند إلهه وخالقه‪ ،‬وهو إلهام عاٌّم شامل‪ ،‬وإلهام في كل‬
‫مناحي الحياة‪ ،‬وكل مجاالت الّدنيا بأسرها‪ ،‬وإلهام يناسب كل الناس على اختالف تخصصاتهم‬
‫ومواهبهم ووظائفهم؛ ألّنه كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪.]107‬‬
‫إّن أي ملهم في العالم له وعليه‪ ،‬تأخذ منه وتترك‪ ،‬ال يخلو مع نجاحه من إخفاق‪ ،‬ومع تفّر ده‬
‫من مالحظات‪ ،‬ومع تميزه من سقطات‪ ،‬إاّل سيد ولد آدم محمد بن عبدهللا ﷺ‪ ،‬فإّنه الكمال كله‪،‬‬
‫والُطهر أجمعه‪ ،‬والفضيلة أولها وآخرها؛ ألّنه نبي معصوم ألهمه رّبه رشده وكفى‪.‬‬
‫إن عجبي ال ينتهي من مسلم يغرق في دراسة تفاصيل حياة شخصياٍت‪ ،‬أو الكتابة عن دقائق‬
‫أوصاف البلدان‪ ،‬والقبائل‪ ،‬والرحالت‪ ،‬والمذكرات‪ ،‬وهو ال يعرف كيف يؤدي صالًة شرعية ُسّنية‬
‫مقبولة‪.‬‬
‫وعجبي ممن يهيم باألشعار واألخبار‪ ،‬فيتفنن في تفاصيل تفاصيلها‪ ،‬ويبحر في مفرداتها‪،‬‬
‫ويسافر في جزئياتها‪ ،‬ويقضي عمره في الّتمعن في ميراث البشر‪ ،‬وهو ال يعرف األذكار واألدعية‬
‫في عبادته‪ ،‬وال صفة وضوء نبّيه ﷺ‪ ،‬وال يعرف هديه ﷺ في الحج‪ ،‬وال طريقته في الّنوم‪ ،‬وال ُسّنته‬
‫في الّلباس والّطعام‪ ،‬مع العلم أّن هذه التخصصات الّدنيوية قصيرة محدودة قد كتب فيها ألوف البشر‪،‬‬
‫وكل أّم ة تكتب ‪ -‬مؤمنها وكافرها‪ -‬في مثل هذه األحداث والوقائع‪ ،‬لكن أن تأتي إلى سيرة نبي مرسل‬
‫من عند هللا‪ ،‬هو سبب سعادتك وهدايتك بعد توفيق هللا‪ ،‬وهو القائد لك إلى جّنات النعيم‪ ،‬وبسبب‬
‫اّتباعه تنجو من عذاب الجحيم‪ ،‬ثم تهمل هذا الواجب الّشرعي اإليماني‪ ،‬وتهجر هذا المورد المبارك‬
‫بحجج واهية من زعم التخصص والموهبة؛ فإّن هذا أمر عجيب غريب‪.‬‬
‫إّنني ال َأحُّد وال أمنع أن يتخصص الناس في مناحي الحياة وأساليب العيش ومختلف طرق‬
‫الحضارة‪ ،‬فهذا من ُسّنة هللا التي أوجدها في األرض لعباده‪ ،‬لكن أن ينهمك ويستغرق في التخصص‬
‫إلى درجة أن يعمى عن ميراث محمد ﷺ‪ ،‬وعن نوره‪ ،‬وبركة هدايته‪ ،‬واالهتداء بسّنته‪ ،‬وعن معرفة‬
‫ما يجب عليه في دينه خالل أربع وعشرين ساعة من ليله ونهاره‪ ،‬إّن هذا هو األمر المفزع المخيف‪.‬‬
‫لقد طالعُت ما كتبه ابن إسحاق‪ ،‬وابن هشام‪ ،،‬والذهبي‪ ،‬وابن القيم‪ ،‬وابن كثير وغيرهم كثير‪،‬‬
‫وقبَل ذلك كتب السنة‪ :‬الصحاح‪ ،‬والمسانيد‪ ،‬والمعاجم واألجزاء؛ فخرجت بنتيجِة أّن كل نجاح دينٍّي‬
‫أو علمٍّي شرعٍّي حصل لي أو لغيري من المسلمين والمسلمات فإّنما هو ببركة اّتباعه ﷺ‪ ،‬وعلى قدر‬
‫اّتباعك له واإليمان به واالهتداء بهداه يلهمك هللا عن طريق هذا اإلمام‪ ،‬ويهِديك سواء الّسبيل‪،‬‬
‫ويفيض عليك من بركات اّتباعه‪ ،‬ومن فتوحات االهتداء بهديه‪ ،‬ثم إّنه مع هذا اإللهام الذي أقرؤه كل‬
‫يوم‪َ ،‬أكتشف في كل لحظة معلومًة جديدة‪ ،‬وفهًم ا آخر لسيرته وسنته لم يسبق أْن عرفته من قبل‪.‬‬
‫وها أنا أكتب هذا الحديث في الستين من عمري‪ ،‬وأنا منذ االبتدائي أرسم اسمه ﷺ على‬
‫شغاف قلبي‪ ،‬وألفظ كلماته المباركة بلساني‪ ،‬فاكتشفت مع مرور األيام والليالي كنوًز ا غالية ثمينة‬
‫نفيسة جديدة لم أكن أعلمها من قبل‪ ،‬وأسأل العلماء عن هذا الشعور فيخبرونني أّنهم يعيشونه كذلك‪،‬‬
‫حتى قال لي أحدهم‪ :‬ولو جاوزَت التسعين من عمرك فسوف تعلم عنه وتفهم عنه ﷺ ما لم تكن تعلم‬
‫وال تفهم من قبل ذلك‪ ،‬بل أقول‪ :‬لو عشُت أنا وأنت عمَر نوح ُنكّر ر حديثه‪ ،‬وُنطالع سّنته‪ ،‬ونستكشف‬
‫سيرته‪ ،‬لعثرنا على مناِج َم من الفهم المبارك‪ ،‬والعلم النافع‪ ،‬والتراث المجيد‪ ،‬والتركة العامرة في كل‬
‫يوم ما لم نعثر عليه في األيام السابقة‪.‬‬
‫فكيف ننسى هذا الُم لِه م العظيم ﷺ وهو معنا؟ كيف يغيب عنا وهو أمام أبصارنا؟ كيف نفقد‬
‫ذكراه وهو حاضر معنا في صالتنا؟ يقول ﷺ‪« :‬صلوا كما رأيتموني أصلي» [رواه البخاري]‪ ،‬نحّج‬
‫فكأّنه يقود الجموع في المناسك والمشاعر المقدسة وهو يقول ويلهمنا ويهيب بنا‪ِ« :‬لَتْأُخ ُذوا‬
‫َم َناِس َكُكْم » [رواه مسلم]‪ ،‬نعيش حياتنا‪ ،‬ونزاول أعمالنا‪ ،‬ونمارس تجارتنا وزراعتنا‪ ،‬فكأّنه يلهمنا‬
‫بصوته العذب المبارك‪ ،‬وينادينا‪ ،‬ويشعل في ضمائرنا الهمم‪ ،‬ويوقد في قلوبنا العزائم‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫«َم ْن َر ِغ َب َعْن ُسَّنِتي َفَلْيَس ِم ِّني» [متفق عليه]‪.‬‬
‫كيف يغيب حبيبنا الملهم ﷺ عن أرواحنا!؟‪ ..‬ونحن نتوَّضأ ونتذّكره ونهتدي بهديه‪ ،‬ونتناول‬
‫السواك فإذا هو معنا بحديثه‪ ،‬وندنو من الطعام فنتذَّكر سّننته في األكل والّشرب‪ ،‬ونأتي للّنوم‬
‫فيحضر معنا بتعاليمه ودعائه عند الّنوم‪.‬‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫ُتعاودين ذكراَك ك عش ٍة‬
‫ّل ّي‬
‫وُيورق فكري حني فيك أفّك ُر‬
‫أحّبَك ال تفسري عندي لَصْبويت‬
‫أفّس ـر ماذا؟ واهلوى ال يفَّس ـُر‬
‫تذوُب شخوص الّناس يف كل حلظة‬
‫ويف كل يوم أنَت يف القلِب تكُرب‬
‫أتسأل عن أعماراَن أنَت عمراَن‬
‫وأنَت لنا الّتاريخ أنت احملّرُر‬
‫إّن رسولنا ﷺ هو األّو ل في العالم الذي يقرأ شخصية من يأتيه يستوصيه‪ ،‬فيعلم بإفهام هللا‪،‬‬
‫وإلهام هللا له موهبَة هذا السائل‪ ،‬وماذا يصلح له‪ ،‬فأحدهم يقول له ُقل في صالتك‪« :‬الّلهم إني ظلمت‬
‫نفسي ظلًم ا كثيًر ا وال يغفر الذنوب إال أنت فاغفر لي مغفرة من عندك‪ ،‬وارحمني إّنك أنت الغفور‬
‫الّر حيم»‪[ .‬متفق عليه]‪ ،‬وثاٍن يستوصيه فيقول‪« :‬ال يزال لسانك رطًبا بذكر هللا»‪[ .‬رواه الترمذي]‪،‬‬
‫وثالث يقول له‪« :‬ال تغضب» ثالًثا‪[ .‬رواه البخاري]‪ ،‬ورابع يقول له‪« :‬عليك بالّص وم فإّنه ال عدل‬
‫له»‪[ .‬رواه النسائي]‪ ،‬وخامس يقول له‪« :‬كَّف عليك هذا» ويشير إلى لسان نفسه‪[ .‬رواه الترمذي]‪،‬‬
‫وسادس يقول له‪ :‬قل‪« :‬اللهم اهدني وسّددني»‪[ .‬رواه مسلم]‪ ،‬وسابع يقول له‪ :‬قل‪« :‬اللهم ألهمني‬
‫ُر شدي‪ ،‬وأعذني من شّر نفسي»‪[ .‬رواه الترمذي]‪ ،‬وثامن يقول له‪ :‬قل في ُدبر كل صالة‪« :‬الّلهم‬
‫أعّني على ذكرك وشكرك وُح سن عبادتك»‪[ .‬رواه أبو داود]‪ ،‬وتاسع يسأل الّنبيﷺمرافقته في الجنة‬
‫فيقول‪« :‬أعني على نفسك بكثر السجود» [رواه مسلم]‪ .‬وعاشر يقول له‪« :‬سْل هللا العفو والعافية»‬
‫[رواه أحمد]‪ ...‬إلى آخر تلك القائمة‪.‬‬
‫فكان يعطي كل سائل ما يصلح له‪ ،‬كما يعطي الّطبيب الماهر الحاذق كل مريض ما يناسبه‬
‫من دواء‪ ،‬لكَّن دواَء ه ﷺ أغلى وأثمن وأنفس؛ ألّنه دواء رّباني إلهي نبوّي ‪ ،‬تستشفي به من كل عّلة‪،‬‬
‫ويوصلك إلى الّر احة األبدّية‪ ،‬والحياة الّسرمدية‪ ،‬في الفردوس األعلى‪.‬‬
‫لن تسعد بهذا اإللهام حتى تعتقد صدقه ونبّو ته ﷺ‪ ،‬وتصّدق خبره‪ ،‬وتهتدي بسّنته‪ ،‬وتأتمر‬
‫بأمره‪ ،‬وتحّكمه في كل شأن من شؤون حياتك جَّل أو دَّق ‪ ،‬كبر أو صغر‪ ،‬تجعله نصب عينيك في‬
‫عبادتك‪ ،‬وطعامك‪ ،‬وشرابك‪ ،‬ومشيك‪ ،‬وحديثك‪ ،‬وحّلك‪ ،‬وترحالك‪ ،‬وخوفك‪ ،‬وأمنك‪ ،‬ورضاك‪،‬‬
‫وغضبك؛ ألّن هللا نّص به دلياًل للهداية‪ ،‬وإماًم ا للحق‪ ،‬وقائًدا إلى الجنة‪.‬‬
‫وعلى أّي تخصص كان لديك أو أي موهبة عندك؛ فإّنك تجد في سيرته ﷺ ما يلهمك في‬
‫حياتك‪ ،‬فإن كنت رئيًسا‪ ،‬أو مديًر ا‪ ،‬أو أميًر ا‪ ،‬أو وزيًر ا؛ وجدَت في سيرته ما ُيناسب اإللهام للقيادة‪،‬‬
‫وإدارة الناس‪ ،‬وإصالح أمورهم‪ ،‬وإن كنَت عالًم ا‪ ،‬أو فقيًه ا‪ ،‬أو قاضًيا‪ ،‬أو مفتًيا‪ ،‬أو خطيًبا‪ ،‬أو‬
‫واعًظا؛ وجدَت اإللهام في سّنته ﷺ‪ ،‬فأمامك المنبع الَم ِع يُن ‪ ،‬والَّنمير الصافي‪ ،‬والعذب الزالل‪:‬‬
‫{اْر ُكْض ِبِر ْج ِلَك َهَذا ُم ْغَتَسٌل َباِر ٌد َو َشَر اٌب } [ص‪ :‬اآلية ‪ ،]42‬وإن كنت عابًدا ُم صّلًيا أو صائًم ا أو‬
‫ذاكًر ا أو تالًيا أو ُم تصدًقا‪ ،‬فإّنك ستعثر على اإللهام ُم باشرة من ميراثه عليه الصالة والّسالم‪ ،‬من‬
‫حديثه‪ ،‬من خطبه‪ ،‬من قصصه‪ ،‬من نصائحه‪ ،‬من وصاياه‪ ،‬وأولها الكتاب المبارك الذي ُأنزل عليه‪.‬‬
‫وإن كنَت زوًج ا‪ ،‬أو والًدا‪ ،‬أو صديًقا‪ ،‬أو أًخ ا‪ ،‬أو صاحًبا؛ فسوف تظفر بمطلوبك الذي تحتاج‬
‫إليه من إلهامه لك ﷺ عبر تركته المباركة التي تمنحك اإللهام فيما تحتاج إليه في وظيفتك التي تقوم‬
‫بها‪ ،‬وما يجب عليك أن تؤّديه في حياتك‪ ،‬أقول‪:‬‬
‫وأتيَت اي قليب اَملشوق ُمهاجًرا‬
‫ُح ًّبا لطيبة أو ُرىب أِّم القَرى‬
‫لو تستطيع الّروح من فرط اهلوى‬
‫هبطْت إىل البيدا فقَّبلت الّثَرى‬
‫صّلى عليك هللا ما جنم َبَد ا‬
‫أو غّرد الُقمرّي أو دمع جَرى‬
‫وعليَك من ريّب الّس الم ُمرّتاًل‬
‫وحُم ّب ًرا وُمسّطًرا وُمعّطَرا‬
‫حممد ﷺ يتيمًا‬
‫بدأت رحلة الُم عاناة والّدموع واآلالم والُيتم مع الّر سول ﷺ ُم بكًر ا وهو حمل في بطن أّم ه‪،‬‬
‫ولك أن تتصّو ر موت أبيه وهو ال يزال جنيًنا‪ ،‬لم َيسمع من أبيه كلمة‪( :‬يا ُبني) ولم يسعد هو بنطق‪:‬‬
‫(يا أبتي)‪ ،‬ولم يحظ بضّم ة أو بسمة أو ُقبلة من أبيه‪ ،‬وهذا أعظم الُيتم وأشّده وأمّر ه‪.‬‬
‫فقَد ﷺ أباه لما كان أبوه ُم سافًر ا إلى أخواله بني الّنجار في المدينة المنّو رة‪ ،‬فمرض عندهم‬
‫ومات هناك‪ ،‬ومن ُلطف تقدير هللا أن يكون أخوال أبيه من بني الّنجار‪ ،‬فهم أنصاره ﷺ فيما بعد‪.‬‬
‫ُو لد عليه الّص الة والّسالم يتيم األب‪ ،‬فكفلته أّم ه‪ ،‬ثم سّلمته لحليمة الّسعدية الُم رضعة؛ ألّن‬
‫العرب وقتها اعتادوا دفَع أوالدهم عند والدتهم إلى مرضعات يعشَن في البادية؛ لكي تقوى أجسادهم‪،‬‬
‫ويتعّلموا الفصاحة هناك‪ ،‬ويبتعدوا عن األمراض الُم نتشرة في الحواضر‪.‬‬
‫فيذهب ﷺ مع حليمة السعدية متوجًه ا إلى ديار بني سعد‪ ،‬بال أٍب‪ ،‬وال أٍم ‪ ،‬وال ُأسرة‪ ،‬يذهب‬
‫هذا الّطفل الّر ضيع فريًدا وحيًدا يتيًم ا غريًبا‪ ،‬تحمله دابة عجفاء هزيلة‪ ،‬لكن البركة ُتصاحبه في أّي‬
‫منزل ينزله‪ ،‬وأِّي َم حٍل يسكنه‪ .‬بقَي ﷺ فترة َر ضاعه هناك فزادت الخيرات بعد وصوله‪ ،‬وكثرت‬
‫األمطار‪ ،‬وصلح حال بني سعٍد الذين نزل عندهم ﷺ‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫جتلى َموِلُد اهلادي َو َعَّم ْت‬
‫ِق‬
‫ِئ‬
‫َبشا ُرُه الَبوادي َوال صااَب‬
‫َوَأسَدْت ِللِرَبَّيِة ِبنُت َو هٍب‬
‫ِت‬
‫َيًد ا َبيضاَء َطَّو َق الِّرقااَب‬
‫َلَق د َو َض َعتُه َو ّه اًج ا ُمنًريا‬
‫ِل‬
‫ِّش‬
‫كما َت ُد الَّس ماواُت ال هااَب‬
‫َفقاَم عَلى مساِء الَبيِت نوًرا‬
‫ِج‬
‫ِّن‬
‫يُضيُء باَل َمَّك َة َوال قااَب‬
‫َو ضاَعت َيثِرُب الَف يحاُء ِم سًك ا‬
‫َو فاَح القاُع َأرجاًء َو طااَب‬
‫ولّم ا بلغ ﷺ الّسادسة من عمره أرادت أّم ه الوفّية آمنة بنت وهب زيارة قبر أبيه في المدينة‪،‬‬
‫فأخذت طفلها اليتيم محمًدا ﷺ والحاضنة أّم أيمن رضي هللا عنها‪ ،‬وعبروا الّص حراء في مسافة‬
‫ُتقارب ثالث مئة ميل‪ ،‬حيث ال مركب َو ِط يء‪ ،‬وال زاد َشهّي ‪ ،‬وال عيَش رضّي ‪ ،‬سافروا من مكة إلى‬
‫المدينة بين الجبال والوهاد في حّر الّص حراء‪ ،‬ووهج الّر مضاء‪.‬‬
‫وليت شعري ما هو زاده ﷺ وهو ُيسافر مع ُأّم ه يتيًم ا في الّسادسة من ُعمره؟!‬
‫وما هو طعامه؟! وأّي ثوب كان يرتدي؟! وأّي حذاء كان يلبس؟! وهو الذي عاش حالة فقر‬
‫قاسية مع جوع شديد وُيْتم موجع‪ ،‬ولك أن تتخيل من أّي إناء كان يأكل؟ ومن أّي قدح كان يشرب؟‬
‫وعلى أّي فراش كان ينام؟‬
‫وصَل ﷺ إلى قبر أبيه الذي لم يره في حياته ولم يسعد بحنانه وعطفه‪ ،‬ولّم ا انتهوا وفي‬
‫طريق عودتهم‪ ،‬وبعدما قطعوا شوًطا إلى مكة؛ أصاب أّم ه مرٌض ‪ ،‬فأخذت تلفظ أنفاسها األخيرة‪،‬‬
‫وطفلها ُم حمد صلى هللا عليه وسلم واقف أمامها ينظر إليها وهي توّدع الحياة‪ ،‬وُيتابع خروج روحها‬
‫من جسدها في مشهد تذوب له الّر وح‪ ،‬ويتمّز ق له القلب‪ ،‬وتذهب معه النفس أنفاًسا من هول الّص دمة‬
‫ومرارة الفاجعة‪ ،‬فتقوم أم أيمن ويعاونها هذا الطفل الّص غير بحفر قبر في الّص حراء يدفن فيه أّم ه‪،‬‬
‫وكأّنه يدفن روحه معها بأبي هو وأمي ﷺ‪.‬‬
‫فهل في العالم مشهد يثير الّشجون‪ ،‬ويستدّر الّدموع‪ ،‬وَيُر ّض األضلع أشّد ألًم ا وأعظم حزًنا‬
‫من مشهد أن تحثو التراب على أّم ك‪ ،‬و ُتهيل الّر مال على والدتك‪ ،‬وأنت في عهد طفولتك‪ ،‬وميعة‬
‫صباك؟! وهل هناك في الحياة أفظع وأمّر من أن تترك أّم ك في الّص حراء وأنت طفل في ُم قتبل‬
‫العمر‪ ،‬ثم تذهب وحيًدا بال أب وال أٍّم ‪ ،‬تسحب خطاك الّثقيلة ال تدري إلى أين؟! وإلى من أنت‬
‫ذاهب؟!‬
‫دفنُت فؤاِد ي يف ُرىب البيِد َواًهلا‬
‫فلّله من خطٍب بَد ا ودهاين‬
‫فَيا ليَت قليب قربَه ا بني أضُلعي‬
‫ألمحَلها طوَل املَد ى بكياين‬
‫وُيواصل ﷺ رحلة عودته إلى مكة مع الحاضنة أّم أيمن ُم تعًبا ُم نهًكا‪ ،‬مهموًم ا مغموًم ا‪،‬‬
‫فيدخل هذا الّطفل اليتيم مكة‪ ،‬ويمشي في سككها‪ ،‬ويمّر على بيوتها فيشاهد اآلباء يضمون أبناءهم‪،‬‬
‫ويداعبونهم ويمازحونهم‪ ،‬واألمهات ُيعانقَن أطفالهَّن مع رقة وحنان‪ ،‬وهو ال يجد شيًئا من ذلك كّله‪.‬‬
‫ليت شعري من كان يتفّقد غذاءه ﷺ ولباسه وفراشه؟! ومن كان َيحرص على صحته وراحته‬
‫وهو الذي عاش بال أٍب ُيمازحه‪ ،‬وال أٍّم ُتضاحكه‪ ،‬وال أخ ُيداعبه‪ ،‬وال أخت ُتواسيه‪ ،‬وال أسرة‬
‫ُتسّليه؟!‬
‫وُر غم ذلك كّله‪ ،‬ومع ألم الُيتم‪ ،‬ومرارة الفراق‪ ،‬وشظف العيش والفقر والحاجة والجوع إاّل‬
‫أّن محمًدا ﷺ كان يتحلى بأسمى صفات الّر جال‪ ،‬ويحمل أنبل خصال األبطال‪ ،‬فيشّب عفيًفا زاهًدا‪،‬‬
‫ورًعا َح يًّيا‪ُ ،‬م تأّدًبا أجمل ما يكون األدب‪ ،‬لطيًفا أجّل ما يكون الّلطف‪ ،‬رحيًم ا أعظم ما تكون الّر حمة‪.‬‬
‫وَيصل ﷺ إلى جّده عبد الُم طلب فيضّم ه وُيؤثره على أبنائه‪ ،‬ويحتويه بحنانه وعطفه وشفقته‪،‬‬
‫وال يلبث إاّل زمًنا يسيًر ا ثم يموت عبد المّطلب‪ ،‬ويتوَّلى أبو طالب عّم الّنبي ﷺ رعايته‪.‬‬
‫لقد َنحَت ﷺ عظمته من الّص غر في الّص خر‪ ،‬ونقش مجده في الّر مال‪ ،‬فال رفاهية‪ ،‬وال بذخ‪،‬‬
‫وال إسراف؛ ألّن مع هذه األمور فتورًا في الهّم ة‪ ،‬وهبوطًا لإلرادة؛ ولهذا فالغالب على العظماء أنهم‬
‫يشقون طريقهم إلى الّر يادة في ظروف حالكة‪ ،‬وأياٍم مريرة‪ ،‬ودروب صعبة‪.‬‬
‫ومع ُم عترك الحياة واجه هذا الّشاب الُم ثابر‪ ،‬والفتى الُم كافح اليتيم الفقير مواقف ُتمتحن فيها‬
‫الّر جولة‪ ،‬وتظهر فيها المروءة‪ ،‬ويتبين فيها الّطيب من الخبيث؛ فظهر معدنه األصيل وعنصره‬
‫الّنبيل ﷺ‪ ،‬حتى أطلق عليه قومه لقب‪( :‬الّص ادق األمين)‪ ،‬ولم ينل ﷺ هذا الّلقب هبة منهم‪ ،‬وال‬
‫مجاملة‪ ،‬ولم يأخذه هدّية‪ ،‬وال ُم حاباة‪ ،‬بل حصل عليه استحقاًقا لسيرته العطرة‪ ،‬وسجّله الحافل‪،‬‬
‫ومجده الُم نيف‪ ،‬وُخ لقه الشريف‪ ،‬مع كفاحه ونضاله في سبيل المبادئ الُعليا واألخالق الّسامية‪.‬‬
‫ولّم ا سمعت خديجة رضي هللا عنها بأخالقه وأمانته وصدقه ﷺ تقّدمت للّز واج منه‪ ،‬ولم تفعل‬
‫ذلك من أجل ماله فهي الّتاجرة وهو الفقير‪ ،‬وال لمنصبه فليس بملك وال وزير وال أمير‪ ،‬وإّنما من‬
‫أجل الّتاج األعظم الذي يحمله ﷺ‪ ،‬تاج (الّص ادق األمين)‪ ،‬وألجِل الوسام الذي ُيجّم ل صدره‪ ،‬وسام‬
‫(الّر جولة في أبهى صورها‪ ،‬والّشهامة في أحسن ُح للها)‪ ،‬فيقترن بخديجة في زواج عامر‪ ،‬فال‬
‫ترى منه ﷺ إاّل الوفاء والّص دق‪ ،‬والعفاف والُطهر‪ ،‬حتى زّكته بتلك الّشهادة الخالدة لّم ا خاف على‬
‫ْخ‬
‫َّن‬
‫َل‬
‫نفسه بعد نزول الوحي عليه‪ ،‬فقالت له رضي هللا عنها‪« :‬كال‪ ،‬وهللا ما ُيْخ ِز يَك هللا أَبًدا‪ ،‬إَّنَك َلَتِص ُل‬
‫الَّر ِح َم ‪ ،‬و تحمل الَك َّل ‪ ،‬وُتْك ِس ُب الَم ْعُدوَم ‪ ،‬وَتْقِر ي الَّض ْيَف ‪ ،‬وُتِع ين على َنواِئِب الَح ِّق » [متفق عليه]‬
‫لقد ذاق محمد ﷺ الُيتم مرات‪ ،‬واحتساه كّر ات‪ ،‬ذاقه يوم مات أبوه وهو حمل في بطن أمه‪،‬‬
‫وهذا أشد الُيتم وأفظعه‪ ،‬وذاقه يوم ماتت أّم ه أمام عينيه وهو في الّسادسة من عمره‪ ،‬وذاق األلم‬
‫والحزن يوم فارق جّده عبد المّطلب الذي كان يضّم ه ويدافع عنه ويحتويه‪ ،‬وذاقه يوم فارق عّم ه أبا‬
‫طالب وهو الذي كان ينصره ويأويه‪ ،‬وذاقه يوم فارق زوجته الحنون الحصيفة الّر اشدة خديجة بنت‬
‫خويلد التي كانت ُتعّز يه وتواسيه‪ ،‬ذاق ﷺ الُيتم كّله‪ ،‬واأللم أّو له وآخره؛ لُيهّيئه هللا لقيادة العالم‪،‬‬
‫وُيدّر به لسياسة البشرّية‪ ،‬وُيرّشحه لهداية البرّية‪ ،‬وليكون خاتم األنبياء‪ ،‬وقدوة األولياء‪ ،‬وإمام‬
‫الُم رسلين‪ ،‬وُحّج ة هللا على الّناس أجمعين‪.‬‬
‫لقد توّلى هللا عّز وجّل من أّو ل وهلة هذا الّنبي الكريم ﷺ ولم يكله إلى الّناس طرفة عين‪ ،‬بل‬
‫تواّل ه وآواه‪ ،‬وهداه وأغناه‪ ،‬ولم يترك إيواءه أو هدايته أو غناه للبشر‪ ،‬فكاَن منُع هللا له عطاًء ‪ ،‬وشّدُته‬
‫رخاًء ‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ{ :‬أَلْم َيِج ْدَك َيِتيًم ا َفآَو ى} [الضحى‪ :‬اآلية ‪ ،]6‬وليس اإليواء مجّر د الّسكن أو‬
‫األسرة أو العشيرة فقط‪ ،‬بل أواه هللا إيواًء رّبانًّيا خاّص ًا بحفظه ورعايته ﷺ‪َ{ ،‬و َو َج َدَك َض آًّال َفَه َدى}‬
‫[الضحى‪ :‬اآلية ‪ ]7‬فهداه هللا إلى نور الّنبوة‪ ،‬ونّج اه من االنحراف عن منهج هللا‪ ،‬وأرشده إلى الّطريق‬
‫المستقيم‪ ،‬وعّلمه ما لم يكن يعلم من اإليمان والقرآن‪َ{ ،‬و َو َج َدَك َعاِئًال َفَأْغ َنى} [الضحى‪ :‬اآلية ‪ ،]8‬بكل ما‬
‫تدّل عليه كلمة «الغنى »؛ أغناه بعد الفقر فلم َيحتْج ألحد ﷺ‪ ،‬وأغناه بالّر ضا والّسكينة والّطمأنينة‬
‫والقناعة‪ ،‬وأغناه عن الحاجة للبشر كائًنا َم ن كان‪ ،‬وأغناه في رزقه وُخ لقه حتى فاض غناه ﷺ على‬
‫الناس بًّر ا وصلًة‪ ،‬جوًدا وكرًم ا‪ ،‬رحمًة وعفًو ا‪ ،‬فكانت نشأته ﷺ يتيًم ا من ُح سن تدبير هللا له ليكون‬
‫توّكله ﷺ على رّبه توكاًل كاماًل ‪ ،‬وليفوض أمره إلى إلهه وخالقه‪ ،‬فيرضى بوالية هللا عن كل والية‪،‬‬
‫وكفاية هللا عن كل كفاية‪ ،‬فإذا اشتّد به أمر أو حزبه كرب ال يقول‪ :‬يا أمي‪ ،‬يا أمي‪ ،‬وال يا أبي‪ ،‬يا‬
‫أبي‪ ،‬ولكن يقول‪ :‬يا رّبي‪ ،‬يا رّبي‪ ،‬ولُيقبل على هللا غاية اإلقبال‪ ،‬ويفّو ض أمره إلى هللا ذي الجالل‪.‬‬
‫نشأ ﷺ بدون أٍب‪ ،‬وال شيٍخ‪ ،‬وال ُم عّلٍم ‪ ،‬وال ُم رٍّب؛ ألّن هللا توّلى تعليمه وتربيته ورعايته‪ ،‬فلم‬
‫يتوّل أحد كفالته إال هللا؛ إّنه اصطفاء رّباني‪ ،‬واختيار إلهّي منذ اللحظة األولى‪ ،‬فإن كان هللا تعالى قد‬
‫قال لموسى عليه السالم‪َ{ :‬و َأْلَقْيُت َعَلْيَك َم َح َّبًة ِم ِّني َو ِلُتْص َنَع َعَلى َعْيِني} [طه‪ :‬اآلية ‪ ،] 39‬فإّنه ُسبحانه‬
‫قال لنبّيه وخليله سّيد ولد آدم ﷺ‪َ{ :‬فِإَّنَك ِبَأْع ُيِنَنا} [الطور‪ :‬اآلية ‪.] 48‬‬
‫لقد نشأ ﷺ يتيًم ا ليواجه مصاعب الحياة‪ ،‬ويسعى لكسب لقمة العيش‪ ،‬فلم يكن لديه وقت لّلعب‬
‫والّلهو كما يفعل األطفال‪ ،‬بل كان وقته كفاًح ا‪ ،‬وعطاًء ‪ ،‬وبذالً‪ ،‬وتضحيًة‪ ،‬ليستعّد لتحّم ل أعباء‬
‫الّر سالة‪ ،‬ويتهّيأ لتكاليف النبّو ة‪.‬‬
‫نشأ ﷺ يتيًم ا ليصُلب ُعوده‪ ،‬وتقوى هّم ته‪ ،‬ويعظم صبره‪ِ ،‬ليتدّر ب على ركوب المصاعب‪،‬‬
‫والّص بر على المصائب‪ ،‬وتحّم ل الّنوائب‪ ،‬وليكون ثابت الجأش‪ ،‬قوّيًا أمام العواصف‪ ،‬صلًبا عند‬
‫نزول الكوارث؛ ألّن الّر سالة أمانة عظيمة‪ ،‬وُم هّم ة شاقة‪ ،‬سوف ُتواَج ه بُعتاٍة‪ ،‬وُقساٍة‪ ،‬وُم كّذبين‪،‬‬
‫وفجرة‪ ،‬ومردٍة‪ ،‬والبّد لهذا اإلنسان العظيم‪ ،‬والّنبي الكريم ﷺ أن يكون أكثر مقاومة‪ ،‬وأعظم نضاالً‪،‬‬
‫وأجّل كفاًح ا‪ ،‬وأكثر بطولًة من أي شخص آخر‪ ،‬فكان هذا الّتدريب اإللهي‪ ،‬والّتمرين الّر ّباني‪.‬‬
‫ومن أسرار ُيتمه ﷺ أّن هذا الُيتم نسف االفتراءات الباطلة‪ ،‬والّدعاَو ى اآلثمة من أّنه ﷺ أراد‬
‫بالّنبوة عّز أسرته‪ ،‬وقّو ة عائلته‪ ،‬واالنتصار لعشيرته‪ ،‬فأين األسرة؟‬
‫وأين العائلة؟ وأين العشيرة عن هذا اليتيم الذي نشأ وحيًدا بال أٍب وال أٍّم ؟!‬
‫وحتى ال ُيقال أيًض ا‪ :‬إّن هذه الّنبوة وهذه الّدعوة انتشرت لقوة أسرته ومكانة عائلته‪ ،‬بل إّن‬
‫من العجائب في ذلك أّن قومه وعشيرته هم أّو ل من حارَبه وَعاَداه‪ ،‬بأبي هو وأّم ي ﷺ!‬
‫نشأ ﷺ يتيًم ا فذاق الجوع ليكون أسوة للجائعين‪ ،‬وعاش الحرمان ليكون قدوة للمحرومين‪،‬‬
‫ومّر به البؤس ليكون ُم لهًم ا للبؤساء‪ ،‬وَص َه ره الفقر ليكون إماًم ا للفقراء‪ ،‬وعاش يتيًم ا ليذوق الُيتم‬
‫فيرحم األيتام والمساكين‪ ،‬والبؤساء والفقراء‪ ،‬والمحرومين والُم ضطهدين‪ ،‬ألّنه قد ذاق ما ذاقوا‪،‬‬
‫وشعر بما شعروا به‪ ،‬ومّر به ما مّر بهم‪.‬‬
‫ورغم نشأته ﷺ يتيًم ا‪ ،‬إْذ لم ينعم برعاية أبيه‪ ،‬وال بحنان ُأّم ه‪ ،‬إال أّن هللا قد مأل قلبه بالحنان‪،‬‬
‫وروحه بالّر حمة واإلحسان‪ ،‬ففاض ﷺ على ُأّم ته من بركات رحمته‪ ،‬ومن لطائف حنانه‪ ،‬ومن عظيم‬
‫إحسانه‪.‬‬
‫ِل‬
‫أنَت أليتام يِف الّد نيا َعزاُء‬
‫وإماٌم واقتداٌء واّتساْء‬
‫اَي يتيمًا كفل العاَمل يِف‬
‫ِه‬
‫ُبرد َف ْه َو هلْم ظٌّل وماْء‬
‫أنَت ُذقت الُيتم َك ْي َترحَم مْن‬
‫عَّضُه اُجلوُع وأضَناه الّش قاْء‬
‫نشأ ﷺ في بيئة انتشرت فيها الُخ رافات والجهاالت‪ ،‬واألخالق الّسيئة‪ ،‬والفواحش‬
‫والمنكرات‪ ،‬وعبادة األوثان واألصنام‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬وسفك الدماء‪ ،‬ووأد البنات‪ ،‬والّتعصب القبلي‬
‫الجاهلّي الَم قيت‪ ،‬إال أّن هللا عصمه منذ والدته‪ ،‬فلم يسلك مسلك أبناء تلك القبائل في غّيهم وضاللهم‪،‬‬
‫وحفظه من الّز يغ والغواية وعبث األطفال منذ طفولته‪.‬‬
‫فعناية هللا رافقته وليًدا‪ ،‬وطفاًل رضيًعا‪ ،‬وشاّبًا يافًعا حتى أكرمه هللا بالّنبوة‪ ،‬فلم ُتحفظ عنه‬
‫غلطة‪ ،‬ولم ُتنقل عنه زّلة‪ ،‬ولم ُتؤثر عنه ريبة‪ ،‬إّنما كان المجد في ُبرديه‪ ،‬والّشرف على عاتقيه‪،‬‬
‫فكان شباُبه ﷺ مليًئا بالكفاح والّر جولة‪ ،‬والّشهامة والمروءة‪.‬‬
‫فقد جمع األخالق الكريمة‪ ،‬والّطباع الُم ستقيمة‪ ،‬والّسجايا الحميدة‪ ،‬والخالل المجيدة‪ ،‬فكان‬
‫شاًّبا طاهر اإلزار‪ ،‬مأمون الّدخيلة‪ ،‬زاكي السر والعلن‪ ،‬محترم الجانب‪ ،‬كريم األخالق‪ ،‬عذب‬
‫الّسجايا‪ ،‬صادق المنطق‪ ،‬أفاض ﷺ بأخالقه الفاضلة على أصحابه وأتباعه إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫وإذا كان اآلباء الّص ادقون يتفانون في تربية أبنائهم فكيف بَم ن ُيرِّبيه رّبه‪ ،‬وَم ن يرعاه إلهه؟!‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬الّطفل ال يخاف إذا كان له أب‪ ،‬فكيف بطفل توّلى تربّيته الّر ب؟!‬
‫إّنه الّطفل الذي بطفولته يفخر األطفال‪ ،‬والّر جل الذي برجولته يتباهى الّر جال‪ ،‬والبطل الذي‬
‫ببطولته يقتدي األبطال‪ ،‬فالّتوفيق يرافقه‪ ،‬والبركة تصاحبه‪ ،‬وعين الّر عاية تالحظه‪ ،‬ويد الحفظ‬
‫تعاونه‪ ،‬وأغصاُن الوالية ُتظّلله‪ ،‬حفظه ُهللا من كل سقطة‪ ،‬وصانه من كل غلطة ؛ألّنه ُم رّشح‬
‫إلصالح العالم‪ ،‬وُم هّيأ إلسعاد البشرّية‪ ،‬وُم عٌّد لهداية اإلنسانّية‪.‬‬
‫إّنه رجل لكّنه نبّي ‪ ،‬وإنسان لكّنه رسول‪ ،‬وبشر لكّنه معصوم‪ ،‬وقد صانه هللا من الّطيش‬
‫والّتهور والعجلة‪ ،‬وكساه لباس الوقار والحلم والّسكينة منذ طفولته‪ ،‬فقد كان شباب مكة يلهون‬
‫ويلعبون‪ ،‬ويعبثون‪ ،‬وكان ﷺ يعمل‪ ،‬وُيفّكر‪ ،‬وُيكافح‪ ،‬ويجتهد‪ ،‬فيرعى األغنام سحابة نهاره‪ ،‬ويتأّم ل‬
‫الكون طيلة يومه‪ ،‬وُيفّكر في بديع ُص نع هللا في كل دقائق عمره‪ ،‬تمّيز بالّر جولة‪ ،‬وتحّم ل المسؤولية‪،‬‬
‫وقد عصمه هللا من كّل قبيح‪ ،‬وحفظه من كّل شٍّر ‪.‬‬
‫وُيروى عن علي رضي هللا عنه أّنه قال‪« :‬قيل للّنبي ﷺ‪ :‬هل عبدَت وثًنا قُّط؟‪ ،‬قال‪ :‬ال‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬فهل شربَت خمًر ا قط؟‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬وما زلت أعرف أّن الذي هْم عليه كفٌر ‪ ،‬وما كنُت أدري ما‬
‫الكتاُب وال اإليماُن » [رواه أبو نعيم وابن عساكر]‪.‬‬
‫وهكذا كان الّنبي ﷺ‪ ،‬فقد صاَن لَسانه‪ ،‬وَقهَر شيطانه‪ ،‬وملَك غضبه‪ ،‬فلم يشرب خمًر ا‪ ،‬ولم‬
‫يرَتكْب منكًر ا‪ ،‬ولم يالبس غدًر ا‪ ،‬ولم يعبد وثًنا‪ ،‬ولم يظلم أحًدا؛ ألّنه نشأ وشّب في حفظ هللا‪ ،‬وفي‬
‫معّية هللا‪ ،‬وفي أمان هللا‪ ،‬أحاطه هللا برعايته فصرف عنه منكرات الجاهلّية وغّيها‪ ،‬حتى صار أعظم‬
‫قومه وقاًر ا‪ ،‬وأكثرهم أمانًة‪ ،‬وأجّلهم صدًقا‪ ،‬وأحسنهم ُخ لًقا‪ ،‬وأبّر هم قلًبا‪ ،‬وأطهرهم نفًسا‪ ،‬وأزكاهم‬
‫روًح ا‪ ،‬وكانت كّل هذه الّص فات والّسجايا قبل نبّو ته ﷺ‪ ،‬فكيف يكون بعدَم ا أكرمه رّبه بالّنبوة؟!‬
‫وبعدما عّر فه بالّدين الحنيف؟ لقد شّع ﷺ نوًر ا ُم ضيًئا وسط ُظلمات الجاهلية‪ ،‬وقمًر ا منيًر ا في‬
‫ليل الوثنّية‪.‬‬
‫وقد شّب ﷺ طاهًر ا ُم طّهًر ا‪ ،‬ميموًنا ُم بارًكا‪ ،‬ليكون قدوة عظيمة لكل شاب أحاطت به‬
‫الّشبهات ونزعته الّشهوات‪ ،‬ليخرج ُم نتصًر ا منها بأخالقه الحميدة‪ ،‬وصفاته الّنبيلة الّر شيدة‪ ،‬مهما‬
‫كانت اإلغراءات‪ ،‬ومهما تعاظمت الظلمات‪.‬‬
‫وليس بعجيب أن ينشأ فاضل بين فضالء‪ ،‬أو نبيل بين نبالء‪ ،‬أو طالب علم بين علماء‪ ،‬ولكن‬
‫العجيب أن ينشأ شاب طاهر زكٌّي في مجتمع وثنّي جاهلّي شركي خرافي‪ ،‬يعبد أهُله األصنام‪،‬‬
‫ويسجدون لألوثان‪ ،‬ويبيحون المحرمات‪ ،‬ويرتكبون الفواحش‪ ،‬ويمارسون المنكرات والّر ذائل‪،‬‬
‫فينشأ هذا الّشاب بينهم مخالفًا ِلطباعهم‪ ،‬ومجانًبا ِلفعالهم ليظهر في َسمِت أْح َكِم الُح كماء‪ ،‬وأنبِل‬
‫الكرماء‪ ،‬وأتقى األتقياء؛ ألّن هللا رّباه‪ ،‬وكما ُر وي في األثر‪« :‬أَّدبني رِّبي فأحسَن تأديبي »‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن سنده صحيحًا‪ ،‬فمعناه مليح‪ ،‬فلم ُتحفظ له هفوة‪ ،‬ولم ُتنقل عنه غلطة‪ ،‬ولم َيكذب أبًدا‪ ،‬ولم يخن‬
‫مطلًقا‪ ،‬بل كّله ُطهر ونقاء‪ ،‬وصفاء ووفاء‪ ،‬على أنبل ما يتخّلق به الُح كماء‪ ،‬وأجمل ما يّتصف به‬
‫العظماء‪ ،‬وهذا يدلك أّن هللا هّيأه منذ الطفولة ليتحّم ل أعباَء الّر سالة‪ ،‬ويقوم بأمانة الّنبوة‪.‬‬
‫لم يعْش ﷺ في شبابه حياة الّر فاهية‪ ،‬ولم يكن ُم نعًم ا خاماًل ‪ ،‬أو ُم سرًفا ُم بّذًر ا‪ ،‬بل نشأ ليكدح‬
‫ويعمل ويجتهد‪ ،‬فقد تحَّم ل المصاعب والمتاعب والمشاق‪ ،‬وسافر مع عّم ه في تجارة إلى بالد الّشام‬
‫وهو دون الثالثة عشرة من عمره‪ ،‬وشهد الجميع بأمانته وصدقه ومهارته في الّتجارة‪.‬‬
‫ولقد عمل ﷺ في رعي الغنم ألهل مكة على قراريط حتى الّثانية عشرة من عمره‪ ،‬فعن َأبي‬
‫ُهريرة رضي هللا عنهعن الَّنِبِّي ﷺ َقاَل ‪َ« :‬م ا َبَعَث هللا َنِبًّيا ِإال َر َعى اْلَغَنَم ‪َ ،‬فَقال َأْص حاُبه‪َ :‬و أَنَت ؟‪َ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫َنَعْم ‪ُ ،‬كْنُت َأْر َعاَها علَى َقراِر يَط َألْه ِل َم َّكَة » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وفي رعيه ﷺ الغنم تربية رّبانية ِليستعّد برعاية الغنم لسياسة األمم‪ ،‬فالغنم تحتاج إلى ُح سن‬
‫رعاية‪ ،‬وجميل اختياٍر ألماكن رعيها‪ ،‬مع الّر فق بها‪ ،‬وألّن في رعي الغنم سكينة كما قال ﷺ‪:‬‬
‫«والَّسِك يَنُة والَو قاُر في أْه ِل الَغَنِم » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وفي رعيه ﷺ للغنم باألجرة درس لكل إنساٍن أْن يعمل ويحرص على أن يكون مطعُم ه حالًال‬
‫من كسب يده‪ ،‬وعرق جبينه‪ ،‬وال يركن إلى سؤال الّناس‪ ،‬بل يستغني عنهم بكل عمل مباح وكسب‬
‫شريف‪ ،‬وهذه العصامية والّر جولة هي التي تحفظ ماء الوجه وتصون العرض‪.‬‬
‫إّن كّل إنسان يقرأ سيرته ﷺ منذ والدته إلى وفاته‪ ،‬ويجعله إماًم ا له وقدوة وأسوة يسعد‬
‫وينجح‪ ،‬وينجو ويفلح؛ ألّن هللا جمع في هذا الّنبي الكريم كل معاني الفضل والّنبل‪ ،‬والخير والُّطهر‪،‬‬
‫والشرف والّسؤدد‪ ،‬فهو معلم الّنجاحات‪ ،‬وبطل اإلنجازات‪ ،‬وال نجاح للبشرية في بناء حضارة‬
‫ُم قّدسة‪ ،‬طاهرة عامرة إال باالقتداء بنبّينا المعصوم الكريم محمد بن عبدهللا ﷺ؛ لتصنع بدينه وأخالقه‬
‫مدنية عادلة وحياة ُم ستقرة‪ُ ،‬م طمئنة آمنة‪ ،‬فهو اليتيم الذي حّو ل العالم من ليلة مأتم إلى ُعرس مجيد‪،‬‬
‫وحفل بهيج‪ ،‬وحياة ُم شرقة‪.‬‬
‫أتى اليتيُم أبو األيتام يف قدٍر‬
‫أهنى ألمتِه َما كان من َيَتِم‬
‫حمرُر العقِل ابين اجملِد منِق ُذ ان‬
‫والّش رك يف األرض ملُء الّس هل واألكِم‬
‫بنوِر هديَك كَّح لنا حماِج راَن‬
‫ّملا كتبَنا حروًفا صغَتها بدِم‬
‫من حنن قبلَك إال نقطٌة غرقْت‬
‫يف اليِّم بل دمعٌة خرساَء يف القدِم‬
‫حممد ﷺ َنِبًّيا‬
‫كانت اُألّم ة قبله في ُسبات عميق‪ ،‬وحضيض من الجهل سحيق‪ ،‬فبعثه ُهللا على فترة من‬
‫المرسلين‪ ،‬وانقطاع من النبّيين‪ ،‬فأقام ُهللا به الميزان‪ ،‬وأنزل عليه القرآن‪ ،‬وفّر ق به بين الُكفر‬
‫واإليمان‪ ،‬وُح ّطمت به األوثان‪.‬‬
‫إّن لُألمم رموًز ا يخطئون ُو يصيبون‪ ،‬ويعلمون ويجهلون‪ ،‬لكن رسولنا ﷺ معصوم من الّز لل‪،‬‬
‫محفوظ من الخلل‪ ،‬سليم من الِع لِل ‪ُ ،‬عصم قلبه من الّز يغ والهوى‪ ،‬فما ضَّل أبًدا وما غوى {ِإْن ُهَو ِإَّال‬
‫َو ْح ٌي ُيوَح ى} [النجم‪ :‬اآلية ‪ ،]4‬ثّبت هللا قلبه فال يزيغ‪ ،‬وسّدد كالمه فال يجهل‪ ،‬وحفظ عينه فال‬
‫تخون‪ ،‬وحّص ن لسانه فال َيِز ل‪ ،‬ورعى دينه فال َيِض ل‪ ،‬وتوّلى أمره فال يضيع‪ ،‬فهو موّفق محفوظ‬
‫مبارك ميمون‪ .‬يقول عليه الصالة والسالم‪« :‬إّن أتقاكم وأعلَم كم باهلل أنا» [رواه البخاري]‪ ،‬فُسبحان‬
‫َم ن اجتباه واصطفاه‪ ،‬وتواّل ه وحماه‪ ،‬ورعاه وكفاه‪ ،‬ومن كّل بالء حسن أباله‪.‬‬
‫أرسله هللا على الّظلماء كشمس الّنهار‪ ،‬وعلى الّظمأ كالَغيث الِم درار‪ ،‬عُظمت بدعوته المنن‪،‬‬
‫فإرساله إلينا أعظم مّنة‪ ،‬وأحيا ُهللا برسالته الُّسنن‪ ،‬فأعظم طريق للنجاة اّتباع تلك الُّسَنة‪ .‬هو النبأ‬
‫العظيم‪ ،‬والحدث الهائل‪ ،‬والخبر العجيب‪ ،‬والشأن الفخم‪ ،‬واألمر الضخم‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬عَّم‬
‫َيَتَساَء ُلوَن *َعِن الَّنَبِإ اْلَعِظ يِم * اَّلِذي ُهْم ِفيِه ُم ْخ َتِلُفوَن } ‪[ .‬النبأ‪ :‬اآلية ‪]3 -1‬‬
‫فمبعثه حقيقًة هو أروع األنباء‪ ،‬وأعظم األخبار التي سارت بها الركبان‪ ،‬وتحّدث بها الّسمار‪،‬‬
‫ووعاها الّر واة‪ ،‬واندهش منها الّدهر‪ ،‬وُذِه ل منها الّز من‪ ،‬فقد استدار له الّتاريخ‪ ،‬ووقفت له األيام‪،‬‬
‫فقصة إرساله عليه الصالة والسالم ال يلفها الّظالم‪ ،‬وال تدفنها الّر يح وال يحجبها الغمام‪ ،‬وإّنما هي‬
‫قصٌة عبرت البحار واجتازت القفار‪ ،‬ونزلت على العالم نزول الغيث‪ ،‬وأشرقت إشراق الّشمس‪ ،‬فهو‬
‫باختصار نور‪ ،‬وهل يخفى النور؟! {ُيِر يُدوَن َأْن ُيْط ِفُئوا ُنوَر ِهَّللا ِبَأْفَو اِه ِه ْم َو َيْأَبى ُهَّللا ِإَّال َأْن ُيِتَّم ُنوَر ُه‬
‫َو َلْو َكِر َه اْلَكاِفُر وَن } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]32‬‬
‫ُبعث عليه الّص الة والّسالم لُيعبد هللا وحده ال شريك له‪ُ ،‬بعث ليوحد هللا‪ُ ،‬بعث لُيقال في‬
‫األرض‪« :‬ال إله إاّل هللا محمد رسول هللا»‪.‬‬
‫ُبعث لُيحق هللا الحق وُيبطل الباطل‪ُ ،‬بعث بالمحّج ة البيضاء‪ ،‬والمّلة الغّر اء‪ ،‬والّشريعة‬
‫الّسمحاء‪.‬‬
‫ُبعث بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي القربى‪ ،‬وبالخير والّسالم والبّر والمحبة والّسعادة‬
‫والّص الح واألمن واإليمان‪.‬‬
‫ُبعث بالّطهارة والّص الة والّز كاة والّص وم والحج والجهاد واألمر بالمعروف والّنهي عن‬
‫المنكر‪.‬‬
‫ُبعث بمعالي األمور‪ ،‬ومكارم األخالق‪ ،‬ومحاسن الّطبائع‪ ،‬ومجامع الفضيلة‪.‬‬
‫ُبعث لدحض الّشرك‪ ،‬وسحق األصنام‪ ،‬وكسر األوثان‪ ،‬وطرد الجهل‪ ،‬وُم حاربة الّظلم‪،‬‬
‫وإزهاق الباطل‪ ،‬وغرس الفضيلة‪ ،‬ونفي الّر ذيلة‪ ،‬فما من خير إاّل ودّلنا عليه‪ ،‬وما من شر إاّل وحّذرنا‬
‫منه‪.‬‬
‫ُبعث ﷺ ِفي األْر َبعيَن ِم ن ُعْم ِر ه‪َ ،‬و ُهَو ِس ُّن الَكماِل ‪ ،‬فَنزل َعَلْيِه الَم َلُك ِبغار ِح َر اٍء ‪َ ،‬و َكاَن ِإَذا‬
‫َنَز َل عليِه الوحُي ﷺ اْش َتَّد َذلك َعَلْيِه ‪َ ،‬و َتَغَّير َو جُه ه‪َ ،‬و عِر ق َج بيُنه‪َ ،‬فلَّم ا َنزل عليه الَم َلُك َقاَل َلُه‪ :‬اْقَر ْأ‪،‬‬
‫َفقاَل له النبُّي ﷺ‪ :‬ما أَنا بَقاِر ٍئ ‪َ ،‬فَغَّطُه الملك َح َّتى بلغ ِم نه الَجْه ُد‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬اْقَر ْأ‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ما أنا‬
‫ِبَقاِر ٍئ »‪َ ،‬فَغَّطُه الملك ثانية َح َّتى بلغ ِم نه الَجْه ُد‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬اْقَر ْأ‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ما أنا ِبَقاِر ٍئ »‪َ ،‬فَغَّطُه الملك‬
‫ْأ‬
‫ثالثة َح َّتى بلغ ِم نه الَجْه ُد‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪{ :‬اْقَر ِباْس ِم َر ِّبَك اَّلِذي َخ َلَق } [العلق‪ :‬اآلية ‪ -]١‬حَّتى َبَلَغ ‪َ{ -‬عَّلَم‬
‫اِإل ْنَساَن َم ا َلْم َيْعَلْم } [العلق‪ :‬اآلية ‪َ .]5‬فَر َج ع َر ُسوُل هللا ﷺ ِإلى َخِديَج َة (رضي هللا عنها) يْر تِج ُف ‪،‬‬
‫َو أْخ بَر ها ِبَم ا َر أى‪ ،‬فثَّبَتْته َو قالْت َلُه‪ :‬أْبِشـْر ‪َ ،‬فَو هللا ُيْخ ِز يَك ُهللا َأبًدا‪ِ ،‬إَّنك َلَتِص ُل الَّر ِح َم ‪ ،‬وتْص دُق‬
‫الحِديث‪ ،‬وَتْح ِم ُل الَكَّل ‪َ ،‬و ُتْك ِسُب المْعُدْو َم ‪َ ،‬و ُتْقِر ي الَّضْيَف ‪َ ،‬و ُتِع يُن َعلى َنواِئب الَّدْه ر‪.‬‬
‫ُثَّم انطلقْت ِبه خديجُة (رضي هللا عنها) َح َّتى أتْت َو رقَة ْبَن َنوَفل‪َ ،‬و ُهو اْبُن َعِّم َخِديجَة‪َ ،‬و َكاَن‬
‫اْم رًأ َتنَّص ر ِفي الجاِهِلَّيِة ‪َ ،‬و كان َيْك ُتب الِك َتاَب الِع ْبرانَّي ‪َ ،‬فكتَب ِم َن اِإل ْنِج يِل ِبالعربَّيِة َم ا َشاَء ُهللا أن‬
‫يكُتَب ‪َ ،‬و َكاَن َشْيًخ ا كبيًر ا قد َعِم َي ‪َ ،‬فَقاَلْت َله خديَج ُة‪َ :‬يا اْبن َعِّم ! اْس َم ْع ِم ن اْبِن َأِخ يك‪َ .‬فَقال َلُه َو رقُة‪:‬‬
‫َيا اْبَن َأِخ ي! َم اَذا َترى؟ َفأْخ َبره ﷺ َخ َبَر َم ا َر أى‪َ .‬فقاَل َلُه َو رقُة‪َ :‬هَذا الَّناُم وُس اَّلِذي أنَز َله ُهللا َعَلى‬
‫ُم وسى‪َ ،‬يا لْيَتِني ِفيها َج َذًعا‪َ ،‬ليتني َأُكون حًّيا ِإْذ ُيْخ ِر ُج ك َقوُم ك‪َ .‬فقاَل ﷺ‪َ« :‬أَو ْم خِر ِج َّي ُهْم ؟» َقاَل ‪:‬‬
‫نعْم ؛ َلم يأِت َر جٌل َقُّط بمْثِل َم ا ِج ئَت ِبه إاّل ُعوِدي‪َ ،‬و إن ُيدِر ْك ِني َيوُم ك َأنُص رْك َنْص ًر ا ُم َؤَّز ًر ا‪ُ .‬ثَّم لم‬
‫يلبْث َو رقُة َأن ُتُو في» [متفق عليه]‪.‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫ُبشـرى من الَغْيِب ألَق ْت يف فم الغار‬
‫وْحًيا وأفَضْت إىل الُّدنيا أبسراِر‬
‫ُبشـرى الُّنبَّو ة طاَفْت كالَّش ذى َسَح ًرا‬
‫وأْع لَنْت يف الُّرىب ِم يالَد أْنواِر‬
‫وشَّق ِت الَّصمَت واألْنَس اُم ْحتِم لُه ا‬
‫ْحَتَت الَّس كينِة من داٍر ِإىل دار‬
‫َو َه ْد َه َدْت (مَّك ُة) الَو ْسىَن أانمَلَه ا‬
‫وهَّزِت الفجَر ِإيذااًن ِإبْس َف اِر‬
‫لقد شّر ف ُهللا العالمين بنبّو ته‪ ،‬وأنار األرض برسالته‪ ،‬واّتصلت األرض بالّسماء‪ ،‬والفناء‬
‫بالبقاء‪ ،‬والّضعف بالقوة‪ ،‬وبدأ فجر البشرّية من جديد‪ ،‬وُأعلنت في الّدنيا «ال إله إاّل هللا»‪ ،‬وانطلق‬
‫عهد الحرّية‪ ،‬من عبادة األصنام إلى عبادة الملك العاّل م‪ ،‬ومن الّسجود لألوثان إلى الّسجود للواحد‬
‫الدّيان‪ ،‬ومن َج ور الجاهلّية إلى عدل اإلسالم‪ ،‬ومن ضيق الّدنيا إلى سعة اآلخرة‪ ،‬ومن ظلمات الجهل‬
‫إلى نور العلم‪ ،‬فأنزل ُهللا عليه‪« :‬اقرأ» في غار ِح راء‪ ،‬فكان العلم أّو ل البداية‪ ،‬ثم أنزل هللا‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫اْلُم َّدِّثُر * ُقْم َفَأْنِذ ْر } [المدثر‪ :‬اآلية ‪ ،]2 -1‬فكانت ُم هّم ته الّتبليغ‪ ،‬فقام بعدها بأبي هو وأمي ﷺ‪ ،‬وما‬
‫قعد ثالًثا وعشرين سنة ُكّلها جهاد وُسهاد‪ُ ،‬كّلها تضحية وفداء وعطاء‪ُ ،‬كّلها بذل ومشّقة وعناء‪.‬‬
‫قّدم لرّبه روحه ووقته وقلبه ودمه ودموعه‪ ،‬وقّدم ألّم ته أفضل ما قّدم إنساٌن على وجه‬
‫األرض‪ ،‬ونزل عليه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اْلُم َّز ِّم ُل * ُقِم الَّلْيَل ِإَّال َقِليًال} [المزمل‪ :‬اآلية ‪ ،]2 -1‬فكانت هذه ِلزاده‬
‫الّر وحي‪ ،‬والستعداده الّنفسي‪ ،‬ولمدده في حياته‪ ،‬فهو بين‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اْلُم َّز ِّم ُل * ُقِم الَّلْيَل } للعبادة‪ ،‬و‪:‬‬
‫{َياَأُّيَه ا اْلُم َّدِّثُر * ُقْم َفَأْنِذ ْر } للدعوة‪ ،‬فقِم الّليل للّتحصيل‪ ،‬وُقْم فأنذر للتوصيل‪ ،‬وقِم الّليل للمدد‪ ،‬وقْم‬
‫فأنذر للعطاء‪.‬‬
‫أّما دينه ﷺ‪ :‬فهو اإلسالم‪:‬‬
‫دين الفطرة‪ ،‬دين الوسط‪ ،‬دين الحق‪ ،‬دين الفالح والّنجاة‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ{ :‬و َم ْن َيْبَتِغ َغْيَر‬
‫اِإل ْس َالِم ِدينًا َفَلْن ُيْقَبَل ِم ْنُه َو ُهَو ِفي اآلِخ َر ِة ِم َن اْلَخاِس ِر يَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ ،]85‬ديٌن جاء لوضع‬
‫اآلصار واألغالل عن األّم ة‪ ،‬سهل ميَّسـر عاٌّم شامل‪ ،‬كامل تاٌّم ‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُكْم‬
‫ِديَنُكْم َو َأْتَم ْم ُت َعَلْيُكْم ِنْعَم ِتي َو َر ِض يُت َلُكُم اِإل ْس َالَم ِدينًا} [المائدة‪ :‬اآلية ‪ ،]3‬دين جاء ليخرج الّناس‬
‫من عبادة العباد إلى عبادة رّب العباد‪ ،‬ومن ظلمات الّشرك إلى نور الّتوحيد‪ ،‬ومن شقاء الكفر إلى‬
‫سعادة اإليمان‪.‬‬
‫دين صالح ومصلح لكل زمان ومكان‪ ،‬شرعه َم ن َخلق اإلنسان‪ ،‬الذي يعلم السر وأخفى‪،‬‬
‫العاِلم بعالنّية العبد والّنجوى‪ ،‬فهو الّدين الوسط الذي جاء بالعلم الّنافع والعمل الّص الح‪.‬‬
‫لقد بعَث ُهللا رسوَله محمًدا ﷺ أمًّيا بين األميين‪ ،‬يتلو عليهم آيات هللا ويزّكيهم ويعّلمهم الكتاب‬
‫والحكمة‪ ،‬وإن كانوا من قبله لفي ضالل ُم بين‪ ،‬فجاء هذا الّدين بتحريم الكذب في األقوال‪ ،‬والّز ور‬
‫في الّشهادة‪ ،‬والّظلم في األحكام‪ ،‬والَج ور في الوالية‪ ،‬والّتطفيف في المكيال والميزان‪ ،‬والبغي على‬
‫الّناس‪ ،‬واالعتداء على الغير‪ ،‬واإلضرار بالّنفس والّناس‪ ،‬فحفظ القلب باإليمان‪ ،‬والجسم بأسباب‬
‫الّص حة‪ ،‬والمال من الّتلف واالعتداء‪ ،‬والعرض من االنتهاك‪ ،‬والدم من الّسفك‪ ،‬والعقل من إذهابه‬
‫وتغييره‪.‬‬
‫إّن مبعثه ﷺ رسالة إنقاذ وإصالح‪ ،‬وسالم وعدالة للعالم‪ ،‬فكان ﷺ يذكر نعمة هللا عليه فيقول‪:‬‬
‫«أنا َسِّيُد وَلِد آَد َم َيوَم الِقياَم ِة » [رواه مسلم]‪ .‬ويقول ﷺ‪َ« :‬م َثُل ما َبَعَثِني ُهللا به من اُلهَدى والِع ْلِم ‪،‬‬
‫كَم َثِل الغيِث» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فهو ﷺ الّص الح الُم صلح‪ ،‬معه كتاب وُسّنة‪ ،‬ونور وهدى‪ ،‬وعلم نافع‪ ،‬وعمل صالح‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَتْه ِدي ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْس َتَقيٍم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪ ،]52‬فقد ُبعث ﷺ لصالح الّدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬ولسعادة الّر وح والجسد‪ُ ،‬يعّلم العلماء‪ ،‬ويفّه م الفقهاء‪ ،‬ويرشد الخطباء‪ ،‬ويهدي الحكماء‪،‬‬
‫ويدّل الّناس إلى الّص واب‪ ،‬فهو ﷺ اإلمام المعصوم والّنبي الُم رسل‪ ،‬والبشير والَّنِذيرلكل َم ِلٍك‬
‫ومملوك‪ ،‬وغني وفقير‪ ،‬وأبيض وأسود‪ ،‬وعربّي وعجمّي ؛ {َو َم ا َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن }‬
‫[األنبياء‪ :‬اآلية ‪.]107‬‬
‫وقد بّين ﷺ رسالته ودعوته في حديث جبريل عليه السالم‪ ،‬عن ُعمر بن الخطاب (رضي هللا‬
‫عنه) أّنه قاَل ‪« :‬بْيَنما َنْح ُن ِع ْنَد َر سوِل هللا ﷺ ذاَت َيوٍم ‪ ،‬إْذ َطَلَع علْيَنا َر ُجٌل َشِديُد َبياِض الِّثياِب‪،‬‬
‫َشِديُد َسواِد الَّشعِر ‪ ،‬ال ُيَر ى عليه أَثُر الَّسَفِر ‪ ،‬وال َيْعِر ُفُه ِم َّنا أَح ٌد‪ ،‬حَّتى َج َلَس إلى الّنبِّي ﷺ‪ ،‬فأْس َنَد‬
‫ُر ْك َبَتْيِه إلى ُر ْك َبَتْيِه ‪ ،‬وَو َض َع َكَّفْيِه‬
‫ﷺ‪ :‬اإلْس الُم أْن َتْش َه َد أْن ال إَلَه‬
‫عَلى َفِخ َذْيِه ‪َ .‬و قاَل ‪ :‬يا ُم َح َّم ُد‪ ،‬أْخ ِبْر ني َعِن اإلْس الِم ‪ ،‬فقاَل َر سوُل هللا‬
‫إاّل هللا وأَّن ُم َح َّم ًدا َر سوُل هللا ﷺ‪ ،‬وُتِقيَم الَّص الَة‪ ،‬وُتْؤ ِتَي الَّز كاَة‪،‬‬
‫إِن اْس َتَطْعَت إَلْيِه سِبيل‪ .‬قاَل ‪َ :‬ص َد ْقَت ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَعِج ْبنا له َيْس َأُلُه‪،‬‬
‫وَتُص وَم َر َم ضاَن ‪ ،‬وَتُح َّج الَبْيَت‬
‫وُيَصِّد ُقُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْخ ِبْر ِني َعِن اإليماِن ‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْن ُتْؤ ِم َن باهلل‪ ،‬وَم الِئَكِتِه ‪ ،‬وُكُتِبِه ‪ ،‬وُر ُسِلِه ‪ ،‬واْلَيوِم اآلِخ ِر ‪،‬‬
‫وُتْؤ ِم َن بالَقَد ِر خْيِر ِه وَشِّر ِه ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬ص َد ْقَت ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْخ ِبْر ِني َعِن اإلْح ساِن ‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْن َتْعُبَد هللا َكأَّنَك َتراُه‪،‬‬
‫الَّساَعِة ‪ ،‬قاَل ‪ :‬ما الَم ْس ُؤوُل َعْنها بَأْع َلَم ِم َن الَّساِئِل ‪،‬‬
‫َر َّبَتها‪ ،‬وَأْن َتَر ى الُح فاَة الُعراَة العاَلَة ِر عاَء الَّشاِء‬
‫فإْن َلْم َتُكْن َتراُه فإَّنه َيراَك ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْخ ِبْر ِني َعِن‬
‫قاَل ‪ :‬فأْخ ِبْر ِني عن أماَر ِتها‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْن َتِلَد األَم ُة‬
‫َيَتطاَو ُلوَن في الُبنْياِن ‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬ثَّم اْنَطَلَق ‪ ،‬فَلِبْثُت َم ِلًّيا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ِلي‪ :‬يا ُعَمُر أَتْد ِر ي َم ِن الَّساِئُل ؟ ُقلُت ‪ :‬هللا‬
‫وَر سوُلُه أْع َلُم ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإَّنه ِج ْبِر يُل أتاُكْم ُيَعِّلُم ُكْم ِدينُكْم » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫إّن هذا الحديث العظيم يشرح نفسه بنفسه‪ ،‬وُيقّدم رسالة اإلسالم الّسمحة‪ ،‬الوسطّية‪ ،‬الُم عتدلة‪،‬‬
‫الُم يسـرة‪ ،‬وُيترجم لنا دعوته ﷺ دعوة الّر حمة‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والموعظة الحسنة‪ ،‬وهذا الحديث يستحق‬
‫أن ُيطلق عليه‪ُ( :‬م لخص رسالة اإلسالم)‪.‬‬
‫ويعترف رسوُلنا ﷺ بنعمة هللا فيقول‪ُ« :‬أْع ِط يُت َخ ْم ًسا َلْم ُيْعَطُه َّن أَح ٌد مَن األنبياِء َقْبِلي‪:‬‬
‫ُنِص ْر ُت بالُّر ْع ِب َم ِسيَر َة َشْه ٍر ‪ ،‬وُجِع َلْت لي األْر ُض َم ْس ِج ًدا وَطُه وًر ا‪ ،‬فأُّيما َر ُج ٍل ِم ن ُأَّم تي أْد َر َكْتُه‬
‫الَّص اَل ُة َفْلُيَص ِّل ‪ ،‬وُأِح َّلْت لي الَغنائُم وَلْم َتِح َّل ألَح ٍد َقْبِلي‪ ،‬وكان الّنبُّي ُيبَعُث إلى قوِم ه خاّص ًة‪ ،‬وُبِعثُت‬
‫إلى الّناِس كاّفًة‪ ،‬وُأْع ِط يُت الَّشَفاَعَة» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فرسولنا ﷺ هو سّيد العالمين‪ ،‬وخاتم الّنبيين‪ ،‬والمبعوث للّثقلين‪ ،‬والحاكم بين الحزبين‪،‬‬
‫والفاصل بين الفريقين‪ ،‬والمصّلي للقبلتين‪ ،‬والّشاهد المقبولة شهادته على أّم ته‪ ،‬والمبّشر الذي عّم ت‬
‫بشارته‪ ،‬والُم نذر الذي ظهرت نذارته‪ ،‬والّسـراج المنير الذي شّعت أنواره‪ ،‬والّنبي الكريم الذي‬
‫طارت أخباره‪ ،‬فَم ن لم يهتد به فهو من باب التوفيق مطرود‪ ،‬وَم ن لم يتأّس به فهو في يوم الُّشرب‬
‫مفقود‪ ،‬وَم ن لم يجعله إماًم ا فهو المنبوذ‪َ{ :‬لَقْد َكاَن َلُكْم ِفي َر ُسوِل ِهَّللا ُأْس َو ٌة َحَسَنٌة ِلَم ْن َكاَن َيْر ُج و َهَّللا‬
‫َو اْلَيْو َم اآلِخ َر َو َذَكَر َهَّللا َكِثيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪ ،]21‬وَعْن َأِبى ُم وَسى (رضي هللا عنه)‪ ،‬أّن الّنبي‬
‫ﷺ َقاَل ‪« :‬إَّنما َم َثِلي وَم َثَل ما َبَعَثِني ُهللا به َكَم َثِل َر ُج ٍل أَتى َقْو ًم ا‪ ،‬فقاَل ‪ :‬يا َقْو ِم إِّني َر َأْيُت الَجْيَش‬
‫ِبَعْيَنَّي ‪ ،‬وإِّني أنا الَّنِذيُر الُعْر ياُن ‪ ،‬فالَّنجا الَّنَج اَء ‪ ،‬فأطاَعُه طاِئَفٌة ِم ن َقْو ِم ِه ‪ ،‬فأْد َلُج وا فاْنَطَلُقوا عَلى‬
‫َم َهِلِه ْم ‪ ،‬وَكَّذَبْت طاِئَفٌة منهْم فأْصَبُح وا َم كاَنُه ْم ‪َ ،‬فَصَّبَحُه ُم الَجْيُش فأْه َلَكُه ْم واْج تاَحُه ْم ‪َ ،‬فذلَك َم َثُل َم ن‬
‫أطاَعِني فاَّتَبَع ما ِج ْئُت به‪ ،‬وَم َثُل َم ن َعصاِني وَكَّذَب بما ِج ْئُت به ِم َن الَح ِّق » [متفق عليه]‪ .‬فاركب‬
‫سفينته‪ ،‬والزم ُسّنته‪ ،‬واسلك طريقته‪ ،‬واّتبع مّلته‪ ،‬تفز بخير الّدارين‪ ،‬وقّر ة العين‪ ،‬وبرد اليقين‪،‬‬
‫ورضا رّب العالمين‪.‬‬
‫دالئل نبّو ته ﷺ‪:‬‬
‫ال بد أن تقول‪« :‬أشهد أن ال إله إاّل هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أّن محمًدا عبده ورسوله»‬
‫بعلٍم ويقين وقبول وانقياد وصدق وإخالص ومحّبة‪ ،‬ولكن كيف تصل إلى هذا وأنت لم تطلع على‬
‫دالئل نّبوته ﷺ وبراهين رسالته؟‬
‫سأعرض لك هنا بعًض ا من تلك األدلة والبراهين‪ ،‬بعيًدا عن العاطفة والكالم البّر اق‬
‫والعبارات اإلنشائية‪ ،‬وإّنما أخاطب عقلك‪ ،‬ولك تقليب الّنظر‪ ،‬وسماع الّدعوى‪ ،‬ودراسة الحّج ة‪،‬‬
‫والتفّقه في الدليل‪ ،‬وأنت تعلم أّنه قد مضى على نبّو ته ﷺ أكثر من أربعة عشر قرًنا مّر خالَلها آالف‬
‫الماليين‪ ،‬أي‪ :‬مليارات البشـر بلغة العصر‪ ،‬فيهم العلماء والعباقرة‪ ،‬والمبدعون والدهاة‪ ،‬واألذكياء‬
‫والخلفاء‪ ،‬والملوك والوزراء‪ ،‬واألمراء والّشعراء‪ ،‬والمهندسون واألطباء‪ ،‬وغيرهم؛ كّلهم يشهدون‬
‫أّنه رسول من عند هللا ﷺ‪ ،‬فما الذي حملهم على هذا اإليمان العميق به ﷺ عبر هذه القرون؟‬
‫هل انطلت عليهم الحيلة كّلهم‪ ،‬فغاب عنهم الّدليل‪ ،‬ولم يظهر لهم سّر المسألة؟ أو أّن األمر‬
‫ُغّبي عليهم‪ ،‬وُح جبت عنهم الحقيقة؟!‬
‫هذا ُم ستحيل ال يكون أبًدا‪ ،‬وال يمكن أن تجتمع هذه األلوف المؤّلفة والمليارات على ضاللة‬
‫عبر التاريخ‪ ،‬ثم إّن هذه المليارات في كل القارات من العرب والفرس واألمازيغ واألكراد واألتراك‬
‫والهنود واألفارقة‪ ،‬يشهدون أّنه رسول هللا ﷺ‪ ،‬فما الذي حملهم على هذا االجتماع لإليمان به ﷺ على‬
‫اختالف لغاتهم وأجناسهم وألوانهم وبلدانهم وعصورهم إاّل أدلٌة وُح جٌج وبراهيُن توّص لوا بها إلى أّنه‬
‫صادق‪ ،‬وأّنه نبّي من عند هللا عليه الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫القرآن العظيم‪:‬‬
‫أفضل الكتب‪ ،‬وأعظم المواثيق‪ ،‬وأحسن الَقصص‪ ،‬وأفضل الحديث‪ ،‬وأجّل المواعظ‪ ،‬فهو‬
‫الحّق المهيب الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪ ،‬كتاٌب فّص لت‬
‫آياته ثم أحكمت‪ ،‬مبارك في تالوته وتدّبره‪ ،‬واالستشفاء به‪ ،‬والّتحاكم إليه‪ ،‬والعمل به‪ ،‬كل حرف منه‬
‫بعشر حسنات‪ ،‬شافع ُم شّفع‪ ،‬وشاهد مصَّدق‪ ،‬وأنيس ممتع‪ ،‬وسمير مفيد‪ ،‬وصاحب أمين‪ ،‬معجٌز‬
‫مؤّثٌر ‪ ،‬له حالوة وعليه طالوة‪ ،‬يعلو وال ُيْعلى عليه‪ ،‬ليس بسحر وال بشعر وال بكهانة وال بقول بشر‪،‬‬
‫بل هو كالم هللا‪ ،‬منه بدأ وإليه يعود‪ ،‬نزل به الّر وح األمين على قلب رسول رّب العالمين ليكون من‬
‫المرسلين‪ ،‬بلسان عربّي مبين‪ ،‬فهو الكتاب الذي بّز الكتب فصاحة‪ ،‬وفاقها بالغة‪ ،‬وعال عليها حجة‬
‫وبياًنا‪ ،‬وهو هدى ورحمة وموعظة وشفاء لما في الّص دور‪ ،‬ونور وبرهان ورشد وسداد ونصيحة‬
‫وتعليم‪ ،‬محفوظ من الّتبديل‪ ،‬محروس من التغيير‪ ،‬معجزة خالدة‪ ،‬عصمة ِلَم ْن اّتبعه‪ ،‬ونجاة ِلَم ْن عمل‬
‫به‪ ،‬وسعادة ِلَم ْن استرشده‪ ،‬وفوز ِلَم ْن اهتدى بهديه‪ ،‬وفالح ِلَم ْن حّكمه في حياته‪.‬‬
‫يقول عليه الّص الة والّسالم‪« :‬اْقَر ُؤوا الُقْر آَن فإَّنه َيْأتي َيوَم الِقياَم ِة َشِفيًعا َألْصحاِبِه »‪[ .‬رواه‬
‫مسلم]‪ ،‬وقال‪« :‬خيُر ُكم َم ن تعَّلَم القرآَن وعَّلَم ُه»‪[ .‬رواه البخاري]‪ ،‬وقال‪« :‬إَّن َهللا َيْر َفُع بهذا الِك َتاِب‬
‫َأْقَو اًم ا‪َ ،‬و َيَض ُع به آَخ ِر يَن » [رواه مسلم]‪ .‬وهو الكتاب الذي أفحم الّشعراء‪ ،‬وأسكت الخطباء‪ ،‬وغلب‬
‫البلغاء‪ ،‬وقهر العرب العرباء‪ ،‬وأعجز الفصحاء‪ ،‬وأعجب العلماء‪ ،‬وأذهل الحكماء‪ .‬قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن‬
‫َهَذا اْلُقْر آَن َيْه ِدي ِلَّلِتي ِه َي َأْقَو ُم } [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]9‬كما قيل‪:‬‬
‫آايُتُه ُك َّلَم ا طاَل اَملدى ُج َدٌد‬
‫َيزيَنُه َّن َج الُل الِعتِق َوالِق َد ِم‬
‫كاُد يف َلفَظٍة ِم نُه َش ـَّرَفٍة‬
‫ُم‬
‫َي‬
‫يوصيَك اِب َحلِّق َوالّتقوى َو اِب لّرِح ِم‬
‫فقد أخبر ﷺ عن عجائب القدرة واإلعجاز في الخلق‪ ،‬كما ُأوحي إليه في القرآن عن مسير‬
‫الّشمس‪ ،‬ومنازل القمر‪ ،‬وحركة الكواكب‪ ،‬ومواقع الّنجوم‪ ،‬وحركة الّر يح‪ ،‬وعالم الّنبات‪ ،‬وذكر عالم‬
‫الجّنة‪ ،‬وعالم الّنار‪ ،‬وعالم الّسحر‪ ،‬وعالم اإلنس‪ ،‬وعالم الجن‪.‬‬
‫ثم إّنه ﷺ تحّدث بما أوحى ُهللا إليه عن خلق اإلنسان‪ ،‬وقرأ علينا كتاًبا معجًز ا يتحّدث عن‬
‫الّنفس البشرّية‪ ،‬وعن عالم األسرة‪ ،‬والّسلم والحرب‪ ،‬واالقتصاد والمال‪ ،‬والمعاهدات الّدولية‪،‬‬
‫والمواثيق بين الّشعوب‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬ومسائل الحالل والحرام‪ ،‬وأحكام الحيوان‪ ...‬إلى غير ذلك‬
‫من الّتقديرات والحدود والقواعد والقوانين التي بهرِت العلماء‪ ،‬وُأِّلفت فيها آالف المؤّلفات في كل‬
‫الّتخصصات‪ ،‬وصار الُفقهاء ينهلون من معينه‪ ،‬والُم فّسـرون يستخرجون من كنوزه‪ ،‬والقضاة‬
‫والُم فتون والحّكام يغترفون من نهره‪ ،‬فهل يحصل هذا إاّل من نبّي عصمه ُهللا وأوحى إليه‪ ،‬ولم يسبق‬
‫لهذا الّنبّي أن درس علوم البشر‪ ،‬أو تخّص ص في أّي علم‪ ،‬أو قرأ ولو صفحة واحدة‪ ،‬أو كتب ولو‬
‫سطًر ا واحًدا؟! إّن القرآن العظيم هو الكتاب الُم عجز المفحم‪ ،‬الذي بهر العرب أهل الفصاحة والّلسان‬
‫بألفاظه ومعانيه وبيانه‪ ،‬وقهرهم وتحداهم‪ ،‬فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله‪ ،‬وال بعشر سوٍر منه‪ ،‬وال‬
‫بسورة واحدة‪ ،‬وقد أعلن القرآن الكريم الّتحدي للبشـرّية‪ ،‬وها هم منذ نزوله إلى اليوم لم يتجّر أ‬
‫فيلسوف أو عالم أو شاعر أو خطيب أو بليغ على مجاراته‪ ،‬وَم ن فعل منهم كُم سيلمة الكّذاب‪ ،‬فإّنه‬
‫أتى بكلمات ُتضحك الّثكالى من الّسخف والحقارة والُه زال والّز ور والبهتان‪ ،‬وبقي القرآن شامًخ ا‬
‫منتصـًر ا ُم عجًز ا –وسيبقى كذلك‪-‬إلى قيام الّساعة‪.‬‬
‫احلديث الّنبوي الّش ريف‪:‬‬
‫هو الوحي والحكمة والمعجزة التي ُنقلت لنا عبر كتب الُّسنة الّص حاح‪ ،‬والسنن والمسانيد‬
‫والمعاجم‪ ،‬ورواها األلوف من األئّم ة الّثقات األثبات من الحّفاظ على مّر التاريخ‪ ،‬وُكتبت فيها آالف‬
‫من رسائل الدكتوراه والماجستير عبر جامعات الّدنيا‪ ،‬كّلها تبحث في كالمه ﷺ في المتن أو الّسند أو‬
‫العلل أو الغريب أو االستنباطات الفقهية أو البالغة والبيان‪ ،‬حتى إّن بعضهم أّلف في حديث واحد‬
‫مجلًدا كاماًل ‪ ،‬كما فعل الحافظ ابن ناصرالدين الدمشقي في شرح حديث‪« :‬كلمتان خفيفتان»‪،‬‬
‫والسفاريني في حديث‪« :‬سّيد االستغفار»‪ ،‬ومنهم من أّلف كتاًبا في الكلمات األربع‪ ،‬إلى غير ذلك‬
‫من المؤلفات في شرح أحاديث مفردة‪.‬‬
‫فهل يمكن أن يكون هذا الكالم الُم عجز البالغ في أرقى درجات البالغة‪ ،‬المعصوم من الّز لل‬
‫والخلل واالضطراب والّتناقض إاّل كالم نبّي معصوم مرسل من عند هللا سبحانه؟ ولك أن تقارن‬
‫كالمه ﷺ بكالم غيره من العلماء والخطباء واألدباء والّشعراء ِلتجَد البون الّشاسع‪.‬‬
‫يقول أحد األدباء المعاصرين‪ :‬إّنك إذا دخلت مدرسة أو كلية أو جامعة فقرأت كلمات على‬
‫الجدران للبلغاء والحكماء والّز عماء‪ ،‬ثم قرأت حديًثا نبوًّيا وقع في قلبك أّن هذا الكالم ال يقوله إاّل‬
‫َنِبّي ‪ ،‬فله طعٌم آخر‪ ،‬وذوٌق خاص‪ ،‬وتأثيٌر ُم ختلف‪ ،‬وهذه من ُم عجزاته ودالئل نبّو ته عليه الّص الة‬
‫والّسالم‪.‬‬
‫مشائله الّنبيلة‪ ،‬وصفاته اجلليلة‪ ،‬وأخالقه اجلميلة ﷺ‪:‬‬
‫إّن َهللا عّز وجل جبله على مكارم األخالق‪ ،‬ومحاسن الّص فات‪ ،‬وأنبل الخالل‪ ،‬وأجمل‬
‫الِخ صال‪ ،‬حتى أعداؤه لم يعثروا على َكْذبة واحدة منه‪ ،‬وال َسْقطة واحدة‪ ،‬وال َهْفوة واحدة‪ ،‬في سجل‬
‫حياته الّشريف ﷺ‪ ،‬وقد حاولوا أن يقتنصوا عليه أّي عيب‪ ،‬ويظفروا بأّي ذنب‪ ،‬فلم يستطيعوا أبًدا‬
‫رغم عداوتهم وحسدهم وحرصهم على ما َيشينه ﷺ‪.‬‬
‫وانظر إلى إنسان يعيش في ُم جتمعة ثالًثا وستين سنة‪ ،‬وحوله أعداؤه وحّساده يريدون أن‬
‫يظفروا منه بأّي ذنب يخدش كرامته‪ ،‬أو عيب ينّقص مروءته‪ ،‬فال يجدون ذنًبا وال عيًبا‪ ،‬وإّنما‬
‫الجمال في أبهى صوره‪ ،‬والكمال في أجّل ُح لله‪ ،‬والجالل في أنبل مشاهده‪ ،‬فمن مولده إلى وفاته ﷺ‬
‫ما كذَب ‪ ،‬وما غَّش ‪ ،‬وما خاَن ‪ ،‬وما َفَج ر‪ ،‬وما غدَر ‪ ،‬وما حسَد‪ ،‬وما حقَد‪ ،‬وما أخلَف ‪ ،‬وما تكّبَر ‪ ،‬وال‬
‫تجّبَر ‪ ،‬وال طَغى‪ ،‬وال بَغى‪ ،‬وال ظلم‪ ،‬وال أثم‪ ،‬بل نّز هه ُهللا عن كل ُخ لق معيب‪ ،‬وصانه عن كّل‬
‫وصٍف مشين‪ ،‬فهو الّص ادق المصدوق‪ ،‬والّطاهر الُم طّه ر‪ ،‬والطّيب المطّيب‪ ،‬والمعصوم عن كل‬
‫زّلة‪ ،‬والمنّز ه عن كل هفوة‪ ،‬والبريء من كّل وصمة‪.‬‬
‫أتييد هللا له بنصره العزيز وفتحه اُملبني‪:‬‬
‫لّم ا دعا ﷺ إلى رّبه كان وحيًدا‪ ،‬فآمن به أبو بكر من الّشيوخ‪ ،‬وزوجته خديجة من الّنساء‪،‬‬
‫وعلي بن أبي طالب من الّشباب‪ ،‬وزيد بن حارثة من الموالي‪ ،‬ثم بدأ دينه يّتسع‪ ،‬وأنصاره يكثرون‪،‬‬
‫وكان أعداؤه ِم لء الجزيرة العربية من قريش وقبائل العرب واليهود والمنافقين‪ ،‬وقد حّز بوا عليه‬
‫األحزاب‪ ،‬وجّم عوا عليه الجموع‪ ،‬ودّبروا له المؤامرات‪ ،‬وحبكوا له المكائد‪ ،‬فنصـره هللا وأّيده‪،‬‬
‫وهزمهم وخذلهم وبّكتهم‪ ،‬ودخل مكة فاتًح ا‪.‬‬
‫ثم لم يكتف بالجزيرة العربّية‪ ،‬بل ذهب دينه شرًقا وغرًبا وشمااًل وجنوًبا إلى أن طّو ق الكرة‬
‫األرضية‪ ،‬وأصبح أتباعه عبر الّتاريخ بالمليارات من البشـر‪ ،‬فهل ممكن لمّدٍع للنبّو ة دّج ال كّذاٍب أن‬
‫ُيستر دجله وكذبه ألًفا وأربعمئة سنة وال ُيكشف أمره؟‬
‫لقد ُكِشف أمر مسيلمة الكّذاب في سنوات معدودة‪ ،‬وسقطت األقنعة عّم ن اّدعى النبّو ة‬
‫ويقاربون الّثالثين عبر الّتاريخ‪ ،‬وكّلما قام أّفاك دّج ال كّذاب كشف هللا سّر ه‪ ،‬وهتك ستره‪ ،‬وأظهر‬
‫فضيحته للعالمين‪ ،‬أّم ا نبّينا ﷺ فأعلى هللا مقامه‪ ،‬ورفع ذكره‪ ،‬وشرح صدره‪ ،‬وجعله مضرب المثل‬
‫في الّص دق للعالم أجمع‪.‬‬
‫دعوته اخلالصة لوجه هللا تعاىل‪:‬‬
‫دعا ﷺ إلى توحيد الباري ُسبحانه‪ ،‬وأعلن منذ الّلحظة األولى أّنه ال ُيريد ملًكا وال جاًها وال‬
‫مااًل وإّنما يريد هداية الّناس‪ ،‬وبقي على كلمته وصدقه ثابًتا حتى لقي رّبه‪ ،‬ولم يترك درهًم ا وال‬
‫ديناًر ا‪ ،‬ولم يبتِن قصـًر ا‪ ،‬ولم يجمع كنًز ا‪ ،‬وإّنما مات ودرعه مرهونة عند يهودٍّي في ثالثين صاًعا‬
‫من شعير‪ ،‬وقال‪« :‬ال نوَر ُث ما ترْك َنا صَد َقًة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فهل يقول هذا‪ ،‬ويفعل هذا إاّل نبّي ُم وحى إليه ال ُيريد إاّل هللا والّدار اآلخرة؟! بخالف َم ن‬
‫يسعى لُم لٍك أو زعامٍة أو منصٍب أو شهرٍة أو جمع ماٍل ؛ فإّن مقصده يظهر للناس أجمعين‪ ،‬وينكشف‬
‫مراده من أيامه األولى‪ ،‬فقد تحّم ل ﷺ المشاق والمكاره‪ ،‬واآلالم والمصاعب‪ ،‬في سبيل إبالغ دعوته‬
‫للّناس دون أّي مقابل مادي أو مكسب دنيوّي ؛ {ُقْل َم ا َأْس َأُلُكْم َعَلْيِه ِم ْن َأْج ٍر َو َم ا َأَنا ِم َن اْلُم َتَكِّلِفيَن }‬
‫[ص‪ :‬اآلية ‪ ،]86‬وصبر على اختالف صروف الليالي واأليام حتى وافته المنّية‪ ،‬ال يكسل وال يفتر‬
‫وال يترّدد‪ ،‬بل هو في إقدام وصرامة حتى بّلغ ما أنزل هللا إليه‪ ،‬وهذا دليل على صدقه‪ ،‬وأّنه رسول‬
‫من عند هللا؛ ألن صاحب المطالب المادّية لصبره حٌّد ينتهي إليه‪ ،‬فإن لم يحصل على مطالبه الّدنيوية‬
‫فتر وخمد وانتهى‪.‬‬
‫وقد ورَد في األحاديث الّص حيحة في محاورة هرقل ملك الّر وم ألبي سفيان أّنه سأله عن‬
‫الّنبي ﷺ فقال له‪« :‬هل كان في آبائه من َم لِك ؟‪ ،‬قال أبو سفيان‪ :‬ال‪ ،‬قال هرقل‪ :‬فعلمُت أّنه لو كان في‬
‫آبائه َم لِك لُقلت‪ :‬رجل يطلب ُم لك آبائه»‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫فاستدل بهذا على أّنه نبّي من عند هللا؛ ألّنه ﷺ لم يسع إلعادة سلطة ذهبت منه‪ ،‬أو ُم لٍك آلبائه‬
‫فَقده‪ ،‬ولم يأت ليجمع مااًل ؛ ألّن مطالب الّناس في دعواتهم وثوراتهم إّم ا لطلب الملك أو لكسب المال‪،‬‬
‫وقد برئ منهما ﷺ جميًعا؛ ألّنه رسول من عند هللا وهذا االستدالل ليس من أتباعه ﷺ بل من أعدائه‬
‫في تلك الفترة‪ ،‬وهم ملك الّر وم وأبو سفيان قبل إسالمه (رضي هللا عنه)‪.‬‬
‫شهادة آالف الصحابة له ﷺ‪:‬‬
‫لقد صحبه ﷺ أكثر من مئة وعشرين ألًفا من المسلمين‪ ،‬صحبوه حضًر ا وسفًر ا‪ ،‬ولياًل‬
‫ونهاًر ا‪ ،‬في حالة سلمه وحربه‪ ،‬وحِّله وترحاله‪ ،‬ورضاه وغضبه‪ ،‬وجوعه وِش بعه‪ ،‬وصّح ته‬
‫ومرضه‪ ،‬فلم يجدوا منه إاّل الجميل من أقواله وأفعاله‪ ،‬والحسن من تصّر فاته وأخالقه؛ ألّنه األّو ل‬
‫في كل ُخ ُلق شريف‪ ،‬ومجد ُم نيف‪ ،‬فهو األّو ل في الّص دق واألمانة والّتواضع والّز هد والعدل‪ ،‬والكرم‬
‫والّشجاعة والّسماحة والوفاء‪ ،‬إلى غير ذلك من الّص فات التي أجمعوا عليها‪ ،‬ونقلوها عنه‪ ،‬فهل سبقه‬
‫أو لحقه في ميدان األخالق والّشمائل شخٌص ‪ ،‬أو نازعه في تلك الّر تبة أحٌد؟! إّنه األّو ل في كل باب‬
‫من أبواب الفضائل فصلى هللا وسلم عليه‪.‬‬
‫لقد عاصروه عليه السالم وعرفوا مدخله ومخرجه‪ ،‬وهم من أذكياء الّناس ومن دهاة‬
‫الّر جال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والّز بير وطلحة وسعد وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص‬
‫‪ ...‬وغيرهم‪ ،‬زيادة على من أسلم من القبائل المجاورة؛ كّلهم أجمعوا على صدقه وهم يشاهدون‬
‫ُم عجزاته‪ ،‬ويسمعون حديثه‪ ،‬فيزدادون إيماًنا إلى درجة أن يْستشِه َد أحدهم بين يديه دفاًعا عن دينه‪،‬‬
‫فيقّدم روحه رخيصًة في سبيل هللا بعدما آمن بهذا الّنبّي المعصوم ﷺ‪.‬‬
‫ولم يحصل هذا في الّتاريخ ألّي قائد إاّل لرسولنا ﷺ‪ ،‬حتى إّن أتباعه الذين لم يروه وأتوا بعده‬
‫بمئات الّسنوات يحملون هذا الحّب العظيم‪ ،‬وهذا اإليمان الّر اسخ‪ ،‬وهذه الّتضحية الغالية‪ ،‬وهذا الفداء‬
‫المنقطع نظيره‪ ،‬الذي لم ُيسمع بمثله‪ ،‬فهل حمل أولئك األبرار على هذا الُحّب العميق إاّل رسالة نبٍّي‬
‫صادق سكبها في أرواحهم‪ ،‬وغرسها في قلوِبهم؟!‬
‫إقامته ﷺ ألمجل حضارة عرفتها البشرّية‪:‬‬
‫ُبعث ﷺ إلى أّم ة عربّية‪ ،‬صحراوّية أمّية‪ ،‬ال تملك حضارة‪ ،‬وال تقرأ وال تكتب‪ ،‬وإّنما هم‬
‫رعاة إبٍل وبقٍر وغنٍم ؛ فأّسس برسالته أعظم حضارة‪ ،‬وأوجد مرجعيات في كل باٍب من أبواب‬
‫الحياة‪ ،‬ولم يتوّفه هللا حتى ُأنزل عليه‪{ :‬اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُكْم ِديَنُكْم َو َأْتَم ْم ُت َعَلْيُكْم ِنْعَم ِتي َو َر ِض يُت َلُكُم‬
‫اِإل ْس َالَم ِدينًا} [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]3‬‬
‫وتعال أنت بنفسك وادخل في باب العبادات‪ ،‬تجدها كاملة شاملة بأصولها وفروعها ليس بها‬
‫أّي نقص‪ ،‬وال تحتاج زيادة‪ ،‬حتى قال ﷺ‪َ« :‬م ن َأْح َد َث في َأْم ِر نا هذا ما ليَس منه‪َ ،‬فهو َر ٌّد» [متفق‬
‫عليه]‪ ،‬وتعال إلى أبواب الّر با مثاًل ؛ فقد تكّلم ﷺ بالّتفصيل عن أحكام الّر با؛ وقد استشهد رّو اد‬
‫االقتصاد العالمي في العصر الحديث بكثير مّم ا ذكره ﷺ‪ ،‬وصار االقتصاد اإلسالمي قائًم ا على ما‬
‫جاء به ﷺ كتاًبا وُسّنة‪ ،‬وكذلك في أحكام الحدود‪ ،‬والّسلم والحرب‪ ،‬وأحكام المرأة؛ جميعها ُم فّص لة‬
‫ومبّينة وموّضحة‪ ،‬حيث إّن العلماء استغنوا بها تماًم ا في مشارق األرض ومغاربها‪ ،‬وُح كمت‬
‫بشريعته ﷺ أكثر من مئة دولة إسالمية عبر ألف وأربِع مئة عام‪ ،‬فهل هذا إاّل ميراث نبّو ة ال يتأتى‬
‫ألحد من البشر‪-‬غير النبي‪ -‬أّن يأِتي به‪.‬‬
‫دعوته الواضحة‪ ،‬وحياته املكشوفة‪:‬‬
‫لم يكن في دعوته ﷺ غموض‪ ،‬وال في شخصيته ألغاز‪ ،‬وإّنما كانت سيرته ودعوته واضحة‬
‫بّينة للعيان‪ ،‬حتى إّن َهللا أخبرنا عن بعض خلجات نفسه ﷺ‪ ،‬وبعض ما أسّر من حديث؛ قال تعالى‪:‬‬
‫{َو ِإْذ َأَسَّر الَّنِبُّي ِإَلى َبْعِض َأْز َو اِج ِه َح ِديًثا} [التحريم‪ :‬اآلية ‪ ،]3‬وقال تعالى‪{ :‬وَلْو َال َأْن َثَّبْتَناَك َلَقْد‬
‫ِك ْدَت َتْر َكُن ِإَلْيِه ْم َشْيًئا َقِليًال} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]74‬وعاتبه رّبه عالنيًة فقال تعالى‪َ{ :‬عَبَس َو َتَو َّلى *‬
‫َأْن َج اَء ُه اَألْع َم ى } [عبس‪ :‬اآلية ‪ ،]2 -1‬وقال تعالى‪َ{ :‬عَفا ُهَّللا َعْنَك ِلَم َأِذ ْنَت َلُهْم } [التوبة‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]43‬وقال سبحانه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّنِبُّي ِلَم ُتَحِّر ُم َم ا َأَح َّل ُهَّللا َلَك } [التحريم‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬فأخبر بذلك وأعلنه‬
‫للّناس‪ ،‬فرسولنا ﷺ أتى بأدلٍة كالّشمس وضوًح ا‪ ،‬ولم يفعل ما فعل األّفاكون‪ ،‬والمزّو رون‪،‬‬
‫والدّج الون‪ ،‬والّسحارون‪ ،‬الذين يأتون بطالسم وحركات بهلوانية‪ ،‬وألعاب صبيانّية‪ ،‬وخدع تضّلل‬
‫األفكار‪ ،‬وتزيغ األبصار‪.‬‬
‫تصديقه ﷺ لألنبياء عليهم الَّس الم‪:‬‬
‫صّدق ﷺ األنبياء قْبَله في دعوة الّتوحيد‪ ،‬فإّن دعوتهم واحدة ُم تفقة ُم تسقة‪ ،‬ال تختلف دعوته‬
‫ﷺ عن دعوة األنبياء قبله في توحيد الباري وعبوديته‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُكِّل ُأَّم ٍة َر ُسوًال‬
‫َأِن اْعُبُدوا َهَّللا َو اْج َتِنُبوا الَّطاُغوَت } [النحل‪ :‬اآلية ‪ ،]36‬فهذا االّتفاق لم يأِت صدفة‪ ،‬وإّنما بتقدير من‬
‫هللا‪ ،‬وهو من أعظم البراهين على نبّو ته عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَنا ِم ْن َقْبِلَك ِم ْن‬
‫َر ُسوٍل ِإَّال ُنوِح ي ِإَلْيِه َأَّنُه َال ِإَلَه ِإَّال َأَنا َفاْعُبُدوِن } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪ ،]25‬وقال ﷺ‪َ« :‬و اَأْلْنِبَياُء ِإْخ َو ٌة‬
‫ِلَعاَّل ٍت‪ُ ،‬أَّم َه اُتُه ْم َشَّتى‪َ ،‬و ِديُنُه ْم َو اِح ٌد»‪ُ[ .‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫دينه الكامل وشريعته اُملحكمة‪:‬‬
‫شريعته التي جاء بها ﷺ فيها من اإلحكام ما ال ُتحيط به عقول البشر‪ ،‬انظر إلى قسم‬
‫العبادات‪ :‬فالّص الة مثاًل كم فيها من سٍّر وحكمٍة وترتيٍب ونظاٍم عجيب من األدعية واألذكار والقيام‬
‫والّر كوع والّسجود والجلوس‪ ،‬والّنوافل‪ ،‬والفرائض! وصالة الجمعة‪ ،‬وصالة الخوف‪ ،‬والعيدين‪،‬‬
‫والكسوف‪ ،‬واالستسقاء والجنائز بأذكارها وصفتها وهيئاتها وأدعيتها‪ ،‬ينقلها الّثقات عن الّثقات حتى‬
‫وصلتنا كاملة مكّم لة‪ ،‬ثم أحكام الّص يام وما فيه من ُم فّطرات‪ ،‬وُم فسدات‪ ،‬وكذلك الحج بما فيه من‬
‫إحرام‪ ،‬وطواف‪ ،‬وسعي‪ ،‬ووقوف‪ ،‬ورمي‪ ،‬ومبيت‪ ،‬ونحر‪ ،‬وحلق وتقصير‪ ،‬كل ذلك بتفصيٍل يفوق‬
‫الوصف‪ ،‬وأحكام الّز كاة وأنصبتها ومقاديرها في اإلبل والبقر والغنم والحبوب والثمار والمعادن‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من أحكام اإلسالم وحدوده وشرائعه‪ ،‬فهل يأتي بهذا إاّل نبّي ُم رسل من عند هللا ﷺ؟!‬
‫القبول العاملي لدعوته ﷺ إىل يوم الّد ين‪:‬‬
‫ومن عالمات نبوته ودالئل رسالته‪ ،‬قبول الناس عبر العصور المختلفة واألماكن المتباينة‬
‫لدعوته ﷺ وما جاء به‪ ،‬ولو قلُت ‪ :‬إّن اّلذين اّتبعوه منذ أن ُبعث ﷺ إلى اليوم أكثر من مئة مليار مسلم‬
‫لما كان قولي بعيًدا‪ ،‬فهل يحصل هذا الجمع الهائل عبر التاريخ إاّل لنبّي معصوم؟! ولك أن تسأل‬
‫نفسك‪ :‬ما الّسبب الذي أقنع برسالته ﷺ العرب والعجم‪ ،‬والُفرس واألتراك‪ ،‬واألكراد واألمازيغ‪،‬‬
‫واألفارقة والهنود‪ ،‬وشعوب األرض جميًعا‪ ،‬حتى أصبح اسمه يدّو ي على المآذن‪ ،‬وُيرَّدد على‬
‫المنابر‪ ،‬ويتكّر ر في المحافل!؟‬
‫مقاصد شريعته ﷺ‪:‬‬
‫ومن دالئل نبوته ﷺ أّنه ُبعث بشريعة لم يعرفها الّناس من قبل‪ ،‬أتت بكل ما يصلح لإلنسان‬
‫في دينه ودنياه‪ ،‬ويحافظ على عقله وصحته وماله وعرضه‪ ،‬وإليك بعض األمثلة الّلطيفة الّشريفة من‬
‫حياته ﷺ‪.‬‬
‫أتى ﷺ بالوضوء وما فيه من محاسن وفضائل‪ ،‬وأتى بالّسواك الذي أثبت العلم الحديث نفعه‬
‫العظيم وطرده للبكتريا واألمراض عن الفم‪ ،‬فقال‪َ« :‬لْو ال َأْن َأُشَّق َعَلى ُأَّم ِتي ‪َ -‬أْو َعَلى الَّناِس ‪-‬‬
‫َأَلَمْر ُتُه ْم ِبالِّس َو اِك َمَع ُكِّل َص الٍة» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وأتى ﷺ بالّص وم وما فيه من وقاية من األمراض‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬الِّص َياُم ُج َّنٌة» [ُم تفق عليه]‪،‬‬
‫وقد أثبت العلماء نفع الّص يام للّص حة‪.‬‬
‫وفَر ض ﷺ الّز كاة‪ :‬وهي تطهير للمال وتطهير للّنفس‪ ،‬ولذلك ُسّم يت بالّز كاة‪ ،‬من الّتزكية‬
‫والّتطهير‪ ،‬ولما فيها من نفع للفقير‪ ،‬وكفاف للمسكين‪.‬‬
‫أتى ﷺ بكفالة ورحمة األيتام‪ ،‬وبّر الوالدين وصلة األرحام‪ ،‬وأتى بحفظ الّضرورات الخمس‪،‬‬
‫وهي‪« :‬الّدين‪ ،‬والّنفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والّنسل‪ ،‬والمال»‪ ،‬فَح فظ الّدين بالوحي الُم نّز ل عليه‪ ،‬وحّر َم الّشرك‬
‫والّتحريف والّتبديل والبدعة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬فاْس َتِقْم َكَم ا ُأِم ْر َت } [هود‪ :‬اآلية ‪ ،]112‬وأتى ﷺ بحفظ‬
‫الّنفس‪ ،‬فحّر م قتلها بغير حق‪ ،‬وأعطاها حقوقها‪ ،‬وأحّل لها ما ينفعها‪ ،‬وحّر م عليها ما يضّر ها‪ ،‬وأتى‬
‫بحفظ العقل‪ ،‬فحّر م على اإلنسان كّل ضار مؤٍذ‪ ،‬كالخمر والّسم والّسحر ونحو ذلك‪ ،‬وأمر بحفظ‬
‫الّنسل فحّر م كّل عالقة غير شرعّية‪ ،‬واستبدل بها الّز واج الّشرعي الُم باح‪ ،‬وأمر بحفظ المال وشرع‬
‫فيه وجوه الكسب الُم باح‪ ،‬وحّر م كل ما ُيفسده كالّر با والغش والّنجش والّر شوة وغيرها من‬
‫المعامالت المحّر مة‪.‬‬
‫كل هذه الّشرائع بأسرارها تدل على أّنه نبٌّي من عند هللا‪.‬‬
‫والّسؤال الذي يطرح نفسه‪ :‬هل هناك زعيم دنيوّي أتى ِبُعشر معشار هذه الّتعاليم أو عرفها‬
‫من قبل‪ ،‬أو كانت موجودة في أّي كتاب سابق‪ ،‬أو ذكرها أحٌد في أّي مناسبة؟! كال إّنما أتى بها الّنبي‬
‫األمّي الذي جاء بشريعة كاملة ُتصلح الّدنيا والّدين‪.‬‬
‫حياته ﷺ اُملختلفة عن حياة ُمعاصريه‪:‬‬
‫ومن أدلة نبّو ته ﷺ‪ :‬حياته الّشخصية التي اختلفت تمام االختالف عن حياة الّناس‪ ،‬فمنذ بعثته‬
‫عليه الّص الة والّسالم كان له هدي خاص وطريقة مختلفة في سلوكه وآدابه ونظام حياته؛ كخصال‬
‫الفطرة التي جاء بها من تقليم األظافر وإعفاء الّلحية وقّص الّشارب والُغسل والّسواك والّنظافة‬
‫والّطيب والوُض وء وغير ذلك‪ ،‬بل إّنه ﷺ أتى بآداب الجلوس‪ ،‬وآداب الكالم‪ ،‬وآداب الّطعام‪ ،‬وآداب‬
‫الّنوم‪ ،‬وآداب الّلباس‪ ،‬وآداب الّسفر‪ ،‬وآداب الّز واج‪ ،‬وآداب البيع والّشراء‪ ،‬وكل آداب الحياة‪ ،‬فلم‬
‫يسبقه أحد من العرب وال العجم بهذا الّنظام العجيب المتناسق الذي جاء به ﷺ‪ ،‬فهل يعقُل أن يأتَي‬
‫إنسان من صحراء العرب حيث ال تعليم وال ثقافة وال جامعات وال كليات وال معاهد وال أكاديميات‬
‫بهذه الحياة الكاملة الجميلة المنّظمة المرّتبة التي ال تختلف وال تتعارض؛ إاّل أن يكون نبًّيا معصوًم ا‬
‫ُم وحًى إليه من عند هللا؟!‬
‫هتافت الُّش به اليت عرضها املالحدة لنبّو ته ﷺ‪:‬‬
‫إّن الُّشبه التي عرضها المالحدة لرسالته ﷺ مضحكة وهزيلة وسخيفة وجوفاء‪ ،‬فمثاًل‬
‫يقولون‪ :‬إّنه أّلف القرآن من نفسه‪ ،‬وإّنه ُم صِّنف هذا الكتاب العظيم‪ .‬وأنا أقول لهم‪ :‬هل ُيعقل أّن يؤّلف‬
‫أمٌّي ال يقرأ وال يكتب مثل هذا القرآن العظيم؟! وهل سمعتم عبر الّتاريخ بمؤّلف أّلف كتاًبا كبيًر ا‬
‫ضخًم ا عظيًم ا يحفظه عن ظهر قلب؟ فقد أتى ﷺ بالقرآن كاماًل في ثالث وعشرين سنة‪ ،‬والقرآن‬
‫أكثر من سّت مئة صفحة‪ ،‬وأكثر من ستة آالف آية‪ ،‬يحفظها ﷺ‪ ،‬ويعرف معانيها‪ ،‬ويعرف الّناسخ‬
‫والمنسوخ‪ ،‬وأسرار ما في هذا الكتاب‪ ،‬ومقاصده وأحكامه‪ ،‬ودقائق إشاراته‪ ،‬ولطيف عباراته‪،‬‬
‫وعّلمه ﷺ أصحاَبه‪ ،‬وأصحاُبه عّلموه َم ن بعدهم‪ ،‬حتى وصل إلينا اآلن بالقراءات المتواترة‪ ،‬سورًة‬
‫سورة‪ ،‬وآيًة آية‪ ،‬وكلمًة كلمة‪ ،‬وحرًفا حرًفا‪ ،‬ال يمكن أن ُتزاد فيه نقطة وال حركة‪ ،‬وال سكنة؛ ألّنه‬
‫محفوظ من عند هللا؛ كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّنا َنْح ُن َنَّز ْلَنا الِّذ ْك َر َو ِإَّنا َلُه َلَح اِفُظوَن } [الحجر‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫أليس من المعجزة الباهرة‪ ،‬واآلية الّظاهرة‪ ،‬أن يحفظ الّنبي ﷺ كتاب رّبه في صدره‪ ،‬حرًفا‬
‫حرًفا‪ ،‬وآية آية‪ ،‬مع أتّم البيان‪ ،‬وأوضح الّتفسير‪ ،‬وغاية المعرفة لهذا الكتاب العظيم؟! ويصلي به في‬
‫الفرائض والّنوافل‪ ،‬فيقرأ في ركعة واحدة في بعض الّليالي سورة البقرة ثم سورة الّنساء ثم سورة آل‬
‫عمران عن ظهر قلب فيًض ا من صدره‪ ،‬وغيًثا من خاطره‪ ،‬حفًظا ُم تقًنا ال يتطّر ق إليه الوهم‪ ،‬وال‬
‫يعتريه الّشك؟!‬
‫دقائق وأسرار شريعته ﷺ ال ُيلّم هبا بشر‪:‬‬
‫ومن أدلة نبّو ته ﷺ أّن أّي عظيم أو عالٍم أو فقيٍه أو كاتٍب أو أديٍب أو شاعٍر أو زعيم تستطيع‬
‫أن تكتشف حياته بتفاصيلها وتدرك شخصيته إذا أمعنت الّنظر في سيرته وأخباره إاّل رسولنا ﷺ‪،‬‬
‫فإّنك مهما تعّم قت وتخّص صت في سيرته وُسّنته وأسرار ما ُبعث به من الكتاب والُّسنة لن ُتلَّم بذلك‪،‬‬
‫ولن تستطيع أن ُتحيط بما ُبعث به‪ ،‬وسوف تبقى طيلة عمرك تكتشف كل يوم شيًئا جديًدا وأسراًر ا لم‬
‫يسبق لك أن عرفتها ولو طال عمرك كعمر نوح عليه السالم‪ ،‬وهذا سٌّر خاص بشخصه عليه الّص الة‬
‫والّسالم‪ ،‬وبشريعته التي ُبعث بها‪.‬‬
‫اإلعجاز العلمي العاملي يؤّيد ما ُبعث به ﷺ‪:‬‬
‫آخر ما اكتشف الِع لُم حتى اليوم أّيد ما ُبعث به ﷺ في تخصصات دقيقة ال يدركها إاّل‬
‫العباقرة؛ كعلماء الكيمياء‪ ،‬واألحياء‪ ،‬والفيزياء‪ ،‬والجيولوجيا‪ ،‬والّطب‪ ،‬وعلوم الفضاء‪ ،‬وغير ذلك‬
‫مّم ا يثبت أّن ما جاء به الّر سول ﷺ فوق طاقة البشر‪ ،‬وأّنه ال يمكن لرجل أمّي إذا لم يكن نبًّيا في‬
‫قرية من قرى الجزيرة العربية‪ ،‬ومن الّص حراء القاحلة أن يأتَي بهذه العلوم الباهرة التي تتجدد مع‬
‫األيام‪ ،‬وُتكتشف تباًعا مع مرور األعوام‪ ،‬وال زال هؤالء المخترعون‪ ،‬والمكتشفون‪ ،‬واألطباء‪،‬‬
‫والعلماء‪ ،‬يكتشفون نظريات قد أخبر بها الّنبي ﷺ من ألف وأربعمئة عام‪.‬‬
‫لقد أخبر ﷺ بمراحل نمو الجنين في بطن أّم ه بكل دّقة وتفصيل‪ ،‬بوحي ُم قّدٍس كتاٍب وُسّنة‪،‬‬
‫وقد َنَز ل عليه ﷺ قول هللا تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َخ َلْقَنا اِإل ْنَساَن ِم ْن ُسَالَلٍة ِم ْن ِط يٍن * ُثَّم َج َعْلَناُه ُنْط َفًة ِفي َقَر اٍر‬
‫َم ِك يٍن * ُثَّم َخ َلْقَنا الُّنْط َفَة َعَلَقًة َفَخ َلْقَنا اْلَعَلَقَة ُم ْضَغًة َفَخ َلْقَنا اْلُم ْضَغَة ِع َظاًم ا َفَكَسْو َنا اْلِع َظاَم َلْح ًم ا ُثَّم‬
‫َأْنَشْأَناُه َخ ْلًقا آَخ َر َفَتَباَر َك ُهَّللا َأْح َسُن اْلَخ اِلِقيَن } [المؤمنون‪ :‬اآلية ‪ ،]14 - 12‬وقال ﷺ‪« :‬إَذا َمَّر‬
‫بالُّنْط َفِة ِثْنَتاِن َو َأْر َبُعوَن َلْيَلًة‪َ ،‬بَعَث هللا إَلْيَه ا َم َلًكا‪َ ،‬فَص َّو َر َها َو َخ َلَق َسْم َعَه ا َو َبَص َر َها َو ِج ْلَد َها َو َلْح َم َه ا‬
‫َو ِع َظاَم َه ا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬يا َر ِّب َأَذَكٌر َأْم ُأْنَثى؟ َفَيْقِض ي َر ُّبَك ما َشاَء ‪َ ،‬و َيْكُتُب الَم َلُك » [رواه مسلم]‪ ،‬وقال‬
‫ﷺ‪« :‬إَّن أَح َدُكْم ُيْج َمُع َخْلُقُه في َبْط ِن ُأِّم ِه أْر َبِع يَن َيْو ًم ا‪ُ ،‬ثَّم َيكوُن َعَلَقًة ِم ْثَل ذلَك ‪ُ ،‬ثَّم َيكوُن ُم ْض َغًة ِم ْثَل‬
‫ذلَك ‪ُ ،‬ثَّم َيْبَعُث هللا َم َلًكا فُيْؤ َمُر بَأْر َبِع َكِلَم اٍت‪ ،‬وُيَقاُل له‪ :‬اْكُتْب َعَم َلُه‪ ،‬وِر ْز َقُه‪ ،‬وَأَج َلُه‪ ،‬وَشِقٌّي أْو‬
‫َسِع يٌد‪ُ ،‬ثَّم ُيْنَفُخ فيه الُّر وُح» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فليس هناك عاقل أو عادل منصف يّطلع على هذه األحاديث وال يعترف وال ُيقّر بنبّو ته ﷺ‪،‬‬
‫وقد وقف علماء وأطباء علم األجنة ُم ندهشين مذهولين ُم عجبين بدّقة وصفه ﷺ‪ ،‬وكأّنه ُيشاهد الجنين‬
‫في مراحل تكوينه من خالل مجهٍر أو من أمام شاشة تلفزيونّية‪ ،‬ويحِّدد وصفه وحركته‪ ،‬ومراحل‬
‫نموه بكل دقة ووضوح‪ ،‬ففاجأ ﷺ العالم أجمع بهذه المعلومات التي أثبت الِع لم صحتها‪ ،‬والّطب‬
‫مصداقيتها بعد ألف وأربعمئة عام‪ ،‬فال نملك إاّل أن نقول؛ سبحان الخالق المصّو ر!‪ ،‬نشهد أن ال إله‬
‫إاّل هو‪ ،‬ونشهد أن محمًدا عبده ورسوله ﷺ‪.‬‬
‫احتواء رسالته ﷺ على ما ُيقنع كّل صاحب ختصص يف ختّصصه‪:‬‬
‫كّل إنسان يجد حسب علمه وفّنه وتخصصه في رسالة الّنبّي ﷺ ما يقنعه من اإلعجاز‬
‫والبراهين بصدقه ﷺ‪ ،‬وال أحصي وال أعُّد كم قرأُت أو لقيُت أو سمعُت أو شاهدُت مّم ن يذكر تجربته‬
‫في إيمانه بالّر سول عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فبعضهم آمن لّم ا قرأ القرآن فبهره إعجازه‪ ،‬وبعُض هم‬
‫أسرته شخصية الّنبّي ﷺ لما قرأ سيرته‪ ،‬وبعُض هم طالع حديًثا نبوًّيا يتحدث فيه ﷺ عن علم الغيب‪،‬‬
‫وآخر اّطلع في آية على سٍّر من أسرار الكون‪ ،‬وآخر قرأ علم المعجزات في حياته ﷺ‪ ،‬وآخر قرأ‬
‫فتوحاته وانتصاراته ﷺ‪ ،‬فهو ﷺ صاحب اإلعجاز في سيرته وسّنته وكتاب ربه وشريعته‪.‬‬
‫وكّل أصحاب تلك الفنون‪ -‬على اختالف مشاربهم وتخصصاتهم‪ -‬وردوا جميًعا فَو جد كٌّل‬
‫منهم بغيته‪ ،‬وحصل على ما أقنعه‪ ،‬وما حمله على اإليمان به‪ ،‬واّتباعه ﷺ‪ ،‬وهذه من أعظم األدلة‬
‫على أّنه رسوٌل من عند هللا عّز وجل‪.‬‬
‫الوحي اْلُم َق َّد س الذي ُأْرِس ل به ﷺ ال مُي ّل مهما تكّرر‪:‬‬
‫مهما كّر رت القرآن قراءًة وتدبًر ا‪ ،‬وكذلك الُّسنة الّنبوية‪ ،‬فإّنك ال تشعر أبًدا بالّسأم وال‬
‫الّضجر وال الملل‪ ،‬بل تحصل على استنباطات جديدة‪ ،‬وأسراٍر مفيدة لم تكن تعرفها من قبل‪ ،‬ودقائق‬
‫من المعرفة لم تطلع عليها سابًقا‪ ،‬وأتحّدى أن يوجد هذا في تراث أّي إنسان آخر عبر الّتاريخ مهما‬
‫كان علمه أو فلسفته أو فقهه أو أدبه‪ ،‬فإّن أّي إنسان آخر مهما بلغ تراثه؛ فهو تراث محدود يمكن أن‬
‫ُيعرف وُيفهم في فترة من الّز من‪ ،‬ثم يصبح مألوًفا ال جديد فيه‪ ،‬إاّل رسولنا ﷺ وما ُبعث به من تركة‬
‫مباركة وميراث مقّدس من عند هللا‪.‬‬
‫وانظر اآلن كم ُتَكّر ر علينا سورة الفاتحة في الفرائض والّنوافل‪ ،‬وفي المحافل والُم ناسبات‬
‫وكأّنها جديدة ألّو ل مّر ة نسمعها! بل القرآن كّله‪ ،‬كم ُكّر ر على أسماع البشرّية! وكم ُر ّدد على اآلذان!‬
‫وكم خاطَب القلوب! ال تجُده إاّل َغًّضا طرًّيا جديًدا في كل مرة‪ ،‬وهذا سّر إعجاز هذا الوحي الذي‬
‫ُبعث به الّنبي ﷺ‪.‬‬
‫اقرأ هذه اآليات بقلبك‪ ،‬وطالعها بروحك‪ُ ،‬م تدّبًر ا ُم تفكًر ا؛ ألّن هذا الكالم الُم عجز الُم فحم‬
‫الخالد ال يكون إاّل كالم هللا‪ ،‬لتنبعث من قلبك‪ :‬أشهد أن ال إله إاّل هللا‪ ،‬وأشهد أّن محمًدا رسول هللا‪،‬‬
‫صادقة‪ ،‬قوية‪ ،‬مؤّثرة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و الَّنْج ِم ِإَذا َهَو ى * َم ا َض َّل َص اِح ُبُكْم َو َم ا َغَو ى * َو َم ا َيْنِط ُق َعِن‬
‫اْلَهَو ى * ِإْن ُهَو ِإَّال َو ْح ٌي ُيوَح ى * َعَّلَم ُه َشِديُد اْلُقَو ى * ُذو ِم َّر ٍة َفاْس َتَو ى * َو ُهَو ِباُألُفِق اَألْع َلى * ُثَّم‬
‫َدَنا َفَتَدَّلى * َفَكاَن َقاَب َقْو َسْيِن َأْو َأْدَنى * َفَأْو َح ى ِإَلى َعْبِدِه َم ا َأْو َح ى * َم ا َكَذَب اْلُفَؤ اُد َم ا َر َأى *‬
‫َأَفُتَم اُر وَنُه َعَلى َم ا َيَر ى * َو َلَقْد َر آُه َنْز َلًة ُأْخ َر ى * ِع ْنَد ِس ْدَر ِة اْلُم ْنَتَه ى * ِع ْنَدَها َج َّنُة اْلَم ْأَو ى * ِإْذ‬
‫َيْغَشى الِّس ْدَر َة َم ا َيْغَشى * َم ا َز اَغ اْلَبَص ُر َو َم ا َطَغى * َلَقْد َر َأى ِم ْن آَياِت َر ِّبِه اْلُكْبَر ى} [النجم‪ :‬اآلية‬
‫‪.]18 -1‬‬
‫أمّيته ﷺ قبل الّنبوة وبعدها‪:‬‬
‫أسألكم باهلل أن تقفوا أمام ضمائركم ونفوسكم وتاريخكم وأن تجيبوا عن هذا الّسؤال المحّير‬
‫الدائر في الكون بأسره‪ ،‬تصّو روا طفاًل نشأ في قرية من قرى الجزيرة العربية‪ ،‬في بيٍت من َح جٍر‬
‫بال تعليم وال دراسة‪ ،‬يتيٌم فقيٌر لم يشاهد بعينيه شيًخ ا وال أستاًذا وال دكتوًر ا‪ ،‬ولم ير سّبورة وال‬
‫طبشورة‪ ،‬ولم يحمل قلًم ا وال قرطاًسا‪ ،‬ولم يدخل كليًة وال مدرسة وال جامعة وال أكاديمية‪ ،‬وما خَّط‬
‫حرًفا وما قرأ صفحة واحدة‪ ،‬ثم يصل إلى األربعين من عمره وهو أمّي ال يفك حرًفا ولم يطالع‬
‫سطًر ا؛ وفجأة يدلف على العالم وينادي على الّص فا في العالمين قولوا‪ :‬ال إله إاّل هللا‪ ،‬فإذا به يحفظ‬
‫الوحي فيكون أعظم معلم‪ ،‬وأكبر مرٍّب‪ ،‬وأجَّل قائٍد‪ ،‬وأعَدل حاكم‪ ،‬يتلو القرآن على المنبر وفي‬
‫المحراب‪ ،‬ويفتي الّناس في كل شأن من شؤون حياتهم‪ ،‬في العقيدة والعبادة‪ ،‬واألخالق واآلداب‬
‫والّسلوك‪ ،‬والّدنيا واآلخرة‪ ،‬وعالم السياسة والمال وحقوق اإلنسان‪ ،‬والمرأة واألمومة والطفولة‪،‬‬
‫والحدود والمعامالت‪ ،‬ويتحدث لهم عن عالم الجّنة والّنار‪ ،‬وعالم األفالك واألبراج‪ ،‬وعالم الجّن‬
‫واإلنس‪ ،‬ويتلو عليهم كتاًبا معجًز ا مفحًم ا ويتحّداهم به ويناديهم جهاًر ا نهاًر ا‪ :‬تعالوا بكتاب مثله‪ ،‬أو‬
‫بعشر سور مثل ُسَو ره‪ ،‬أو بسورة واحدة‪ ،‬فيعجزون‪ ،‬وهم أهل البالغة ورّو اد الفصاحة‪ ،‬وُشَداة‬
‫الحرف‪ ،‬وأهل سوق عكاظ‪ ،‬وأئمُة البيان في العالم‪ ،‬فتراهم أمام هذا الّتحدي يعلنون اإلفالس‬
‫واالنهزام‪ ،‬ويبقى ﷺ يقود ملحمة االنتصار والفتح‪.‬‬
‫وقد وصف ُهللا نبّيه محمًدا ﷺ باألمّية فقال تعالى‪ُ{ :‬هَو اَّلِذي َبَعَث ِفي اُألِّم ِّييَن َر ُسوًال ِم ْنُهْم‬
‫َيْتُلو َعَلْيِه ْم آَياِتِه َو ُيَز ِّك يِه ْم َو ُيَعِّلُمُه ُم اْلِك َتاَب َو اْلِح ْك َم َة َو ِإْن َكاُنوا ِم ْن َقْبُل َلِفي َض َالٍل ُم ِبيٍن } [الجمعة‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]2‬فكونه ﷺ أمًّيا ال يقرأ وال يكتب أعظم معجزة في صدق نبّو ته‪ ،‬وأّنه رسوٌل من عند هللا‪ ،‬إْذ‬
‫لو كان يكتب قبلها ويقرأ الُّتِه م‪ ،‬مع هذا كابرت قريش المعقول‪ ،‬وخالفت المعروف فاتهمته عليه‬
‫السالم بأخذ القرآن من غيره‪ ،‬كما قالوا‪َ{ :‬و َقاُلوا َأَساِط يُر اَألَّو ِليَن اْك َتَتَبَه ا َفِه َي ُتْم َلى َعَلْيِه ُبْك َر ًة‬
‫َو َأِص يًال} [الفرقان‪ :‬اآلية ‪ ،]5‬فأبعد ُهللا الّشبهة عن نبّيه‪ ،‬وأزال الّتهمة عن رسوله‪ ،‬فجعله نبًّيا ال‬
‫يقرأ كتاًبا‪ ،‬وال يخط حرًفا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا ُكْنَت َتْتُلو ِم ْن َقْبِلِه ِم ْن ِك َتاٍب َو َال َتُخ ُّطُه ِبَيِم يِنَك ِإًذا‬
‫َالْر َتاَب اْلُم ْبِط ُلوَن * َبْل ُهَو آَياٌت َبِّيَناٌت ِفي ُص ُدوِر اَّلِذيَن ُأوُتوا اْلِع ْلَم َو َم ا َيْج َح ُد ِبآَياِتَنا ِإَّال الَّظاِلُم وَن }‬
‫[العنكبوت‪ :‬اآلية ‪ ،]49 - 48‬فهو ﷺ لم يحمل قلًم ا‪ ،‬ولم يخط قرطاًسا‪ ،‬حتى إّنه في صلح الحديبية‬
‫عندما أمر ﷺ علّي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) أن يمحَو لفظ‪( :‬رسول هللا) من الكتاب لّم ا طلب‬
‫ذلك ُسهيل بن عمرو ممّثل المشركين في المصالحة‪ ،‬ورفض علي بن أبي طالب أن يمحَو اسم‬
‫(رسول هللا)‪ ،‬فأخذ ﷺ الكتاب بعدَم ا عرف موضع هذه الكلمة منه فمحاها‪ ،‬وهو ال يجيد أن يكتب هذه‬
‫الكلمة‪ ،‬وإّنما ُدّل عليها ﷺ‪ ،‬كما قال بعض الشّر اح‪ ،‬ولذلك يقول ُهللا تعالى‪{ :‬اَّلِذيَن َيَّتِبُعوَن الَّر ُسوَل‬
‫الَّنِبَّي اُألِّم َّي اَّلِذي} {َيِج ُدوَنُه َم ْك ُتوًبا ِع ْنَدُهْم ِفي الَّتْو َر اِة َو اِإل ْنِج يِل } [األعراف‪ :‬اآلية ‪ ،]157‬فأمّيته ﷺ‬
‫مصدر قّو ة‪ ،‬ودليل نبّو ة‪ ،‬وبرهان رسالة‪ ،‬وحجة إعجاز‪ ،‬فُسبحان َم ن جعل نبّيه أمًّيا يستقي من نهر‬
‫علمه العلماء‪ ،‬فما من عالم شريعة‪ ،‬وال مفّسر وال فقيه‪ ،‬وال قاٍض وال كاتٍب‪ ،‬وال داعيٍة وال خطيب‪،‬‬
‫إاّل وهو تلميذ من تالميذه‪ ،‬وناهل من بحر معارفه‪ ،‬وغارٌف من محيط علمه‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫ُّل ِم‬
‫ِم‬
‫ِل‬
‫فُك ُه ْم ْن َرُس و هللا ُمْلَت ٌس‬
‫َغْر ًفا ِم َن الَبْح ِر َأْو َرْشًف ا ِم َن الِّد ِمَي‬
‫فهو لم يكتب ولم يقرأ طيلة حياته‪ ،‬وبقيت ُم عجزاته الخالدة مع أمّيته حتى وفاته ﷺ‪ ،‬وهو‬
‫يقول كما في «الّص حيحين»‪« :‬إّنا ُأَّم ٌة ُأِّم َّيٌة‪ ،‬ال َنْكُتُب وال َنْح ُسُب »‪ ،‬ولهذا آمُل منك أن تطالع‬
‫نصوص الوحي كتاًبا وسّنة‪ ،‬وما فيها من حسابات وأعداد وتقاسيم وتفاصيل‪ ،‬وأنواع‪ ،‬ونظام دقيق‬
‫لألسرة والمجتمع واألمة‪ ،‬وما فيها من فنون وآداب‪ ،‬وحكم وأسرار‪ ،‬في كل شأن من شؤون الّدنيا‪،‬‬
‫وفي كل قضية من قضايا العالم‪ ،‬في عالم الغيب والّشهادة‪ ،‬والّدنيا واآلخرة‪ ،‬وكل ما يهم اإلنسان منذ‬
‫والدته إلى موته‪ ،‬ومن موته إلى أن يستقر في رحمة هللا ورضوانه‪ ،‬أو في عذابه وسخطه ‪ -‬أعاذنا‬
‫هللا ‪ -‬كل هذا ُيحّدثك عنه الّنبّي المعصوم ﷺ‪.‬‬
‫آمُل منك أن تقف مع هذه الّلحظة‪ ،‬وتتصّو ر هذا المشهد‪ ،‬وهو كون هذا الّنبي الكريم ﷺ يأتيه‬
‫السائل في أّي مسألة من المسائل الخاصة أو العامة‪ ،‬وفي أّي باب من أبواب العلم‪ ،‬في الطهارة مثاًل ‪،‬‬
‫أو الّص الة أو الّز كاة‪ ،‬أو الّص يام أو الحج‪ ،‬أو سائر العبادات أو الحدود أو اآلداب‪ ،‬أو أّي شأن من‬
‫شؤون الحياة‪ ،‬وتأتيه المرأة في شأنها الخاص‪ ،‬في حيضها وُطهرها ونفقتها وعالقتها برّبها أو‬
‫بزوجها أو بأهلها‪ ،‬فيفتي الجميع بداهًة‪ ،‬ويجيب الّناس مباشرًة‪ ،‬ال يراجع كتاًبا‪ ،‬وال يبحث في‬
‫مصّنٍف ‪ ،‬وال يعود إلى علماء ليستشيرهم‪ ،‬بل جوابه حاضر‪ ،‬ورّده جاهز‪ ،‬مع العصمة من الخطأ‪،‬‬
‫والحفظ من الّز لل‪ ،‬والبيان الّتام‪ ،‬والحّج ة القاطعة‪ ،‬والبرهان الّساطع‪ ،‬صلوات هللا وسالمه عليه دائًم ا‬
‫وأبًدا‪.‬‬
‫وأقول هنا كلمًة في كون الّنبي ﷺ أمًّيا لم يسبق أْن ُقلتها من قبل‪ ،‬وهو أّن هذا الّنبّي األمّي ﷺ‬
‫إذا تكّلم‪ ،‬فإن كالمه يصبح مادًة يدرسها نوابغ العالم وعباقرة الّدنيا‪ ،‬كٌّل في تخّص صه‪ ،‬فأساطين الّلغة‬
‫يدرسون حديثه من جانب اإلعجاز والبيان والبديع الّلغوي‪ ،‬ورّو اد أصول الفقه يغوصون في ُلجج‬
‫بحره؛ الستخراج قواعد الّشريعة‪ ،‬وضوابط المّلة‪ ،‬وشّر اح الحديث وأهل األثر ينهلون من معين‬
‫سّنته ﷺ‪ ،‬ويستخرجون منه الّدرر والجواهر‪ ،‬والقضاة والمفتون والفقهاء يفتحون القناطير المقنطرة‬
‫من ميراثه الّشريف ﷺ ليجدوا بغيتهم المنشودة من فيض العلم الّر اسخ الّثمين‪ ،‬فيكون مادًة لفتاويهم‪،‬‬
‫وفصلهم بين الّناس‪ ،‬وتعليم األّم ة األحكام‪ ،‬واآلداب واألخالق والّسلوك‪.‬‬
‫ولقد سافرُت إلى كثير من دول العالم‪ ،‬فوجدُت علماء األحناف‪ ،‬وعلماء المالكية‪ ،‬وعلماء‬
‫الّشافعية‪ ،‬وعلماء الحنابلة‪ ،‬والتقيُت بأهل الحديث وحّفاظ السّنة وجلسُت مع الخطباء والّدعاة والقضاة‬
‫واألصوليين والُم فّسرين‪ ،‬ثم عدُت إلى نفسي وقلت‪ :‬سبحان هللا! كل هؤالء‪ ،‬على اختالف مشاربهم‪،‬‬
‫وتعّدد مواهبهم‪ ،‬وتباين ديارهم‪ ،‬واختالف أمصارهم‪ ،‬وتباعد أقطارهم‪ ،‬استفادوا هذا الِع لَم من معلم‬
‫الخير ونبّي الّر حمة ﷺ‪ ،‬فأزداُد عجًبا!‪ ،‬وأعود لنفسي وأردد في خاطري‪ :‬الّلهم صّل وسّلم عليه‪،‬‬
‫الّلهم صّل وسّلم عليه‪ ،‬الّلهم صّل وسّلم عليه‪.‬‬
‫حواره ﷺ مع اليهود والّنصارى‪:‬‬
‫لقد حاور ﷺ بالّدليل والبرهان واْلُحَّج ة الّدامغة علماء اليهود‪ ،‬فأسلم منهم عبدهللا بن سالم‬
‫وغيره‪ ،‬وحاور رهبان الّنصارى ودعاهم إلى المباهلة‪ ،‬فعرفوا أّنه نبّي فلم يباهلوه‪ ،‬وقد حّدث ﷺ‬
‫اليهود والّنصارى بقصص وأخبار من دينهم فصّدقوه فيما أخبر‪ ،‬فما هو الّطريق الذي أوصل له ﷺ‬
‫هذه األخبار واألدلة والبراهين إاّل إيحاء هللا له‪ ،‬وتنزيل الّذكر الحكيم عليه‪.‬‬
‫ضعفاء الّناس يتبعونه ﷺ قبل أشرافهم‪:‬‬
‫في «الصحيحين» أّن هرقَل ملك الروم سأل أبا سفيان عن أتباعه ﷺ‪ :‬أشراُف الناس يّتبعونه‬
‫أم ُض عفاؤهم؟‪ .‬فقال‪ :‬بل ضعفاؤهم‪ .‬قال‪ :‬هم أتباع الّر سل‪ ،‬وهذا دليل صحيح‪ ،‬فإّنه ﷺ لم يكن لديه من‬
‫أمور الّدنيا والُم لك ما ُيغري الناس به‪ ،‬وإّنما يقصده الّناس ألجل الحّق الذي عنده؛ ولهذا أتاه‬
‫الّضعفاء للبرهان والحّج ة التي عنده‪ ،‬والّنور الّساطع الذي يحمله ﷺ‪ ،‬وهذا من أعظم األدلة على‬
‫نبّو ته ﷺ‪.‬‬
‫دعوته ﷺ بدأت بفرد وانتهت مبليارات البشر‪:‬‬
‫في الحديث الّص حيح في محاورة هرقل ملك الروم ألبي سفيان (رضي هللا عنه)‪ ،‬أنه سأله‬
‫عن أتباعه‪ :‬أيزيدون أم ينقصون؟ قال‪ :‬بل يزيدون‪ ،‬فاستدل بهذا على نبّو ته ﷺ‪ ،‬فإنه بدأ رسالته فقط‬
‫بأبي بكر الّص ديق (رضي هللا عنه)‪ ،‬وكانت كل القبائل تحاربه في جزيرة العرب‪ ،‬ثم بدأ تزايد‬
‫األتباع واتسع نطاقهم خارج مكة حّتى عّم الجزيرة‪ ،‬ثم انتشر في أصقاع الّدنيا حتى طّبق القارات‬
‫جميًعا‪ ،‬وعّم العالم بأسره‪ ،‬على اختالف الّلغات والّلهجات واأللوان واألجناس‪ ،‬والّز مان والمكان‪.‬‬
‫رغم االنكسارات فإّنه واصل االنتصارات‪:‬‬
‫ومما استدل به عقالء العالم وعلماؤهم على نبّو ته ﷺ أّنه رغم انكساراته فإّنه واصل‬
‫انتصاراته‪ ،‬واستدل بهذا هرقل كما في «الصحيحين» لّم ا سأل أبا سفيان‪ :‬كيف قتالكم إّياه؟ فقال‬
‫(رضي هللا عنه)‪ :‬الحرب بيننا وبينه سجاٌل ينال مّنا وَنناُل منه‪( .‬أي‪ :‬أحياًنا ينتصر وأحياًنا ننتصُر‬
‫عليه)‪ ،‬والّدليل في هذا على نبّو ته أّنه لو كان من أهل الّدنيا أو يريد ُم لًكا أو جاًها أو ثروة النحصرت‬
‫دعوته وتالشت‪ ،‬لكن ُر غم ما حّل به من أذى وشّدة‪ ،‬وانكسار أحياًنا وبالء وقتل في أصحابه‪،‬‬
‫وتشريد له من وطنه‪ ،‬وتعذيب ِلُم ِح ِّبيه‪ ،‬بقي صامًدا صادًقا‪ ،‬مواصاًل ُم حتسًبا‪ ،‬حتى نصرُه ُهللا نصًر ا‬
‫مؤّز ًر ا‪ ،‬وقال كلمته المشهودة يوم فتح مكة‪ ،‬التي هّز ت العالم‪ ،‬وحّر كت المشاعر‪ ،‬ووقفت لها األيام‪:‬‬
‫«اْلَح ْم ُد هلل َاَّلِذي َص َد َق َو ْعَد ُه‪َ ،‬و َنَص َر َعْبُده‪َ ،‬و َهَز َم اَأْلْح َز اَب َو ْح َد ُه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫الكمال البشرّي برهان على نبّو ته ﷺ‪:‬‬
‫أّي عظيم أو زعيم أو عبقري أو مبدع تجد في حياته جوانب إيجابّية وسلبّية‪ ،‬كمااًل ونقًص ا‪،‬‬
‫وهي طبيعة البشر‪ ،‬فقد تجد العاِلم ولكّنه ليس بكريم‪ ،‬أو كريًم ا وليس بحليم‪ ،‬أو حليًم ا وليس بشجاع‪،‬‬
‫أوعاداًل وليس بمتواضع‪ ...‬إلى غير تلك الصفات التي ال تجتمع ُم كتملة في البشر‪ ،‬كما قالوا في‬
‫المثل‪« :‬الكمال عزيز»‪ ،‬وكما قال الشاعر‪:‬‬
‫َوَمن ذا اَّلذي ُترضى َس جاايُه ُك ُّلها‬
‫َك فى اَملرَء ُنْباًل َأن ُتَعَّد َمعاِيُبْه‬
‫ِس وى املصطفى َف ْه و اُملشـّرف قدُره‬
‫عظيٌم َتناهْت يِف الَك َم ال مناِقُبْه‬
‫أّم ا رسولنا ﷺ فإّن َهللا جمع له كّل المحاسن في أجمل صورها‪ ،‬وجميع الفضائل في أبهى‬
‫ُح َلِلها‪ ،‬فهو ليس ُم جرد صادق بل أصدق الّص ادقين‪ ،‬وال مجرد شجاع بل أشجع الّشجعان‪ ،‬وال مجرد‬
‫حليم بل أحلم الحلماء‪ ،‬وال كريم فحسب بل أكرم الكرماء‪ ،‬وال فصيح فقط بل أفصح الفصحاء‪ ،‬فهو‬
‫في كّل ُخ ُلق األّو ُل‪ ،‬ال يوجد ُخ لق شريف وال مجد منيف إاّل له المنصب األعلى‪ ،‬واألمد األقصى ﷺ‪،‬‬
‫له الكمال البشرّي المطلق وليس ألحد غيره من الّناس‪ ،‬وفي هذا دليل على أّن هللا سبحانه صنعه‬
‫على عينه‪ ،‬واصطفاه وهّذبه وأّدبه وحاّل ه بأجمل الّسجايا وأفضل الِخ الل وأنبل الخصال؛ ليكون قدوة‬
‫للّناس وأسوة للبشر‪.‬‬
‫ثالثة وعشرون عاًما من الّرسالة دون حتريف أو اختالف‪:‬‬
‫فرض ُهللا تعالى على نبّيه ﷺ عبادات مختلفة فيها بعض المشّقة‪ ،‬منها الّص لوات الخمس في‬
‫اليوم والّليلة في أوقات ُم حَّددة‪ُ ،‬تؤَّدى هذه الّص لوات في الحضر والّسفر‪ ،‬والّص حة والمرض‪ ،‬والّشدة‬
‫والّر خاء‪ .‬وكذلك الّص يام‪ ،‬شهٌر في كل عام‪ ،‬قد ُيصام في شّدة الحّر مع الفقر وألم الجوع والعطش‪.‬‬
‫والحج ُيدعى إليه من كاّفة أقطار األرض وما فيه من مشقة الّسفر وُكلفة الّز اد والّر احلة؛ فلو كان ﷺ‬
‫ُم ّدِع ًّيا للّنبوة‪ ،‬وكانت هذه العبادات من اختياره وليست من عند هللا؛ لكان األولى أن ُيسّه ل على‬
‫أتباعه ليجذبهم إلى دعوته بأمور سهلة ُم يّسرة‪ ،‬كأن يجعل الّص الة مثاًل مرة واحدة‪ ،‬وُيلغي الحج‪،‬‬
‫ويجعل الّص يام يوًم ا واحًدا في العام أو نحو هذا‪ ،‬ولكن ال يستطيع ذلك؛ ألّنها فرٌض وأمٌر من رّب‬
‫العالمين جّل في عاله‪ ،‬وقد التزم الّنبي ﷺ بهذه الّشعائر طيلة حياته‪ ،‬وكذلك الّص حابة رضوان هللا‬
‫عليهم‪ ،‬وَم ن أتى بعدهم مْنُذ ما ُيقارب ألًفا وأربَع مئِة عاٍم في أقطار األرض‪ ،‬وأنحاء العالم ُيؤدونها‬
‫باستحسان‪ ،‬وشوق وحٍّب‪ ،‬دون تبديل أو تحريف أو تغيير‪ ،‬فهذا من أعظم أدلة نبّو ته ﷺ‪.‬‬
‫الّنّيب ﷺ بشر ُيوحى إليه‪:‬‬
‫اختاره ُهللا إنساًنا لكّنه أكرُم اإلنسانّية‪ ،‬واصطفاه بشًر ا لكّنه أشرُف البشرّية‪ ،‬وال بد للّر سول‬
‫ﷺ أن يعيش كما يعيش الّناس‪ ،‬يتألم كما يتألمون‪ ،‬ويفرح كما يفرحون‪ ،‬ويحزن كما يحزنون‪،‬‬
‫ويجوع كما يجوعون‪ ،‬ويضحك كما يضحكون‪ ،‬ويبكي كما يبكون‪ ،‬يشعر بهم‪ ،‬ويعيش معهم‪،‬‬
‫ويشاركهم اآلمال واآلالم‪ ،‬والّص حة والمرض‪ ،‬والغنى والفقر‪ ،‬والّنصر والهزيمة‪ ،‬ليكون أسوة‬
‫وقدوة‪.‬‬
‫ظهرت إنسانية الّر سول ﷺ في أبهى صورها‪ ،‬وأجمل مشاهدها‪ ،‬وهو يعيش الحياة بكل‬
‫أطوارها‪ ،‬عاش الطفولة ُطهًر ا ونقاًء ‪ ،‬وقضى الشباب صدًقا ووفاًء ‪ ،‬رعى غنمه‪ ،‬وكنس بيته‪،‬‬
‫وخصف نعله‪ ،‬ورقع ثوبه‪ ،‬وساعد أهله‪ ،‬وخدم ضيفه‪ .‬ضحك في ساعة اُألنس فمأل الحياة بهجًة‬
‫وسروًر ا‪ ،‬وبكى لحظة الحزن فأسال الّدموع‪ ،‬وأشجى الّنفوس‪ ،‬ورسم بدموعه قيمة الحياة‪ .‬قال‬
‫ففصل‪ ،‬وحكم فعدل‪ ،‬وخطب فأبان‪ ،‬ووعظ فأالن‪ .‬أوجز فأعجز‪ ،‬وأطنب فأطاب‪ ،‬ظهر واشتهر‬
‫فبهر‪ ،‬قاد فأجاد وأفاد‪ ،‬كان يأكل الطعام ويمشي في األسواق‪ ،‬يأكل كما يأكل الّناس ويشرب كما‬
‫يشرب البشر‪ ،‬ويتزّو ج الّنساء‪ ،‬ويحزن ويفرح‪ ،‬ويجوع ويظمأ‪ ،‬ويمرض ويتداوى‪.‬‬
‫ومن أدلة مظاهر بشريته ﷺ أن َهللا توّفاه كما يتوّفى البشر‪ ،‬قال سبحانه‪َ{ :‬و َم ا َج َعْلَنا ِلَبَشٍر‬
‫ِم ْن َقْبِلَك اْلُخ ْلَد َأَفِإْن ِم َّت َفُه ُم اْلَخ اِلُدوَن } [األنبياء‪ ،]34 :‬فكان ﷺ بشًر ا لكنه رسول‪ ،‬وكان إنساًنا لكّنه‬
‫نبّي ‪ ،‬شّر فه هللا بالوحي كما قال ُسبحانه‪ُ{ :‬قْل ِإَّنَم ا َأَنا َبَشٌر ِم ْثُلُكْم ُيوَح ى ِإَلَّي َأَّنَم ا ِإَلُه ُكْم ِإَلٌه َو اِح ٌد َفَم ْن‬
‫َكاَن َيْر ُج و ِلَقاَء َر ِّبِه َفْلَيْعَم ْل َعَم ًال َص اِلًح ا َو َال ُيْش ِر ْك ِبِع َباَدِة َر ِّبِه َأَح ًدا} [الكهف‪ :‬اآلية ‪.]110‬‬
‫ومن بالغة القرآن أّنه حّدد بشرية الّنبي ﷺ مثلنا {َبَشٌر ِم ْثُلُكْم } ‪ ،‬ولم يقل بشًر ا فقط‪ ،‬حتى ال‬
‫يظن البعض أو يّدعي أحد أّن للّر سول ﷺ بشرّية خاصة تختلف عن بشرية اآلخرين‪.‬‬
‫وحال الّنبي ﷺ في بشريته هو حال جميع األنبياء‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َج َعْلَناُهْم َجَسًدا َال َيْأُكُلوَن‬
‫الَّطَعاَم َو َم ا َكاُنوا َخ اِلِديَن } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪ ،]8‬فمن لطف هللا بالخلق أّنه سبحانه أرسل جميع األنبياء‬
‫عليهم الّسالم بشًر ا‪ ،‬حتى يكون الّتخاطب والّتفاهم بينهم وبين الّناس سهاًل واضًح ا‪ ،‬يقول تعالى‪:‬‬
‫{َو َم ا َأْر َسْلَنا ِم ْن َر ُسوٍل ِإَّال ِبِلَساِن َقْو ِم ِه ِلُيَبِّيَن َلُهْم } [إبراهيم‪ :‬اآلية ‪.]4‬‬
‫وأعلن ﷺ تجّر ده من الحول والقوة والخوارق التي يّدعيها الّدجالون واألّفاكون‪ ،‬فهو ُيعلن‬
‫بشريته‪ ،‬ويعلن بوضوح وصراحة أّنه ال يملك ضًّر ا وال نفًعا‪ ،‬وال موًتا وال حياًة وال نشوًر ا‪ ،‬وُينّز ل‬
‫عليه‪ُ{ :‬قْل َم ا ُكْنُت ِبْدًعا ِم َن الُّر ُسِل َو َم ا َأْدِر ي َم ا ُيْفَعُل ِبي َو َال ِبُكْم ِإْن َأَّتِبُع ِإَّال َم ا ُيوَح ى ِإَلَّي َو َم ا َأَنا‬
‫ِإَّال َنِذيٌر ُم ِبيٌن } [األحقاف‪ :‬اآلية ‪ ،]9‬فهو ﷺ ال يعلم من الغيب إاّل ما عّلمه هللا‪َ{ :‬و ِإْن َأْدِر ي َأَقِر يٌب‬
‫َأْم َبِع يٌد َم ا ُتوَعُدوَن } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪ ،]109‬فال يعلم متى تقوم الّساعة‪ ،‬وال يعلم ما في األرحام‪ ،‬بهذا‬
‫الّص دق المكشوف‪ ،‬وبهذا الّتجرد الظاهر أمام الّناس‪ ،‬ولو كان كاذًبا‪-‬وحاشاه‪-‬ألظهر ناموًسا ُم زّيًفا‪،‬‬
‫وكالًم ا ُم زخرًفا‪ ،‬وقام بحركات بهلوانية‪ ،‬واّدعى كرامات ذاتية‪ ،‬ولّبس على الّناس‪ ،‬لكن هللا صانه‬
‫وأجاره عن ذلك كّله‪.‬‬
‫ومن إنسانيته وبشريته ﷺ أّنه تزّو ج الّنساء وأنجب ذرّية‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َأْر َسْلَنا ُر ُسًال‬
‫ِم ْن َقْبِلَك َو َج َعْلَنا َلُهْم َأْز َو اًج ا َو ُذِّر َّيًة} [الرعد‪ :‬اآلية ‪ ،]38‬وكما صّح عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬لِكِّني ُأصِّلي‬
‫َو َأناُم ‪َ ،‬و َأُص وُم َو ُأْفِط ُر ‪َ ،‬و َأَتَز َّو ُج الِّنساَء ‪ ،‬فَم ن َر ِغ َب عن ُسَّنتي فليَس ِم ِّني» [متفق عليه]‪ ،‬فكان عليه‬
‫الّص الة والّسالم قدوة ألّم ته في كل حال من األحوال‪ ،‬وكل شأن من شؤون الحياة‪ ،‬فهو ﷺ بشر ليس‬
‫َم َلًكا ال يأكل الطعام‪ ،‬وال يمشي في األسواق‪ ،‬وأيًض ا لم يكن بشًر ا عادًيا غير معصوم‪ ،‬قد يحصل منه‬
‫الهوى والّز يغ‪ ،‬بل كان يوحى إليه‪ ،‬وكان نبًّيا معصوًم ا مؤيًدا بوحي مقّدس‪ ،‬فاجتمعت فيه الّنبوة‬
‫واإلنسانّية ﷺ‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫إّن الرب ة يوم مبعث أمحٍد‬
‫ّي‬
‫نظَر اإللُه َهلا فبّد ل َح اَهلا‬
‫بْل كَّرم اإلنساَن حني اخَتاَر ِم ن‬
‫َخ ِري الربّية جَن َم َه ا وِه الهَلا‬
‫لب املرّق وْه و قائُد ُأ ٍة‬
‫ّم‬
‫َس َع‬
‫َجَبِت الكنوَز وكَّس ـرْت أْغاَل هَلا‬
‫َملا رآَه ا اجملد متشِـي حَن َو ه‬
‫يف مهٍة فوق النجوم َسَعى َهلا‬
‫حياته ﷺ دستور أخالق‪ ،‬وجامعة للرّت بية واآلداب‪:‬‬
‫لم ُيعرف في العالم على مّر التاريخ أّي إنسان‪ ،‬زعيًم ا كان‪ ،‬أو شاعًر ا‪ ،‬أو حكيًم ا‪ ،‬أو أديًبا‪،‬‬
‫أو غنًّيا‪ ،‬أو تاجًر ا‪ ،‬أتى بطريقة ُم ثلى للحياة‪ ،‬ونهج قويم للمعيشة‪ ،‬كما أتى بها الّنبي ﷺ‪ ،‬فقد أتى‬
‫بالخصال الّنبيلة‪ ،‬والّسجايا الحميدة‪ ،‬واألخالق العظيمة‪ ،‬والفضائل الّشريفة‪ ،‬بل إّنه ﷺ أتى بأدق‬
‫الّتفاصيل التي ُتحّو ل حياة اإلنسان إلى األجمل واألفضل‪ ،‬وتجعله أقرب من خالقه ومواله‪ ،‬فكانت‬
‫حياته دُّقها وجُّلها مميزًة عن الجميع‪ ،‬مملوءًة بالّطهر والّشرف واألمانة والمعروف‪ ،‬بعيدة كّل الُبعد‬
‫عن الّتطرف‪ ،‬والمنكرات‪ ،‬والفواحش‪ ،‬ورذائل األمور‪ ،‬وسفاسف األخالق‪ ،‬وقبائح األفعال‪ ،‬وبدر‬
‫منير ظهر في ليلة داجية الظلمة‪ ،‬فمن عّلم نبّينا ﷺ هذه الّطريقة في الحياة وهو لم يدرس في مدرسة‪،‬‬
‫وال جامعة‪ ،‬وال كلية‪ ،‬وال أكاديمية‪ ،‬ولم يأخذها من أستاذ‪ ،‬وال شيخ‪ ،‬وال مرٍّب‪ ،‬وال فيلسوف‪ ،‬وال‬
‫حكيم؟ إّنما تعّلمها عن طريق الوحي‪ ،‬ولم تكن هذه الطريقة وهذا المنهج إاّل لرجل واحد‪ ،‬أال وهو‬
‫محمد بن عبدهللا ﷺ‪ .‬وكفى بهذا شاهًدا على نبّو ته‪ ،‬وهذا نقوله عن طريق الّتحّدي المؤيد بالبرهان‬
‫والّدليل‪.‬‬
‫ومن اإلعجاز أّنه شرع ﷺ في الوضوء والّطهارة والُغسل والتيّم م أكثر من مئة حديث‪ ،‬وفي‬
‫الّلباس والّطيب والّطعام والّشراب أكثر من مئة حديث‪ ،‬وفي المشي والجلوس والكالم‪ ،‬والدخول إلى‬
‫المنزل والخروج منه‪ ،‬وآداب الطريق أكثر من مئة حديث‪ ،‬جميعها ُم رّتبة‪ُ ،‬م نّظمة‪ُ ،‬م ّتفقة‪ ،‬ال تضاّد‬
‫بينها‪ ،‬وال اختالف‪ ،‬صحيحة ثابتة‪ ،‬تناقلها عنه أصحابه (رضي هللا عنهم)‪ ،‬وطبقوها في حياتهم‪،‬‬
‫فصارت حياته دستوًر ا لألخالق‪ ،‬وجامعة للّتربية واآلداب‪.‬‬
‫حترمي الّزان‪ ،‬والّراب‪ ،‬واخلمر‪ ،‬والفواحش‪:‬‬
‫لم يكن في عهد الّنبي ﷺ أحد يعترف بأّن الخمر أو الّز نا أو الّشذوذ لها تأثير في صحة‬
‫اإلنسان‪ ،‬أو أّنها ُتسّبب األمراض الُم دّم رة لجسد اإلنسان‪ ،‬بل كان العرب يتفاخرون بهذه العادات‬
‫الّسيئة‪ ،‬ولو لم يكن محمد ﷺ رسواًل من عند هللا لما أقدم على منع مجتمعه من أهوائهم ورغباتهم‪،‬‬
‫كما يفعل كثير من أهل الّدنيا الذين يريدون الّر ئاسة أو الّز عامة أو متاع الّدنيا‪ ،‬فإّنهم يلتمسون موافقة‬
‫الناس في الّشهوات والُم حّر مات ليكسبوا وّدهم‪ ،‬بل جاء ﷺ بموقف حاسٍم ووحي مقّدٍس ‪ ،‬وأمٍر إلهي‬
‫ال يقبل الجدال وال الّتنازل وال الّتساهل في تحريم هذه الفواحش والمنكرات‪ ،‬رضي من رضي‪،‬‬
‫وَسخط َم ن سخط‪ ،‬قبل َم ن قبل‪ ،‬ورفض َم ن رفض‪ ،‬وهذا دليل على نبّو ته ﷺ‪ ،‬وأّنه ال ينطق عن‬
‫الهوى‪ ،‬وال يذهب وراء رغبات الّناس‪ ،‬وال يريد جاًها ُدنيوًيا وال ُم لًكا وال زعامة‪ ،‬بل أتى‬
‫بتحريمها؛ ألّنه يريد ما عند هللا‪ ،‬وأن ُيوصل رسالة هللا لعباده‪ ،‬وُيوصل عباده به سبحانه‪ ،‬ليحفظهم‬
‫من كّل أذى وضرر‪ ،‬وكان هدفه ﷺ هداية اإلنسان إلى حياة كريمة قويمة‪ ،‬فيرشده إلى مصالحه في‬
‫الّدنيا فيأتيها‪ ،‬ويدّله على مضاّر ها فيجتنبها؛ ألّنه ﷺ جاء رحمة للعالمين كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا‬
‫َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪.]107‬‬
‫وقد أثبت العلم الحديث أّن هذه الُم نكرات لها أضرار بالغة على صحة اإلنسان‪ ،‬وتكون سبًبا‬
‫إلى وفاته في الغالب‪ ،‬إضافًة إلى ذلك تأثيرها الّسلبي فيَم ْن حوله أيًض ا‪ ،‬حتى الغضب الذي كان‬
‫يتفاخر به العرب‪ ،‬ويعتبرونه دلياًل على القوة والعنفوان‪ ،‬وصفًة ُتمّيز كبراء القوم‪ ،‬نهى عنه ﷺ‪َ ،‬فَقْد‬
‫جاءه رجٌل وقال‪ :‬أوصني‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ال تغضب‪ ،‬فرّدد مراًر ا‪ ،‬فقال ﷺ‪ :‬ال تغضب» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وقد أثبت األطباء والعلماء بعد ألٍف وأربِع مئة عاٍم من بعثته ﷺ أّن للغضب أخطاًر ا كثيرة‬
‫وأضراًر ا جسيمة‪ ،‬وأّن عدم تحكم اإلنسان في غضبه وسيطرته عليه يؤّدي به إلى األعمال‬
‫اإلجرامّية‪ ،‬والُم شكالت الّص حية والعقلية‪ ،‬فُسبحان َم ن أرسله نبّيا هادًّيا إلى الّنهج القويم والّطريق‬
‫الُم ستقيم!‬
‫ُمعجزة اإلسراء واملعراج‪:‬‬
‫جاءت رحلة اإلسراء والمعراج دواًء لقلبه المكلوم ﷺ‪ ،‬ولنفسه الجريحة بأبي هو وأمّي ‪،‬‬
‫جاءت هذه المعجزة تأييًدا من هللا لنبّيه ورسوله‪ ،‬ونصرة واحتفاًء وعزاًء ومواساة له‪ ،‬بعد مرور‬
‫ثالث سنوات من حصار الُم شركين الجائر‪ ،‬والجوع والمشّقة والحزن المرير‪ ،‬وبعد أن مات عّم ه‬
‫أبو طالب الذي ناصره ودافع عنه‪ ،‬وبعدما ماتت زوجته الوفّية الحفّية خديجة (رضي هللا عنها) التي‬
‫كانت تواسيه وتعّز يه‪ ،‬وبعدما ُعّذب أصحابه‪ ،‬وُأوذي أحبابه‪ ،‬واشّتد عليه الخصوم‪ ،‬وتكالب عليه‬
‫األعداء‪ ،‬وتآمر عليه البعيد‪ ،‬وخذله القريب‪.‬‬
‫فَم ن ُيدافع عن هذا الّنبي وَم ن يواسيه؟ وَم ن َينصره وَم ن يحميه؟ وَم ن يتواله وَم ن ُيعالج‬
‫جروحه؟ وَم ن يؤيده؟ إّنه هللا خالقه وُم رسله‪.‬‬
‫فأتى األمر اإللهّي بإسراء الّنبي الُم جتبى من المسجد الحرام إلى المسجد األقصى‪ ،‬والعروج‬
‫به إلى السماء الّسابعة‪ ،‬إلى الملكوت العليا إلى سدرة المنتهى‪ُ ،‬م خترًقا الّسماء‪ ،‬ليقال له‪ :‬تعال فلك‬
‫الّز لفى‪ ،‬ولك الّتأييد‪ ،‬ولك الُبشرى‪ ،‬فسوف تنتصر‪ ،‬وسوف تفتح العالم؛ ألّن معك عناية هللا‪ ،‬ورعاية‬
‫هللا‪ ،‬وحفظ هللا‪.‬‬
‫وجاءت أيًض ا رحلته ﷺ إلى الّسماء؛ ليكون ُم ستعًدا الستقبال المعجزات الكبرى واآليات‬
‫العظيمة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬لَقْد َر َأى ِم ْن آَياِت َر ِّبِه اْلُكْبَر ى} ‪[ ،‬النجم‪ :‬اآلية ‪ ،]18‬وليتحّم ل الّشدائد‬
‫والمتاعب التي ستأتي؛ ألّن هللا يمأل قلبه يقيًنا بما رأى من العيان والبيان‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الحكيم الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه قصة اإلسراء‬
‫والمعراج‪ ،‬ونقلها الّثقات‪ ،‬ورواها أصحاب الّص حاح بأسانيد كالّشمس‪ ،‬وقد أجمع علماء اإلسالم على‬
‫صحة هذه المعجزة العظيمة‪.‬‬
‫وفيها من اإلعجاز أّن رسولنا ﷺ قد شاهد األنبياء عليهم السالم‪ ،‬ورحبوا به جميًعا‪ ،‬وشهدوا‬
‫برسالته‪ ،‬وأقروا بنبّو ته‪ ،‬وأخبر عنهم واحًدا واحًدا‪ ،‬ووصفهم وصًفا دقيًقا ال يختلف عن أوصافهم في‬
‫كتبهم‪ ،‬وعاد إلى مكة وقد رأى آيات هللا الكبرى رأي العين‪ ،‬فَعُظم يقينه بالمعاينة أعظم من يقين‬
‫الخبر‪ ،‬قال تعالى‪ُ{ :‬سْبَح اَن اَّلِذي َأْس َر ى ِبَعْبِدِه َلْيًال ِم َن اْلَم ْس ِج ِد اْلَحَر اِم ِإَلى اْلَم ْس ِج ِد اَألْقَص ى اَّلِذي‬
‫َباَر ْك َنا َحْو َلُه ِلُنِر َيُه ِم ْن آَياِتَنا ِإَّنُه ُهَو الَّسِم يُع اْلَبِص يُر } [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]1‬‬
‫فبدأ هللا تعالى اآلية الكريمة بقوله‪ُ{ :‬سْبَح اَن }‪ ،‬لُيقّدس نفسه عن الّنقص وُيثبت لها الكمال‬
‫والقدرة؛ ألّنه ُسبحانه خرق العادة لرسوله ﷺ حيث أسرى به في أطول رحلة في الّتاريخ من المسجد‬
‫الحرام إلى المسجد األقصى‪ ،‬ثم عرج به إلى الّسماء الّسابعة إلى سدرة المنتهى‪ ،‬وسمع َصِر يف‬
‫األقالم في جزء من ليلة‪ ،‬أي‪ :‬أّنه قطع ماليين الّسنوات الّضوئية في ساعات محدودة‪ ،‬ولو أّن العرب‬
‫في جاهليتها وفي وقت مبعثه ﷺ قيل لهم‪ :‬إّن اإلنسان قد يسافر إلى شرق الصين‪ ،‬أو غرب أوروبا‬
‫عابًر ا البحار والُم حيطات والجبال والّص حراء في ساعات محددة؛ لما صّدقوا ذلك وال آمنوا به‪،‬‬
‫والبشر اآلن يسافرون من دولة إلى دولة‪ ،‬ومن مدينة إلى مدينة بالّطائرات والّسيارات والّسفن في‬
‫ساعات‪ ،‬فكيف برحلة ُيسخرها رّب األرض والّسماوات لنبّيه وُم صطفاه ﷺ؟! هنا تتجلى قدرة هللا‪،‬‬
‫وكرامة هللا‪ ،‬وآية هللا‪ ،‬ومكانة رسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫{ِبَعْبِدِه} ‪ :‬واختيار كلمة (عبده) هنا مقصودة‪ ،‬إلثبات تتويج الّنبي الكريم ﷺ بتاج العبودّية؛‬
‫ألّن أجمل الّتشريف وأعلى المقامات هو مقام العبودية هلل رّب العالمين‪ ،‬ولهذا وصف ُسبحانه أنبياءه‬
‫فقال‪ِ{ :‬إَّنُه َكاَن َعْبًدا َشُكوًر ا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]3‬وقال‪ِ{ :‬نْعَم اْلَعْبُد ِإَّنُه َأَّو اٌب } [ص‪ :‬اآلية ‪،]30‬‬
‫وقال‪ُ{ :‬سْبَح اَن اَّلِذي َأْس َر ى ِبَعْبِدِه َلْيًال ِم َن اْلَم ْس ِج ِد} [الكهف‪ :‬اآلية ‪.]1‬‬
‫{َلْيًال} ‪ :‬لياًل حيث كتم األسرار‪ ،‬ومناجاة العزيز الغّفار‪ ،‬والّنجاة من األعداء‪ ،‬ولهذا قال‬
‫تعالى لنبّيه موسى عليه السالم‪َ{ :‬فَأْس ِر ِبِع َباِدي َلْيًال} [الدخان‪ :‬اآلية ‪ ،]23‬فوقعت الُم عجزة الباهرة‬
‫لياًل ‪ ،‬وفي معجزة اإلسراء والمعراج تحّقق له ﷺ مشاهدة آيات هللا الكبرى‪ ،‬وُفرضت عليه الّص الة‬
‫عن رحلة المعراج؛ فبالمعراج تصعد أرواحنا ودعواتنا وقت الّنكبات واألزمات إلى رّب األرض‬
‫والّسماوات‪ ،‬وبالمعراج نرفع همومنا وغمومنا لُيفّر جها جّل في ُعاله‪.‬‬
‫والّص الة هي العبادة الوحيدة التي ُفرضت ليلة اإلسراء والمعراج؛ ألّن فيها اكتمال أنواع‬
‫العبودّية من تالوة وتسبيح وركوع وسجود وتشّه د ودعاء ومناجاة وإخبات لرِّب العالمين‪ ،‬ولذلك‬
‫صارت الصالة حاًّل في حياة الّنبّي ﷺ‪ ،‬فكّلما كَر َبُه أمر قال‪« :‬يا بالُل أرحنا بالّص الة» [رواه أحمد‬
‫وأبو داود]‪ ،‬وكان يقول‪« :‬وُج علْت قّر ة عيني في الّص الة» [رواه أحمد والنسائي]‪.‬‬
‫{ِم َن اْلَم ْس ِج ِد اْلَحَر اِم ِإَلى اْلَم ْس ِج ِد اَألْقَص ى} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ :]1‬هذا الّسفر كانت بدايته‬
‫ونهايته من مسجد إلى مسجد‪ ،‬فاالنطالقة األولى من المسجد الحرام إلى المسجد األقصى‪،‬‬
‫واالنطالقة الثانية من المسجد األقصى إلى البيت المعمور في الّسماء؛ ألن هذه الّر حلة رحلة رّبانية‬
‫ُم قّدسة‪ ،‬ال ُيناسبها إاّل المساجد في ُطهرها وشرفها وُقدسيتها‪ ،‬وانطالقها من مكة؛ ألّنها مهبط الوحي‬
‫إلى بيت المقدس ليكون هناك دليل وشاهد في األرض؛ ألّن الّر حلة لو كانت من مكة إلى الّسماء لما‬
‫وَج َد ﷺ دلياًل أرضًّيا ُيقنع به ُكّفار ُقريش لّم ا أنكروا‪ ،‬فوصف لهم بيت المقدس باًبا باًبا‪ ،‬وطريًقا‬
‫طريًقا‪ ،‬فاندهشوا وأسلم بعضهم‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬لَّم ا َكَّذَبْتِني ُقَر ْيٌش ‪ُ ،‬قْم ُت في الِح ْج ِر ‪َ ،‬فَج ال هللا لي َبْيَت‬
‫الَم ْقِد ِس ‪َ ،‬فَطِفْقُت ُأْخ ِبرُهْم عن آياِتِه وأنا أْنُظُر إَلْيِه » [ُم ّتفق عليه]‪.‬‬
‫إخباره ﷺ عن الغيبيات الّس ابقة‪:‬‬
‫أخبر ﷺ وهو األمي الذي لم يقرأ ولم يكتب ولم يسافر إلى تلك البلدان‪ ،‬بدقائق من قصص‬
‫الّسابقين حيث َيصُف تفاصيلها وكأنه عاش القصة كاملة‪ ،‬وكان حاضًر ا معهم‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬ذِلَك ِم ْن‬
‫َأْنَباِء اْلَغْيِب ُنوِح يِه ِإَلْيَك َو َم ا ُكْنَت َلَدْيِه ْم ِإْذ ُيْلُقوَن َأْقَالَم ُهْم َأُّيُهْم َيْكُفُل َم ْر َيَم َو َم ا ُكْنَت َلَدْيِه ْم ِإْذ‬
‫َيْخ َتِص ُم وَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ ،]44‬فقد أخبر ﷺ من خالل الوحي الُم قّدس عن أحسن قصة عبر‬
‫تاريخ البشرّية‪ ،‬أال وهي قصة نبّي هللا يوسف عليه السالم‪ ،‬منذ بداية مكر إخوِته به حتى لقائه بهم‬
‫مرة أخرى‪ ،‬قصة ُم فّص لة‪ُ ،‬م ثيرة‪ ،‬بأدوارها‪ ،‬وشخصياتها‪ ،‬وأزمانها‪ ،‬وأماكنها‪ ،‬مّم ا ُيشعرَك وأنت‬
‫تقرأ هذه القصة بالحماس واالنجذاب ألحداثها وكأّنك عشت معهم أو شاركتهم أحداثها‪ ،‬وقد أشار‬
‫القرآن الكريم إلى هذه الُم عجزة الخارقة الُم بهرة الُم دهشة للعقول‪ ،‬فقال تعالى في سورة يوسف عليه‬
‫السالم‪َ{ :‬ذِلَك ِم ْن َأْنَباِء اْلَغْيِب ُنْو ِح يِه ِإَلْيَك َو َم ا ُكْنَت َلَدْيِه ْم ِإْذ َأْج َم ُعوا َأْم َر ُهْم َو ُهْم َيْم ُكُر وَن } [يوسف‪:‬‬
‫اآلية ‪.]102‬‬
‫وانظر إلى قصة نبي هللا موسى عليه الّسالم كيف نقلها ﷺ وما فيها من المواجهة مع‬
‫فرعون‪ ،‬وخلجات قلبه وهو يشاهد الّسحرة‪ ،‬فقال هللا تعالى‪َ{ :‬فَأْو َج َس ِفي َنْفِسِه ِخ يَفًة ُم وَسى} [طه‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]67‬وقال تعالى‪َ{ :‬و َم ا ُكْنَت ِبَج اِنِب اْلَغْر ِبِّي ِإْذ َقَض ْيَنا ِإَلى ُم وَسى اَألْم َر َو َم ا ُكْنَت ِم َن‬
‫الَّشاِهِديَن } [القصص‪ :‬اآلية ‪ ،]44‬فها هو الوحي يقول‪ :‬إّنك يا محمد لم تحضر القصة‪ ،‬ولم‬
‫ُتشاهدها‪ ،‬لكّنا أخبرناك بها‪ ،‬وكأّنك تراهم‪ ،‬وكأّنك تسمعهم‪ ،‬وكأّنك عشت معهم‪ ،‬فأي إعجاز فوق‬
‫هذا؟!‬
‫هذه الّلقطات الّدقيقة الُم فّص لة لم يكن يعلمها ﷺ‪ ،‬ولم نكن لنعلمها إاّل من طريقه ﷺ‪ ،‬فما أعظم‬
‫البرهان في هذه القصص التي نقلها لنا وغيرها من قصص األمم الّسابقة كقصة بلقيس ملكة سبأ‬
‫وحوارها مع قومها‪ ،‬وما وقع من سحر هاروت وماروت‪ ،‬وقتال طالوت وجالوت‪ ،‬وأنباء فرعون‬
‫وقومه‪ ،‬والّنمرود‪ ،‬وقصة مريم البتول العذراء‪ ،‬وقصة ذي القرنين‪ ،‬وقصص اُألمم السابقة إلى آخر‬
‫تلك األخبار!‪ .‬فمن كان عنده ذّر ة من عقل أو عدل أو إنصاف‪ ،‬وقرأ أي قصة من قصص القرآن أو‬
‫الّسنة الّنبوية الّص حيحة عن األمم السابقة يشهد أّنه رسول من عند هللا‪.‬‬
‫وقد أّيد الّتاريخ ما ذكره ﷺ‪ ،‬وأهل األخبار والِّس َير وهو لم يقرأ كتاًبا ولم يخط وثيقة‪ ،‬قال‬
‫ُعمر بن الخطاب (رضي هللا عنه)‪َ« :‬قاَم ِفيَنا النبُّي ﷺ َم َقاًم ا‪ ،‬فأْخ َبَر َنا عن َبْد ِء الَخ ْلِق حَّتى َد َخ َل َأْه ُل‬
‫الَج َّنِة َم َناِز لُه ْم ‪ ،‬وَأْه ُل الَّناِر َم َناِز لُه ْم ‪َ ،‬حِفَظ ذلَك َم ن َحِفَظُه‪ ،‬وَنِس َيُه َم ن َنِس َيُه» [رواه البخاري ُم عّلًقا]‪.‬‬
‫إخباره ﷺ عن الغيبيات الاّل حقة‪:‬‬
‫من أعظم ُم عجزاته ﷺ التي تجعل العقول مدهوشة بصدقه‪ ،‬واألرواح متيّقنة بنبّو ته ما أخبر‬
‫به من أخبار مستقبلية‪ ،‬منها ما يقع في حياته‪ ،‬ومنها ما يحدث بعد موته‪ ،‬ومنها ما يكون قبل قيام‬
‫الساعة‪ ،‬ووقع ذلك بشكل واضح كالّشمس‪ ،‬ولو لم يكن هناك وحي من هللا‪ ،‬وتأييد من هللا‪ ،‬ورسالة‬
‫من هللا لنبّيه ﷺ‪ ،‬لكان اإلخبار بما يحدث في الُم ستقبل وعالم الغيب نوًعا من الجنون والّدجل‪ ،‬فكيف‬
‫ُيخبر إنسان أّم ي عن عشرات األمور التي تقع بعد موته بعشرات ومئات السنوات بأدّق تفاصيلها‪ ،‬ثم‬
‫تقع كما أخبر دون وحي من الخالق الباري ُسبحانه؟!‬
‫وتبقى هذه األخبار التي تحّدث عنها ﷺ صامدة أمام الِع لم واالختراعات واالكتشافات‪ ،‬بل ال‬
‫يزيدها العلم إاّل قوة‪ ،‬وال تزيدها االكتشافات إال تأكيًدا وتأييًدا‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬سُنِر يِه ْم آَياِتَنا ِفي اآلَفاِق‬
‫َو ِفي َأْنُفِس ِه ْم َح َّتى َيَتَبَّيَن َلُهْم َأَّنُه اْلَح ُّق َأَو َلْم َيْك ِف ِبَر ِّبَك َأَّنُه َعَلى ُكِّل َشْي ٍء َشِه يٌد} [فصلت‪ :‬اآلية ‪.]53‬‬
‫وإن لم يكن نبًّيا صادًقا ُم رساًل من عند هللا فكيف له أن ُيجازف بدعوته ويتنّبأ بأمور غيبّية‬
‫من الممكن أاّل تقع فُيفضح أمره؟! بل كان ﷺ يصف بعض المشاهد الغيبية واألخبار الُم ستقبلية وكأّنه‬
‫يراها رأي العين بأدق تفاصيلها‪ ،‬وأشمل أوصافها‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫إخباره ابستشهاد ُعمر وُعثمان }‪:‬‬
‫جاء في الحديث الّص حيح لّم ا صعد ﷺ جبل ُأحد‪ ،‬ومعه أبو بكر وُعمر وعثمان (رضي هللا‬
‫عنهم)‪ ،‬فاهتّز الجبل‪ ،‬فقال‪« :‬اْس ُكْن ُأُح ُد! فليَس َعَلْيَك إاّل َنِبٌّي ‪ ،‬وِص ِّديٌق ‪ ،‬وَشِه يداِن » [رواه‬
‫البخاري]‪ ،‬فالصّديق أبو بكر‪ ،‬والشهيدان ُعمر وُعثمان‪ ،‬وثبت كذلك أّنه ﷺ أخبر أصحابه بفتح خيبر‬
‫على َيدي علّي (رضي هللا عنه)‪ ،‬وأخبر ﷺ أّن الحسن ِس ْبطه «سيٌد» ُيصلح هللا به بين فئتين‬
‫عظيمتين من المسلمين‪ ،‬وقد وقع هذا‪ ،‬وأخبر ﷺ أّن الخالفة بعده ثالثون سنة‪ ،‬ووقع ما أخبر به‪،‬‬
‫وهذه األحاديث كلها صحيحة‪.‬‬
‫فتح مّك ة وانتشار اإلسالم‪:‬‬
‫في شّدة األزمة ومعه ﷺ ثّلة من الُم ستضعفين في مكة أخبر أّن هللا تعالى سوف يفتح عليه‬
‫وينصره وينشر دينه في األرض‪ ،‬فحينما شكا له خّباب بن اَألَر ِّت (رضي هللا عنه) ما لقي هو‬
‫وإخوُته الّص حابة من أذى الُم شركين‪ ،‬قال له ﷺ بكل ثقة وطمأنينة وثبات وهو متوّسٌد ُبردًة له في‬
‫ظل الكعبة‪« :‬وهللا َلَيِتَّم َّن هذا األْم ُر ‪ ،‬حّتى َيِسيَر الّر اِك ُب ِم ن َص ْنعاَء إلى َح ْض َر َمْو َت ‪ ،‬ال َيخاُف إاّل هللا‪،‬‬
‫والِّذ ْئَب على َغَنِم ِه ‪ ،‬وَلِك َّنُكْم َتْس َتْعِج ُلوَن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وأشهد أّن هذا وقع كما أخبر ﷺ وشهد على ذلك الماليين‪ ،‬فمع الّتضييق الّشديد ومحاربة‬
‫الُم شركين له أّو ل فجر الّدعوة‪ ،‬يقول ﷺ‪« :‬إَّن هللا زَو ى لي األرَض فرأيُت مشارَقها ومغارَبها‪ ،‬وإَّن‬
‫أَّم تي سيبلُغ ُم لُكها ما ُز ِو ي لي منها‪ ،‬وُأعطيُت الَكنَز ْين‪ :‬األحمَر واألبيَض » [رواه ُم سلم]‪ ،‬فَو الذي‬
‫نفسي بيده! قد سافرُت إلى شرق الّص ين وغرب أوروبا‪ ،‬وإذا أتباعه وأحبابه بمئات الماليين‪ ،‬وقد‬
‫عّم دينه الكرة األرضّية بأسرها‪.‬‬
‫فتح جزيرة العرب مث فارس مث الروم‪:‬‬
‫أخبر ﷺ أصحابه بذلك فقال‪َ« :‬تْغُز وَن َج ِز يَر َة الَعَر ِب َفَيْفَتُحَه ا هللا‪ُ ،‬ثَّم َفاِر َس َفَيْفَتُحَه ا هللا‪ُ ،‬ثَّم‬
‫َتْغُز وَن الُّر وَم َفَيْفَتُحَه ا هللا» [رواه ُم سلم]‪ .‬وقد تّم ذلك‪ ،‬وُفتحت هذه البالد ودخلها الّص حابة ومن جاء‬
‫بعدهم‪ ،‬وقامت بها حضارة إسالمّية شهد بها العالم‪.‬‬
‫هالك كسرى وال كسرى بعده‪ ،‬وهالك قيصر وال قيصر بعده‪:‬‬
‫قال ﷺ كما جاء في «الصحيحين»‪« :‬إَذا َهَلَك ِكْس َر ى فال ِكْس َر ى َبْعَد ُه‪ ،‬وإَذا َهَلَك َقْيَص ُر فال‬
‫َقْيَص ُر َبْعَد ُه‪ ،‬والذي َنْفُس ُم َح َّم ٍد بَيِدِه ‪َ ،‬لُتْنِفُقَّن ُكُنوَز ُهما في َسبيِل هللا»‪ ،‬فانظر إلى هذا الجزم والحسم‬
‫منه ﷺ في إخباره عما سوف يقع ُم ستقباًل ‪ ،‬وانظر إلى تحّققه بالفعل‪ ،‬فلم يأت بعد كسرى غيره‪ ،‬ولم‬
‫يأت بعد قيصر غيره‪ ،‬حتى يومنا هذا‪.‬‬
‫فتح مصر‪:‬‬
‫بكل يقين وبلغة الواثق مّم ا يقول؛ أخبر ﷺ بفتح مصر‪ ،‬وهذا ما وقع مباشرة‪ ،‬فعن أبي ذٍّر‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إَّنُكْم َسَتْفَتُح وَن ِم ْص َر وهي أْر ٌض ُيَسَّم ى فيها الِقيراُط‪،‬‬
‫فإذا َفَتْح ُتُم وها فأْح ِس ُنوا إلى أْه ِلها‪ ،‬فإَّن لهْم ِذ َّم ًة وَر ِح ًم ا‪ ،‬أْو قاَل ِذ َّم ًة وِص ْه ًر ا» [رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫فقل لي باهلل عليك‪ :‬أّي طريقة ُأْخ ِبر بها ﷺ عن عالم الغيب المستقبلي إن لم يكن عن طريق‬
‫الوحي الُم نّز ل عليه؟!‬
‫قوله يف (ُقزمان)‪ :‬أّنه من أهل النار‪:‬‬
‫في الحديث الُم تفق عليه أن رجاًل اسمه‪ُ :‬قْز ماَن ‪ ،‬كان ُيقاتل ببسالة مع الّص حابة (رضي هللا‬
‫عنهم)‪ ،‬فأخبروا الّنبَّي بذلك معجبين به‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إّنه من أهل الّنار»‪ ،‬فتابعوه فوجدوه بعدما ُج رح‬
‫جرًح ا شديًدا لم يصبر وقتل نفسه بالّسيف‪ ،‬وهذا اإلخبار منه ﷺ قاله في يوم واحد ومشهد واحد شهد‬
‫على صدقه مئات الّص حابة‪.‬‬
‫بل كان ﷺ ُيخبر أصحابه بمصارع المشركين قبل موتهم‪ ،‬فقال ‪ -‬كما رواه مسلم‪« :-‬هذا‬
‫مصرع فالن»‪ ،‬ووضع يده على األرض‪ ،‬ثم قال‪« :‬هذا مصرع فالن»‪ ،‬ووضع يده عليها‪ ،‬وذكرهم‬
‫واحًدا واحًدا مشيًر ا إلى مصارعهم‪ ،‬فُص رعوا كما أخبر‪ ،‬ولم يتجاوز أحد منهم موضعه الذي أشار‬
‫إليه الّنبي ﷺ‪.‬‬
‫انتصار الروم على الُفرس‪:‬‬
‫ومن أخباره ﷺ الجازمة من الغيبيات الاّل حقة‪ :‬إخباره بأن الّر وم سينتصرون على الُفرس‪،‬‬
‫كما جاء في الوحي الُم قّدس الُم نّز ل عليه‪ ،‬قال تعالى‪ُ{ :‬غِلَبِت الُّر وُم * ِفي َأْدَنى اَألْر ِض َو ُهْم ِم ْن َبْعِد‬
‫َغَلِبِه ْم َسَيْغِلُبوَن * ِفي ِبْض ِع ِسِنيَن } [الروم‪ :‬اآلية ‪ ،]4 -2‬وقال تعالى‪َ{ :‬و ْع َد ِهَّللا َال ُيْخ ِلُف ُهَّللا َو ْع َدُه‬
‫َو َلِك َّن َأْكَثَر الَّناِس َال َيْعَلُم وَن } [الروم‪ :‬اآلية ‪ ،]6‬وقد سّج ل الّتاريخ هذه الحقيقة التي وقعت‪ ،‬وشهد‬
‫عليها الجميع‪.‬‬
‫إخباره ﷺ أبّن فاطمة (رضي هللا عنها) أّول أهله حلوًقا به بعد وفاته‪:‬‬
‫قال ﷺ لفاطمة (رضي هللا عنها)‪َ« :‬و ِإَّنِك َأَّو ُل َأْه ِلي ُلُح وًقا ِبي‪َ ،‬و ِنْعَم الَّسَلُف َأَنا َلِك » [ُم ّتفق‬
‫عليه]‪ ،‬وبعد وفاته بستة أشهر لحقته‪ ،‬وكانت األولى من أهل بيته جميًعا‪ ،‬كما أخبر عليه الّص الة‬
‫والّسالم‪ ،‬وهذا من دالئل نبّو ته الباهرة الّظاهرة‪.‬‬
‫حُم مد ﷺ هو خامت األنبياء واُملرسلني‪:‬‬
‫ومن أدلة نبّو ته الّساطعة ما أخبر به ﷺ من أّنه ال نبّي بعده‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬م ا َكاَن ُمَحَّم ٌد‬
‫َأَبا َأَح ٍد ِم ْن ِر َج اِلُكْم َو َلِك ْن َر ُسوَل ِهَّللا َو َخاَتَم الَّنِبِّييَن } [األحزاب‪ :‬اآلية ‪ ،]40‬وقال ﷺ‪« :‬وأنا خاَتُم‬
‫النبِّييَن » [متفق عليه]‪ ،‬واآلن وبعد ألٍف وأربِع مئة عاٍم لم يخرج نبّي بعده ﷺ‪ ،‬وإّنما خرج أدعياء‬
‫كّذابون مزورون هلكوا بعدما هتك هللا أستارهم‪ ،‬وفضح أسرارهم كما قال ﷺ في [الّص حيحين]‪« :‬ال‬
‫َتُقوُم الَّساَعُة حَّتى ُيْبَعَث َد َّج اُلوَن َكّذاُبوَن ‪َ ،‬قِر يًبا ِم ن َثالِثيَن ‪ُ ،‬كُّلُه ْم َيْز ُعُم أَّنه َر سوُل هللا»‪.‬‬
‫وهناك المئات من األخبار الغيبية الُم ستقبلية التي أخبر بها ﷺ ووقعت كفلق الّص بح وشهد‬
‫بوقوعها العالم‪ ،‬وُنقلت إلينا بأسانيد ثابتة واضحة ال يعتريها أي شك أو شبهة‪ ،‬وما ذلك إاّل ألّنه نبّي‬
‫ُم وحى إليه من عند هللا‪ ،‬كما قال تعالى عنه‪َ{ :‬و َم ا َيْنِط ُق َعِن اْلَهَو ى * ِإْن ُهَو ِإَّال َو ْح ٌي ُيوَح ى}‬
‫[النجم‪ :‬اآلية ‪.]4 -3‬‬
‫رسولنا ﷺ يتيم؛ لكّن المليارات صاروا من عياله وأتباعه‪.‬‬
‫أمّي ؛ لكن ال يخلو من علمه كتاب‪ ،‬وال يخلو من ذكره محراب‪.‬‬
‫خرج من مكة وهو شريد طريد؛ ولكن جيوشه مألت البيد‪ ،‬ودولته طبقت األرض من الّسند‬
‫إلى مدريد‪.‬‬
‫زاهد فقير؛ ولكن ببركة بعثته ُفتحت له الخزائن والقناطير‪ .‬عاش في بيت من طين‪ ،‬وأذعن‬
‫له الملوك والسالطين‪.‬‬
‫وإذا كان نوح عليه السالم حمل أتباعه في سفينة الّنجاة‪ ،‬فرسولنا ﷺ أركب أتباعه سفينة‬
‫الحياة‪ ،‬وإذا كان هللا أطفأ الّنار للخليل بـ (حسبنا هللا ونعم الوكيل)‪ ،‬فإّن هللا أطفأ بمبعث رسولنا ﷺ‬
‫نار الوثنّية‪ ،‬وأخمد به سعير الجاهلّية‪.‬‬
‫وإذا كان موسى عليه الّسالم ُبعث بالعصا َتْلقُف ما يأفكون‪ ،‬فإّن رسولنا ﷺ ُبعث بوحي يدمغ‬
‫ما يفترون‪.‬‬
‫وإذا كان عيسى عليه السالم أحيا بإذن هللا األموات‪ ،‬فرسولنا ﷺ أحيا أّم ة من الّشتات‪ ،‬وبعث‬
‫جياًل من الّر فات‪.‬‬
‫هللا يشهد والربّيُة تشهُد‬
‫أّن املتّوج ابلّنبوِة أمحُد‬
‫الّصخر أنطقه اإلله بصدقه‬
‫واجلذع حّن له وضّج املسجُد‬
‫بشـرى لنا أاّن اتبعنا هنجه‬
‫ٍم‬
‫فكأّننا يف كل يو ُنولُد‬
‫أنفاُس ه عطٌر ودُّر حديثه‬
‫أرواُح نا فيه هتيُم وتسعُد‬
‫عبٌد إماٌم مرسٌل متبّتٌل‬
‫شهٌم كرٌمي موقٌن وموّح ُد‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَوِّح ًد ا‬
‫كان الّناُس قبل مبعثه ﷺ في شركهم يترّددون‪ ،‬وعلى أوثانهم يعكفون‪ ،‬وألصنامهم يسجدون‪،‬‬
‫فمنهم َم ن يعبد البشر‪ ،‬ومنهم َم ن يتبّر ك بالحجر‪ ،‬ومنهم َم ن يلوذ بالّشجر‪ ،‬يزعمون أّنها ُتقّر بهم إلى‬
‫هللا زلفى‪ ،‬يأتون إلى الحجارة البكماء الّص ماء‪ ،‬وإلى الّص خور الجامدة الهامدة‪ ،‬فيتضّر عون إليها‪،‬‬
‫ويَتوّسلون بها‪ ،‬وَيطوفون حولها‪ ،‬وَيستجيرون بها‪ ،‬وَينطرحون على أعتابها‪ ،‬وَيسألونها أن ُتوصل‬
‫حوائجهم إلى عالم الّسر وأخفى‪.‬‬
‫فمنهم َم ن يشكو إليها فقره‪ ،‬ومنهم َم ن يعرض عليها حاجته‪ ،‬ومنهم َم ن يطلب منها الّشفاء أو‬
‫الّذرية أو الّر زق أو الّنصر‪ ،‬وال ُينادون َم ْن يعلم ما في الّضمائر‪ ،‬ويّطلع على ما في الّسرائر‪،‬‬
‫ُسبحانه!‪.‬‬
‫ويا للسخرية! ويا للمهزلة! تجد منهم َم ن يصنع إلًه ا من تمٍر ثم يسجد له‪ ،‬فإذا جاع أكله‪،‬‬
‫وآخر يطوف بجذع شجرة ثم يتوّسدها وينام عليها‪ ،‬ومنهم َم ن يعبد حجًر ا فيأتي إليه في آخر الّليل‬
‫ليشكو إليه حاله‪ ،‬ويرفع إليه مسألته‪ ،‬ثم يجد الكالب والّثعالب قد بالت عليه فيسجد له ويعبده من دون‬
‫هللا‪.‬‬
‫وهذا كّله ألّن الِفَطر محجوبة‪ ،‬والعقول مسلوبة‪ ،‬والبصائر منهوبة‪ ،‬حتى أشرق نور هذا‬
‫الّنبّي الكريم ﷺ بتعاليم رسالة رّب العالمين‪ ،‬فُبعث بالوحدانية‪ ،‬ونادى بال إله إال هللا‪ ،‬ومعناها ال‬
‫معبود بحق إاّل هللا‪.‬‬
‫فحَّقق ﷺ الّتوحيد بقوله وفعله وحاله‪ ،‬وحرص كل الحرص على غرس شجرة الّتوحيد في‬
‫الّنفوس‪ ،‬وتصحيح العقيدة وتقرير أصولها للّناس‪ ،‬وتحرير العبادة والّطاعة هلل وحده ال شريك له‪،‬‬
‫ونبذ الّشرك بكافة أشكاله وأنواعه‪ ،‬وكذلك البدع والخرافات والمعتقدات الفاسدة‪ ،‬فكان الّتوحيد‬
‫شعاره ودثاره‪ ،‬كما أمره رّبه ُسبحانه وتعالى‪ُ{ :‬قْل ِإَّن َص َالِتي َو ُنُسِك ي َو َم ْح َياَي َو َمَم اِتي ِهَّلِل َر ِّب‬
‫اْلَعاَلِم يَن * َال َشِر يَك َلُه َو ِبَذِلَك ُأِم ْر ُت َو َأَنا َأَّو ُل اْلُم ْسِلِم يَن } [األنعام‪ :‬اآلية ‪.]163 - 162‬‬
‫وقد أخبر ﷺ أّن أساس سعادة اإلنسان ونجاحه وفالحه في الّدنيا واآلخرة قائم على التوحيد‪،‬‬
‫فبه تتحّقق العبودّية الكاملة هلل الواحد األحد‪ ،‬الذي خلقه وأوجده من أجلها‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َخ َلْقُت‬
‫اْلِج َّن َو اِإل ْنَس ِإَّال ِلَيْعُبُدوِن } [الذاريات‪ :‬اآلية ‪ ،]56‬وجاء اختالف الّليل والّنهار‪ ،‬وخلق الّسماوات‬
‫واألرض‪ ،‬وتنوع المخلوقات وأصناف الّنبات والجماد والحيوان‪ ،‬وإتقان خلقها‪ ،‬وإبداع ُص نعها‪،‬‬
‫وإحكام صورها‪ ،‬ليُدّل على أّن الخالق واحد سبحانه ال شريك له‪ ،‬قال تعالى‪ُ{ :‬هَّللا َخ اِلُق ُكِّل َشْي ٍء‬
‫َو ُهَو َعَلى ُكِّل َشْي ٍء َو ِك يٌل } [الزمر‪ :‬اآلية ‪.]62‬‬
‫وصالح حركة الكون‪ ،‬وروعة انسجامه‪ ،‬ودّقة انتظامه تدل على أّن إله الكون واحد جّل في‬
‫ُعاله‪ ،‬قال ُسبحانه‪َ{ :‬لْو َكاَن ِفيِهَم ا آِلَه ٌة ِإَّال ُهَّللا َلَفَسَدَتا َفُسْبَح اَن ِهَّللا َر ِّب اْلَعْر ِش َعَّم ا َيِص ُفوَن }‬
‫[األنبياء‪ :‬اآلية ‪.]22‬‬
‫سبحانه الُم تفّر د بالعبودية‪ ،‬واأللوهّية‪ ،‬والجمال‪ ،‬والكمال‪ ،‬والجالل‪ ،‬خلق الخلق ليعبدوه‪،‬‬
‫وأوجد اإلنس والجّن ليوّح دوه‪ ،‬وأنشأ البرّية لُيطيعوه‪.‬‬
‫من أطاعه فاز برضوانه‪ ،‬ومن أحّبه نال ُقربه‪ ،‬ومن عصاه أّدبه‪ ،‬ومن حاربه أهلكه‪ ،‬يذكر‬
‫من ذكره‪ ،‬ويزيد من شكره‪ ،‬له الُح كم وإليه ُترجعون‪.‬‬
‫وتتلخص حقيقة الّتوحيد في إفراد هللا تعالى بالعبادة‪ ،‬وإخالص القصد له وحده‪ ،‬قال سبحانه‬
‫وتعالى‪َ{ :‬و ِإَلُه ُكْم ِإَلٌه َو اِح ٌد َال ِإَلَه ِإَّال ُهَو الَّر ْح َم اُن الَّر ِح يُم } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]163‬‬
‫وُم همة جميع األنبياء عليهم الّص الة والّسالم ورسالتهم األولى هي‪« :‬الّدعوة إلى توحيد‬
‫الباري سبحانه»؛ ألّنه أشرف عمل‪ ،‬وأعظم ُم هّم ة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُكِّل ُأَّم ٍة َر ُسوًال‬
‫َأِن اْعُبُدوا َهَّللا َو اْج َتِنُبوا الَّطاُغوَت َفِم ْنُهْم َم ْن َهَدى ُهَّللا َو ِم ْنُهْم َم ْن َح َّقْت َعَلْيِه الَّض َالَلُة} [النحل‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]36‬وقال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَنا ِم ْن َقْبِلَك ِم ْن َر ُسوٍل ِإَّال ُنوِح ي ِإَلْيِه َأَّنُه َال ِإَلَه ِإَّال َأَنا َفاْعُبُدوِن }‬
‫[األنبياء‪ :‬اآلية ‪.]25‬‬
‫وقد نادى ﷺ نداء مسموًعا‪ ،‬وأعلن إعالًنا عاًم ا على الّص فا حضره قرابته وبطون قريش‪،‬‬
‫كما جاء في الّص حيحين عن أبي هريرة (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال‪« :‬قاَم َر سوُل هللا ﷺ ِح يَن َأْنَز َل هللا عَّز‬
‫وجَّل ‪َ{ :‬و َأْنِذ ْر َعِشيَر َتَك اَألْقَر ِبيَن } [الشعراء‪ :‬اآلية ‪ ،]214‬فقاَل ‪« :‬يا َم ْعَشَر ُقَر ْيٍش ! اْش َتُر وا‬
‫َأْنُفَسُكْم ‪ ،‬ال ُأْغ ِني َعْنُكْم ِم َن هللا شيًئا‪ ،‬يا َبِني عبِد َم ناٍف ال ُأْغ ِني َعْنُكْم ِم َن هللا شيًئا‪ ،‬يا َعّباُس بَن‬
‫عبِدالُم َّطِلِب ال ُأْغ ِني َعْنَك ِم َن هللا شيًئا‪ ،‬ويا َصِفَّيُة َعَّم َة َر سوِل هللا ال ُأْغ ِني َعْنِك ِم َن هللا شيًئا‪ ،‬ويا‬
‫فاِط َم ُة بْنَت ُم َح َّم ٍد َسِليِني ما ِش ْئِت ِم ن ماِلّي ال ُأْغ ِني َعْنِك ِم َن هللا شيًئا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وهذا قوله ﷺ البنته فاطمة (رضي هللا عنها)‪ ،‬وهي سّيدة نساء العالمين‪ ،‬أي أّنه ال يشفع في‬
‫غير الموحدين مهما كانت قرابته منه‪ ،‬حّتى لو كانت ابنته فاطمة الّز هراء‪ ،‬والتي هي بضعة منه‪،‬‬
‫بأبي هو وأمي ﷺ‪.‬‬
‫فبدأ ﷺ دعوته بالّتوحيد أواًل ‪ ،‬وكان لّب رسالته وجوهرها هو‪ :‬توحيد الباري عّز وجل‪.‬‬
‫ومكث في مكة َثاَل َث َعْش َر َة َسَنًة يدعو إلى‪« :‬ال إله ِإاّل هللا»‪ ،‬ينادي بها ِس ٍّر ا وجهًر ا‪ ،‬لياًل ونهاًر ا‪،‬‬
‫يكررها في الَّنوادي واألسواق ومجامع الّناس‪ ،‬يهتف بها في الجموع‪ ،‬يعرضها للكبير والّص غير‪،‬‬
‫والحاضر والبادي‪ ،‬فـ «ال إله ِإاّل هللا» تجري مع أنفاسه ﷺ‪ ،‬وتسافر في دمه‪ ،‬وتنبض مع دقات قلبه‪،‬‬
‫كانت «ال إله ِإاّل هللا» رسالته الواضحة الّناصعة الّص ريحة‪ ،‬والتي يلخصها في قوله‪« :‬يا أُّيها‬
‫الّناُس ‪ُ ،‬قولوا‪:‬اَل إلَه إاّل ُهللا؛ ُتفِلحوا»‪.‬‬
‫ولك أن تسافر مع كلمة «تفلحوا» فهو الفالح والّنجاح‪ ،‬والفوز العظيم في الّدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫قال تعالى‪َ{ :‬فاْع َلْم َأَّنُه َال ِإَلَه ِإَّال ُهَّللا َو اْس َتْغِفْر ِلَذْنِبَك َو ِلْلُم ْؤ ِم ِنيَن َو اْلُم ْؤ ِم َناِت} [محمد‪ :‬اآلية ‪ ،]19‬فلم‬
‫يبدأ ﷺ دعوته بالعبادات في مكة المكرمة‪ ،‬وإنما بدأها بعقيدة التوحيد‪ ،‬فدعا إلى توحيد الباري أن «ال‬
‫إله إاّل هللا»‪ ،‬وأن ال معبود بحق إاّل هللا‪ ،‬وكل تلك العبادات جاء األمر بها الحًقا بعد دعوة الّتوحيد‪،‬‬
‫في الفترة المدنّية‪ ،‬حيث شملت تشريع تفاصيل العبادات‪ ،‬وتثبيت أصول العقيدة وحمايتها والحفاظ‬
‫عليها من الّشبهات‪ ،‬والخرافات‪ ،‬والبدع‪ ،‬والّشركيات‪ ،‬والجهاد في سبيلها‪ ،‬والّتصدي ألهل الباطل‬
‫وأصحاب المعتقدات الفاسدة والمحّر فة‪ ،‬والّر د على شبهاتهم‪ ،‬وهذا كّله حماية لعقيدة الّتوحيد‪.‬‬
‫مكث ﷺ يعيد مسألة الّتوحيد ويبّسطها ويشرحها للّناس حتى لقي رّبه‪ .‬فبداية دعوته «ال إله‬
‫إاّل هللا»‪ ،‬وآخر كلمة نطق بها في سكرات الموت‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬وقد دعا رسول هللا ﷺ إلى توحيد‬
‫الّر بوبية‪ ،‬وتوحيد األلوهية‪ ،‬وتوحيد األسماء والصفات‪ ،‬فاهلل واحٌد في ربوبيته‪ ،‬واحد في ألوهيته‪،‬‬
‫واحد في أسمائه وصفاته‪ ،‬وكان أكثر ما دعا إليه ﷺ توحيد األلوهية؛ ألّن المشـركين أنكروه‪ ،‬وكانت‬
‫الخصومة بين األنبياء وأممهم في توحيد األلوهية‪.‬‬
‫ورّسخ ﷺ قاعدة عامة هامة لجميع الّدعاة‪ ،‬وهي جعل الّتوحيد أّو ل مقاصد الّدعوة إلى‬
‫اإلسالم‪ ،‬وأجّل أهدافها‪ ،‬وركيزتها الُكبرى‪ ،‬وأساس منهجها‪ ،‬فأّي دعوة ال ُتولي أمر العقيدة من‬
‫االهتمام كما أوالها رسول هللا ﷺ قواًل وفعاًل فهي ناقصة‪ ،‬فعن عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‬
‫قال‪ :‬لَّم ا بَعَث النبُّي ﷺ معاَذ بَن جبٍل (رضي هللا عنه) إلى نحِو أهِل اليمِن ‪ ،‬قال له‪« :‬إّنك َتْقَد ُم على‬
‫قوٍم ِم ن أهِل الكتاِب‪ ،‬فْلَيُكْن أّو َل ما تدعوهم إلى أن ُيَو ِّح دوا َهللا تعالى» [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫وكانت عباراته ﷺ‪ ،‬وكلماته‪ ،‬ودمعاته‪ ،‬وأنفاسه‪ ،‬وزفراته‪ ،‬توحيًدا لرّبه‪ ،‬بل كان قيامه‬
‫وقعوده‪ ،‬وحركاته وسكناته‪ ،‬توحيًدا لرّبه‪ ،‬وإفراًدا لخالقه بالعبودّية‪ ،‬وتجريًدا لمواله بالوحدانّية‬
‫والّص مدانّية‪ .‬وكان يبني عليه الّص الة والّسالم جهاده‪ ،‬وخطبه‪ ،‬ومواعظه‪ ،‬وفتواه‪ ،‬على أساس‬
‫الّتوحيد الذي هو أصل األصول‪ ،‬وسلم الوصول‪ ،‬وتاج القبول‪.‬‬
‫وكان يحمي ﷺ جناب الّتوحيد في األلفاظ واألفعال‪ ،‬فعن عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‬
‫قال‪ :‬سِم ع رسوُل هللا ﷺ رجاًل يقوُل‪ :‬ما َشاء ُهللا وِش ئَت ‪ ،‬قال‪« :‬أجعلَتني هلل َعْدل‪ُ ،‬قْل ‪ :‬ما شاء ُهللا‬
‫وحَده» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫حتى في األلفاظ حمى ﷺ جناب الّتوحيد‪ ،‬وأفرد هللا وحده جّل في عاله‪ ،‬ومنع الّتشريك حتى‬
‫في اللفظ‪.‬‬
‫وجاء في «سنن أبي داود»‪ ،‬أن رجاًل قال له‪« :‬إّنا نستشفُع بك على هللا‪ ،‬ونستشفُع باهلل‬
‫عليك!‪ ،‬فقال رسوُل هللا ﷺ‪« :‬ويحك! أتدري ما تقوُل !؟»‪ ،‬وسَّبح رسوُل هللا ﷺ‪ ،‬فما زال ُيسِّبُح حتى‬
‫عرف ذلك في وجوه أصحاِبه‪ ،‬ثم قال‪« :‬ويحك! إّنه ال يستشفُع باهلل على أحٍد من خلِقه‪ ،‬شأُن هللا‬
‫أعظُم من ذلك»‪.‬‬
‫فمن تعظيم هللا وتوحيده وتقديسه وتسبيحه سبحانه وتعالى أن ُيَم َّج د جّل في عاله‪ ،‬وأن يعَّظم‪،‬‬
‫وهذا سّر الّتوحيد‪ .‬وقال ﷺ‪« :‬اْج َتِنُبوا الَّسْبَع الُم وِبقاِت»‪ .‬قالوا‪ :‬يا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬و ما ُهَّن ؟‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫«الِّش ْر ُك باهلل‪ ،‬والِّسْح ُر ‪ ،‬وَقْتُل الَّنْفِس اَّلتي َح َّر َم هللا إاَّل بالَح ِّق ‪ ،‬وَأْك ُل ماِل الَيِتيِم وَأْك ُل الِّر با‪ ،‬والَّتَو ِّلي‬
‫َيوَم الَّز ْح ِف ‪ ،‬وَقْذُف الُم ْح ِص ناِت الُم ْؤ ِم ناِت الغاِفالِت» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فأعظم ذنب وأكبر خطيئة هو الّشرك به سبحانه وتعالى؛ ولذلك يأتي في أّو ل المحرمات‬
‫والمنهيات‪.‬‬
‫اقطع حبال العاملني مجيعهم‬
‫يكفيك حبل هللا جّل جالُله‬
‫فاخللق أموات وهل ُيرجى العطا‬
‫من مّيت قد ُمّزقت أمساُله؟‬
‫وعن عقبة بن عامر (رضي هللا عنه)‪ ،‬أّن الّنبّي ﷺ قال‪َ« :‬م ن عَّلق تميمًة فال أَتَّم ُهللا له‪،‬‬
‫وَم ن عَّلق َو َدعًة فال وَدع ُهللا له» [رواه ابن حّبان]‪ .‬فانظر كيف اشتق ﷺ من كل اسم ما يناسبه؛‬
‫ألّن َم ن عّلق َتميمة يريد أن يتّم م أمره‪ ،‬فدعا عليه ﷺ بعدم الّتمام‪ ،‬ومن عّلق ودعة يريد بها الحرز‬
‫والحفظ‪ ،‬فدعا عليه ﷺ بأن ال يتركه هللا في سكوٍن أو راحٍة‪.‬‬
‫وعن أبي بشير األنصاري(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّنُه كاَن مع َر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬في َبْعِض أْس فاِر ِه ‪،‬‬
‫فأْر َسَل َر سوُل هللا ﷺ َر سواًل ‪ :‬أْن ال َيْبَقَيَّن في َر َقَبِة َبِع يٍر ِقالَد ٌة ِم ن وَتٍر ‪ ،‬أْو ِقالَد ٌة إاّل ُقِط َعْت » [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫فانظر كيف حرص ﷺ حتى فيما ُيعلق على البهائم والّدواب أاّل يكون فيها شيء يصرف‬
‫اإلنسان عن عبادة رّبه سبحانه وتعالى وعن توحيده‪.‬‬
‫وعن زيد بن خالد الجهني (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬خ َر ْج َنا مع َر سوِل هللا ﷺ َعاَم الُح َد ْيِبَيِة ‪،‬‬
‫فأَص اَبَنا َم َطٌر َذاَت َلْيَلٍة‪َ ،‬فَص َّلى َلَنا َر سوُل هللا ﷺ الُّصْبَح‪ُ ،‬ثَّم أْقَبَل َعَلْيَنا‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬أَتْد ُر وَن َم اَذا قاَل‬
‫َر ُّبُكْم ؟‪ُ .‬قْلَنا‪ :‬هللا وَر سوُلُه أْع َلُم ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬قاَل هللا‪ :‬أْصَبَح ِم ن ِعَباِدي ُم ْؤ ِم ٌن بي وَكاِفٌر بي‪ ،‬فأَّم ا َم ن قاَل ‪:‬‬
‫ُم ِط ْر َنا بَر ْح َم ِة هللا وِبِر ْز ِق هللا وِبَفْض ِل هللا‪َ ،‬فهو ُم ْؤ ِم ٌن بي‪َ ،‬كاِفٌر بالَكْو َكِب‪ ،‬وَأَّم ا َم ن قاَل ‪ُ :‬م ِط ْر َنا‬
‫بَنْج ِم َكَذا‪َ ،‬فهو ُم ْؤ ِم ٌن بالَكْو َكِب َكاِفٌر بي» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فجعل ﷺ من توحيد هللا إخضاع نواميس الكون لخالقها وُم دّبرها سبحانه‪ ،‬فال تتحرك إاّل‬
‫بأمره وإذنه‪ ،‬وليس لها تصريف‪ ،‬وال قدرة في الخليقة‪.‬‬
‫وفي حديث أبي واقد الّليثي (رضي هللا عنه) أَّن رسوَل هللا ﷺ لّم ا خَر َج إلى ُح نيٍن مَّر‬
‫للمشركيَن ُيقاُل لها‪ :‬ذاُت َأْنواٍط ‪ ،‬يعِّلقوَن عليها أسِلحَتهم‪ .‬فقالوا‪ :‬يا رسوَل هللا‪ ،‬اجَعْل لنا ذاَت‬
‫بشَج رٍة‬
‫َأْنواٍط ‪،‬‬
‫كما لهم ذاُت َأْنواٍط ‪ .‬فقال الّنبُّي ﷺ‪ُ« :‬سْبحاَن هللا! هذا كما قال قوُم موسى‪{ :‬اْج َعْل َلَنا ِإَلًه ا َكَم ا َلُهْم‬
‫آِلَه ٌة} [األعراف‪ :‬اآلية ‪ ،]139‬والذي َنْفسي بَيِده‪ ،‬لترَكُبَّن ُسَّنَة َم ن كان قبَلكم» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وفي هذا نهيه ﷺ عن الّتشّبه بأعداء هللا‪ ،‬والتعّلق بغير هللا‪ ،‬من حجر أو شجر أو إنسان‪ ،‬وفيها‬
‫أّن مشابهة أعداء هللا في أفعالهم قد تجّر إلى مشابهتهم في معتقداتهم‪ .‬وقال ﷺ‪َ« :‬م ن أتى َعّر اًفا‬
‫َفَسَأَلُه عن شيٍء ؛ َلْم ُتْقَبْل له َص الٌة أْر َبِع يَن َلْيَلًة» [رواه مسلم]‪ ،‬وإّنما عوقب بعدم القبول؛ ألّنه قدح‬
‫في توحيده وإخالصه‪ ،‬فتعّطل قبول عمله وجازاه هللا بّر د صالته أربعين ليلة‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬من أتى عّر اًفا أو كاهًنا‪ ،‬فصَّدقه بما‬
‫يقوُل ؛ فقد كفر بما ُأنِز ل على محَّم ٍد» [رواه أبو داود]؛ ألّن رسول هللا ﷺ أتى بتوحيد خالص يخالف‬
‫ويضاّد ما يأتي به العّر اف والكاهن‪ ،‬فمن صّدقهم فقد كّذب رسالة الّنبّي ﷺ‪.‬‬
‫وفي حديِث ابن مسعوٍد (رضي هللا عنه) قال‪« :‬قال الّنبّي ﷺ‪ :‬من ماَت وهو يدُعو من دون‬
‫هللا ِنًّدا دخَل الناَر » [رواه البخاري ومسلم]‪ ،‬خالًدا ُم خّلًدا فيها؛ ألّنه ُم شرك‪ ،‬والمشرك ال يدخل الجنة‬
‫أبًدا‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬الَّلهَّم ال تجَعْل قبَر ي َبعدي وَثًنا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فإذا كان عليه الّص الة والّسالم يدعو إلى عدم التعّلق بقبره أو جعله وثًنا ُيعبد من دون هللا‪،‬‬
‫فكيف بقبر غيره مّم ن اتخذهم الجهلة والّضالل والقبوريون أولياَء ُيْدَعون من دون هللا لطلب‬
‫الحاجات وتفريج الكربات؟‬
‫وعن عائشة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) قالت‪ :‬قاَل الّنبُّي ﷺ في َمَر ِض موته‪َ« :‬لَعَن هللا‬
‫الَيُه وَد والَّنصارى ِاَّتَخ ُذوا ُقُبوَر أْنِبياِئِه ْم َم ساِج َد» [متفق عليه]‪ ،‬ففي هذه الساعة الحرجة والّلحظة‬
‫الخطيرة من حياته ﷺ وهو في سكرات الموت ُيحّذر أمته من اتخاذ قبره مسجًدا أو الّتعّلق بقبره بعد‬
‫موته‪ ،‬فهو بشٌر ال يملك ضًر ا وال نفًعا‪ ،‬وإّنما كان رسو معصوًم ا ُم رساًل من عند هللا‪ .‬قال َعلٌّي‬
‫(رضي هللا عنه)ألبي الهَّياِج األَسدِّي‪« :‬أاَل َأْبَعُثَك على ما َبَعَثِني عليه َر سوُل هللا ﷺ؟ َأْن ال َتَدَع‬
‫ِتْم ثااًل إاّل َطَم ْس َتُه‪َ ،‬و ال َقْبًر ا ُم ْش ِر ًفا إاّل َسَّو ْيَتُه»‪ ،‬وفي رواية‪َ« :‬و ال ُص وَر ًة إاّل َطَم ْس تَه ا» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫ففي الحديث السابق ُيلغي ﷺ كل مظاهر الّشرك‪ ،‬وكل ما يدعو إلى الوثنّية‪ ،‬وكل ما ُيصادم‬
‫الّتوحيد؛ ألّن الّتوحيد ال بد أن يكون أكثر بياًض ا من الّثوب األبيض‪ ،‬وأنقى من أن ُيدّنسه أو يلوثه‬
‫شيء‪ ،‬فكان ﷺ شديد الحرص على سّد كل ذريعة توصل إلى الّشرك‪ ،‬وكانت حياته كلها توحيًدا هلل‪،‬‬
‫وتصحيًح ا للُم عتقد لياًل ونهاًر ا‪ِ ،‬سًّر ا وجهاًر ا‪ ،‬ال يقبل فيها صرًفا وال عداًل بل كان كل جهاده‪،‬‬
‫وعلمه‪ ،‬وقوته‪ ،‬وطاقته‪ ،‬وحله‪ ،‬وترحاله‪ ،‬في الّدعوة إلى توحيد الباري سبحانه‪.‬‬
‫وكان يؤكد ﷺ على مسألة الّتوحيد‪ ،‬وُيكّر ر الحديث عنها‪ ،‬وينّبه الّناس إليها‪ ،‬وُيخبرهم أّنه‬
‫ُبعث بالتوحيد‪ ،‬وبّين ﷺ أّن الّتوحيد هو حق هللا على العبيد‪ ،‬كما جاء عن معاذ بن جبل (رضي هللا‬
‫عنه) أّنه قال‪َ :‬بْيَنَم ا َأَنا َر ِديُف الَّنِبِّي ﷺ‪َ ،‬لْيَس َبْيِني َو َبْيَنُه ِإاّل آِخ َر ُة الَّر ْح ِل ‪َ ،‬فَقاَل ‪َ« :‬يا ُم َعاُذ» ُقْلُت ‪َ :‬لَّبْيَك‬
‫يا َر سوَل هللا وَسْعَد ْيَك ‪ُ ،‬ثَّم َساَر َساَعًة‪ُ ،‬ثَّم َقاَل ‪َ« :‬يا ُم َعاُذ» ُقْلُت ‪َ :‬لَّبْيَك َر ُسوَل هللا َو َسْعَد ْيَك ‪ُ ،‬ثَّم َساَر‬
‫َساَعًة‪ُ ،‬ثَّم َقاَل ‪َ« :‬يا ُم َعاُذ ْبَن َجَبٍل » ُقْلُت ‪َ :‬لَّبْيَك َر ُسوَل هللا َو َسْعَد ْيَك ‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬هْل َتْد ِر ي َم ا َحُّق هللا َعَلى‬
‫ِعَباِدِه ؟» ُقْلُت ‪ :‬هللا َو َر ُسوُلُه َأْع َلُم ‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬حُّق هللا َعَلى ِعَباِدِه َأْن َيْعُبُدوُه َو ال ُيْش ِر ُكوا ِبِه َشْيًئا» ُثَّم َساَر‬
‫َساَعًة‪ُ ،‬ثَّم َقاَل ‪َ« :‬يا ُم َعاُذ ْبَن َجَبٍل » ُقْلُت ‪َ :‬لَّبْيَك َر ُسوَل هللا َو َسْعَد ْيَك ‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬هْل َتْد ِر ي َم ا َحُّق الِعَباِد‬
‫َعَلى هللا ِإَذا َفَعُلوُه» ُقْلُت ‪ :‬هللا َو َر ُسوُلُه َأْع َلُم ‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬حُّق الِعَباِد َعَلى هللا َأْن ال ُيَعِّذ َبُه ْم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقد أبدى وأعاد ﷺ في الّتوحيد لدى كّل عبادة ومع كل موقف‪ ،‬ففي كل أذان ُيعلن الّتوحيد‬
‫على المنائر‪« :‬أشهد أن ال إله إاّل هللا وأشهد أّن محمًدا رسول هللا»‪ ،‬وفي كل تشهد في الّص الة‪:‬‬
‫«أشهد أن ال إله إاّل هللا وأشهد أّن محمًدا رسول هللا»‪.‬‬
‫ويوم عرفة كله توحيد‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬خيُر الُّدعاِء دعاُء يوِم عرفَة‪ ،‬وخيُر ما قلُت َأنا والَّنبُّيوَن‬
‫من قبلي‪« :‬ال إَلَه إاّل هللا وحَد ُه ال شريَك َلُه‪َ ،‬لُه الملُك وَلُه الحمُد َو هَو على كِّل َء يٍش قديٌر » [رواه‬
‫الترمذي]‪ ،‬وأحاديث الكرب كّلها توحيد‪ ،‬فَعِن اْبِن َعَّباٍس (رضي هللا عنه) َأَّن َر ُسوَل هللا ﷺ َكاَن َيُقوُل‬
‫ِع ْنَد اْلَكْر ِب‪« :‬اَل ِإَلَه إاّل هللا اْلَعِظ يُم اْلَحِليُم ‪ ،‬اَل ِإَلَه إاّل هللا َر ُّب اْلَعْر ِش اْلَعِظ يِم ‪ ،‬اَل ِإَلَه إاّل هللا َر ُّب‬
‫الَّسَم اَو اِت َو َر ُّب اَأْلْر ِض ‪َ ،‬و َر ُّب اْلَعْر ِش اْلَكِر يِم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وإن تعجب فاعجب أّن دعاء الكرب هذا ليس فيه ذكر لرفع الهّم ‪ ،‬أو إزالة الكرب‪ ،‬وإّنما هو‬
‫توحيد خالص‪ ،‬وهذا من أعظم األدلة على أّن من حّقق الّتوحيد وأخلص األلوهية والعبودية هلل كشف‬
‫هللا كربه‪ ،‬وأزال هّم ه وغّم ه‪ ،‬وأذهب حزنه‪ .‬فحينما ُنحّقق الّتوحيد وال نرى مع هللا أحًدا‪ ،‬فإّننا بذلك‬
‫ننفض ذرات الّشرك من كياننا‪ ،‬وُنساقط أوضار الّشك من أركاننا‪ ،‬ونزرع شجرة الّتوحيد في جناننا‪،‬‬
‫وُنذهب عن أنفسنا كّل يأس وإحباط‪ ،‬وكّل اعتراض وتسّخ ط‪ ،‬وكّل هّم وغم؛ ألّننا علمنا أّن كل شيء‬
‫بيد هللا وحده ال شريك له جل في ُعاله‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ{ :‬قْل ِإَّن اَألْم َر ُكَّلُه ِهَّلِل} [آل عمران‪ :‬اآلية‬
‫‪.]154‬‬
‫وكان ﷺ ُيبّشر الموحدين فيقول‪َ« :‬م ن َشِه َد َأْن ال ِإَلَه ِإاّل هللا َو ْح َد ُه ال َشِر يَك له‪َ ،‬و أَّن ُم َح َّم ًدا‬
‫َعْبُدُه َو َر ُسوُلُه‪َ ،‬و أَّن ِع يَسى عبُد هللا َو َر ُسوُلُه‪َ ،‬و َكِلَم ُتُه َأْلَقاَها إلى َمْر َيَم َو ُر وٌح منه‪َ ،‬و الَج َّنُة َحٌّق ‪،‬‬
‫َو الّناُر َحٌّق ‪َ ،‬أْد َخ َلُه هللا الَج َّنَة عَلى ما كاَن ِم َن الَعَم ِل » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ُ :‬قلُت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬م ن أْس َعُد الَّناِس بَشَفاَعِتَك َيوَم‬
‫الِقَياَم ِة ؟ َفَقاَل ‪« :‬أْسَعُد الَّناِس بَشَفاَعتي َيوَم الِقَياَم ِة ‪َ :‬م ن َقاَل ‪ :‬ال إَلَه إاّل هللا‪َ ،‬خ اِلًص ا ِم ن ِقَبِل َنْفِسِه »‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫فمن أراد أن يظفر بشفاعة الّنبي ﷺ فليخلص الّتوحيد لرّبه؛ وإاّل ُح رم من شفاعته ﷺ‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ن قاَل ‪ :‬ال ِإَلَه ِإاّل هللا‪َ ،‬و َكَفَر بما ُيْعَبُد َم ن ُدوِن هللا‪َ ،‬ح ُر َم ماُلُه َو َد ُم ُه‪َ ،‬و ِح ساُبُه‬
‫على هللا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فالّتوحيد في الّدنيا لمن أظهره يعصم الّنفس والمال‪ ،‬ومن أخفى غير ذلك فحسابه على هللا‬
‫عّز وجل‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪َ« :‬م ن قاَل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل ُهللا وْح َد ُه ال‬
‫َشِر يَك له‪ ،‬له الُم ْلُك وله الَح ْم ُد‪ ،‬وهو عَلى ُكِّل شيٍء َقِديٌر ‪ .‬في َيوٍم ِم َئَة َمَّر ٍة‪ ،‬كاَنْت له َعْد َل َعْش ِر‬
‫ِر قاٍب‪ ،‬وُكِتَب له ِم َئُة َحَسَنٍة‪ ،‬وُم ِح َيْت عْنه ِم َئُة َسِّيَئٍة‪ ،‬وكاَنْت له ِح ْر ًز ا ِم َن الَّشْيطاِن ‪َ ،‬يوَم ُه ذلَك حَّتى‬
‫ُيْم ِس َي ‪ ،‬وَلْم َيْأِت أَح ٌد َأْفَض َل مَّم ا جاَء إاَّل َر ُجٌل َعِم َل أْك َثَر منه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫هذا تاج األذكار‪ ،‬وأعظمها وأجلها شأًنا؛ ألّنه أتى بكلمة الّتوحيد التي قال عنها ﷺ‪ :‬خير ما‬
‫قلت أنا والّنبيون قبلي‪« :‬ال إله ِإاّل هللا وحده ال شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد وهو على كّل شيء‬
‫قدير»‪.‬‬
‫وعن ُأَبِّي بن كعب (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬يا أبا الُم نِذ ِر ‪ ،‬أتدري أَّي آيٍة‬
‫من كتاب هللا معك أعظَم ؟» قال‪ :‬قلُت ‪ُ :‬هللا ورسوُله أعلُم ‪ ،‬قال‪« :‬يا أبا المنِذر‪ ،‬أتدري أَّي آيٍة من‬
‫كتاب هللا معك أعظَم ؟» قال‪ :‬قلُت ‪( :‬هللا اَل ِإَلَه ِإاّل ُهَو اَلحُّي اْلَقُّيوُم )‪ ،‬قال‪ :‬فضرب في صدري‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«وهللا! ِلَيْهِنك العلُم أبا المنِذ ِر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وإّنما فضلت آية الكرسي على كل آية؛ ألن فيها توحيد الباري ومدحه وتمجيده واإلخالص‬
‫له‪ ،‬واشتمالها على اسم هللا األعظم‪ ،‬سبحانه تقدست أسماؤه‪.‬‬
‫وعن معاذ بن جبل (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪َ« :‬م ن َكان آخُر كاَل ِم ه اَل إله ِإاّل‬
‫هللا‪َ ،‬دخَل الجَّنة» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيلّبي بالتوحيد فيقول‪َ« :‬لَّبْيَك اللهَّم َلَّبْيَك ‪َ ،‬لَّبْيَك ال َشِر يَك لَك َلَّبْيَك ‪ ،‬إَّن الَح ْم َد َو الِّنْعَم َة‬
‫لَك َو الُم ْلَك ‪ ،‬ال َشِر يَك لَك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن يتدّبر القرآن الكريم الذي أنزله هللا تعالى على نبّيه الُم ختار ﷺ يجد أّن القضية األولى‪،‬‬
‫والمسألة الكبرى التي تدور حولها جميع اآليات البّينات في كتاب رّب األرض والّسماوات هي‬
‫الّتوحيد‪ ،‬إّم ا أمٌر بالّتوحيد‪ ،‬أو نهي عن الشّـرك‪ ،‬أو قصص عن الّتوحيد‪ ،‬أو الحديث عن آيات الكون‬
‫التي تدّل على الّتوحيد‪ ،‬أو الجّنة التي هي مأوى الموحدين والجائزة العظمى لهم‪ ،‬أو الّنار التي هي‬
‫مأوى الُم شركين الذين خالفوا الّتوحيد‪ ،‬أو توضيح ألحكام عبادات الموحدين‪ ،‬أو الّثناء على‬
‫الموحدين‪ ،‬أو ذّم للمشركين‪ ،‬فالقرآن كّله من أّو له آلخره توحيد هلل عّز وجل‪.‬‬
‫وكانت أعظم شهادة في الكون هي‪َ{ :‬شِه َد ُهَّللا َأَّنُه َال ِإَلَه ِإَّال ُهَو َو اْلَم َالِئَكُة َو ُأوُلوا اْلِع ْلِم َقاِئًم ا‬
‫ِباْلِقْسِط َال ِإَلَه ِإَّال ُهَو اْلَعِز يُز اْلَح ِك يُم } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ .]18‬وقال سبحانه مخاطًبا نبّيه المختار ﷺ‪:‬‬
‫{َو َلَقْد ُأوِح َي ِإَلْيَك َو ِإَلى اَّلِذيَن ِم ْن َقْبِلَك َلِئْن َأْش َر ْك َت َلَيْح َبَطَّن َعَم ُلَك َو َلَتُكوَنَّن ِم َن اْلَخاِس ِر يَن * َبِل َهَّللا‬
‫َفاْعُبْد َو ُكْن ِم َن الَّشاِك ِر يَن } [الزمر‪ :‬اآلية ‪ ،]66 - 65‬يا لطيف! الّلهم الطف بنا‪ ،‬فإَذا كان هذا‬
‫الخطاب لسّيد ولد آدم ﷺ؛ إمام الموحدين وأصدق المخلصين تحذيرا له من الشرك –وحاشاه من‬
‫ذلك‪ ،-‬فباهلل ماذا ُيقال لغيره من أفراد األمة؟! فالشـرك الُم ضاد للتوحيد هو أعظم ذنب كما قال‬
‫تعالى‪ِ{ :‬إَّن الِّش ْر َك َلُظْلٌم َعِظ يٌم } [لقمان‪ :‬اآلية ‪.]13‬‬
‫ومن أعظم الّسور التي كان يرددها رسولنا ﷺ ويمدُح ها‪ ،‬وُيثني على من قرأها سورة‬
‫اإلخالص‪ُ{ :‬قْل ُهَو ُهَّللا َأَح ٌد * ُهَّللا الَصَم ُد * َلْم َيِلْد َو َلْم ُيوَلْد * َو َلْم َيُكْن َلُه ُكُفًو ا َأَح ٌد} [اإلخالص‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]4 -1‬وَبَعَث َر سول هللا ﷺ َر ُج اًل عَلى َسِر َّيٍة‪َ ،‬و كاَن َيْقَر ُأ َألْص َح اِبِه في َص اَل ِتِه ْم ‪َ ،‬فَيْخ ِتُم بـ {ُقْل‬
‫ُهَو ُهَّللا َأَح ٌد} ‪َ ،‬فَلَّم ا َر َجُعوا ُذِك َر ذلَك ِلَر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬سُلوُه َألِّي شيٍء َيْص َنُع ذلَك ؟ َفَسَأُلوُه‪،‬‬
‫َفقاَل ‪ :‬أِل َّنَه ا ِص َفُة الَّر ْح َم ِن ‪ ،‬فأَنا ُأِح ُّب َأْن َأْقَر َأ بَه ا‪َ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪َ« :‬أْخ ِبُر وُه أَّن هللا ُيِح ُّبُه» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وفي حديث رواه البخاري معلًقا بصيغة الجزم‪ ،‬أّن رجاًل كان يقرأ بها في كّل ركعة من‬
‫صلواته فأخبر الّنبّي ﷺ أّنه ُيحبها فقال له الّنبّي ﷺ‪ُ« :‬حُّبَك إَّياها أْد َخ َلَك الَج َّنَة»‪.‬‬
‫وجاء عن أبي الّدرداء أّن الّنبّي ﷺ قال‪َ« :‬أَيْعِج ُز أَح ُدُكْم أْن َيْقَر َأ في َلْيَلٍة ُثُلَث الُقْر آِن ؟‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫وكيَف َيْقَر ْأ ُثُلَث الُقْر آِن ؟‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬قْل هو هللا أَح ٌد؛ َتْعِدُل ُثُلَث الُقْر آِن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫لقد حّقق رسولنا ﷺ اإلخالص في أعلى درجاته‪ ،‬وأرفع مراتبه‪ ،‬فكان اإلخالص رفيقه الّدائم‬
‫في كل عبادة يعبد هللا بها‪ ،‬وقد أوصاه ربه بذلك فقال سبحانه‪ُ{ :‬قْل ِإِّني ُأِم ْر ُت َأْن َأْع ُبَد َهَّللا ُم ْخ ِلًص ا َلُه‬
‫الِّديَن } [الزمر‪ :‬اآلية ‪.]11‬‬
‫ويؤكد ﷺ أّن اإلخالص شرط قبول العمل‪ ،‬فقال كما في «الّص حيحين»‪«:‬إّنما األعمال‬
‫بالّنيات»‪ ،‬وقال عليه الّص الة والّسالم فيما يرويه عن رّبه كما في «صحيح مسلم»‪« :‬أنا أْغ نى‬
‫الُّشَر كاِء َعِن الِّش ْر ِك ‪َ ،‬م ن َعِم َل َعم أْش َر َك فيه َم ِع ي غيِر ي‪َ ،‬تَر ْكُتُه وِش ْر َكُه»‪.‬‬
‫وكان أمر هللا لرسوله ﷺ بإخالص العبادة له حاسًم ا وجازًم ا‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إَّنا َأْنَز ْلَنا ِإَلْيَك‬
‫اْلِك َتاَب ِباْلَح ِّق َفاْعُبِد َهَّللا ُم ْخ ِلًص ا َلُه الِّديَن * َأَال ِهَّلِل الِّديُن اْلَخ اِلُص َو اَّلِذيَن اَّتَخ ُذوا ِم ْن ُدوِنِه َأْو ِلَياَء َم ا‬
‫َنْعُبُدُهْم ِإَّال ِلُيَقِّر ُبوَنا ِإَلى ِهَّللا ُز ْلَفى ِإَّن َهَّللا َيْح ُكُم َبْيَنُهْم ِفي َم ا ُهْم ِفيِه َيْخ َتِلُفوَن ِإَّن َهَّللا َال َيْه ِدي َم ْن ُهَو‬
‫َكاِذٌب َكَّفاٌر } [الزمر‪ :‬اآلية ‪ .]3 -2‬فاإلخالص هو لّب الّتوحيد وسّر ه األّج ل‪ ،‬ومفتاحه األعظم‪.‬‬
‫وهّدد ُسبحانه وتوّعد على الّشرك ما لم يتوّعد على ذنب غيره‪ ،‬فقال‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َال َيْغِفُر َأْن‬
‫ُيْش َر َك ِبِه َو َيْغِفُر َم ا ُدوَن َذِلَك ِلَم ْن َيَشاُء َو َم ْن ُيْش ِر ْك ِباِهَّلل َفَقِد اْفَتَر ى ِإْثًم ا َعِظ يًم ا} [النساء‪ :‬اآلية ‪.]48‬‬
‫وقد ذكر هللا صورة رهيبة من صور تهديده ألعدائه الُم شركين فقال تعالى‪ُ{ :‬ح َنَفاَء ِهَّلِل َغْيَر‬
‫ُم ْش ِر ِكيَن ِبِه َو َم ْن ُيْش ِر ْك ِباِهَّلل َفَكَأَّنَم ا َخ َّر ِم َن الَّسَم اِء َفَتْخ َطُفُه الَّطْيُر َأْو َتْه ِو ي ِبِه الِّر يُح ِفي َم َكاٍن‬
‫َسِح يٍق } [الحج‪ :‬اآلية ‪ ،]31‬وقال سبحانه‪ِ{ :‬إَّنُه َم ْن ُيْش ِر ْك ِباِهَّلل َفَقْد َح َّر َم ُهَّللا َعَلْيِه اْلَج َّنَة َو َم ْأَو اُه الَّناُر‬
‫َو َم ا ِللَّظاِلِم يَن ِم ْن َأْنَص اٍر } [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]72‬‬
‫ما هو الحامل آلالف الماليين من البشر على اّتباعه ﷺ وُح ّبه‪ ،‬والّدفاع عن دينه‪ ،‬والّذب عن‬
‫سنته باألرواح والدماء؟ وُيولد جيل بعد جيل‪ ،‬وقرن بعد قرن في جميع القارات‪ ،‬ومن وراء‬
‫المحيطات‪ ،‬وحبه يزداد‪ ،‬ودينه ينتشر‪ ،‬وهو لم ُيقّسم على أتباعه هبات‪ ،‬ولم يمنحهم ُأعطيات‪ ،‬وإّنما‬
‫اّتبعوه ألمر خاص‪ ،‬وسر خفي‪ ،‬ال يعلمه إاّل هللا‪ ،‬وهو إخالص توحيده لرّبه‪ ،‬وثمرة هذا اإلخالص‬
‫القبول الذي يشاهده العالم بأسره‪.‬‬
‫وهل هناك في البشرّية كّلها صديق أوفى لصديقه من أبي بكر الصديق‪ ،‬حيث أحّب رسول‬
‫هللا ﷺ ودافع عنه‪ ،‬وصّدقه‪ ،‬وضّح ى من أجله؟ ورغم ذلك كّله وقف (رضي هللا عنه) أمام الجميع لّم ا‬
‫ُتوفي رسول هللا ﷺ بقلب مطمئن‪ ،‬وعزيمة راسخة‪ ،‬وثقة تامة‪ ،‬وإيمان قوي‪ ،‬وسداد وتوفيق من هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وقال بأعلى صوته‪َ« :‬م ْن َكاَن ِم ْنُكْم َيْعُبُد ُم َح َّم ًدا ﷺ َفِإَّن ُم َح َّم ًدا َقْد َم اَت ‪َ ،‬و َم ْن َكاَن َيْعُبُد هللا‬
‫َفِإَّن هللا َح ٌّي اَل َيُم وُت »‪.‬‬
‫فرغم جلل المصيبة‪ ،‬وشدة األلم‪ ،‬ومرارة الحزن على فراق رسول هللا ﷺ إاّل أّنه (رضي هللا‬
‫عنه) رّكز على القضية األولى والرسالة الُكبرى أال وهي‪« :‬رسالة التوحيد»‪ ،‬التي ُبعث بها الّنبي‬
‫الُم ختار ﷺ‪ ،‬وجاهد من أجلها‪ ،‬فمن يوم بدأ ﷺ رسالته كانت أول كلمة قالها هي‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪،‬‬
‫وآخر كلمة قالها هي‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬إّنها الكلمة األولى والكلمة األخيرة التي كان يؤكد عليها ﷺ‬
‫دائًم ا وأبًدا؛ ألن الخلق خلقوا ليعلموا أنه‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬والكتب نزلت لتثبت أّنه‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪،‬‬
‫والّر سل ُبعثت لتدعو إلى‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬فقبل أن تعِّلم اعَلْم أّنه‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬وقبل أن تدعو‬
‫حّقق‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬وقبل أن تأمر وتنهى صّح ح‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪.‬‬
‫إّن «ال إله إاّل هللا»‪ ،‬وثيقة رّبانية‪ ،‬هبط بها جبريل إلى األرض‪ ،‬وحملها موسى إلى فرعون‪،‬‬
‫وأعلنها محمد ﷺ من أعلى الّص فا‪.‬‬
‫إّن مفتاح الّسعادة كلمة‪ ،‬وميراث المّلة عبارة‪ ،‬وراية الفالح جملة‪ ،‬فالكلمة والعبارة والجملة‬
‫هي‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬فهي أعظم كلمة تدل على هللا‪ ،‬وهي أصدق العبارات‪ ،‬وأجمل الكلمات‪،‬‬
‫وأفضل الحديث‪ ،‬وأجّل الحسنات‪ ،‬وهي الكلمة الّشافية‪ ،‬والوافية‪ ،‬والكافية‪ ،‬والجامعة‪ ،‬والمانعة‪،‬‬
‫والحصن الحصين من غضب هللا وعذابه‪ ،‬وشّر عقابه‪ُ ،‬تخرجك من الظلمات إلى النور‪ ،‬ومن الكفر‬
‫إلى اإليمان‪ ،‬ومن الهّم إلى الُّسرور‪ ،‬ومن الّنار إلى الجّنة‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬إَّن هللا قْد َح َّر َم عَلى الَّناِر َم ن‬
‫قاَل ‪ :‬ال إَلَه إاّل هللا َيْبَتِغ ي بذلَك وْج َه هللا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫«ال ِإَلَه ِإاّل هللا»‪ ،‬أصُل األصول‪ ،‬وبوابة الّديانة‪ ،‬وطريق الفالح‪ ،‬وهي بداية الّطريق لمن‬
‫أراد الحياة الّطيبة‪ ،‬والعيش الّسعيد‪ ،‬والخاتمة الحسنة‪ ،‬والخلود في الجّنة‪ ،‬فهي الكلمة الّر ائدة الَخالدة‬
‫بكل ما تحويه من معنى أراده هللا عّز وجل يوم فرض على العباد تحقيقها‪ ،‬وال بد لهذه الكلمة من‬
‫اعتقاد جازم ال ُيخالطه شك‪ ،‬وُحّب صادق ال يكدره سخط‪ ،‬وصدق في قولها ال يمازجه كذب‪ ،‬وعمل‬
‫بمقتضاها ال يناقضه مخالفة‪ ،‬ودعوة إليها ال يصاحبها فتور‪ ،‬وسالمة من كل ما يعارضها من شرك‬
‫أو رياء أو بدعة‪ ،‬ليكون قائلها أسعد الّناس بها في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فاجعلها مشروعك في الحياة‪،‬‬
‫وقضيتك الكبرى‪ ،‬رّددها‪ ،‬واعتقدها‪ ،‬واعمل بمقتضاها‪ ،‬وانشرها‪ ،‬فهي أصدق كلمة‪ ،‬وأجمل عبارة‪،‬‬
‫وأقوى لفظ‪ ،‬وأعظم حجة‪ ،‬وأنبل رسالة‪ ،‬فادع إليها‪ ،‬وتزّو د منها‪ ،‬واجعلها على طرف لسانك‪،‬‬
‫وكررها وأكثر منها‪ ،‬فإّنها ُترضي الّر حمن‪ ،‬وتثقل الميزان‪ ،‬وُتخسئ الشيطان‪ ،‬وتورث الجنان‪.‬‬
‫يقول الواحد األحد سبحانه‪َ{ :‬فاْع َلْم َأَّنُه َال ِإَلَه ِإَّال ُهَّللا} [محمد‪ :‬اآلية ‪ .]19‬هذه أعظم قضّية‬
‫في العالم‪ ،‬وأكبر مسألة في الّدنيا‪ ،‬وهي مسألة أن تعلَم وتقَّر وتعترَف أّنه «ال إله إاّل هللا»‪ ،‬فال ُتشرَك‬
‫معه في عبوديته أحًدا‪ ،‬وال تدعَو من دونه إلًه ا آخر‪ ،‬بل تصرُف له عبادتك‪ ،‬وتخلُص له طاعتك‪،‬‬
‫وتوّح ُد له قصدك ومسألتك ودعاءك‪ ،‬فال يستحق العبادة إاّل هو‪ ،‬وال أحد يكشف الّضـر غيره‪ ،‬فإذا‬
‫سألت فاسأل هللا‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن باهلل‪.‬‬
‫أخلص له العبادة ألنه ال يقبل شريًكا‪ ،‬وخف عذابه ألّنه شديد‪ ،‬واحذر أخذه ألّنه أليم‪ ،‬واسأله‬
‫فهو الغنّي ‪ ،‬واطمع في فضله ألّنه كريم‪ ،‬واستغفره فهو واسع المغفرة‪ ،‬وُلذ بجنابه فهناك األمن‪ ،‬وأدم‬
‫ذكره لتنال محبته‪ ،‬واْلزم شكره لتحظى بالمزيد‪ ،‬فهو أحق من ُشكر‪ ،‬وأعظم من ُذكر‪ ،‬وأرأف من‬
‫ملك‪ ،‬وأجود من أعطى‪ ،‬وأحلم من قدر‪ ،‬وأقوى من أخذ‪ ،‬وأجّل من ُقِص د‪ ،‬وأكرم من ابُتِغ ي‪ ،‬فال إله‬
‫ُيدعى سواه‪ ،‬وال رَّب ُيطاع غيره جّل في عاله‪.‬‬
‫صّلى هللا وسّلم على نبينا ُم حّم د الذي أنقذنا هللا به من الّضاللة‪ ،‬وعّلمنا من الجهالة‪ ،‬وبّص رنا‬
‫من العمى‪ ،‬وأرشدنا من الغّي ‪ ،‬وأخرجنا به من الّظلمات إلى الّنور‪ ،‬صالًة وسالًم ا دائمين طاهرين‬
‫طيبين زكيين زكاة أنفاسه الّطاهرة الُم باركة‪:‬‬
‫ُبعثت ابلوحي واألصنام ماثلة‬
‫واألرض ابلّش ـرك قد فاحت من الّد نِس‬
‫فلم تزل تنشـر الّتوحيد حُم تسًبا‬
‫فكل قلٍب غدا نوًرا من القبِس‬
‫حّطمت أواثن قوم ال عقول هلم‬
‫أرواحهم يف حبار الوهم والَف لِس‬
‫فكنت غيًثا على األرواح مُي طرها‬
‫من رمحة هللا أو ُروًح ا من الُقُد ِس‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَه اِج ًرا‬
‫كانت هجرته األولى ﷺ هجرة غير ُم رتبطة بزمان أو مكان‪ ،‬هجرة باقية إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫حينما أمره رّبه فقال له‪َ{ :‬و الُّر ْج َز َفاْه ُجْر } [المدثر‪ :‬اآلية ‪ ،]5‬فهجر ﷺ كّل ذنب‪ ،‬وكّل معصية‪،‬‬
‫وكّل سيئ من قول أو فعل‪ .‬وقال ﷺ‪« :‬الُم َه اِج ُر َم ن َهَج َر ما َنَه ى هللا َعْنه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫أّم ا هجرته الّثانية فجاءت بعدما بلغ به األذى أشّده‪ ،‬من حصار‪ ،‬وتجويع‪ ،‬وتضييق‪ ،‬وحبس‪،‬‬
‫وتكالب من كفار قريش‪ ،‬وُم حاربة من قبائل العرب‪ ،‬وتعذيب ألصحابه‪ ،‬وقهر ألحبابه الذين اشتكوا‬
‫إليه ألم الجلد‪ ،‬ومهانة اإلذالل والّتحقير‪ ،‬فكان ُيصّبرهم وُيسّليهم ﷺ حتى طفح اإلناء‪ ،‬وفار الّتنور‬
‫وضاقت بهم الُّسبل‪ ،‬وانقطعت بهم الحيل‪ ،‬ولم يبق لهم إاّل حبل واحد‪ ،‬وطريق واحد‪ ،‬وهو حبل هللا‬
‫والّطريق إليه جّل في ُعاله‪.‬‬
‫حينها أذن هللا لنبّيه أن يرتحل ويغادر داره‪ ،‬وُيسافر من موطنه‪ ،‬وُيهاجر إلى بلد آخر‪ ،‬وكان‬
‫يعلم عليه الّص الة والّسالم منذ فجر دعوته أَّنُه سوف ُيخرج من مكة‪ ،‬فقد جاء في «الّص حيحين» أن‬
‫خديجة (رضي هللا عنها) ذهبت برسول هللا ﷺ إلى ورقة ابن َنْو فل‪ ،‬ولّم ا سمع من رسول هللا ﷺ خبر‬
‫ما رآه في الغار قال‪َ« :‬لْيَتِني أُكوُن َحًّيا إْذ ُيْخ ِر ُج َك َقْو ُم َك !‪ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬أَو ُم ْخ ِر ِج َّي ُهْم !؟ قاَل ‪:‬‬
‫َنَعْم !؟ َلم َيْأِت َر ُجٌل َقُّط بِم ْثِل ما ِج ْئَت به إاّل ُعوِد َي »‪ ،‬فعلم عليه الّص الة والّسالم من تلك الّلحظة أّنه‬
‫سوف ُيخرج من مكة‪ ،‬ولكّنه لم يكن يعلم إلى أّي أرض يذهب‪ ،‬وإّنما تهّيأ واستعد لتقديم هذه‬
‫الّتضحية الغالية‪ ،‬تضحية الهجرة وُم فارقة األهل والوطن واألحباب‪.‬‬
‫وجاء اإلذن من فوق سبع سماوات من الحكيم الخبير الذي على العرش استوى‪ ،‬من الذي‬
‫ُيجري األمور بمقدار‪ ،‬مّم ن له حكمة في كل خطوة‪ ،‬وله سر في كل لفظة‪ ،‬وله عناية في كل خطرة‪،‬‬
‫من رّب العالمين ُسبحانه‪ ،‬فأذن لرسوله وخليله أن يرتحل من مكة إلى المدينة حيث األنصار الذي‬
‫بايعوه في العقبة‪ ،‬وقد هّيأ ﷺ لذلك قدم صدق في المدينة من أنصار وأحباب‪ ،‬وانتقل متوكاًل على هللا‬
‫وعلى بركة هللا من أرض الشانئين إلى أرض الُم حّبين‪ ،‬ومن ديار المشركين إلى ديار الُم وّح دين‪،‬‬
‫فلحق ﷺ بأصحابه الّص الحين المهاجرين الذين تركوا األهل واألبناء‪ ،‬واإلخوة والعشيرة والّديار‬
‫واألوطان‪ ،‬يتلقون أصناف الجوع‪ ،‬والّتعب‪ ،‬والّظمأ‪ ،‬والّنصب‪ ،‬والوصب‪ ،‬لكن ُكّلها تهون لوجه هللا‪،‬‬
‫وفي سبيل هللا‪.‬‬
‫جّه ز ﷺ متاعه للهجرة والّر حيل‪ ،‬ووّكل علي بن أبي طالب أن يرد ما كان عنده ﷺ من‬
‫أمانات وودائع إلى أصحابها‪ ،‬ولذلك تخّلف(رضي هللا عنه) عن الّنبي في يوم هجرته‪ ،‬ولتمام‬
‫شجاعته‪ ،‬وكمال فّتوته‪ ،‬نام في فراش الّنبي‪ ،‬وعّر ض نفسه لحِّد الّسيوف‪ ،‬ورؤوس الّر ماح إن حصل‬
‫خطر‪ ،‬وضّح ى بروحه فداًء لروح الّنبي‪ ،‬وقّدم نفسه درًعا حصينة دون نفس الّنبي المعصوم ﷺ‪،‬‬
‫فهو منه بمنزلة هارون من موسى‪ ،‬وهو صاحب المواقف التي جّلى فيها الكرب عن وجه رسول هللا‬
‫ﷺ‪ ،‬فبّيض هللا وجه أبي الحسن‪ ،‬ورضي عنه‪.‬‬
‫وذهب ﷺ إلى أبي بكر الّص ديق صاحبه الوفّي األمين‪ ،‬أّو ل َم ن أسلم‪ ،‬والزم النبي ﷺ حضًر ا‬
‫وسفًر ا‪ ،‬وحاًّل وترحااًل ‪ ،‬وفي الّسـراء والضّـراء‪ ،‬وحانت ساعة الّص فر‪ ،‬ولحظة الفراق وما أشدها‬
‫على الّنفس! كما يقول الشاعر‪:‬‬
‫َلْو ال ُمفاَرَقُة األحباِب ما َوَج َدْت‬
‫َهلا اَملَنااَي إىل أْرَواحَنا ُسُبال‬
‫ولحظة أن ُتفارق وطنك وُتخَر ج منه ُكرًها لحظة تفوق الوصف‪ ،‬فال ُيعّبر عنها نثر وال‬
‫شعر‪ ،‬لذلك قرن هللا بين اإلخراج من األوطان وقتل األنفس‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬و َلْو َأَّنا َكَتْبَنا َعَلْيِه ْم َأِن‬
‫اْقُتُلوا َأْنُفَسُكْم َأِو اْخ ُر ُج وا ِم ْن ِد َياِر ُكْم َم ا َفَعُلوُه ِإَّال َقِليٌل ِم ْنُهْم } [النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]66‬وحينها وقف‬
‫رسولنا ﷺ وقفة ُم فارق‪ُ ،‬م شتاق‪ُ ،‬م تّيم‪ ،‬باٍك ‪ ،‬يقول وهو ينظر إلى مكة وزفراته الحارة تتصاعد‪،‬‬
‫ودموعه تسيل‪« :‬وهللا إَّنِك لَخ يُر َأْر ِض هللا‪َ ،‬و َأَح ُّب َأْر ِض هللا إَلى هللا‪َ ،‬و َلْو اَل َأِّني ُأْخ ِر ْج ُت ِم ْنِك َم ا‬
‫َخ َر ْج ُت » [َر َو اُه أحمد والترمذي]‪.‬‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫ِل‬
‫وحَّبب أوطاَن الرجا إليهُم‬
‫مآرُب قَّضاها الشباُب هنالَك ا‬
‫إذا ذكروا أوطاَنُه م ذَّك رهتُم‬
‫ُعهوَد الصبا فيها فحّنوا لذلَك ا‬
‫هاجر ﷺ من مدارج الطفولة‪ ،‬ومالعب الّص با‪ ،‬ومراتع الفتوة‪ ،‬وفارق األحباب والخاّل ن‪،‬‬
‫واألهل والجيران‪ .‬وما أصعب هذا الّشعور على الّنفس! وما أفظعه على القلب!‪.‬‬
‫ثم مشى ﷺ ومعه أبو بكر الّص ديق(رضي هللا عنه)‪ ،‬وتوّج ها إلى غار ثور‪ ،‬وبقيا فيه ثالث‬
‫ليال‪ ،‬في لحظات ُم رعبة ُم زلزلة ال ينساها الّتاريخ‪ ،‬تلك الّلحظات الحاسمة التي ُطّو ق فيها ﷺ من‬
‫ُكفار قريش بعد أن قلبوا األرض عليه‪ ،‬وفّتشوا الجبال واألودَية‪ ،‬والهضاب والفيافي‪ ،‬ثم أقبلوا إلى‬
‫الغار بخمسين شاًبا سيوفهم تقطر دًم ا‪ ،‬وحقًدا‪ ،‬وموًتا‪ ،‬وُسًّم ا زعاًفا‪ ،‬ولكن هللا بجميل تدبيره أعمى‬
‫بصائرهم‪ ،‬ورّد كيدهم بألطف الُّسبل‪ ،‬فظلوا واقفين أمام الغار ولم يدخلوه‪ ،‬وهنا همس أبو بكر‬
‫(رضي هللا عنه) للّنبي ﷺ‪ ،‬وقال له‪ :‬يا رسول هللا! َلْو َأَّن َأَح َد ُهْم َنَظَر َتْح َت َقَد َم ْيِه َألْبَص َر َنا!‪ ،‬فرد ﷺ‬
‫بقول الّثابت الُم طمئّن الواثق الُم تيّقن بنصر هللا‪َ« :‬م ا َظُّنَك يا أَبا َبْك ٍر باْثَنْيِن ُهللا َثاِلُثُه َم ا» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫هنا الّثقة بمعّية هللا‪ ،‬هنا تفويض األمر إلى هللا! هنا الّر كون إلى نصـر هللا! هنا صدق اللجأ‬
‫إلى قوته جّل في ُعاله! وهذا شأن األنبياء في األزمات‪ ،‬وموقف األولياء في الُكربات‪ ،‬فانظر إليه ﷺ‬
‫كيف ربط هللا على قلبه‪ ،‬وقّو ى يقينه‪ ،‬وأنزل عليه الّسكينة!؟ فما اهتز له بنان‪ ،‬وال رجف له جفن‪،‬‬
‫وإّنما بقي صامًدا ثابًتا يقول لصاحبه‪« :‬اَل َتْح َز ْن ِإَّن هللا َمَعَنا»‪.‬‬
‫ويعلمنا أعظم درس وأجّل رسالة ُتوّج ه لكل إنسان في أّي أزمة تمُّر به‪ ،‬أو كرب يتغشاه‪ ،‬أو‬
‫شدة تقع به‪ ،‬أن يتذكر معّية هللا‪ ،‬وأن يكثر من دعائه والّتضرع له جّل في عاله‪ ،‬فاهلل لن يخذله ولن‬
‫يتركه وحده‪ ،‬بل سينصره ويجعل له من كل هم فرًج ا‪ ،‬ومن كل ضيق مخرًج ا‪.‬‬
‫ونقل لنا القرآن الكريم هذا المشهد في أجمل تعبير مؤثر‪ ،‬وأبهى صورة موحية‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫{ِإَّال َتْنُصُر وُه َفَقْد َنَصَر ُه ُهَّللا ِإْذ َأْخ َر َج ُه اَّلِذيَن َكَفُر وا َثاِنَي اْثَنْيِن ِإْذ ُهَم ا ِفي اْلَغاِر ِإْذ َيُقوُل ِلَص اِح ِبِه َال‬
‫َتْح َز ْن ِإَّن َهَّللا َمَعَنا َفَأْنَز َل ُهَّللا َسِك يَنَتُه َعَلْيِه َو َأَّيَدُه ِبُج ُنوٍد َلْم َتَر ْو َها َو َج َعَل َكِلَم َة اَّلِذيَن َكَفُر وا الُّسْفَلى‬
‫َو َكِلَم ُة ِهَّللا ِه َي اْلُعْلَيا َو ُهَّللا َعِز يٌز َح ِك يٌم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]40‬‬
‫وإّنني أنتقل بفكري اآلن إلى الغار الذي أوى إليه الّنبي ﷺ وأبو بكر الّص ديق‪ ،‬وأتصور هذا‬
‫الغار الّضيق الموحش الُم ظلم في رأس جبل‪ ،‬بال فرٍش وال إنارٍة وال كراسي وال ُسرر وال تبريد وال‬
‫طعام وال شراب‪ ،‬ومع ذلك تجد الّنبي ﷺ في غاية األنس باهلل‪ ،‬وفي نهاية الّر ضا وانشراح الّص در‬
‫واالطمئنان والوثوق بوعد رّبه‪ ،‬ومواصلة الهجرة؛ لُيبّلغ رسالة هللا‪ ،‬وينصر دينه جّل في ُعاله‪.‬‬
‫وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى األغنام فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من‬
‫العشاء فيبيتان على لبن‪ ،‬يفعل ذلك كّل ليلة من الّليالي الّثالث‪ ،‬وتأتي أسماء بنت أبي بكر الّص ديق‬
‫فتصنع سفرة فلم تجد للّطعام والّسقاء ما تربطهما به‪ ،‬فشّقت نطاقها قسمين‪ :‬فربطت بأحدهما الّسفرة‬
‫وباآلخر الّسقاء‪ ،‬فُسميت ذات الّنطاقين‪ ،‬فهو اسم شرف لها (رضي هللا عنها)‪.‬‬
‫واستأجر َر سوُل هللا ﷺ وَأُبو َبْك ٍر َر ُج اًل ِم ن َبِني الِّديِل ‪ُ ،‬يدعى‪« :‬عبدهللا بن أَر ْيقط»‪ ،‬وكان‬
‫ُم شرًكا آنذاك‪ ،‬فأِم ناُه َفَد َفعا إَلْيِه راِح َلَتْيِه ما‪ ،‬وواَعداُه غاَر َثْو ٍر ُصْبَح َثالٍث براِح َلَتْيِه ما‪ ،‬واْنَطَلَق‬
‫معُه ما عاِم ُر بُن ُفَهْيَر َة‪ ،‬والَّد ِليُل ‪ ،‬فأَخ َذ بِه ْم َطِر يَق الَّساِح ِل » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبالّر غم من اتخاذه ﷺ لكل األسباب واالحتياطات والّتدابير إاّل أّنه لم يركن إليها مطلًقا‪ ،‬بل‬
‫كان كّل ثقته بتأييد هللا‪ ،‬وُج ّل توكّله على نصـر هللا‪ ،‬وانطلق ﷺ واألمل يحدوه‪ ،‬والّسكينة تغشاه‪،‬‬
‫وحفظ هللا يتواّل ه‪ ،‬والتفاؤل يمأل جوانحه‪.‬‬
‫خرج ُم طمئّن الخطى‪ ،‬واثق الّسير‪ ،‬رابط الجأش‪ ،‬قوّي العزيمة‪.‬‬
‫خرج هذا المهاجر المجاهد ﷺ ليصنع أعظم قصة في الّتاريخ‪ ،‬وأكبر ملحمة في العالم‪،‬‬
‫وأجّل حكاية في المعمورة‪.‬‬
‫ولّم ا خرج ﷺ ُم هاجًر ا من مكة إلى المدينة خرج ُم تخّفًيا متسّتًر ا من الّر صد والعيون التي‬
‫بعثتها قريش تبحث عنه بعد أن أعلنت جائزة مئة ناقة من أثمن وأنفس إبل العرب لمن أتى برأسه‬
‫الّشريف ﷺ‪ ،‬وأخذ الّناس يتبارون ويتسابقون أّيهم يكسب هذه الجائزة الّثمينة الرتكاب أعظم جريمة‬
‫في تاريخ البشـرّية‪ ،‬وهي قتل نبِّي الّر حمة محّم ِد بِن عبدهللا ﷺ‪ ،‬وإذا ُقتل ُم حّم ٌد ﷺ أصيبت اإلنسانّية‬
‫والّر حمة بمقتل‪ ،‬وإذا اغِتيل محّم ٌد ﷺ اغتيلت الكرامة والمروءة‪ ،‬وإذا أعدُم وا محمًدا ﷺ أعدموا‬
‫الّطهر والّشرف والفضيلة في شخصه الكريم‪.‬‬
‫ويالحق الفارس (سراقة بن مالك) الّنبي ﷺ بفرسه ورمحه يريد قتله ليفوز بجائزة قريش‪،‬‬
‫والّنبي في حالة اطمئنان تام وهدوء كامل ال يلتفت‪ ،‬يتلو القرآن الكريم‪ ،‬فالقرآن زاده لياًل ونهاًر ا‪،‬‬
‫وطاقته التي ال تنتهي‪ ،‬ومعينه الذي ال ينضب‪ ،‬وكنزه الذي ال ينفد‪ ،‬فُيخبره أبوبكر بأّن الفارس‬
‫اقترب فيدعو عليه ﷺ‪ ،‬فيسقط سراقة ويكبو جواده‪ ،‬وبعد أن تكّر ر المشهد‪ ،‬وسقط عن فرسه عّدة‬
‫مرات تيّقن سراقة أّن المسألة فوق طاقة البشر فطلب من الّنبي األمان‪ ،‬فأعطاه ﷺ األمان‪َ ،‬فقاَل‬
‫سراقة‪« :‬إِّني قْد َعِلْم ُت أَّنُكما قْد َدَعْو ُتما َعَلَّي ‪َ ،‬فاْدُعَو ا ِلي‪َ ،‬فاهلل َلُكما َأْن َأُر َّد َعْنُكما الَّطَلَب ‪َ .‬فَدَعا هللا‪،‬‬
‫َفَنَج ا‪َ ،‬فَر َج َع ال َيْلَقى َأَح ًدا إاّل قاَل ‪ :‬قْد َكَفْيُتُكْم‬
‫يقول أنس بن مالك (رضي هللا عنه)‪َ« :‬فَكاَن‬
‫الَّنَه اِر َم ْس َلَح ًة َلُه» [رواه البخاري]‪ ،‬بل إّنه فوق هذا بّشره ﷺ ببشرى تعجب لها األسماع‪ ،‬وتدهش‬
‫ما َهاُهَنا‪ ،‬فال َيْلَقى َأَح ًدا إاّل َر َّد ُه» [ُم تفق عليه]‪ .‬وهنا‬
‫سراقة َأَّو َل الَّنَه اِر َج اِه ًدا على َنِبِّي هللا ﷺ‪َ ،‬و َكاَن آِخ َر‬
‫لها العقول‪ ،‬بّشره ﷺ وهو المهاجر الُم طارد في الّص حراء‪ ،‬فقال له‪ :‬كيف بك يا سراقة إذا تسّو رت‬
‫بسواري كسـرى؟! فُبهت واندهش سراقة‪ ،‬وقال‪ :‬كسـرى أنوشروان؟! فقال ﷺ‪ :‬نعم‪ .‬وتدور األيام‬
‫وينتصـر أتباعه ﷺ‪ ،‬ويفتحون بالد فارس‪ ،‬ويأتي أمير المؤمنين عمر بن الخّطاب‪ ،‬بسواري كسـرى‬
‫ومنطقته وتاجه‪ ،‬ويدعو سراقة بن مالك وُيلبسه إّياهما‪ ،‬كما أورده البيهقي في الكبرى وابن عبد البّر‬
‫في االستيعاب‪ ،‬والحافظ ابن حجر في اإلصابة‪.‬‬
‫فانظر لروحه العظيمة الكريمة المتفائلة الّطاهرة ﷺ! كيف حملت الفأل الحسن بالفتح الُم بين‪،‬‬
‫والُبشرى العظيمة بالغد الُم شرق‪ ،‬واألمل المنشود باالنتصار العظيم‪ ،‬حتى وهو في أشّد األزمات‪،‬‬
‫وأصعب الّلحظات‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫اي طريًد ا مأل الّد نَيا اُمْسُه‬
‫وغدا حلًنا على كّل الّش فاْه‬
‫وغدْت سريُته أسطورًة‬
‫يتلَّق اَه ا رواة عن رواْه‬
‫ليَت شعري هل َدَرْو ا من طارُدوا‬
‫َعاِبُد و الالت وأْتباُع َمناْه‬
‫هْل درْت من طاردْته أّمة‬
‫ُه بٌل معبودها شاهْت وَش اْه‬
‫َطاردت يف الغار من َبّو أَه ا‬
‫سؤدًدا ال يبلغ الّنجُم َمَد اْه‬
‫َطاردت يف البيد من َش اد َهلا‬
‫ديَنه يف اجملد جاًه ا أّي جاه‬
‫سؤدد عايل الذرى ما شاده‬
‫قيصـر يوًما وال كـسرى بناه‬
‫وُيواصل ﷺ رحلته في هذه األجواء الّشاقة الّص عبة‪ ،‬ويقتلع ُخ طاه الُم تعبة في الّر مضاء‪،‬‬
‫ومعه صاحبه الصّديق (رضي هللا عنه)‪ ،‬وعامُر بُن ُفَه يَر َة‪ ،‬ودليُلهما عبُد هللا الليثي‪ ،‬ويمرون بخيمة‬
‫أم َم ْعَبد‪ ،‬وهي‪ :‬عاتكة بنت كعب الخزاعّية‪ ،‬فَسألوها لحًم ا وتمًر ا ليشتروا منها‪ ،‬فلم ُيصيبوا عنَدها‬
‫شيًئا من ذلَك ‪ ،‬فنظر رسوُل هللا ﷺ إلى شاٍة في كسِر الخيمِة ‪ ،‬فقال‪« :‬ما هذه الشاُة يا أَّم معبٍد؟!‪،‬‬
‫قالت‪ :‬شاٌة خَّلفها الَج ْهُد عن الغنِم ‪ ،‬قال‪ :‬هل بها مْن لبٍن ؟‪ ،‬قالت‪ :‬هي أجهُد من ذلَك ‪ ،‬قال‪ :‬أتْأذنيَن لي‬
‫أن أحُلَبها؟‪ ،‬قالْت ‪ :‬بأبي أنَت وأِّم ي! إن رأيَت بها حلًبا فاحُلْبها‪ .‬فدعا بها رسوُل هللا ﷺ‪ ،‬فمسح بيدِه‬
‫َض رَعها‪ ،‬وسّم ى َهللا تعالى‪ ،‬ودعا لها في شاِتها‪ ،‬فتفاَّج ت عليِه ‪ ،‬ودَّر ت واجتَّر ت‪ ،‬فدعا بإناء َيْر ِبُض‬
‫الّر ْه َط‪ ،‬فحلب فيِه َثًّج ا‪ ،‬حتى عالُه البهاُء ‪ ،‬ثَّم سقاها حتى َر ِو َيْت ‪ ،‬وسقى أصحاَبُه حتى َر َو ْو ا‪ ،‬ثَّم‬
‫شرَب آخَر هم‪ ،‬ثَّم حلب فيه ثانًيا بعَد بدٍء ‪ ،‬حتى مَأل اإلناَء ‪ ،‬ثَّم غادرُه عنَدها وبايَعها‪ ،‬وارتَح لوا‬
‫عنها» [رواه الّطبراني والحاكم]‪.‬‬
‫إّنه أفضل يوم على اإلطالق مّر بأم معبد‪ ،‬فمروره ﷺ عليها ترك في بيتها بركة وأثًر ا من‬
‫الخير والفضل ال ُينسى أبد الّدهر‪.‬‬
‫وكان أبو بكر(رضي هللا عنه) في طريق الهجرة يخدم الّنبي ﷺ‪ ،‬ويلتمس له الغذاء والماء‬
‫والّر احة‪ ،‬حتى إّنه أجلسه في ظل ظليل في الّظهيرة‪ ،‬وسأله أن ينام حتى يعود إليه‪ ،‬ثم ذهب يلتمس‬
‫لبًنا عند راع‪ ،‬فأتى فحلب شاته ثم جاء بإداوة من ماء فمزج الّلبن بالماء حتى برد‪ ،‬ثم ناوله(رضي‬
‫هللا عنه) إلى الّنبي ﷺ‪ ،‬فشرب ﷺ‪ .‬ويصف أبو بكر هذا المشهد فيقول‪َ« :‬فَشِر َب ﷺ حَّتى َر ِض يُت »‬
‫[ُم تفق عليه]‪ .‬يا له من ُلطف جميل! ويا له من إيثار جليل! يشرب حبيبه فيسعد هو‪ ،‬يشرب صديقه‬
‫فيرتوي هو‪ ،‬يشـرب خليله فيرضى هو‪ ،‬هنا تعجز القصائد والخطب والكلمات عن وصف هذا‬
‫المشهد‪ ،‬مشهد الوفاء والّص داقة‪ ،‬مشهد اإليثار والمحّبة‪ ،‬مشهد الّشعور العجيب من أبي بكر الّص ديق‬
‫(رضي هللا عنه)وُح ّبه ووفائه للّنبي ﷺ‪.‬‬
‫ويستمرون في الّسير‪ ،‬ويعبرون الّص حراء القاحلة بين الجبال الّشاهقة في شّدة الحر‪ ،‬ووهج‬
‫الّر مضاء‪ ،‬مع شّدة الجوع‪ ،‬وشّدة العطش‪ ،‬وشّدة اإلعياء‪ ،‬وشّدة الخوف‪ ،‬ووعثاء الّسفر‪ ،‬ووعر‬
‫الّطريق‪ ،‬وليس معهم مركب هني‪ ،‬وال طعام شهّي ‪ ،‬ال يدرون من أين يأتي الّطلب؟! ومن أين يخرج‬
‫الكمين والّر صد؟! أشعة الّشمس الُم لتهبة تضرب رؤوسهم‪ ،‬وغبار الّر مال الهائجة يتناثر عليهم من‬
‫كل حدب وصوب‪ ،‬لكن رغم هذا كّله معهم الّص بر واألمل والّثقة بوعد هللا‪.‬‬
‫وننتقل بالمشهد اآلن إلى المدينة‪ ،‬إلى يثرب‪ ،‬إلى َطيبة الّطيبة‪ ،‬حيث قلوب تفيض ُح ًّبا‪،‬‬
‫وأرواح تطير فرًح ا‪ ،‬ونفوس تسيل سروًر ا‪ُ ،‬م نتظرة قدومه ﷺ‪.‬‬
‫ولّم ا علموا في المدينة بخروج الّنبي ُم هاجًر ا إليهم كانوا ينتظرون هذا الّلقاء بشغف وُحّب‬
‫وشوق‪ ،‬ويخرجون كل يوم إلى أطراف المدينة ينتظرون الّلحظة الّتاريخية والّساعة الفريدة في‬
‫حياتهم التي لم تتكرر أبد الّدهر‪ ،‬ينتظرون قدوم هذا اإلمام العظيم‪ ،‬والّر سول الكريم‪ ،‬يخرجون كل‬
‫صباح ويبقون حتى تشتد عليهم حرارة الّشمس في الّظهيرة‪ ،‬فيرجعون إلى بيوتهم‪ ،‬يقول عروة بن‬
‫الّز بير‪َ« :‬سِم َع الُم ْسِلُم وَن بالَم ِديَنِة َم ْخ َر َج َر سوِل هللا ﷺ ِم ن َم َّكَة‪َ ،‬فكاُنوا َيْغُدوَن ُكَّل َغداٍة إلى‬
‫الَح َّر ِة‪َ ،‬فَيْنَتِظ ُر وَنُه حَّتى َيُر َّد ُهْم َح ُّر الَّظِه يَر ِة» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وهكذا كل يوم يخرجون إلى ضواحي المدينة من جهة مكة يسألون الّر كبان والّر عاة‪ :‬هل‬
‫رأيتم راكًبا أو شاهدتم وافًدا؟! فكانت تمّر الّساعات عليهم طويلة‪ ،‬يتساءلون متى يحين الّلقاء؟! متى‬
‫تسعد قلوبهم برؤية أحّب الّناس‪ ،‬وأكرم الّناس وأشرف الّناس؟! متى ترتاح أرواحهم بهذا الّلقاء‬
‫الفريد؟! متى يصل سيد ولد آدم عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬أكرم ضيف في تاريخ اإلنسانية؟!‬
‫وتحين الّلحظة الكبرى‪ ،‬وساعة الُبشـرى‪ ،‬ويصيح صائح في ضحى الّنهار‪« :‬وصل الّر سول‬
‫ﷺ‪ ،‬أقبل نبّي الهدى»‪ ،‬يا لجمال المشهد! ويا لعظيم الُم فاجأة! فيخرج األنصار ُم سرعين ُم تقّلدين‬
‫سيوفهم (رضي هللا عنهم) وأرضاهم‪ ،‬وتصعد الّنساء على أسطح البيوت‪ ،‬واألطفال في الّسكك‪،‬‬
‫ويغمر المدينة الفرح‪ ،‬ويعّم ها البشـر‪ ،‬ويملؤها الّشوق ألحّب إنسان إلى الّر حمن‪ ،‬وأعظم إنسان‬
‫عرفته األكوان‪ ،‬فكان يوم استقباله ﷺ يوم فرح وابتهاج‪ ،‬يوم لم يمّر ولن يمّر بالمدينة مثُله‪ ،‬حيث‬
‫أطّل ﷺ بوجهه الّشريف الُم نير على الجموع‪ ،‬أطل بنور الوحي‪ ،‬ونور الُّسنة‪ ،‬ونور الّر حمة‪،‬‬
‫فاختلطت الّدموع بالبسمات‪ ،‬دموع الفرح الموحية الُم عّبرة الُم ؤّثرة التي ال يغلبها بيان‪ ،‬وال يصل‬
‫إليها شعر وال نثر مهما كان‪.‬‬
‫ويصف البراء بن عازب (رضي هللا عنه) هذا المشهد فيقول‪« :‬ما َر َأْيُت أْه َل الَم ِديَنِة َفِر ُح وا‬
‫بشيٍء ‪َ ،‬فَر َحُه ْم به حَّتى َر َأْيُت الَو اَل ِئَد والِّص ْبَياَن يقولوَن ‪ :‬هذا َر سوُل هللا ﷺ» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وُيقبل األنصار من كل َح دٍب وَص وٍب ُيرحبون‪ ،‬وُيحّيون‪ ،‬وُيسّه لون‪َ ،‬يودون لو يفرشون‬
‫رموش أعينهم ألقدامه ﷺ‪ ،‬ويبسطون أرواحهم لخطواته‪ ،‬وُيقّدمون نفوسهم هدية لمقدمه ﷺ‪.‬‬
‫وعن ذلك اليوم يقول أنس بن مالك‪« :‬لَّم ا كاَن اليوُم اَّلذي دخَل فيِه رسوُل هللا ﷺ المدينَة‬
‫أضاَء مْنها كُّل شيٍء » [رواه الترمذي]‪ ،‬فكانت طلته ﷺ أجمل من الّشمس في ضحاها‪ ،‬وأبهى من‬
‫القمر إذا تالها‪ ،‬فإذا العيون تسفح دمعها لشدة ما غمرها‪ ،‬وإذا القلوب تطير فرًح ا‪ ،‬واألرواح تسافر‬
‫ُح ًّبا‪ ،‬يا هللا! ُم حمد بن عبدهللا هو الضيف‪ ،‬يا هللا! رسول الُه دى هو الوافد‪ ،‬يا هللا! نبي هللا هو القادم‪،‬‬
‫يا هللا! خاتم الُم رسلين هو الزائر!‪.‬‬
‫برؤايك زاَل اهلّم اي خري من َو فْد‬
‫وزاَل العَنا واليأس والغّم والَّنكْد‬
‫وسارْت لك األرواح يف األرض موكًبا‬
‫حُت ّييك اي من َنّو ر الّروح واجلسْد‬
‫وصل ﷺ إلى قباء وظفر به من بين الّناس كلثوم بن الِه ْدِم (رضي هللا عنه) من بني عمرو‬
‫بن عوف فأنزله في داره‪ ،‬ونزل أبو بكر على ُخ بيب بن إساف‪َ ،‬فَلِبَث َر سوُل هللا في َبِني َعْم ِر و بِن‬
‫َعْو ٍف بْض َع َعْش َر َة َلْيَلًة‪ ،‬وَأَّسَس مسجد قباء‪ ،‬الَم ْس ِج َد الذي ُأِّس َس عَلى الَّتْقَو ى‪ ،‬وَص َّلى فيه‪ ،‬ثم مشى‬
‫ﷺ إلى المدينة وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف‪ ،‬فجمع الّناس وَص َّلى في المسجد الذي في‬
‫بطن الوادي وكانوا مئة رجل‪ ،‬وكانت أّو ل جمعة داخل المدينة‪ُ ،‬ثَّم َر ِك َب راِح َلَتُه‪ ،‬وشّق الّص فوف‬
‫كأّنه البدر يجتاز الّسحاب‪ ،‬الكل ُيرّح ب‪ ،‬والُكل ُيحّيي‪ ،‬بين دموع الفرح‪ ،‬وتراحيب الّشوق‪ ،‬تواكب‬
‫الجموع هذا المشهد الذي يرسم صورته في القلوب‪ ،‬ويطبع أثره في األرواح‪ ،‬وأسطح المنازل كّلها‬
‫عيون شاخصة‪ ،‬وأرواح متلّه فة لهذا اإلمام العظيم‪ ،‬والّنبي الكريم‪ ،‬أين يا ُترى ستبرك ناقته؟! فتختار‬
‫الّناقة موضًعا كريًم ا من تقدير الباري‪ ،‬منزل أخوال نبّيه في بني الّنجار صلة رحم بهم‪ ،‬وُقربى‪،‬‬
‫وتكريم‪ ،‬فينزل ﷺ حيث َبَر َكِت الّناقة ِع ْنَد َم ْس ِج ِده بالَم ِديَنِة ‪ ،‬وكان ُيَص ِّلي فيه َيوَم ئٍذ ِر جاٌل ِم َن‬
‫الُم ْسِلِم يَن ‪ ،‬وكاَن ِم ْر َبًدا ِللَّتْم ِر ‪ِ ،‬لَسْهٍل وُسَه ْيٍل ُغالَم ْيِن َيِتيَم ْيِن في ِح ْج ِر أْس َعَد بِن ُز راَر َة‪ ،‬فقاَل َر سوُل‬
‫هللا ﷺ ِح يَن َبَر َكْت به راِح َلُتُه‪« :‬هذا إْن شاَء هللا الَم ْنِز ُل ‪ُ .‬ثَّم َدعا َر سوُل هللا ﷺ الغالمْيِن َفساَو َم ُه ما‬
‫بالِم ْر َبِد‪ِ ،‬لَيَّتِخ َذُه َم ْس ِج ًدا‪َ ،‬فقاال‪ :‬ال‪َ ،‬بْل َنَهُبُه لَك يا َر سوَل هللا‪ ،‬فأَبى َر سوُل هللا أْن َيْقَبَلُه منهما ِهَبًة‬
‫حَّتى اْبتاَعُه منهما‪ُ ،‬ثَّم َبناُه َم ْس ِج ًدا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبادر أبو أيوب األنصاري(رضي هللا عنه) حيث أكرمه هللا باألسبقّية لضيافة الّنبي‪ ،‬فأخذ‬
‫رحله ﷺ ومتاعه القليل الذي ال يكاد ُيذكر‪ ،‬والذي ُيحمل بيد واحدة‪ ،‬وما عسى أن يكون هذا المتاع؟!‬
‫لعّله قطعة ثوب‪ ،‬أو بقّية من خبز جاٍّف ‪ ،‬أو عمامة بالية أو قدح ليس إاّل ‪ ،‬ولكنه أتى ﷺ بمتاع أعظم‪،‬‬
‫وبزاد أكبر‪ ،‬وبعطاء أوسع‪.‬‬
‫جاء بالفتوحات الرّبانية‪ ،‬والبركات اإللهية‪ ،‬والّر سالة الّسماوية‪ ،‬جاء إليهم حاماًل مفاتيح‬
‫الفردوس األعلى لُيسّلمها في أيديهم جزاء إيمانهم ووفائهم وُنصرتهم (رضي هللا عنهم)‪.‬‬
‫ولقد ذكر هللا نصره لنبّيه فقال تعالى‪ِ{ :‬إَّال َتْنُصُر وُه َفَقْد َنَصَر ُه ُهَّللا} [التوبة‪ :‬اآلية ‪ ،]40‬فأّي‬
‫نصر حصل له ﷺ‪ ،‬مع العلم أّنه خرج ُم هاجًر ا دون قتال أو معركة ُتسفر عن منتصر أو مهزوم؟!‬
‫إّن االنتصار في معركة أو غزوة هو نوع من أنواع االنتصارات‪ ،‬لكن هناك انتصارات‬
‫أعظم وأفضل وأكبر في ميادين الحياة‪ ،‬ومنها الّنصـر المقصود هنا‪ ،‬المنوط باألهداف الكبرى‪،‬‬
‫والعاقبة الُم باركة له ﷺ‪ ،‬فمجرد ارتحاله سالًم ا معافًى بدينه ودعوته إلى المدينة أعظم انتصار‪.‬‬
‫فقد أقام هناك الّدولة‪ ،‬وأسس مسجده في المدينة ليكون المسجد منطلق الّدعوة‪ ،‬ومهد‬
‫الّر سالة‪ ،‬ومهبط الّنور‪ ،‬وجامعة العلماء واألولياء والّشهداء والكرماء‪ ،‬ومنارة المشروع الّر باني‬
‫الذي ُفتحت به القلوب والبصائر‪ ،‬ثم ُفتحت له الّدنيا بأسرها فيما بعد‪ ،‬فلم تكن هجرته ﷺ هي الغاية‬
‫والّنهاية‪ ،‬بل كانت البداية‪ ،‬واالنطالقة الكبرى‪ ،‬ورحلة المتاعب والمصاعب والّتحديات التي انتصر‬
‫فيها ﷺ‪ ،‬وتغّلب عليها‪ ،‬وحّقق بها المستقبل المنشود لُألمة‪ ،‬وصنع من خاللها الحضارة‪-‬بفضل من‬
‫ربه‪ -‬الحضارة اإلنسانية الباهرة التي ُأّسست على العدل واإلحسان‪ ،‬والّتقوى واإليمان‪.‬‬
‫فصّلى هللا وسَّلم على َم ن أقام هللا به الميزان‪ ،‬وأنزل عليه القرآن‪ ،‬ومّز ق به الُكفر والُبهتان‪،‬‬
‫وحّطم به األوثان والُّص لبان‪ ،‬عدد ما فاح ريحان‪ ،‬وما عبق ُأقحوان‪ ،‬وما تزّين ُبستان‪ ،‬وما اهتّز ت‬
‫جنان‪ ،‬وما تعاقب الملوان‪ ،‬وما ضّج ت بالّص الة عليه اإلنس والجاّن ‪ ،‬وما تطّه رت بالّسالم عليه‬
‫الّثقالن‪.‬‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َعِظ ْيًم ا‬
‫كّل الُعظماء‪ ،‬والّز عماء‪ ،‬والُح كماء‪ ،‬واُألدباء‪ ،‬تخّر جوا من مدارس أرضّية‪ ،‬وجامعات‬
‫دنيوّية‪ ،‬إاّل هو ﷺ‪ ،‬فهو مبعوُث العناية الّر ّبانية‪ ،‬ومرسُل الّر حمة اإللهية؛ لهداية اإلنسانّية وإرشاد‬
‫البشرّية‪ ،‬بّشر به هللا العالميَن ‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن } [األنبياء‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]107‬وأخبر ُسبحانه بصفاته العظيمة فقال‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّنِبُّي ِإَّنا َأْر َسْلَناَك َشاِه ًدا َو ُمَبِّش ًر ا َو َنِذيًر ا *‬
‫َو َداِع ًيا ِإَلى ِهَّللا ِبِإْذِنِه َو ِس َر اًج ا ُم ِنيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪ ،]46 - 45‬وزّكى منهجه وهديه وأخالقه‬
‫فقال تعالى‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَتْه ِدي ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْس َتَقيٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪ ،]4‬وأثنى على طريقته فقال سبحانه‪:‬‬
‫{َو ِإَّنَك َلَتْه ِدي ِإَلى} {ِص َر اٍط ُم ْس َتَقيٍم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪ ،]52‬وذّب الُّتَه م عن ِع رضه ﷺ وُسْم عته‬
‫فقال تعالى‪َ{ :‬و الَّنْج ِم ِإَذا َهَو ى * َم ا َض َّل َص اِح ُبُكْم َو َم ا َغَو ى * َو َم ا َيْنِط ُق َعِن اْلَهَو ى * ِإْن ُهَو ِإَّال‬
‫َو ْح ٌي ُيوَح ى} [النجم‪ :‬اآلية ‪ ،]4 -1‬ووعد بنصره‪ ،‬وواليته‪ ،‬وِح فظه فقال سبحانه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّنِبُّي‬
‫َح ْسُبَك ُهَّللا اَّتَبَعَك ِم َن اْلُم ْؤ ِم ِنيَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪ ،]64‬وقال‪ِ{ :‬إَّنا َكَفْيَناَك اْلُم ْس َتْه ِز ِئيَن } [الحجر‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]95‬وحّقق له ما وعد من نصر‪ ،‬وأنجز له ما أخبر به من فتح فقال سبحانه‪ِ{ :‬إَّنا َفَتْح َنا َلَك‬
‫َفْتًح ا ُم ِبينًا * ِلَيْغِفَر َلَك ُهَّللا َم ا َتَقَّدَم ِم ْن َذْنِبَك َو َم ا َتَأَّخ َر َو ُيِتَّم ِنْعَم َتُه َعَلْيَك َو َيْه ِد َيَك ِص َر اًطا ُم ْس َتِقيًم ا *‬
‫َو َيْنُص َر َك ُهَّللا َنْص ًر ا َعِز يًز ا} [الفتح‪ :‬اآلية ‪ ،]3 -1‬فكان في إرساله ﷺ ميالٌد جديٌد للبشرّية‪ ،‬وفجٌر‬
‫باهٌر لإلنسانّية‪.‬‬
‫ومن أسرار عظمته ﷺ‪ ،‬أّنه لم تأت بعده عبر الّتاريخ شخصية ُتنسيه أو تلغيه‪ ،‬فجميع القادة‬
‫قد يتناوبون على العظمة‪ ،‬أو التفّر د‪ ،‬أو الّر يادة؛ فمثاًل طارق بن زياد قد يأتي بعده قادة ومثله قادة‪،‬‬
‫وصالح الّدين األيوبّي ‪ ،‬يأتي مثله أو من يشابهه أو يتفوق عليه‪ ،‬وكذلك في جانب العلم‪ ،‬يأتي عالٌم‬
‫فيكون ُم جتهًدا ثم يأتي عالم آخر قد يفوقه‪ ،‬وقس على ذلك كّل العلوم وجميع مناحي الّتميز في الحياة‪،‬‬
‫إاّل رسول هللا ﷺ؛ فهو الّشخصية البارزة التي تختلف عن كل القادة‪ ،‬والعلماء‪ ،‬والّر واد‪ ،‬والُعظماء؛‬
‫إّنه باختصار‪« :‬المعصوم ﷺ»‪ ،‬فالُعظماء كل منهم عظيم في باب واحد‪ ،‬منهم من هو عظيم في‬
‫الّسياسة‪ ،‬أو العسكرية‪ ،‬أو العلم‪ ،‬أو االقتصاد‪ ،‬أو الفلسفة‪ ...‬إلى غير ذلك‪ ،‬لكن رسولنا ﷺ عظيم في‬
‫كل باب‪ ،‬وعظيم في كل مناحي الحياة‪ ،‬فهو األّو ل في كل مقام شريف‪ ،‬وفي كل مجد ُم نيف‪ ،‬عظمته‬
‫ُتحّطم األرقام‪ ،‬وُتنسيك األعالم‪ ،‬وتصحبك مدى األيام‪.‬‬
‫فهو ﷺ األّو ل الذي سكن قلوب الّناس‪ ،‬واستولى ُح ُّبه على مشاعرهم‪ ،‬فصار الُم عّلم والقدوة‪،‬‬
‫واإلمام واألسوة‪ ،‬عصم هللا فؤاده‪ ،‬وزّكى نهجه‪ ،‬وأثنى على هديه‪ ،‬ومدح ُخ ُلقه‪ ،‬وطّه ر روحه‪ ،‬فهو‬
‫األّو ل في كل ُخ ُلق نبيل‪ ،‬ووصف جميل‪ ،‬ومعنى جليل‪ ،‬بلغ في كل فضيلة منتهاها‪ ،‬وفي كل مكرمة‬
‫أقصاها‪ ،‬وفي كل َم نقبٍة أعالها‪ ،‬ليس في حياته زّلة‪ ،‬وال في ُخ ُلقه هفوة‪ ،‬وال في سجله سقطة‪ ،‬وال‬
‫في تاريخه كبوة‪ ،‬وال في ديوانه غلطة‪.‬‬
‫هو ﷺ األّو ل الذي عّظم «اسم هللا» في القلوب‪ ،‬وفتق األلسن بـ «ال إله إال هللا»‪ ،‬وغرس في‬
‫األرواح‪« :‬هللا‪ ..‬هللا»‪ ،‬وبث في الوجدان «نور هللا»‪ ،‬وفتح للّناس «باب هللا»‪ ،‬وأعلن في العالم‬
‫«توحيد هللا»‪.‬‬
‫أعلن حقوق اإلنسان‪ ،‬ونادى بالعدالة وِح فظ الّنوع البشرّي ‪ ،‬والمحافظة على البيئة‪ ،‬واحترام‬
‫الّذوق العام‪.‬‬
‫هو ﷺ األّو ل الذي بهر ُعقالء العالم‪ ،‬وأعجب ُح كماء الّدنيا‪ ،‬وأّثر برسالته في أهل األرض‪،‬‬
‫واجتمع على ُح ّبه واّتباعه البيض والّسود والُح مر‪ ،‬من جميع القارات‪ ،‬باختالف الّلغات‪ ،‬وتعّدد‬
‫الّلهجات‪ ،‬وتباين العرقيات‪.‬‬
‫هو ﷺ األّو ل الذي أتى بحق الّر وح في توحيد هللا وعبادته وذكره‪ ،‬وحّق العقل في الّتفكير‬
‫والّتدبر والّر أي الّص حيح‪ ،‬وحق الجسم في القّو ة والّر ياضة والّنشاط‪ ،‬وحق البطن في أكل الحالل‬
‫وشربه‪ ،‬واالقتصاد وتناول الّنافع الُم فيد‪ ،‬فهو ﷺ ُم لهم الّر وح‪ ،‬والعقل‪ ،‬والبدن‪.‬‬
‫هو ﷺ األّو ل الذي مهما طال عمرك وعظم ذكاؤك‪ ،‬ال تستطيع أن ُتلّم بأبعاد كلماته‪ ،‬وال أن‬
‫ُتحيط بدرر ِح كمه‪ ،‬بخالف غيره من البشر مهما كان؛ فإّنك تستطيع أن ُتحيط بنواحي حياته‬
‫وتفاصيل عمره‪.‬‬
‫هو ﷺ األّو ل الذي ُكّلما اقتربت منه ومن ُسّنته اقتربت من هللا‪ ،‬وُكلما ابتعدت عنه وعن ُسّنته‬
‫ابتعدت عن هللا‪ ،‬وهذا وصف ال يكون إاّل له ﷺ‪ ،‬لمنزلته الُعظمى عند رّبه‪ ،‬ومحّله األشرف عند‬
‫مواله‪.‬‬
‫هو ﷺ األّو ل الذي ال يجوز لك أن تأخذ أفعاله وأقواله على محل الجدل والّنقاش‪ ،‬ترد ما‬
‫شئت وتقبل ما شئت‪ ،‬بل عليك الّسمع والّطاعة له؛ ألّنه معصوم ﷺ‪ ،‬بخالف غيره‪ ،‬مهما كان علمه‬
‫أو صالحه فلك حّق الّنظر واألخذ والّر د والقبول والّر فض‪.‬‬
‫هو ﷺ األمّي األّو ل الذي حار العلماء في أسرار شريعته‪ ،‬واندهش العباقرة من روعة‬
‫كلماته‪ ،‬وغاص الحكماء واألذكياء في بحور معارفه‪ ،‬لم يحمل دفتًر ا من الّدفاتر‪ ،‬وال محبرة من‬
‫المحابر‪ ،‬ولكن ِع ْلمه دّو ى على المنابر‪ ،‬وانتشـر ميراثه على المنائر‪ ،‬فلم يكتب كتاًبا‪ ،‬ولكنه ما خال‬
‫من ذكره كتاب‪ ،‬ولم يخط بيده جواًبا‪ ،‬ولكنه أعظم سؤال وأشرف جواب‪ ،‬فهو الذي فتح للمعرفة‬
‫أبواًبا‪ ،‬ومّد للعلم أسباًبا‪ ،‬ومأل بنور هللا أوديًة وشعاًبا‪.‬‬
‫هو ﷺ األّو ل الذي وصل جميله ومعروفه وإحسانه إلى كِّل واحد من أتباعه إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫كبيًر ا أو صغيًر ا‪ ،‬رجاًل أو امرأة‪ ،‬غنًّيا أو فقيًر ا‪ ،‬كٌل عنده بحسب ما استفاد من هذا الّنبي العظيم‪،‬‬
‫َألهم األطفال‪ ،‬وشحذ همم الّر جال‪ ،‬وشّج ع األبطال‪ ،‬واحترم المرأة‪ ،‬وحافظ على المال العام‪ ،‬وقّدس‬
‫الفضيلة‪ ،‬وصان الُم ثل العليا‪ ،‬ودعا لألهداف الّسامية‪:‬‬
‫حبيبَنا أنت‪ ،‬أنت الفجر واألمُل‬
‫والفأل والفتح واإلهلام واُملثُل‬
‫أنت الّصباح لنا من بعد ليلتنا‬
‫وبدراَن أنت فيك اُحلسن ُمكتمُل‬
‫على حُم ّياك غيث الوحي ُمنسكًبا‬
‫خَي ضـُّر من راحتيك الّس هل واجلبُل‬
‫يف مبسم الكون ُبشـرى أنت راُمِسها‬
‫ٍف‬
‫يفديك كّل الورى حا ومنتعُل‬
‫عظيم ﷺ ألّنه األّو ل الذي لم يستطع أعداؤه أن يحفظوا عليه سقطة‪ ،‬ولم يعثروا في ملّف‬
‫ُخ لقه الكريم على غلطة‪ ،‬مع شّدة عداوتهم‪ ،‬وعظيم مكرهم‪ ،‬وضراوة حقدهم‪ ،‬بل وجدوا كل ما‬
‫غاظهم من ُنبل في الهّم ة‪ ،‬ونظافة في الّسجل‪ ،‬وُطهر في الّسيرة‪َ ،‬و َج ُدوا الّص دق الذي ُيباهي سناء‬
‫الّشمس‪ ،‬ووجدوا الّطهر الذي يتطهر به ماء الغمام‪ ،‬فهو األّو ل في كل ُخ لق شريف وكل مذهب‬
‫عفيف‪ ،‬كان مستودع األمانات‪ ،‬ومرد اآلراء‪ ،‬ومرجع الُم حاكمات‪ ،‬ومضرب األمثال في البّر‬
‫والّسمو‪ ،‬والّر شد والفصاحة‪.‬‬
‫ولهذا ُح ّق لنا أن نقول بكل ثقة واطمئنان‪ :‬إّنه باإلمكان كتابة ألف مجلد‪ ،‬في كل مجلٍد سيرُة‬
‫مئة عظيم من عظماء اإلسالم‪ ،‬في الفقه‪ ،‬أو الّتفسير‪ ،‬أو الحديث‪ ،‬أو التاريخ‪ ،‬أو الوعظ‪ ،‬أو ال‬
‫ّبرتية‪ ،‬وجميع هؤالء العظماء هم ذرة ِم ن عظمته ﷺ‪.‬‬
‫ونقول أيًض ا‪ :‬ليس في العالم أحد بدأ هللا تعالى بالّص الة والّسالم عليه بنفسه الُم قّدسة‪،‬‬
‫ومالئكته والمؤمنين؛ يصلون عليه إلى يوم الّدين إاّل محّم ًدا ﷺ‪ ،‬وليس في العالم أحد أعطاه هللا المقام‬
‫المحمود‪ ،‬والّلواء المعقود‪ ،‬والموقف المشهود إاّل محّم ًدا ﷺ‪ ،‬وليس في العالم أحد ُم خّو ل عن رّبه‪،‬‬
‫وُم فّو ض عن خالقه‪ُ ،‬يحّلل وُيحّر م ‪-‬بإذن هللا‪ -‬بعد مبعثه ﷺ إاّل هو‪ ،‬وليس في العالم أحد يدور الحّق‬
‫معه حيثما دار‪ ،‬ويكون الّص واب حليًفا له في كّل قول وفعل‪ ،‬وُتقاس األقوال على قوله‪ ،‬واألفعال‬
‫على فعله‪ ،‬واألحوال على حاله إاّل محّم ًدا ﷺ‪.‬‬
‫ويجب على كّل إنسان أن يجعله له ُم علًم ا‪ ،‬ويتخذه ُم لهًم ا‪ ،‬ويرضاه َح كًم ا‪ ،‬فصالته ﷺ‪،‬‬
‫وصيامه‪ ،‬ولباسه‪ ،‬وطعامه‪ ،‬ونومه‪ ،‬ويقظته‪ ،‬وكالمه‪ ،‬ومزحه‪ ،‬وضحكه‪ ،‬وبكاؤه؛ شريعة وعبادة‬
‫ُيتعّبد بها‪.‬‬
‫إّن أّي عظيم في العالم وأّي إنسان مثالي ستجد عنده عدة صفات جميلة‪ ،‬إّم ا في الِح لم‪ ،‬أو‬
‫الكرم‪ ،‬أو الّز هد‪ ،‬أو الّشجاعة‪ ،‬لكن أن يجمعها كّلها في أعلى مستوياتها وأرفع درجاتها فهذا‬
‫مستحيل‪ ،‬ولم يكن ذلك إاّل لُم حمد ﷺ‪ ،‬فوهللا إّنه َعْذب األخالق‪ ،‬كريم الّسجايا‪ ،‬مهّذب الّطباع‪ ،‬نقّي‬
‫الفطرة‪ ،‬طّيب الخصال‪ ،‬عظيم الخالل‪ ،‬جّم الحياء‪ ،‬حّي العاطفة‪ ،‬جميل الّسيرة‪ ،‬طاهر الّسـريرة‪،‬‬
‫عفيف الجيب‪ ،‬سليم الّص در‪ .‬وهللا إّنه قمة الفضائل‪ ،‬ومنبع الجود‪ ،‬ومطلع الخير‪ ،‬وغاية اإلحسان‪،‬‬
‫ونهاية ما يصبو إليه اإلنسان‪ ،‬وذروة ما تتوق إليه األنفس وتطمح إليه األرواح‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫َمن كاَن فْو ق حَم ّل الّش مِس مْو ِض ُعه‬
‫َفَلْيَس َيْر َف ُعُه شيٌء َوال َيَض ُع‬
‫عظيم ﷺ؛ ألّن ميراثه باٍق إلى قيام الّساعة‪ ،‬وكالمه شريعة ُيتعّبد بها إلى يوم الّدين‪،‬هداه رب‬
‫العالمين‪ ،‬واجتمعت األجناس واأللوان واألعراق على ُح ّبه وطاعته‪ ،‬أحّبه الملك والمملوك‪،‬‬
‫والّص غير والكبير‪ ،‬والّر جل والمرأة‪ ،‬والغنّي والفقير‪ ،‬والقريب والبعيد؛ ألّنه ملك القلوب بعطفه‪،‬‬
‫وأسر األرواح بفضله‪ ،‬وطّو ق األعناق بكرمه‪ ،‬وسبى األنفس بجوده‪ ،‬وكسب الّناس بلطفه‪ ،‬هّذبه‬
‫الوحي‪ ،‬وعّلمه جبريل‪.‬‬
‫البسمة على محّياه ﷺ‪ ،‬والبشر على طلعته‪ ،‬والّنور على جبينه‪ ،‬والحّب في قلبه‪ ،‬والجود في‬
‫يده‪ ،‬والبركة معه‪ ،‬هو الطهر كّله‪ ،‬والّص دق أّو له وآخره‪ ،‬والحّق ما دعا إليه‪ ،‬والعدل ما حكم به‪ ،‬لو‬
‫كان الّص الح رجاًل لكان في ثيابه‪ ،‬ولو كان البّر إنساًنا لكان في هيئته‪ ،‬ولو أّن الفضيلة بشـر لحّلت‬
‫فيه‪ ،‬صادق ﷺ ولو قابَلته المنايا‪ ،‬شجاع ولو قاتلته األسود‪ ،‬جواد ولو ُسئل كّل ما يملك‪ .‬هو المثال‬
‫الّر اقي‪ ،‬والّر مز الّسامي‪ ،‬والّنبي الُم ختار‪ ،‬والّر سول الُم صطفى‪ ،‬سَبق العاَلم ديانًة وأمانة‪ ،‬وصيانة‪،‬‬
‫ورزانة‪ ،‬وتفّو ق على الكل علًم ا وعماًل ‪ ،‬وكرًم ا وُنباًل ‪ ،‬وشجاعة وتضحيًة‪ ،‬وعال على الجميع صبًر ا‬
‫وثباًتا‪ ،‬وصالًح ا واستقامة‪.‬‬
‫فهو األّو ل ﷺ الذي ُيبهرك في كل صفة من صفاته‪ ،‬وكل ُخ لق من أخالقه‪ ،‬فله من كّل‬
‫وصف جميل أرقاه‪ ،‬وله من كّل ُخ لق نبيل أشرفه‪ ،‬فقد نال ﷺ أعلى مكارم األخالق‪ ،‬وأرفع درجات‬
‫الكمال البشرّي ‪ ،‬فهل سبقه أو لحقه في العالم شخٌص بهذه المرتبة في عالم األخالق والّشمائل؟‬
‫عظيم ﷺ لتحّم له وصبره على ما القاه من مصائب وما قابله من أهوال‪ ،‬فقد ُو لد يتيًم ا‪ ،‬ثم‬
‫ماتت أمه‪ ،‬ومات جّده‪ ،‬وفَقد زوجته‪ ،‬وتوّفي عّم ه‪ ،‬ومات جميع أبنائه‪ ،‬وُطّلقت ابنتاه‪ ،‬واُّتهم في‬
‫عرضه‪ ،‬وابُتلي بالجوع والفقر‪ ،‬وُو ضع الّسال على رأسه‪ ،‬وُر مَي بالحجارة حتى ُأدميت عقباه‪ ،‬واُّتهم‬
‫ﷺ بالّسحر والجنون‪ ،‬وُسَّب بأبشع الكلمات‪ ،‬وحوصر في الِّش ْعب‪ ،‬وُأخرج من بيته وبلده‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«الَّلُه َّم اغِفْر لَقومي‪ ،‬فإَّنهم ال َيعَلموَن » [رواه ابن حّبان]‪.‬‬
‫قتلوا أصحابه‪ ،‬وشّج وا وجهه‪ ،‬وكسروا رباعيته‪ ،‬ومّثلوا بعمه‪ ،‬فقال‪ « :‬اذهبوا فأنتُم‬
‫الُّطَلقاُء » كما في [سيرة ابن هشام] و[سنن البيهقي]‪.‬‬
‫آذوه ﷺ فصبر‪ ،‬شتموه فحلم‪ ،‬ظلموه فعفا‪ ،‬جفوه فصفح‪ ،‬منعوه فأعطى‪ ،‬قطعوه فوصل‪ ،‬كان‬
‫يوعك ِم ن الُحّم ى كما ُيوعك الَّر جالن‪ ،‬ويجوع فال يجد كسـرة خبز وال حفنة تمر‪ ،‬وهو الذي ُفتحت‬
‫ُألّم ته خزائن الّدنيا وكنوز المعمورة‪ ،‬وجلس أتباعه ﷺ بعده على عروش كسرى وقيصر‪ ،‬وأسّر ة‬
‫فارس والّر وم‪ ،‬وكان يجلس ﷺ على حصير ُم مّز ق‪ ،‬وينام على الّر مل‪ ،‬ويلتحف بكساء باٍل ‪ ،‬واجه‬
‫الوثنّية بأسرها‪ ،‬والجاهلية بقضها وقضيضها‪ ،‬والّشرك بعتاولته وأصنامه؛ فثبت ثبات الحّق ‪ ،‬وصمد‬
‫صمود الجبال الّر اسيات‪.‬‬
‫عظيم ﷺ؛ ألّن هللا نصره على كّل عدّو ‪ ،‬وأظهره على كّل خصم‪ ،‬وأّيده في كل أمر‪ ،‬ومنحه‬
‫العّز بال عشيرة‪ ،‬والغنى بال مال‪ ،‬والحفظ بال حرس‪ ،‬فهو الُم ظّفر؛ ألن هللا َح ْسُبه‪ ،‬وهو المنصور‬
‫ألّن هللا َح ْسُبه‪ ،‬وهو الموّفق ألن هللا َح ْسُبه‪.‬‬
‫إذا سمع ﷺ صولة الباطل‪ ،‬وجلبة الخصوم‪ ،‬ودعاية الّشرك‪ ،‬ووعيد اليهود‪ ،‬وتربص‬
‫المنافقين‪ ،‬وشماتة الحاسدين؛ َثَبَت ألّن هللا َح ْسُبه‪.‬‬
‫وإذا وّلى الّز مان‪ ،‬وأعرض القريب‪ ،‬وشمت العدّو ‪ ،‬وضاقت الّنفس‪ ،‬وأبطأ الفرج‪ ،‬ثبت ﷺ؛‬
‫ألن هللا َح ْسُبه‪.‬‬
‫وإذا داهمته المصائب‪ ،‬ونازلته الخطوب‪ ،‬وحّفت به الّنكبات‪ ،‬وأحاطت به الكوارث‪ ،‬لم‬
‫يلتفت إلى أحد من الّناس‪ ،‬ولم يدع أحًدا من البشر‪ ،‬ولم يّتجه لكائن من كان غير هللا؛ ألن هللا َح ْسُبه‪.‬‬
‫ألّم به ﷺ المرض‪ ،‬وحّلت به قلت ذات اليد‪ ،‬وأبطأ عليه الّنصر‪ ،‬وتأّخ ر الفتح‪ ،‬واشتّد الكرب‪،‬‬
‫وثقل الحمل‪ ،‬وادلهّم الخطب‪ ،‬فلم يجزع؛ ألّن هللا َح ْسُبه‪ ،‬كما قال ُسبحانه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّنِبُّي َح ْسُبَك ُهَّللا}‬
‫[األنفال‪ :‬اآلية ‪.]64‬‬
‫عظيم ﷺ بُم هّم ته الغالية‪ ،‬ووظيفته الّسامية؛ فقد هدى الّناس من الّضاللة‪ ،‬وعّلمهم من‬
‫الجهالة‪ ،‬وأزال الّشبهات‪ ،‬وطرد الغوايات‪ ،‬ومحا الباطل‪ ،‬وشّيد الحق‪.‬‬
‫من أراد الّسعادة اَّتبعه‪ ،‬ومن أحّب الفالح اقتدى به‪ ،‬ومن رغب في الّنجاة اهتدى بهداه‪.‬‬
‫فصالته ﷺ أحسن صالة‪ ،‬وصيامه أتّم صيام‪ ،‬وحّج ه أكمل حج‪ ،‬وصدقته أزكى صدقة‪ ،‬وذكره لرّبه‬
‫أعظم ذكر‪.‬‬
‫من ركب سفينة هدايته نجا‪ ،‬ومن دخل دار دعوته أمن‪ ،‬ومن تمّسك بحبل رسالته سلم‪ ،‬ومن‬
‫اّتبعه اهتدى وما ضّل ‪ ،‬ومن تشّر ف بُسّنته عّز وما ذّل ‪ ،‬ومن اهتدى بهداه استقام وما زّل ‪ ،‬وكيف يذُّل‬
‫والّنصر معه ﷺ؟ وكيف يضل وكل الهداية لديه ﷺ؟ وكيف يزّل والّر شد كّله عنده ﷺ؟ فكالمه ﷺ‬
‫ُهدى‪ ،‬وحاله ُهدى‪ ،‬وفعله ُهدى‪ ،‬ومذهبه ُهدى‪ ،‬فهو الهادي إلى هللا‪ ،‬الّدال على طريق الخير‪ ،‬الُم لهم‬
‫لكل بّر ‪ ،‬الّداعي إلى الجنة؛ ألّنه وافق الفطرة‪ ،‬وجاء بحنيفية سمحة‪ ،‬وشريعة غّر اء‪ ،‬ومّلة كاملة‪،‬‬
‫ودين تام‪ ،‬فهدى ﷺ العقل بإذن هللا من الزيغ‪ ،‬وطّه ر القلب بإذن هللا من الّر يبة‪ ،‬وغسل الّضمير بإذن‬
‫هللا من الخيانة‪ ،‬وأخرج اُألّم ة بإذن هللا من الّظالم‪ ،‬وحّر ر البشر بإذن هللا من الّطاغوت‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{َو ِإَّنَك َلَتْه ِدي ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْس َتَقيٍم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪.]52‬‬
‫عظيم ﷺ ألّن هللا شرح صدره؛ فصار وسيًعا فسيًح ا ال ضيق فيه وال حرج‪ ،‬وال هم وال غم‪،‬‬
‫بل ُم لئ بالّنور والّسرور‪ ،‬والحكمة والّر حمة‪ ،‬واإليمان واإلحسان‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬أَلْم َنْش َر ْح َلَك‬
‫َص ْدَر َك } [الشرح‪ :‬اآلية ‪ .]1‬شرح هللا صدره ﷺ فوسع أخالق الّناس‪ ،‬وعفا عن تقصيرهم‪ ،‬وصفح‬
‫عن أخطائهم‪ ،‬وستر عيوبهم‪ ،‬وحلم على سفيههم‪ ،‬وأعرض عن جاهلهم‪ ،‬ورحم ضعيفهم‪ ،‬كان ﷺ‬
‫كالغيث جوًدا‪ ،‬وكالبحر كرًم ا‪ ،‬وكالنسيم لطًفا‪ ،‬أعطى الّسائل‪ ،‬وأكرم القاصد‪ ،‬وجاد على المؤّم ل‪.‬‬
‫شرح هللا صدره فصار برًدا وسالًم ا ُيطفئ الكلمة الجافية‪ ،‬وُيبّر د العبارة الجارحة‪ ،‬صبر‬
‫على جفاء األعراب‪ ،‬ونيل الّسفهاء‪ ،‬وعجرفة الجبابرة‪ ،‬وتطاول الّتافهين‪ ،‬وتجّه م القرابة‪ ،‬وإعراض‬
‫الُم تكّبرين‪ ،‬ومقت الحسدة‪ ،‬وسهام الشامتين‪.‬‬
‫شرح هللا صدره فكان بّساًم ا في األزمات‪ ،‬ضّح اًكا في الُم لّم ات‪ ،‬مسروًر ا وهو في عين‬
‫العاصفة‪ ،‬مطمئًنا وهو في جفن الّر دى‪ ،‬تداهمه المصائب وهو ساكن‪ ،‬وتنازله الخطوب وهو ثابت؛‬
‫ألّنه ﷺ مشروح الّص در‪ ،‬عامر الفؤاد‪ ،‬حي الّنفس‪ ،‬لم يكن فًظا قاسًيا‪ ،‬وال غليًظا جافًيا‪ ،‬بل كان‬
‫رحمة وسالًم ا‪ ،‬وبًّر ا وحناًنا‪ ،‬فالحلم ُيطلب منه‪ ،‬والجود ُيتعلم من سيرته‪ ،‬والعفو ُيؤخذ من ديوانه‪،‬‬
‫وصدق هللا‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى ُخ ُلٍق َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪.]4‬‬
‫عظيم ﷺ؛ ألّن هللا وضع عنه وزره‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َو َضْعَنا َعْنَك ِو ْز َر َك * اَّلِذي َأْنَقَض‬
‫َظْه َر َك } [الشرح‪ :‬اآلية ‪ .]3 -2‬وحّط عنه خطاياه‪ ،‬وغّسله من الّذنوب‪ ،‬وطّه ره ِم ن العيوب‪ ،‬وغفر‬
‫له ما تقّدم ِم ن ذنبه وما تأخر‪ ،‬فهو الّنقّي الّطاهر ِم ن كل خطيئة‪ ،‬ذنبه مغفور‪ ،‬وسعيه مشكور‪ ،‬وعمله‬
‫مبرور‪ ،‬وفي كل شأن من شؤونه مأجور‪.‬‬
‫ُأوتي جوامع الكلم‪ ،‬واخُتصر له الكالم اختصاًر ا‪ ،‬وال يتمّثل الّشيطان به‪ ،‬وأقسم هللا تعالى‬
‫بحياته ﷺ‪ ،‬لشرف هذه الحياة‪ ،‬ولعلو منزلته عند هللا‪ ،‬فقال سبحانه‪َ{ :‬لَعْم ُر َك ِإَّنُهْم َلِفي َسْك َر ِتِه ْم‬
‫َيْعَم ُه وَن } [الحجر‪ :‬اآلية ‪.]72‬‬
‫عظيم ﷺ ألّنه األّو ل في العالم الذي نال تاج‪َ{ :‬و َر َفْعَنا َلَك ِذ ْك َر َك } [الشـرح‪ :‬اآلية ‪،]4‬‬
‫وانظر في كل يوم وليلة على مدى القارات كم ُيصَّلى عليه ﷺ؟ وكم ُيذكر على المنابر‪ ،‬وعلى‬
‫رؤوس المنائر؟ ال ُيذكر اسم هللا تعالى إاّل وُذكر معه ﷺ‪ ،‬اقترن ذكره بذكر هللا في األذان والّص الة‪،‬‬
‫والخطب والمواعظ‪ ،‬يذكره كّل ُم صّل ‪ ،‬وكّل ُم سّبح‪ ،‬وكّل حاج‪ ،‬وكّل صائم‪ ،‬وكّل خطيب‪ ،‬وكل‬
‫داعية‪ ،‬فهل هناك أعظم شرًفا من هذا؟ وهل يوجد مجد أعلى من ذلك؟ ذكره هللا في الّتوراة‬
‫واإلنجيل‪ ،‬ونّو ه باسمه في الّص حف األولى والّدواوين الّسابقة‪ ،‬اسمه ُيشاد به في الّنوادي‪ ،‬وُيتلى في‬
‫الحواضر والبوادي‪ ،‬وُيمدح في المحافل‪ ،‬وُيكّر ر في المجامع‪.‬‬
‫رفع هللا ذكره فسار في األرض مسير الّشمس‪ ،‬وَعَبر القارات عبور الّر يح‪ ،‬وسافر في الدنيا‬
‫سفر الّضوء‪ ،‬فكل مدينة َتدِر ي به‪ ،‬وكل بلد يسمع عنه‪.‬‬
‫رفع هللا ذكره فصار حديث الّر كب‪ ،‬وقصة الّسمر‪ ،‬وخبر المجالس‪ ،‬وقضية القضايا‪ ،‬والنبأ‬
‫العظيم في الحياة‪.‬‬
‫رفع هللا ذكره فما ُنسي مع األيام‪ ،‬وما ُم حي مع األعوام‪ ،‬وما ُشطب من قائمة الخلود‪ ،‬وما‬
‫ُح ذف من ديوان الّتاريخ‪ ،‬وما ُأغفل من دفتر الوجود‪.‬‬
‫ُنسي الّناس إاّل هو‪ ،‬وسقطت األسماء إاّل اسمه‪ ،‬وُأغفل الُعظماء إاّل ذاته‪ ،‬من ارتفع ذكره من‬
‫العباد فبسبب اّتباعه‪ ،‬ومن ُح فظ اسمه فبسبب االقتداء به‪ ،‬ذهبت آثار الّدول وبقيت آثاره‪ُ ،‬م حيت مآثر‬
‫الّسالطين وبقيت مآثره‪ ،‬زالت أمجاد الملوك وُخ ّلد مجده‪.‬‬
‫ليس في البشر أشرح منه صدًر ا‪ ،‬وال أرفع منه ذكًر ا‪ ،‬وال أعظم منه قدًر ا‪ ،‬وال أحسن منه‬
‫أثًر ا‪ ،‬وال أجمل منه سيًر ا‪.‬‬
‫عظيم ﷺ ألّنه ما جلس مجلًسا مع أحد‪ ،‬رجاًل كان أو امرأة‪ ،‬كبيًر ا كان أو صغيًر ا‪ ،‬إاّل ونسي‬
‫ذاك الّر جل أو المرأة كل شيء في حياته‪ ،‬وكل ذكرى مّر ت به‪ ،‬إاّل لقاَء ه أو مجلسه أو حديثه مع‬
‫الّر سول عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فكان الواحد منهم بقية عمره يتحدث فقط عن تلك الّساعة التي ظفر‬
‫بها مع الّر سول ﷺ‪ ،‬أو الكلمة التي تلّقاها منه‪ ،‬أو الّثناء الذي تشّر ف به‪ ،‬أو الّدعوة التي نالها منه ﷺ‪،‬‬
‫فتملك هذه المواقف كّل شيء في حياته‪ ،‬وتستغرق ذكرياته‪ ،‬وتستولي على فكرته‪ ،‬لجالل بركته ﷺ‪،‬‬
‫ورسوخ أثره الُم بارك في أّم ته‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫َو هللا َما َخ َطَرْت اِب ْلَق ْلِب َخ اِط َرٌة‬
‫إاَّل َو ِذْك ُرَك ْجَيِري ِم ْل ء َأْنَف اس‬
‫َواَل َج َلْس ُت إىل َق ْو ٍم ُأَح ِّد ُثُه م‬
‫ِإاَّل َوَأْنَت َح ِد يِثي َبَنْي ُج اَّل سي‬
‫إّن العظماء إذا ماتوا ضّم تهم القبور‪ ،‬أّم ا محمد ﷺ لّم ا مات فضّم ته القلوب‪ .‬تقرأ عن العظماء‬
‫فتراهم كباًر ا‪ ،‬فإذا قرأت عن محمد ﷺ صاروا عندك أصفاًر ا صغاًر ا‪ ،‬ولقد قرأُت حياة أئمة أهل‬
‫الّسنة وغيرها من الّطوائف المنتسبة لإلسالم؛ فإذا كل طائفة تقّدر إمامها بحسب اّتباعه لهذا الّنبي‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬وفي داخل هذه الّطوائف مذاهب؛ فتجد األحناف مثاًل يقّدرون أبا حنيفة ويتمذهبون‬
‫بمذهبه بقدر ُقربه من الّر سول عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وُيؤخذ من كالمه وُيرد بعد عرضه على الُسّنة‬
‫الُم طّه رة‪ ،‬وكذلك اإلمام مالك عند المالكية‪ ،‬واإلمام الّشافعي عند الّشافعية‪ ،‬واإلمام أحمد بن حنبل‬
‫عند الحنابلة‪ ،‬وغيرهم من بقية العلماء الذين يقتدي بهم أتباعهم من الّطوائف األخرى‪ ،‬ولكن تجتمع‬
‫كل هذه الّطوائف لتجعل ملهمها األّو ل بإلهام هللا له؛ محمد عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فكٌّل يّدعيه‪ ،‬وكٌّل‬
‫يزعم أّنه أقرب إليه‪ ،‬وكٌّل يرى أّنه الحبيب اَألْو لى بُح ّبهم‪ ،‬فلم يجتمع هذا الُحّب من كل الّطوائف‬
‫والمذاهب إاّل له ﷺ؛ لقد ترك ﷺ بصمته في قلوب أتباعه إلى يوم الّدين كٌّل بحسب ما أخذ من إلهام‬
‫رسول الهدى عليه الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫ومن عظمته ﷺ أن سيرته مكشوفة للجميع كأّنه يعيش في ُغرفة ُز جاجية‪ ،‬ليس هناك أسرار‬
‫وال ألغاز‪ ،‬إّنما الوضوح والّص دق أمام العالمين‪ ،‬كل فرد في أّم ته يعلم دقائق سيرته ومواقف حياته‪،‬‬
‫فهو يعيش مع ُأّم ته على مدار اليوم والّليلة‪ ،‬في نومهم ويقظتهم‪ ،‬وصالتهم وصيامهم‪ ،‬وذكرهم‬
‫وحّج هم‪ ،‬وطعامهم وشرابهم‪ ،‬معهم في جميع أطوار حياتهم‪ ،‬وصور معيشتهم‪ ،‬ومشاهد ُعمرهم‪،‬‬
‫يعيش معهم بتعاليمه‪ ،‬وهديه‪ ،‬ونوره‪ ،‬وُسّنته‪ ،‬معهم في الغنى والفقر‪ ،‬والّص حة والمرض‪،‬‬
‫واالنتصار واالنكسار‪ ،‬والِح ل والّترحال‪ ،‬له في كل ُم ناسبة وصاَيا‪ ،‬وكل موقف أحاديث‪ ،‬وكل قضية‬
‫توجيهات‪ ،‬وكل ُم شكلة إرشادات‪ ،‬فهل أحد في العالم ُيشاركه في هذه العظمة؟!‬
‫إّن ُكّل عاقل‪ ،‬وعادل‪ ،‬وُم نصف‪ ،‬يعلم تمام العلم أّن أعظم إنسان في تاريخ البشرّية جمعاء‬
‫حظيت شخصيته بأرقى درجات االهتمام‪ ،‬وأعلى مقامات اإلشادة‪ ،‬هو نبّي هللا محمد بن عبدهللا ﷺ‪،‬‬
‫وبرغم كل ما ُو ّج ه إليه ‪ -‬بأبي هو وأمي‪ -‬من حمالت طعن‪ ،‬وتكذيب‪ ،‬وتشكيك‪ ،‬وتشويه‪ ،‬إاّل أّن‬
‫أغلب اآلراء‪ ،‬وأعظم الّشهادات‪ ،‬وأعلى الّتقديرات‪ ،‬في تاريخ األمم كانت لصالحه ﷺ‪ ،‬ولصالح‬
‫رسالته الخالدة وفضلها على اإلنسانية جمعاء‪.‬‬
‫وقْبل شهادات البشر َشِه د هللا وهو خير الّشاهدين لسّيد المرسلين وإمام الُم ّتقين؛ بأّنه على‬
‫ُخ لق عظيم‪ ،‬وكفى باهلل شهيًدا‪.‬‬
‫وشهد الّص حابة األطهار‪ ،‬والّتابعون األخيار‪ ،‬واألئمة األبرار‪ ،‬ولن أذكر شهاداتهم هنا؛ ألّنها‬
‫تحصيل حاصل‪ ،‬وواجب شرعي على كل مؤمن ومؤمنة‪ ،‬ولكني سأستشهد بعظماء‪ ،‬وزعماء‪،‬‬
‫وُكّتاب‪ ،‬وفالسفة (شرقيين وغربيين)‪ ،‬وأكثرهم غير مسلمين‪ُ ،‬يقّر ون بالحقيقة‪ ،‬ويعلنون شهادتهم‬
‫بكل وضوح في سّيد الخلق ﷺ‪ ،‬وقد حملهم على ذلك العدل واإلنصاف‪ ،‬وما طالعوه من سيرة هذا‬
‫الّنبي الكريم واإلمام العظيم ﷺ‪.‬‬
‫أترككم مع بعض هذه الشهادات موّثقة بمراجعها؛ حتى تعلموا أّن هللا قد رفع ذكره ﷺ في‬
‫الخافقين‪ ،‬وشهد له الُم سلمون وغير الُم سلمين‪ ،‬من كاّفة الملل‪ ،‬والّديانات‪ ،‬والّثقافات‪ ،‬والحضارات‪،‬‬
‫واألعراق‪ ،‬والطوائف‪:‬‬
‫يقول الكاتب اإلنجليزي «برنارد شو» في كتابه «محّم د»‪«:‬إّن العالم أحوج ما يكون إلى‬
‫رجل في تفكير محمد‪ ،‬هذا الّنبي الذي وضع دينه دائًم ا موضع االحترام واإلجالل‪ ،‬فِإَّنه أقوى دين‬
‫على هضم جميع الّديانات‪ ،‬خالًدا خلود األبد‪ ،‬وفي رأيي أّنه لو تولى أمر العالم اليوم‪ ،‬لُو فق في حّل‬
‫مشكالتنا‪ ،‬بما يؤمن الّسالم والّسعادة التي يرُنو البشر إليها‪.‬‬
‫و «مايكل هارت» يقول في كتابه «العظماء المئة»‪«:‬إّن اختياري محّم ًدا‪ ،‬ليكون األّو ل في‬
‫أهّم وأعظم رجال الّتاريخ‪ ،‬قد يدهش القّر اء‪ ،‬ولكّنه الّر جل األّو ل في الّتاريخ كّله الذي نجح أعلى‬
‫نجاح على المستويين‪ :‬الّديني والّدنيوي‪.‬‬
‫فهناك ُر سل وأنبياء وحكماء بدؤوا رساالت عظيمة‪ ،‬ولكنهم ماتوا دون إتمامها‪ ،‬كالمسيح في‬
‫المسيحية‪ ،‬أو شاركهم فيها غيرهم‪ ،‬أو سبقهم إليها سواهم‪ ،‬كموسى في اليهودية‪ ،‬ولكّن محمًدا هو‬
‫الذي أتّم رسالته الّدينية‪ ،‬وتحددت أحكامها‪ ،‬وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته؛ وألّنه أقام جانب‬
‫الّدين دولة جديدة‪ ،‬فإّنه في هذا المجال الّدنيوي أيًض ا وّح د القبائل في شعب‪ ،‬والّشعوب في أمة‪،‬‬
‫ووضع لها كّل أسس حياتها‪ ،‬ورسم أمور دنياها‪ ،‬ووضعها في موضع االنطالق إلى العالم‪ .‬أيًض ا في‬
‫حياته‪ ،‬فهو الذي بدأ الّر سالة الّدينية والّدنيوية‪ ،‬وأتّم ها‪.‬‬
‫و«مهاتما غاندي» في حديث لجريدة «ينج إنديا» تكّلم فيه عن صفات سّيدنا محمد ﷺ‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬أردت أن أعرف صفات الّر جل الذي يملك بدون نزاع قلوب ماليين البشر‪ ،‬لقد أصبحت‬
‫مقتنًعا كّل االقتناع أن الّسيف لم يكن الوسيلة التي من خاللها اكتسب اإلسالم مكانته‪ ،‬بل كان ذلك من‬
‫خالل بساطة الّر سول مع دّقته وصدقه في الوعود‪ ،‬وتفانيه وإخالصه ألصدقائه وأتباعه‪ ،‬وشجاعته‬
‫مع ثقته المطلقة في رّبه وفي رسالته‪ .‬هذه الصفات هي التي مّه دت الّطريق‪ ،‬وتخّطت المصاعب‬
‫وليس الّسيف‪ ،‬بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الّر سول وجدت نفسي أسًفا لعدم وجود‬
‫المزيد للّتعرف أكثر على حياته العظيمة» ‪.‬‬
‫والفيلسوف اإلنجليزي «توماس كارليل» في كتابه «األبطال» يقول‪« :‬لقد أصبح من العار‬
‫على أّي فرد متمِّدن من أبناء هذا العصر‪ ،‬أن يصغي إلى ما يدعيه بعض الجّه ال الحاقدين‪ِ ،‬م ن أن‬
‫دين اإلسالم كذب‪ ،‬وأّن محمًدا ليس بنبي‪ ،‬إّن علينا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه األقوال السخيفة‬
‫المخجلة»‪.‬‬
‫والدكتور «جولدتسيهر» األستاذ بكلية العلوم جامعة بودابست يقول في كتابه «العقيدة‬
‫والشريعة في اإلسالم»‪«:‬الحق أّن محمًدا كان بال شك أّو ل مصلح حقيقي في الّشعب العربي من‬
‫الوجهة التاريخية»‪.‬‬
‫الّشاعر الفرنسي الّشهير «المارتين» من كتاب «تاريخ تركيا»‪ ،‬يقول‪« :‬إذا كانت الّضوابط‬
‫التي نقيس بها عبقرية اإلنسان هي ُسُمّو الغايِة والنتائج المذهلة لذلك رغم قّلة الوسيلة‪ ،‬فمن ذا الذي‬
‫يجرؤ أن يقارن أًّيا من عظماء الّتاريخ الحديث بالّنبي (محمد ﷺ) في عبقريته؟ فهؤالء المشاهير قد‬
‫صنعوا األسلحة وسّنوا القوانين وأقاموا اإلمبراطوريات‪ ،‬فلم يجنوا إاّل أمجاًدا بالية لم تلبث أن‬
‫تحّطمت بين ظهراَنْيهم‪ ،‬لكن هذا الّر جل (محّم ًدا ﷺ) لم يقد الجيوش ويسّن الّتشريعات ويقم‬
‫اإلمبراطوريات ويحكم الّشعوب ويرّو ض الحّكام فقط‪ ،‬وإّنما قاد الماليين من الّناس فيما كان يعد‬
‫ثلث العالم حينئذ‪ .‬ليس هذا فقط‪ ،‬بل إّنه قضـى على األنصاب واألزالم واألديان واألفكار والمعتقدات‬
‫الباطلة‪ .‬لقد صبر الّنبي وتجلد حتى نال الّنصر (من هللا)‪.‬‬
‫كان طموح الّنبي ﷺ موجًه ا بالكلية إلى هدف واحد‪ ،‬فلم يطمح إلى تكوين إمبراطورية أو ما‬
‫إلى ذلك‪ .‬حتى صالة الّنبي الدائمة ومناجاته لرّبه ووفاته ﷺ وانتصاره حتى بعد موته‪ ،‬كل ذلك ال‬
‫يدّل على الغش والخداع بل يدل على اليقين الّص ادق الذي أعطى الّنبي الطاقة والقوة إلرساء عقيدة‬
‫ذات شقين‪ :‬اإليمان بوحدانية هللا‪ ،‬واإليمان بمخالفته تعالى للحوادث‪ .‬فالّشق األّو ل يبّين صفة هللا (أال‬
‫وهي الوحدانية)‪ ،‬بينما اآلخر يوضح ما ال يتصف به هللا تعالى (وهو الماّدية والمماثلة للحوادث)؛‬
‫ولتحقيق األّو ل كان ال بد من القضاء على اآللهة المّدعاة من دون هللا بالّسيف‪ ،‬أّم ا الّثاني فقد تطّلب‬
‫ترسيخ العقيدة بالكلمة (بالحكمة والموعظة الحسنة)‪ ،‬هذا هو (محمد ﷺ )‪.‬‬
‫«مونتجومري وات»‪ ،‬من كتاب «محمد في مكة»‪ ،‬يقول‪« :‬إّن استعداد هذا الّر جل لتحمل‬
‫االضطهاد من أجل معتقداته‪ ،‬والّطبيعة األخالقية الّسامية لمن آمنوا به واّتبعوه واعتبروه سيًدا وقائًدا‬
‫لهم‪ ،‬إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة‪ ،‬كل ذلك يدّل على العدالة والّنزاهة المتأّص لة في شخصه‪.‬‬
‫فافتراض أّن محّم ًدا مّدع افتراٌض يثير مشاكل أكثر وال يحلها‪ ،‬بل إّنه ال توجد شخصّية من عظماء‬
‫الّتاريخ الغربيين لم تنل الّتقدير الاّل ئق بها مثل ما فعل بمحّم د»‪.‬‬
‫المستشرق الفرنسي الكبير «جوستاف لوبون» في كتابه‪« :‬حضارة العرب»‪ ،‬يقول‪« :‬كان‬
‫محّم د يقابل ضروب األذى والّتعذيب بالّص بر وسعة الّص در‪ ،‬عامل محمد قريًشا الذين ظلوا أعداًء له‬
‫عشرين سنة بلطف وحلم‪ ،‬وأنقذهم من ثورة أصحابه بمشّقة‪ ،‬مكتفًيا بمسح صور الكعبة وتطهيرها‬
‫من األصنام الـ (‪ )٣٦٠‬التي أمر بكّبها على وجوهها وظهورها‪ ،‬وبجعل الكعبة معبًدا إسالمًيا‪ ،‬وما‬
‫انفك هذا المعبد يكون بيت اإلسالم»‪ .‬ويقول أيًض ا‪« :‬وإذا ما قيست قيمة الّر جال بجليل أعمالهم كان‬
‫محمد من أعظم من عرفهم الّتاريخ»‪.‬‬
‫الفيلسوف «إدوار مونته» الفرنسي قال في آخر كتابه «العرب»‪«:‬عرف محمد بخلوص الّنية‬
‫والمالطفة وإنصافه في الحكم‪ ،‬ونزاهة الّتعبير عن الفكر والّتحقق‪ ،‬وبالجملة كان محمد أزكى وأدين‬
‫وأرحم عرب عصـره‪ ،‬وأشدهم حفاًظا على الّز مام‪ ،‬فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل‪،‬‬
‫وأّسس لهم دولة زمنية ودينية ال تزال إلى اليوم»‪.‬‬
‫الشاعر الشهير «جوته» األلماني يقول‪« :‬بحثت في الّتاريخ عن َم ثٍل أعلى لهذا اإلنسان‪،‬‬
‫فوجدته في الّنبي العربي محمد ﷺ»‪.‬‬
‫الفيلسوف اإلنكليزي «هربرت سبنسر» في كتابه «أصول االجتماع»‪ ،‬يقول‪« :‬فدونكم‬
‫محمًدا‪ ،‬إّنه رمز للّسياسة الّدينية الّص حيحة‪ ،‬وأصدق َم ن نهج منهاجها الُم قّدس في البشرية كاّفة‪ ،‬ولم‬
‫يكن محمد إاّل مثااًل لألمانة المجّسمة والّص دق البريء‪ ،‬وما زال يدأب لحياة أّم ته ليله ونهاره»‪.‬‬
‫األديب العالمي «ليو تولستوي»‪ ،‬قال‪« :‬يكفي محّم ًدا فخًر ا أّنه خّلص أّم ة ذليلة دموّية ِم ن‬
‫مخالب شياطين العادات الّذميمة‪ ،‬وفتح على وجوههم طريق الّر قي والّتقدم‪ ،‬وأّن شريعة محمد‪،‬‬
‫ستسود العالم النسجامها مع العقل والحكمة»‪.‬‬
‫ويكفيه عظمة ﷺ أن هللا تعالى قد مدحه قبل أن يمدحه البشر‪ ،‬وأثنى عليه قبل أن ُيثني عليه‬
‫الناس‪ ،‬فهو ﷺ فوق مدح أهل الشرق والغرب‪ ،‬ألن هللا ُسبحانه قد رفع ذكره في العالمين‪ ،‬فصلى هللا‬
‫وسلم على من شهد بعظمته القريب والبعيد‪ ،‬والمؤمن والكافر‪ ،‬والعدو والصديق‪ ،‬والُم حب‬
‫والُم بغض‪ ،‬وُسبحان من جعل اسمه يدِّو ي في األقطار‪ ،‬ويسير مسير الليل والنهار‪.‬‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َرِح ْيًم ا‬
‫سّم اه رّبه (رحمة)‪ ،‬وقّدمه للعالمين (رحمة)‪ ،‬وجعل منهجه (رحمة)‪ ،‬وسيرته (رحمة)‪،‬‬
‫وأخالقه (رحمة)‪ ،‬وزّكاه من فوق سبع سماوات فقال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن }‬
‫[الحجر‪ :‬اآلية ‪ ،]72‬فالّر حمة شعاره ودثاره ﷺ‪ ،‬والّر حمة سيرته وسريرته‪ ،‬والّر حمة أقواله‬
‫وأفعاله‪ ،‬فهو الّر حمة المهداة‪ ،‬والّنعمة المسداة‪ ،‬كما قال عنه رّبه ومواله‪َ{ :‬لَقْد َج اَء ُكْم َر ُسوٌل ِم ْن‬
‫َأْنُفِس ُكْم َعِز يٌز َعَلْيِه َم ا َعِنُّتْم َحِر يٌص َعَلْيُكْم ِباْلُم ْؤ ِم ِنيَن َر ُؤوٌف َر ِح يٌم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]128‬‬
‫بعثه هللا رحمة بالمؤمنين والكافرين‪ ،‬ورحمة بالحيوان والجماد‪ ،‬ورحمة بالّص غير والكبير‪،‬‬
‫ورحمة بالّر جال والّنساء‪ ،‬ورحمة بالّطائعين والمذنبين‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬فِبَم ا َر ْح َم ٍة ِم َن ِهَّللا ِلْنَت َلُهْم َو َلْو‬
‫ُكْنَت َفًّظا َغِليَظ اْلَقْلِب َالْنَفُّضوا ِم ْن َحْو ِلَك } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]159‬‬
‫وكان ﷺ يدعو إلى الّر حمة بحاله ومقاله وفعاله‪ ،‬تفيض رحمته على الجميع‪ ،‬فبسمته رحمة‬
‫آسرة للقلوب‪ ،‬وكلمته رحمة ندَّية لألرواح‪ ،‬وأوامره ونواهيه رحمة وُيسر وُلطف تدعوك الّتباعه‬
‫وُح ّبه‪ ،‬وامتثال أمره‪ ،‬واالنتهاء عن نهيه ﷺ‪.‬‬
‫كان ﷺ رحيًم ا بُأّم ته‪ ،‬ودعا َلِم ْن يرفق بالّناس أن يرفق هللا به‪ ،‬فقال‪« :‬اللهَّم ‪َ ،‬م ن َو ِلَي ِم ن‬
‫َأْم ِر ُأَّم تي شيًئا َفَشَّق عليهم‪َ ،‬فاْش ُقْق عليه‪َ ،‬و َم ن َو ِلَي ِم ن َأْم ِر ُأَّم تي شيًئا َفَر َفَق بِه ْم ‪َ ،‬فاْر ُفْق بِه »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن رحمته ﷺ بأمته أّنه كان يتوّخ ى بهم كّل مسالك الّر حمة والّر فق‪ ،‬حّتى في الّطاعة‪ ،‬فكان‬
‫ُيقّدم صالة العشاء مخافة المشّقة على أّم ته‪ ،‬وصاّل ها ذات ليلٍة حينما ذهب عاّم ة الّليل‪ ،‬ونام أهل‬
‫المسجد‪ ،‬وقال‪« :‬إَّنه َلَو ْقُتها َلْو ال َأْن َأُشَّق على ُأَّم ِتي» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ولّم ا تطوع ﷺ في رمضان وقام ليلتين أو ثالث ليال فقام معه بعض أصحابه فلم يخرج معهم‬
‫في الّليلة الّثالثة أو الّر ابعة؛ خشية أن ُتفرض عليهم صالة القيام في رمضان‪[ .‬متفق عليه]‬
‫فهو رحيم بأّم ته في أمور دينهم ودنياهم‪ ،‬يسلك بهم ﷺ ألطف الّطرق‪ ،‬ويدّلهم على أيسر‬
‫الُّسبل‪.‬‬
‫ومن أجّل صور رحمته ﷺ بنا أّنه تركنا على البيضاء‪ ،‬ال يزيغ عنها إاّل هالك‪ ،‬وما ترك‬
‫خيًر ا إاّل دّلنا عليه‪ ،‬وما ترك شًّر ا إاّل حّذرنا منه‪ ،‬نصح أتّم الّنصح‪ ،‬وبّلغ الّر سالة‪ ،‬وأّدى األمانة‪،‬‬
‫وجاهد في هللا حّق جهاده حّتى أقامنا على الّص ـراط المستقيم‪ ،‬وهدانا إلى الّدين القويم‪ ،‬وحّذرنا‬
‫مسالك أصحاب الجحيم‪.‬‬
‫أليس من رحمته ﷺ أن ُينقذنا هللا به من الّنار‪ ،‬ويخرجنا به من الّظلمات إلى الّنور‪ ،‬ويهدينا‬
‫به إلى سواء الّسبيل؟!‬
‫أليس من رحمته ﷺ أن عّلمنا من الجهالة‪ ،‬وهدانا من الّضاللة‪ ،‬وبصّـرنا من العمى‪ ،‬وأسمعنا‬
‫بعد الّص مم‪ ،‬وأنار قلوبنا بشمس رسالته‪ ،‬وأضاء دروبنا بقمر نبوته؟! بل إّن رحمته ﷺ بُأّم ته تظّل‬
‫معه إلى يوم الّدين وموقف الحشر‪ ،‬فهو الّشافع الُم شّفع في المقام المحمود ﷺ يوم الفصل بين الّناس‪،‬‬
‫حيث يناشد رّبه في كّل موقف ويقول‪ُ « :‬أَّم تي ‪ُ ..‬أَّم ِتي»‪ ،‬كما جاء عن عبدهللا بن عمرو (رضي هللا‬
‫عنهما) أّن الّنبّي ﷺ َر َفَع َيَدْيِه وقاَل ‪« :‬اللهَّم ُأَّم تي ُأَّم ِتي‪ ،‬وَبَكى‪ ،‬فقاَل هللا عَّز وجَّل ‪ :‬يا ِج ْبِر يُل ‪ ،‬اْذَهْب‬
‫إلى ُم َح َّم ٍد‪َ ،‬فُقْل‪ :‬إَّنا َسُنْر ِض يَك في ُأَّم ِتَك وال َنسوُؤَك »‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫حتى أعداؤه ﷺ فاض عليهم برحمته‪ ،‬وهل سمعتم عبر الّتاريخ أّن هناك إنساًنا آذاه قومه‪،‬‬
‫وشتموه‪ ،‬وسّبوه‪ ،‬وحاصروه‪ ،‬ثم طردوه‪ ،‬ورّدوا دعوته‪ ،‬وشّج وا وجهه‪ ،‬وكسروا ثنّيته‪ ،‬وأدموا‬
‫قدميه بالحجارة‪ ،‬وحاولوا اغتياله‪ ،‬وجّر بوا كل أساليب اإليذاء والّتضييق ضّده‪ ،‬ثم يدعو لهم ويقول‪:‬‬
‫«اللهم اْغ ِفْر ِلَقْو ِم ي فإَّنُه ْم ال َيْعَلُم وَن »‪[ .‬رواه ابن حبان]؟!‬
‫هل مّر بكم في أخبار الّسابقين أو الاّل حقين أّن هناك قائًدا حرص قومه على الوقيعة به‪،‬‬
‫وجّندوا األجناد‪ ،‬وحّز بوا األحزاب‪ ،‬وتفّننوا في إنزال أنواع األذّية به‪ ،‬وأصناف االنتقام‪ ،‬وأشكال‬
‫المكر‪ ،‬ثم ينتصر عليهم فيدخل فاتًح ا ويقول لهم‪« :‬اذهبوا فأنتم الُطلقاء»؟! لم يحصل هذا ولن‬
‫يحصل؛ ألّنه ﷺ باختصار‪« :‬الّنبّي المعصوم»‪ ،‬و«الّر سول الّر حيم»‪ ،‬فوجوده رحمة حتى ألعدائه‪،‬‬
‫وحياته رحمة حتى لمن أنكر نبّو ته‪ ،‬وقد أمهل هللا أعداءه ﷺ ولم يعذبهم في حياته‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا‬
‫َكاَن ُهَّللا ِلُيَعِّذ َبُهْم َو َأْنَت ِفيِه ْم َو َم ا َكاَن ُهَّللا ُم َعِّذ َبُهْم َو ُهْم َيْس َتْغِفُر وَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪ ،]33‬وهذا من‬
‫رحمته ﷺ حّتى بمن آذاه‪ ،‬وأخرجه من أرضه‪ ،‬وكفر بدعوته‪ ،‬يأبى أن ُيعّذب في حياته ﷺ‪ ،‬ولّم ا‬
‫ُكسرت رباعيته ﷺ يوم ُأحد‪ ،‬وُشّج وجهه الّشريف‪َ ،‬شَّق ذلك على أصحابه‪ ،‬وقالوا‪ :‬يا رسول هللا ادُع‬
‫على الُم شـركين‪ ،‬فأجاب أصحابه ﷺ قائاًل لهم‪ « :‬إِّني لم ُأبَعْث لَّعاًنا‪ ،‬وإنما ُبِع ْثُت َر حمًة» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫ومن قصص رحمته ﷺ بأعدائه‪ :‬قصة إسالم الّص حابي الجليل ثمامة بن أثال (رضي هللا‬
‫عنه)‪ ،‬عندما أسره المسلمون وأتوا به إلى الّنبّي ﷺ فربطوه بسارية من سواري المسجد‪ ،‬ومكث على‬
‫تلك الحال ثالثة أيام وهو يرى المجتمع المسلم عن قرب‪ ،‬حتى دخل اإليمان قلبه‪ ،‬ثم أمر الّنبّي ﷺ‬
‫بإطالقه‪ ،‬فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل‪ ،‬ثم دخل المسجد فقال‪ « :‬أْش َه ُد أْن ال إَلَه إاَّل‬
‫هللا‪ ،‬وَأْش َه ُد أَّن ُم َح َّم ًدا َر سوُل هللا‪ ،‬يا ُم َح َّم ُد‪ ،‬وهللا ما كاَن عَلى األْر ِض وْج ٌه أْبَغَض إَلَّي ِم ن وْج ِه َك ‪،‬‬
‫فَقْد أْصَبَح وْج ُه َك أَح َّب الُو ُج وِه إَلَّي ‪ ،‬وهللا ما كاَن ِم ن ِديٍن أْبَغَض إَلَّي ِم ن ِديِنَك ‪ ،‬فأْصَبَح ِديُنَك أَح َّب‬
‫الِّديِن إَلَّي ‪ ،‬وهللا ما كاَن ِم ن َبَلٍد أْبَغُض إَلَّي ِم ن َبَلِد َك ‪ ،‬فأْصَبَح َبَلُدَك أَح َّب الِباَل ِد إَلَّي » [متفق‬
‫عليه]‪.‬وسرعان ما تغّير حال ثمامة فصار درًعا ُيدافع عن اإلسالم والمسلمين‪.‬‬
‫وعن عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪ :‬استأذن رهٌط من اليهود على الّنبي ﷺ فقالوا‪ :‬الّسام‬
‫عليك‪ .‬فقلت‪ :‬بل عليكم الّسام والّلعنة‪ .‬فقال ﷺ‪« :‬يا عائشة إّن هللا رفيٌق يحّب الّر فق في األمر كّله»‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أولم تسمع ما قالوا؟ قال ﷺ‪« :‬قلت‪ :‬وعليكم» [ُم تفق عليه]‪ ،‬فانظر كيف أعاد ﷺ كلمة‪:‬‬
‫«عليكم» دون زيادة سٍّب أو تعليق‪ ،‬وإّنما برفق ورحمة‪ ،‬ولم يبحث ﷺ وراء الكلمة‪ ،‬ولم يسألهم‬
‫لماذا؟ ولم ُيؤّنبهم‪ ،‬ولم ُيعاقبهم‪ ،‬وإّنما تغاضى عليه الّص الة والّسالم ورفق بهم‪ ،‬وكان يقول لعائشة‬
‫(رضي هللا عنها)‪« :‬يا عاِئَشُة إَّن هللا َر ِفيٌق ُيِح ُّب الِّر ْفَق ‪ ،‬وُيْعِط ي على الِّر ْفِق ما ال ُيْعِط ي على‬
‫الُعْنِف ‪ ،‬وما ال ُيْعِط ي على ما ِس واُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫كان ﷺ رفيًقا في دعوته‪ ،‬رفيًقا في أمره‪ ،‬رفيًقا في نهيه‪ ،‬رفيًقا في كل شأن من شؤونه‪ ،‬يقول‬
‫ﷺ‪َ« :‬م ن ُح ِر َم الِّر ْفَق ‪ُ ،‬ح ِر َم الَخ يَر » [رواه مسلم]‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬إَّن الِّر ْفَق ال َيكوُن في شيٍء إاّل زاَنُه‪،‬‬
‫وال ُيْنَز ُع ِم ن شيٍء إاّل شاَنُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وجعل ﷺ الّر فق قيمًة غاليًة من قيم اإلسالم‪ ،‬ومعنًى جمياًل من معاني الّر حمة في البيت‬
‫والُم جتمع واُألّم ة‪ ،‬فكانت ُسّنته كُّلها رفًقا بالّناس ورحمة بهم‪ ،‬وقد عّلم ﷺ أّم ته الّر فق والّر حمة ودعا‬
‫إلى ذلك‪ ،‬وبّشر ﷺ أّن كّل قريب من الّناس‪ ،‬رفيق بهم‪ ،‬فإّنه قريب من رحمة هللا‪ ،‬بعيد عن عذاب‬
‫هللا‪.‬‬
‫أّم ا رحمته ﷺ بالّنساء فإّنها درس ُيتعّلم وُيدّر س أبد الّدهر في مدارس وجامعات العالم‪ ،‬فكان‬
‫ﷺ ألطف الناس وأكرمهم وأبرهم وأرفقهم وأرحمهم بالمرأة‪ ،‬وقد دعا ﷺ إلى ُح سن رعاية البنات‪،‬‬
‫والحفاظ على حقوقهّن ‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬م ِن اْبُتِلَي ِم ن هِذه الَبناِت بشيٍء ُكَّن له ِس ْتًر ا ِم َن الّناِر » [متفق‬
‫عليه]‪ ،‬وأوصى ﷺ الّناس برحمة المرأة‪ ،‬كما صح عنه ﷺ عند الترمذي وابن ماجه أّنه قال‪:‬‬
‫«اسَتوصوا بالِّنساِء خيًر ا‪ ،‬فإَّنهَّن عنَدُكم َعواٍن »‪ ،‬أي‪ :‬ضعيفات أسيرات‪ ،‬وحّق األسير أن ُيرحم‬
‫وأن ُيرفق به‪.‬‬
‫ودعا ﷺ إلى رحمة الّر جل بأهل بيته‪ ،‬ولطفه بهم‪ ،‬والّتراحم بين األسرة‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إذا أراد‬
‫ُهللا عّز وجّل بأهِل بيٍت خيًر ا َأْد َخ َل عليهم الِّر ْفَق » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وكان ﷺ رحيًم ا بنسائه غاية الّر حمة‪ ،‬فعن أنس (رضي هللا عنه) قال‪ :‬كاَن َر سوُل هللا ﷺ في‬
‫َسَفٍر ‪ ،‬وكاَن معُه ُغالٌم له أْس َو ُد ُيقاُل له‪ :‬أْنَج َشُة‪َ ،‬يْح ُدو‪َ ،‬فقاَل له َر سوُل هللا ﷺ‪َ« :‬و ْيَح َك َيا َأْنَج َشُة!‬
‫ُر َو ْيَدَك ِباْلَقَو اِر يِر » [متفق عليه]‪ ،‬وقد راعى ﷺ ظرف المرأة ورفق بحالها ورحمها حّتى في‬
‫الّص الة‪ ،‬فعن أبي قتادة (رضي هللا عنه)‪ ،‬عن الّنبي ﷺ قال‪« :‬إِّني َأَلُقوُم إلى الَّص الِة وَأنا ُأِر يُد أْن‬
‫ُأَطِّو َل ِفيها‪ ،‬فأْسَمُع ُبكاَء الَّص ِبِّي‪ ،‬فأَتَج َّو ُز في َص التي َكراهيَة أْن أُشَّق على ُأِّم ِه » [رواه البخاري]‪،‬‬
‫فهل في العالم أحٌد عاش للمرأة أًبا حنوًنا‪ ،‬وزوًج ا كريًم ا‪ ،‬وأًخ ا وفًّيا‪ ،‬وابًنا باًر ا‪ ،‬وُم ربًيا راعًيا‪،‬‬
‫وإماًم ا هادًيا إاّل رسول العناية اإللهّية‪ ،‬ومبعوُث الّر حمة الرّبانية‪ ،‬صلوات هللا وسالمه عليه؟!‬
‫وفاضت رحمته ﷺ على األطفال فكان يغمر قلوبهم حناًنا وبًّر ا وُلطًفا‪ ،‬ويمأل أرواحهم هدًى‬
‫ونوًر ا وبصيرًة‪ ،‬وِم ْن مشاهد رحمته ﷺ بهم ما ثبت في الحديث الّص حيح أّنه حمل حفيدته ُأمامة بنت‬
‫زينب وهي طفلة‪ ،‬وصّلى بالّناس صالة الفريضة‪ ،‬وكان إذا سجد وضعها‪ ،‬وإذا قام رفعها‪ ،‬حناًنا بها‬
‫وشفقة عليها ورحمة بأمها؛ ألّنها ُشغلت وقد حانت الّص الة‪ ،‬ولو تركها ﷺ ألّم ها لشَّق عليها ذلك‪،‬‬
‫فأخذها معه إلى المسجد وهو قائد األمة‪ ،‬وإمام الّناس في صالتهم‪ ،‬فيا لهذا الُخ ُلق الّنبيل! ويا لهذا‬
‫المشهد الحّي الذي ال يْنمِح ي من الّذاكرة! المشهد الذي ُيوصل من خالله ﷺ درًسا عملًّيا ألّم ته عن‬
‫رحمته ورفقه ورأفته ﷺ‪ ،‬ويقطع ﷺ خطبته في الّناس‪ ،‬وُتنزُله رحمته من المنبر ويأتي إلى سبطيه‬
‫الحسن والحسين فيحملهما‪ ،‬ويضعهما بجانبه‪ ،‬يقول بريدة (رضي هللا عنه)‪«:‬كان رسوُل هللا ﷺ‬
‫يخُطُبنا إذ جاء الحَسُن والُح سيُن عليهما قميصاِن أحمراِن يمشياِن ويعُثراِن ‪ ،‬فنَز َل رسوُل هللا ﷺ‬
‫ِم ن الِم نبِر فحَم لهما فوَض عهما بْيَن يَد ْيِه » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكان ُيقّبل ﷺ األطفال‪ ،‬كما صح عنه أنه َقَّبَل الَحَسَن بَن َعِلٍّي وِع ْنَدُه األْقَر ُع بُن حاِبٍس‬
‫الَّتِم يِم ُّي جاِلًسا‪َ ،‬فقاَل األْقَر ُع‪ :‬إَّن لي َعَشَر ًة ِم َن الَو َلِد ما َقَّبْلُت منهْم أَح ًدا‪َ ،‬فَنَظَر إَلْيِه َر سوُل هللا ﷺ ُثَّم‬
‫قاَل ‪َ« :‬م ن ال َيْر َح ُم ال ُيْر َح م» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وانظر لمشهد رحمته ومشهد عدله ﷺ في آن واحد‪ ،‬حيث جمع بين فلذة كبده الحسن بن علي‬
‫وفاطمة‪ ،‬وبين المولى ابن المولى والِح ّب ابن الِح ّب أسامة بن زيد رضوان هللا عليهم‪ ،‬وأجلسهما‬
‫على فخذيه‪ ،‬فعن أسامة بن زيٍد (رضي هللا عنهما)قال‪« :‬كاَن َر سوُل هللا ﷺ َيْأُخ ُذِني فُيْقِع ُدِني عَلى‬
‫َفِخ ِذِه ‪ ،‬وُيْقِع ُد الَحَسَن عَلى َفِخ ِذِه اُألْخ رى ُثَّم َيُض ُّم ُه ما‪ُ ،‬ثَّم يقوُل‪« :‬اللهَّم اْر َح ْم ُه ما فإِّني أْر َح ُم ُه ما»‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫إّن كل قصة من قصصه ﷺ مع األطفال‪ ،‬وكل صورة من صور حياته وهو يرعاهم‪،‬‬
‫وُيمازحهم‪ ،‬ويداعبهم كفيلة بأن ُتِقيم منهًج ا كاماًل لرعاية الّطفولة في العالم‪ ،‬ومهما تأّم لت أو درست‬
‫شخصيته ﷺ من أّي جانب‪ ،‬ومن أّي باب َم ألتك ُح ًّبا وتعلًقا واّتباًعا لهذا الّنبي الّر حيم ﷺ‪.‬‬
‫ومن رحمته ﷺ اهتمامه باأليتام واألرامل اهتماًم ا خاًص ا‪ ،‬حيث أشرف بنفسه على كفالتهم‬
‫ورعايتهم‪ ،‬وحّث العالم على ذلك إلى يوم الّدين بقوله‪« :‬أَنا وكاِفُل الَيِتيِم في الَج َّنِة َهَكذا»‪ ،‬وأشار‬
‫بالَّسّباَبِة والُو ْس طى‪[ .‬رواه البخاري]‪.‬‬
‫بل بّشر ﷺ من يكدح على األرملة والمسكين أّنه كالُم جاهد في سبيل هللا‪ ،‬وكمن يصوم الّنهار‬
‫ويقوم الّليل‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬الّساِع ي على األْر َم َلِة والِم ْسِك يِن ‪ ،‬كالُم جاِهِد في َسبيِل هللا‪ ،‬أِو القاِئِم الَّلْيَل‬
‫الّص اِئِم الَّنهاَر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيقّر ب الّضعفاء‪ ،‬ويشفق عليهم‪ ،‬ويقّدمهم‪ ،‬ويقول ﷺ‪« :‬ابغوني الُّض عفاَء ‪ ،‬فإَّنما‬
‫ُترَز قوَن وُتنَص روَن بُضعفاِئُكم» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وحّذر ﷺ من اضطهاد األيتام والّنساء‪ ،‬فقال في حديث صحيح [رواه أحمد وابن ماجه]‪:‬‬
‫«الَّلهَّم إِّني أحِّر ُج حَّق الَّض عيفين‪ :‬اليتيِم ‪ ،‬والمرَأِة»‪.‬‬
‫وكم أٍّم تظّنك من حَش اَه ا‬
‫ُولدت ويف معاطفها ربيَتا‬
‫حللَت حمّل نون العني منَه ا‬
‫ُه تاف فؤادها دوًما‪ُ :‬فديَتا‬
‫وفي وصف رحمته ﷺ بالمساكين والفقراء يقول عبدهللا بن أبي أوفى (رضي هللا عنهما)‪:‬‬
‫«كاَن رسوُل هللا ﷺ ُيْكثُر الِّذكَر ‪ ،‬وُيقُّل الَّلغَو ‪ ،‬ويطيُل الَّص الَة‪ ،‬ويقِّص ـُر الخطبَة‪ ،‬وال يأَنُف أن يمشَي‬
‫مَع األرَم لِة والمسكيِن ‪ ،‬فَيقضَي َلُه الحاجَة» [رواه النسائي]‪ .‬ومن يطالع رحمته ﷺ باليتيم والمسكين‬
‫والّضعيف والفقير يشهد أّنه نبّي المساكين‪ ،‬ورسول الّر حمة بالمستضعفين‪ ،‬ودعوته رسالة إنقاذ‬
‫للُم عّذبين‪.‬‬
‫أشهد أّن هذا اليتيم ﷺ هو سيد أيتام العالم؛ ألّنه ذاق الُيتم فرحم األيتام‪ ،‬وتجّر ع الفقر فلطف‬
‫بالفقراء‪ ،‬وعاش المصاعب واألزمات فَح َنا وأشفق على الُم ستضعفين‪ ،‬وكان يقول ﷺ ُم وصًيا بالخدم‬
‫والعّم ال البسطاء‪ُ« :‬هْم إْخ َو اُنُكْم ‪َ ،‬جَعَلُه ُم هللا َتْح َت َأْيِديُكْم ‪َ ،‬فَأْط ِع ُم وُهْم ِم َّم ا َتْأُكُلوَن ‪َ ،‬و َأْلِبُسوُهْم ِم َّم ا‬
‫َتْلَبُسوَن ‪َ ،‬و ال ُتَكِّلُفوُهْم َم ا َيْغِلُبُه ْم ‪َ ،‬فإْن َكَّلْفُتُم وُهْم َفَأِع يُنوُهْم » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومن لطيف تعامله ﷺ ورحمته وُح سن عشـرته ما رواه أنس بن مالك (رضي هللا عنه) فقال‪:‬‬
‫كاَن َر سوُل هللا ﷺ ِم ن َأْح َسِن الّناِس ُخُلًقا‪ ،‬فأْر َسَلِني َيْو ًم ا ِلحاَج ٍة‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬وهللا ال َأْذَهُب ‪ ،‬وفي َنْفسي‬
‫َأْن َأْذَهَب ِلما َأَمَر ِني به َنِبُّي هللا ﷺ‪َ ،‬فَخ َر ْج ُت حّتى َأُمَّر على ِص ْبياٍن َو ُهْم َيْلَعُبوَن في الُّسوِق ‪َ ،‬فِإذا‬
‫َر سوُل هللا ﷺ قْد َقَبَض بَقفاَي ِم ن َو راِئي‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَنَظْر ُت إَلْيِه َو هو َيْض َح ُك ‪َ ،‬فقاَل ‪« :‬يا ُأَنْيُس َأَذَهْبَت‬
‫َحْيُث َأَمْر ُتَك ؟‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬قلُت ‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬أنا َأْذَهُب ‪ ،‬يا َر سوَل هللا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فانظر كيف صّغر ﷺ اسمه تحبيًبا ولطًفا‪ ،‬وضحك في وجهه حلًم ا ورحمة‪ ،‬ولم يعاقبه ﷺ‬
‫على تأّخ ره‪ ،‬فأّي خلق أجّل من هذا الُخ لق‪ ،‬وأي رحمة فوق هذه الّر حمة!؟‪ .‬وِقْف عند قوله (رضي‬
‫هللا عنه)‪َ :‬خ َد ْم ُت الّنبَّي ﷺ َعْش َر ِسِنيَن ‪َ ،‬فما قاَل لي‪ُ :‬أٍّف ‪ ،‬وال‪َ« :‬لِم َص َنْعَت ؟ وال‪ :‬أال َص َنْعَت » [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫فتأمل كيف لم ينكر عليه ﷺ أّي أْم ٍر !؟ مع أّن حاالت اإلنسان في مثل هذه المّدة تتغير من‬
‫غضٍب ورضا‪ ،‬وسرور وحزن‪ ،‬إلى غير ذلك‪ ،‬ومع هذا كان خلقه ﷺ الّر حمة في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫وأّم ا عن رحمته بالمسّنين فكان له ﷺ رحمة خاصة بمن طال عمره ووَخ َطه الّشيب؛ فكان‬
‫يوقرهم‪ ،‬ويتلّطف بهم‪ ،‬ويراعي أوضاعهم‪ ،‬يقول أنس بن مالك (رضي هللا عنه)‪ :‬جاَء شيٌخ يريُد‬
‫الَّنبَّي ﷺ فأبطأ القوُم عنه أن يوِّس عوا َله‪ ،‬فقاَل ﷺ‪« :‬ليَس مّنا من لم يرَح ْم صغيَر نا‪ ،‬ويوِّقْر كبيَر نا»‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫ومن لطفه ورحمته ﷺ بكبار الّسن أّنه بعد فتح مكة أتاه أبو بكر الّص ديق ووالده أبو قحافة‬
‫ليبايعه ﷺ‪ ،‬فلّم ا رآه رسوُل هللا ﷺ قال‪« :‬هاّل تركَت الّشيَخ في بيِته حتى أكوَن أنا آتيه فيه!؟»‪ ،‬فقال‬
‫أبو بكٍر ‪ :‬يا رسوَل هللا‪ ،‬هو أحُّق أن يمشـي إليك من أن تمِش َي أنت إليه‪ ،‬قال‪« :‬فأجلَسه بيَن يَديه‪ ،‬ثم‬
‫مسح صدَر ه» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فيا لُنبل هذه الّنفس العظيمة الّر حيمة!‪ ،‬ويا لجالل ُخ لقه ﷺ وإنزاله للّناس منازلهم‪ ،‬ومراعاة‬
‫ظروفهم!‪ ،‬أشهُد أّن هذه الّسجايا ال تجتمع إاّل فيمن عصمه هللا بالوحي‪ ،‬وأّيده بالّر سالة‪ ،‬وحفظه‬
‫بالّنبّو ة‪.‬‬
‫وفي عتابه ﷺ للّص حابي الجليل معاذ بن جبل (رضي هللا عنه) عندما وقف إماًم ا لجمٍع من‬
‫المصلين وأطال بهم الّص الة‪ ،‬داللة على عظم رحمته‪ ،‬وجميل رأفته ﷺ؛ فنجده يقول‪« :‬يا ُم عاُذ‪،‬‬
‫َأَفّتاٌن َأْنَت !؟ ‪َ-‬ثالَث ِم راٍر ‪َ -‬فَلْو ال َص َّلْيَت بـ(َسِّبِح اْس َم َر ِّبَك )‪ ،‬و(الَّشْم ِس وُضحاها)‪ ،‬و(الَّلْيِل إذا‬
‫َيْغشى)‪ ،‬فإَّنه ُيَصِّلي وراَء َك الَكِبيُر والَّض ِع يُف وُذو الحاَجِة » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فرحمته ﷺ يجدها الُم تتّبع لسيرته‪ ،‬الُم ستضيء بتعاليمه‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫مِح‬
‫َو ِإذا َر ت َفَأنَت ُأٌّم َأو َأٌب‬
‫ِن‬
‫َه ذا يف الّد نيا مُه ا الّرمَح اُء‬
‫ُقلت‪ :‬بل رحمته أعظم من رحمة األب واألم‪ ،‬فإّنه ﷺ األب الّر وحاني‪ ،‬أّم ا والدك الذي أنجبك‬
‫فهو أبوك الجسماني‪.‬‬
‫فإن كان أبوك سبًبا إلخراجك إلى الوجود فرسول الُه دى ﷺ سبب إلى ُسكناك جنات الخلود‪،‬‬
‫وجوارك للملك المعبود‪ ،‬وإن كان والدك سبًبا لتوفير الّطعام والّشراب فإّنه ﷺ أحياك بالّسّنة‬
‫والكتاب‪ ،‬ووقاك برحمة هللا من العذاب‪ ،‬ودّلك بنور هللا على الُه دى والّص واب‪.‬‬
‫ولقد ضرب رسولنا ﷺ أروع األمثلة ِفي الّر حمة بالمذنبين‪ ،‬والّر فق بالُم خطئين‪ ،‬فرحم من‬
‫شرب الخمر عندما سّبه أحد الّص حابة فقال ﷺ‪« :‬ال َتْلَعُنوُه‪َ ،‬فَو هللا َم ا َعِلْم ُت أَّنُه ُيِح ُّب هللا َو َر ُسوَلُه»‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫وسّب أحدهم المرأة التي زنت وأقيم عليها حّد الّر جم فقال ﷺ‪« :‬لَقْد تاَبْت َتْو َبًة لو ُقِس َم ْت بْيَن‬
‫سْبِع يَن ِم ن َأْه ِل الَم ِديَنِة َلَو ِسَعْتُه م» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫بل تشمل رحمته ﷺ الُعصاة في موقف الحشر‪ ،‬كما صّح عنه ﷺ أّنه قال‪« :‬أْسَعُد الّناِس‬
‫بَشفاَعتي َيوَم الِقياَم ِة َم ن قاَل ‪ :‬ال إَلَه إاّل هللا‪ ،‬خاِلًص ا ِم ن ِقَبِل َنْفِسِه » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وال بد لكثير مّم ن قالها من ذنوب يأتون بها فليسوا معصومين‪ ،‬فصّلى هللا وسّلم على من‬
‫رحمته شاملة للُم ذنبين في الّدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وتعّدت رحمته ﷺ إلى الحيوانات والّطيور فنهى عن وسم الّدابة في وجهها‪ ،‬كما جاء عن‬
‫جابر (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬نَه ى َر ُسوُل هللا ﷺ َعِن الَّض ْر ِب ِفي اْلَو ْج ِه ‪َ ،‬و َعِن اْلَو ْس ِم في اْلَو ْج ِه »‬
‫[رواه مسلم]‪ .‬والوسم في الوجه هو (تمييز الحيوان في وجهه بعالمة عن طريق الكي بالنار)‪ ،‬ومّر‬
‫ﷺ على حمار ُو سم في وجهه فقال‪َ« :‬لَعَن هللا اَّلِذي َو َسَم ُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وحّر م ﷺ اإلساءة للحيوان‪ ،‬وإهماله وعدم العناية به‪ ،‬فعن سهل بن الحنظلية (رضي هللا‬
‫عنه) قال‪ :‬مَّر رسول هللا ببعير قد َلِح َق َظْهُر ُه ِبَبْط ِنِه (أي ظهر عليه الهزال من الجوع)‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«اَّتُقوا َهللا ِفي َهِذِه اْلَبَه اِئِم الُم ْعَج مة‪َ ،‬فاْر َكُبوَها َص اَلِح ًة َو ُكُلوَها َص اَلِح ًة» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وعن قرة بن إياس المزني (رضي هللا عنه) أَّن رُج اًل قال‪« :‬يا رسوَل هللا‪ ،‬ألذبُح الشاَة وأنا‬
‫َأرَح ُم ها‪ ،‬أو قال‪ :‬ألرَح ُم الشاَة أْن َأذَبَح ها‪ ،‬فقال‪ :‬والَّشاُة إن رِح مَتها رِح َم َك هللا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫ودعا ﷺ إلى استعمال الحيوان فيما خلقه هللا له‪ ،‬فقال‪ِ« :‬إَّياُكْم َأْن َتَّتِخ ُذوا ُظُه وَر َد َو اِّبُكْم‬
‫َم َناِبَر ‪َ ،‬فِإَّن هللا ِإَّن َسَّخ َر َها َلُكْم ِلُتَبِّلَغُكْم ِإلى َبَلٍد َلم َتُكوُنوا َباِلِغ يِه ِإاّل ِبِش ِّق اَألْنُفِس » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وحّر م ﷺ اّتخاذ الحيوان غرًض ا وهدًفا للّر ماة‪ ،‬فقد مّر ابن عمر (رضي هللا عنهما) بفتياٍن قد‬
‫نصبوا طيًر ا وهم يرمونه‪ ،‬فقال لهم‪« :‬لعَن ُهللا َم ْن َفَعَل َهَذا؛ ِإَّن َر ُسوَل هللا َلَعَن َم ِن اَّتَخ َذ َشْيًئا ِفيِه‬
‫الُّر وُح َغَر ًضا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وسّن ﷺ اإلحسان بالحيوان عند ذبحه وقال‪« :‬إذا َذَبْح ُتْم فأْح ِس ُنوا الَّذْبَح‪َ ،‬و ْلُيِح َّد َأَح ُدُكْم‬
‫َشْفَر َتُه‪ ،‬وْلُيِر ْح َذِبيَح َتُه» [رواه مسلم]‪ ،‬وهذا من رحمته ﷺ‪.‬‬
‫وحذر من تعذيب الحيوان‪ ،‬فقال ﷺ‪ُ« :‬عِّذ َبِت اْم َر َأٌة في ِه َّر ٍة َسَج َنْتها حّتى ماَتْت ‪َ ،‬فَد َخ َلْت فيها‬
‫الّناَر ‪ ،‬ال هي أْط َعَم ْتها وال َسَقْتها‪ ،‬إْذ َحَبَسْتها‪ ،‬وال هي َتَر َكْتها َتْأُكُل ِم ن َخ شاِش األْر ِض » [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وفي المقابل أيًض ا ذكر لنا ﷺ ثواب من رحم الحيوان وأطعمه وسقاه فقال‪« :‬بْيَنما َر ُجٌل‬
‫َيْم ِشي بَطِر يٍق ‪ ،‬اْش َتَّد عليه الَعَطُش ‪َ ،‬فَو َج َد بْئًر ا َفَنَز َل فيها‪َ ،‬فَشِر َب ُثَّم َخ َر َج‪ ،‬فإذا َكْلٌب َيْلَه ُث ‪َ ،‬يْأُكُل‬
‫الَّثرى ِم َن الَعَطِش ‪ ،‬فقاَل الَّر ُجُل ‪ :‬لَقْد َبَلَغ هذا الَكْلَب ِم َن الَعَطِش ِم ْثُل الذي كاَن َبَلَغ بي‪َ ،‬فَنَز َل الِبْئَر‬
‫َفَم َأَل ُخ َّفُه ُثَّم أْم َسَكُه بِفيِه ‪َ ،‬فَسقى الَكْلَب ‪َ ،‬فَشَكَر هللا له َفَغَفَر له»‪ .‬قالوا‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬وإَّن لنا في‬
‫الَبهاِئِم أْج ًر ا؟‪ ،‬فقاَل ‪َ« :‬نَعْم ‪ ،‬في ُكِّل ذاِت َكِبٍد َر ْط َبٍة أْج ٌر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فانظر ما أوجز هذه العبارة! وما أوسع معناها!‪« :‬في ُكِّل ذاِت َكِبٍد َر ْط َبٍة أْج ٌر » من اإلنسان‬
‫والحيوان والطيور‪ ،‬وهذه نهاية الّر حمة‪ ،‬وغاية البّر ‪ ،‬ومنتهى الّر فق‪.‬‬
‫وهذا مشهد آخر من مشاهد رحمته ﷺ التي جعلها هللا في قلبه‪ ،‬ففاضت من هذا القلب الّطاهر‬
‫الزكي الطيب على كل شيء حوله حتى وصلت إلى البهائم والّطيور‪ ،‬فعن عبدهللا بن جعفر (رضي‬
‫هللا عنهما) قال‪ :‬دخَل الّنبي ﷺ حائًطا لَر ُج ٍل ِم ن األنصاِر فإذا َج مٌل ‪ ،‬فَلَّم ا رأى الَّنبَّي ﷺ حَّن وذِر َفْت‬
‫عيناُه‪ ،‬فأتاُه الَّنبُّي ﷺ فَم سَح ِذفراُه فَسَكَت ‪ ،‬فقاَل ‪َ« :‬م ن رُّب هذا الَج َم ِل ؟ لمن هذا الجَم ُل ؟ َفجاَء فتى مَن‬
‫األنصاِر َفقاَل ‪ :‬لي يا رسوَل هللا‪َ .‬فقاَل ‪ :‬أفال تَّتقي هللا في هِذِه الَبهيمِة اَّلتي مَّلَكَك هللا إَّياها؟ فإَّنُه َشكا‬
‫إلَّي أَّنَك ُتجيُعُه وُتدئُبُه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فانظر كيف أعتق ﷺ هذا الجمل من الّتعب رحمة به‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ا ِم ْن ُمْسِلٍم َيْغِر ُس َغْر ًسا‪َ ،‬أْو َيْز َر ُع َز ْر ًعا‪َ ،‬فَيْأُكُل ِم ْنُه َطْيٌر َأْو ِإْنَساٌن َأْو َبِه يَم ٌة‪،‬‬
‫ِإاَّل َكاَن َلُه ِبِه َص َد َقٌة» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فالحمد هلل الذي مّن علينا بمبعث هذا الّنبي الّر حيم‪ ،‬وهدانا لسّنته‪ ،‬المليئة بالّر حمة والّلطف‬
‫والّر فق‪.‬‬
‫وأّم ا رحمته ﷺ بالّطيور فمن أجمل ما ورد في ذلك ما رواه عبدهللا بن مسعود (رضي هللا‬
‫عنه) عنه فقال‪« :‬كّنا مع رسوِل هللا ﷺ في سفٍر فانطلق لحاجته فرأينا ُح َّم رًة معها فرخان فأخْذنا‬
‫فرَخ يها‪ ،‬فجاءت الُح َّم رُة فجعلت تفرُش ‪ ،‬فجاء الّنبُّي ﷺ فقال‪« :‬من فّج ع هذه بولِدها؟ ُر ُّدوا ولَدها‬
‫إليها»‪ .‬ورأى قريَة نمٍل قد حرقناها‪ ،‬فقال‪« :‬من حرَق هذه؟» قلنا‪ :‬نحن‪ ،‬قال‪« :‬إّنه ال ينبغي أن‬
‫يعِّذ َب بالّناِر إاّل رُّب الّناِر » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫جاءْت إليَك محامٌة مشتاقٌة‬
‫تشكو إليَك بقلب صٍّب واجِف‬
‫مْن أخرَب الورقاَء أّن مكانكم‬
‫رٌم وأّنك ملجأ للخائِف‬
‫َح‬
‫حتى الجماد حّن له من عظيم رحمته ﷺ‪ ،‬فحينما استعمل ﷺ منبًر ا جديًدا ُص نع له‪ ،‬وترك‬
‫الجذع الذي كان يّتكئ ويستند إليه عندما يخطب في الّناس حّن إليه ذلك الجذع كما جاء في الحديث‬
‫الصحيح عن جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما)‪« :‬أَّن اْم َر َأًة ِم َن األْنصاِر قاَلْت ِلَر سوِل هللا ﷺ‪ :‬يا‬
‫َر سوَل هللا أال أْج َعُل لَك شيًئا َتْقُعُد عليه‪ ،‬فإَّن لي ُغالًم ا َنّج اًر ا‪ ،‬قاَل ‪« :‬إْن ِش ْئِت»‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَعِم َلْت له‬
‫الِم ْنَبَر َفَلّم ا كاَن َيْو ُم الُج ُم َعِة َقَعَد النبُّي ﷺ على الِم ْنَبَر الذي ُصِنَع ‪َ ،‬فصاَح ِت الَّنْخ َلُة اَّلتي كاَن َيْخ ُطُب‬
‫ِع ْنَدها‪ ،‬حّتى كاَدْت َتْنَشُّق ‪َ ،‬فَنَز َل النبُّي ﷺ حّتى أَخ َذها‪َ ،‬فَضَّم ها إَلْيِه ‪َ ،‬فَج َعَلْت َتِئُّن أِنيَن الَّص ِبِّي الذي‬
‫ُيَسَّكُت ‪ ،‬حّتى اْس َتَقَّر ْت ‪ ،‬قاَل ‪َ« :‬بَكْت على ما كاَنْت َتْسَمُع ِم َن الِّذ ْك ِر » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫لقد جاء نبّي الّر حمة ﷺ بكتاب الّر حمة‪ ،‬لُيبّشرنا برحمة أرحم الّر احمين‪ ،‬وأخبرنا بقول‬
‫الّر حمن سبحانه‪َ{ :‬و َر ْح َم ِتي َو ِس َعْت ُكَّل َشْي ٍء } [األعراف‪ ،]156 :‬وقوله تعالى‪َ{ :‬سَالٌم َعَلْيُكْم َكَتَب‬
‫َر ُّبُكْم َعَلى َنْفِسِه الَّر ْح َم َة َأَّنُه َم ْن َعِم َل ِم ْنُكْم ُسوًء ا ِبَج َه اَلٍة ُثَّم َتاَب ِم ْن َبْعِدِه َو َأْص َلَح َفَأَّنُه َغُفوٌر َر ِح يٌم }‬
‫[األنعام‪.]54 :‬‬
‫وبّشر ﷺ اُألّم ة كما في الّص حيحين برحمة أرحم الّر احمين فقال‪َ« :‬لَّم ا َقَض ى ُهللا الَخ ْلَق ‪َ ،‬كَتَب‬
‫ِع ْنَد ُه َفْو َق َعْر ِشِه ‪ :‬إَّن َر ْح َم تي َسَبَقْت َغَض ِبي» [متفق عليه]‪ .‬وكان ﷺ يقول‪« :‬الَّر احموَن يرحُم هم‬
‫الّر حمُن ‪ ،‬ارحموا من في األرِض يرحْم ُكم من في الّسماِء » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فالّر حمة أعظم هبة رّبانية بّشر بها رسولنا ﷺ أّم ته‪ ،‬وكتابه الُم نّز ل الخالد الُم عجز يبدأ بـ‬
‫(بسم هللا الّر حمن الّر حيم)‪ ،‬ودائًم ا تجد اسم الّر حمن يتكرر كثيًر ا في كتاب هللا‪ ،‬بل إّن هناك سورًة‬
‫كاملة باسم‪( :‬الّر حمن)‪ ،‬وتأتي الّر حمة في هذا الكتاب العظيم‪ ،‬مرة بالّص فة‪ ،‬ومرة بالفعل‪ ،‬وتأتيك في‬
‫ثنايا اآليات‪ ،‬وُتشرف عليك من بدايات هذه البّينات‪ ،‬فتعمر قلبك يقيًنا‪ ،‬ورًض ا‪ ،‬وبشـرى‪ ،‬وسعادة‪،‬‬
‫واطمئناًنا‪.‬‬
‫لقد كانت صفة الّر حمة الّص فة البارزة الماثلة الّشهيرة في حياته ﷺ حتى صارت الّر سالة‬
‫وُم رسلها‪ ،‬والّنبّو ة وصاحبها‪ ،‬رحمة للعالمين‪ ،‬فما أجمل فيض الّر حمة ونهر الُحّب والّشفقة في دنياه‬
‫ﷺ!‬
‫فإن ذهبت إلى عالم الّطفولة وجدته األب الحنون الّر حيم‪ ،‬وإن ذهبت إلى عالم المرأة وجدته‬
‫الّز وج القريب الّلطيف‪ ،‬وإن ذهبت إلى عالم البشرّية وجدته اإلمام الحريص على إسعادهم‪ ،‬الّساعي‬
‫في إنقاذهم‪ ،‬الّر اعي لمصالحهم؛ ألّن دينه ﷺ هو قول الّص دق‪ ،‬والّدعوة إلى الحّق ‪ ،‬والّر حمة بالَخلق‪.‬‬
‫لقد كانت رسالته ﷺ رسالة رحمة للعالم‪ ،‬إذا ُعرضت على العقول تلّقتها بالقبول‪ ،‬ولذلك دخل‬
‫الناس في دينه ﷺ أفواًج ا‪ ،‬وأتته القبائل أمواًج ا‪ ،‬وفتح هللا ببركة رسالته في العالم فجاًج ا؛ ألّن رحمته‬
‫ﷺ تختلف عن رحمة سائر الناس‪ ،‬فهي رحمة معصومة‪ ،‬ليس فيها خوٌر وال مهانٌة أمام صولة‬
‫الباطل أو في إعمال الحّق ؛ ولذلك كان ﷺ مع رحمته ورأفته يقوم بتنفيذ الحدود على من وجبت‬
‫عليه‪ ،‬عماًل بقوله تعالى‪َ{ :‬و َال َتْأُخ ْذُكْم ِبِهَم ا َر َأَفٌة ِفي ِديِن ِهَّللا ِإْن ُكْنُتْم ُتْؤ ِم ُنوَن ِباِهَّلل َو اْلَيْو ِم اآلِخ ِر }‬
‫[النور‪.]2 :‬‬
‫فصّلى هللا وسّلم على من جمع بين القّو ة والّر حمة‪ ،‬والّلين والحزم‪ ،‬والبأس والجود‪ ،‬والهيبة‬
‫والّتواضع؛ ألّن هللا كّم ل أوصافه‪ ،‬وتَّم م ُخ لقه‪ ،‬وزّكى نفسه‪ ،‬وطّه ر روحه‪:‬‬
‫ّمساك رّبك رمحًة فنشـرهَت ا‬
‫يف العاملني حمبًة وسالَما‬
‫ورمحت ح الّطري يف وكناتِه‬
‫ىّت‬
‫وبقيت تغرُس يف القلوب وائَما‬
‫سالْت دموُعهم لفقدَك كّلهم‬
‫فكأهّن م ّملا رحلَت يتاَمى‬
‫ذكراَك َتبقى يف احلياة رسالًة‬
‫وتظّل يف دنيا اخللود إماَما‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َح ِلْيًم ا‬
‫الِح ْلم هو أن تعفو عّم ن أساء إليك‪ ،‬وتصفح عّم ن ظلمك مع قدرتك عليه‪ ،‬وهو من أفضل‬
‫خصال اإلنسان وأنبلها على اإلطالق؛ الشتماله على كثير من الفضائل منها األناة‪ ،‬وسعة الصدر‪،‬‬
‫وقوة التحّم ل‪ ،‬وكظم الغيظ‪ ،‬وكرم النفس‪ ،‬وال يتصف بذلك إاّل الشرفاء األوفياء‪ ،‬وإمامهم هو رسول‬
‫الُه دى محمد بن عبدهللا ﷺ الذي اّتصف بأجمل صور الحلم‪ ،‬وأبهى مشاهد العفو‪ ،‬فكان أحلم الّناس‪،‬‬
‫وأوسعهم صدًر ا‪ ،‬وألينهم عريكة‪ ،‬وأحسنهم ُخ ُلًقا‪ ،‬وألطفهم عشـرة‪ ،‬يعفو عّم ن ظلمه‪ ،‬وُيعطي من‬
‫حرمه‪ ،‬ويصل من قطعه‪ ،‬ويغفر لمن أساء إليه‪ ،‬ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوًقا هلل‪.‬‬
‫وقد واجهه األعراب بالجفاء وسوء األدب‪ ،‬فحلم وصفح‪ ،‬وامتثل أمر رّبه‪َ{ :‬فاْص َفْح الَّص ْفَح‬
‫اْلَج ِم يَل } [الحجر‪ :‬اآلية ‪ ،]85‬ولم يكن ُيكافئ على الّسيئة بالّسيئة‪ ،‬بل يقابلها بالعفو والّص فح‪ ،‬وكان‬
‫ال يغضب لنفسه ﷺ‪ ،‬وال ينتقم لشخصه‪ ،‬بل إذا ُأغضب ازداد حلًم ا‪ ،‬وربما تبّسم في وجه من‬
‫أغضبه‪ ،‬وينّو ه بُخ ُلق الحلم‪ ،‬وُيذّكر أصحابه بفضائله‪ ،‬ويحّثهم على التخّلق به‪ ،‬فقال ﷺ لألشّج‬
‫عبدالقيس(رضي هللا عنه)‪« :‬إَّن ِفيَك َخ ْص َلتْيِن ُيِح ُّبُه ما هللا‪ :‬الِح ْلُم واألناُة» [رواه مسلم]‪ .‬وقال له‬
‫رجل‪ :‬أْو ِص ِني‪ ،‬فقاَل ﷺ‪« :‬ال َتْغَض ْب ‪َ ،‬فَر َّدَد ِم راًر ا‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال َتْغَض ْب » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا بلغه كالم سّيئ قيل فيه‪ ،‬ال يبحث عّم ن قاله‪ ،‬وال ُيعاتبه‪ ،‬وال ُيعاقبه‪ ،‬ويقول ﷺ‪:‬‬
‫«ال ُيبِّلُغني أَح ٌد ِم ن أصحابي عن أَح ٍد شيًئا؛ فإِّني ُأِح ُّب أن أخُر َج إليكم وأنا سليُم الَّص ْد ِر » [رواه‬
‫أحمد]‪ .‬وبّلغه ابن مسعود (رضي هللا عنه) كالًم ا قيل فيه‪ ،‬فتغ وجهه ﷺ وقال‪َ« :‬ر ِح َم هللا ُم وسى قْد‬
‫ُأوِذ َي بَأْك َثَر ِم ن هذا َفَص بَر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وقد واجهه بعض اليهود بما يكره‪ ،‬وآذاه المشـركون في رسالته‪ ،‬وفي ِع رضه‪ ،‬وُسمعته‪،‬‬
‫وأهله‪ ،‬فلما قدر عليهم ﷺ عفا عنهم‪ ،‬وأطفأ بحلمه نار العداوات ُم متثاًل أمر ربه‪{ :‬اْدَفْع ِباَّلِتي ِه َي‬
‫َأْح َسُن الَّسِّيَئَة َنْح ُن َأْع َلُم ِبَم ا َيِص ُفوَن } [المؤمنون‪ :‬اآلية ‪.]96‬‬
‫إّن مشاهد ِح لمه ﷺ آية للسائلين‪ ،‬تدور في مجالس العلم وجامعات الّدنيا‪ ،‬وُتَسّطر في‬
‫الُم صّنفات‪ ،‬وُتحَفظ في المؤّلفات‪:‬‬
‫منها مشهد حلمه ﷺ عندما ذهب إلى أهل الّطائف ليعرض عليهم دعوة الّتوحيد‪ ،‬فقابلوه‬
‫بالّر فض واألذّية‪ ،‬وأمروا أطفالهم أن يرموه بالحجارة ﷺ‪ ،‬حتى أدموا عقبيه الّشريفتين ﷺ‪ ،‬كما ثبت‬
‫عن عائشة (رضي هللا عنها) أّنها قالت‪ :‬قال رسول ﷺ‪َ« :‬ناَداني َم َلُك الِج َباِل َو َسَّلَم َعَلَّي ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬يا‬
‫ُم َح َّم ُد‪ ،‬إَّن هللا قْد َسِم َع َقْو َل َقْو ِم َك َلَك ‪َ ،‬و َأَنا َم َلُك الِج َباِل َو َقْد َبَعَثِني َر ُّبَك إَلْيَك ِلَتْأُمَر ِني بَأْم ِر َك ‪َ ،‬فما‬
‫ِش ْئَت ‪ ،‬إْن ِش ْئَت َأْن ُأْط ِبَق عليهُم األْخ َشَبْيِن ‪َ ،‬فقاَل له َر سوُل هللا ﷺ‪َ :‬بْل َأْر ُج و َأْن ُيْخ ِر َج هللا ِم ن‬
‫َأْص اَل ِبِه ْم َم ن َيْعُبُد هللا َو ْح َد ُه ال ُيْش ِر ُك به شيًئا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فهل مّر بك إنسان عبر الّتاريخ يقول في حّق خصومه الذين آذوه‪ ،‬وأعدائه الذين أخرجوه‬
‫وهو ُيشاور في هالكهم‪ ،‬وُيطلب رأيه في تدميرهم‪َ« :‬بْل َأْر ُج و َأْن ُيْخ ِر َج هللا ِم ن َأْص اَل ِبِه ْم َم ن َيْعُبُد‬
‫هللا َو ْح َد ُه ال ُيْش ِر ُك به شيًئا»؟ هنا يتجسد حلمه ﷺ‪ ،‬في مشهد نبوّي كريم يتعّدى كل قامات الحلماء‬
‫عبر الّتاريخ‪ ،‬ويتحَّدى كل رموز اإلنسانّية أبد الّدهر‪ ،‬فلو لم يكن ﷺ نبًّيا ما تحّم ل األوجاع الُم ضنية‬
‫واألذى المّر ‪ ،‬ثّم هو ﷺ ال يطلب ُم لًكا‪ ،‬وال يريد ثروًة‪ ،‬وال جاًها؛ ألّن من عادة البشـر الّص بر على‬
‫األذى والمشاق طموًح ا لُم رادات أنفسهم‪ ،‬كُحّب الّسلطة‪ ،‬أو الّسعي لمنصب‪ ،‬أو االستيالء على مال‪،‬‬
‫أو الحصول على سمعة أو شهرة ونحو ذلك‪.‬‬
‫وفي معركة أحد ُقتل عّم ه حمزة وقرابة الّسبعين من خيرة أصحابه(رضي هللا عنهم)‪،‬‬
‫وكسـر المشركون رباعيته ﷺ‪ ،‬وشّج وا وجهه الّشـريف وقابل ﷺ كّل ذلك بالحلم والّص فح‪ ،‬بل دعا‬
‫لهم ولم يدع عليهم‪ ،‬وكان يذكر قصص األنبياء في الحلم ُم تأّسًيا وُم قتدًيا‪ ،‬فعن ابن مسعود (رضي هللا‬
‫عنه) قال‪َ :‬كَأِّني َأْنُظُر إلى َر سوِل هللا ﷺ َيْح ِك ي َنِبًّيا ِم َن األْنِبَياِء َض َر َبُه َقْو ُم ُه‪َ ،‬و هو َيْم َسُح الَّدَم عن‬
‫َو ْج ِه ِه ‪ ،‬ويقوُل‪َ« :‬ر ِّب اْغ ِفْر ِلَقْو ِم ي فإَّنُه ْم ال َيْعَلُم وَن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فأُّي حلم فوق هذا الُح لم؟! وأّي صفٍح وعفو يوازي هذا الّص فح والعفو؟! يحلم ﷺ ويصفح عن‬
‫كل من آذاه في سبيل أن ُيبّلغ دين هللا‪ ،‬ويتحّم ل المشاق بسعة صدر‪ ،‬وكرم نفس‪ ،‬ولّم ا أرسل ﷺ‬
‫الّطفيل بن عمرو الّدوسي (رضي هللا عنه) إلى قومه في دوس ليدعوهم إلى اإلسالم آذوه وسّبوه‬
‫وشتموه‪ ،‬فعاد الّطفيل إلى رسول هللا ﷺ وقال له‪ :‬ادُع عليهم يا رسول هللا‪ ،‬فرفع ﷺ يديه ليدعو‪،‬‬
‫وظن الّطفيل أّن رسول هللا ﷺ سوف يدعو على قبيلة دوس‪ ،‬وقال‪ :‬هلكت دوس‪ ،‬فقال ﷺ وهو رافع‬
‫يديه وُم ستقبل القبلة‪« :‬اللهَّم اْه ِد َد ْو ًسا وْأِت بِه ْم »‪[ .‬متفق عليه]‬
‫فهدى هللا قلوبهم لإلسالم‪ ،‬ووفدوا مع الّطفيل بن عمرو الدوسي إلى المدينة‪ ،‬وصاروا‬
‫أنصاًر ا للملة‪ ،‬وحماًة للتوحيد‪.‬‬
‫واآلن دعونا نقف وقفة إجالل وتأمل‪ ،‬أمام مشهد ُيبكي العيون‪ ،‬ويهّز األرواح‪ ،‬ويقف له‬
‫الّدهر‪ ،‬إّنه الموقف الذي ال ُينسى مهما مّر ت الّليالي‪ ،‬موقف حلمه ﷺ على أهل مكة وهو يعود إليهم‬
‫فاتًح ا منتصـًر ا‪ ،‬بعدما شتموه‪ ،‬وسّبوه‪ ،‬وآذوه‪ ،‬وحاربوه‪ ،‬وطردوه‪ ،‬يعود إليهم بجيش عرمرم‪ ،‬وقد‬
‫استسلموا أمامه‪ ،‬ونزعت منهم أسلحتهم‪ ،‬فيقول وهو ممسك بحلقة باب الكعبة ‪ -‬كما ُر وي عنه‪« :-‬ما‬
‫تقولون إّني فاعل بكم؟ قالوا‪ :‬خيًر ا‪ ،‬أخ كريم‪ ،‬وابن أخ كريم»‪ .‬قف هنا وأرسل روحك في سماء هذا‬
‫المشهد‪ ،‬وتصور هذا اإلمام العظيم وهو يعلن أعظم عفو في الّتاريخ‪ ،‬في مشهد يملؤه البكاء‪ ،‬وتبُّله‬
‫الّدموع‪ ،‬فيقول ﷺ‪« :‬اَل تثريَب عليُكْم اليوَم يغفُر هللا لكْم وُهو أرحُم الّر احَم ين‪ ،‬اذهبوا فأنتم الطلقاء»‬
‫[رواه النسائي]‪.‬‬
‫يا للصفح! ويا للعفو! ويا للكرم! ويا لّلطف! ويا للحلم! صدق هللا تعالى‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى ُخ ُلٍق‬
‫َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪.]4‬‬
‫أشهد أّنك أعظم حليم في العالم‪ ،‬وأشهد أّنك أجل كريم في الّدنيا‪ ،‬وأشهد أّنك إمام العفو طيلة‬
‫األيام ومّر التاريخ ‪-‬حينها وقف أبو سفيان بن حرب وكان قائد المشركين قبل إسالمه (رضي هللا‬
‫عنه)‪ ،‬وهو الذي جّه ز الجيوش‪ ،‬وجّند األجناد لحرب الّنبي ﷺ‪ ،‬فلّم ا سمع العفو والّص فح والحلم منه‬
‫ﷺ قال بتأثر عجيب‪« :‬بَأِبي أنت َو ُأِّم ي‪َ ،‬م ا َأْح َلَم َك ! َو َأْك َر َم َك ! َو َأْو َص َلَك ! َو َأْع َظَم َعْفَو َك !» [رواه‬
‫الّطبراني]‪.‬‬
‫فيا هللا! كيف يستطيع اإلنسان أن ُيعّبر عن هذا المشهد!؟ وأي كلمات توفي هذا المقام حّقه!؟‬
‫وأي شعر أو نثر ُيسامي هذا القدر العالي من الُح لم الّنبوي الّشريف‪ ،‬والعفو المحمدي العظيم؟!‬
‫ومن أعظم مشاهد حلمه وعفوه ما سّج له ﷺ مع ابن عّم ه أبي سفيان بن الحارث‪ ،‬الشاعر‬
‫الذي جّند نفسه ألذيته ﷺ بشعره‪ ،‬فلّم ا دخل ﷺ مكة فاتًح ا ُم نتصًر ا أخذ أبو سفيان بن الحارث أطفاله‬
‫ليذهب إلى البيداء‪ ،‬فلقيه علُّي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) وهو ابن عّم ه فقال له‪ :‬إلى أين يا أبا‬
‫سفيان؟ قال‪ :‬أذهب إلى البيداء بأطفالي فوهللا لئن ظفر بي محمد ليقّطعِّني إرًبا إرًبا‪ ،‬فقال علي‬
‫(رضي هللا عنه) وهو العارف بحلم الّنبي ﷺ وكرمه وعفوه وصفحه‪ :‬أخطأت يا أبا سفيان‪ ،‬إّن‬
‫رسول هللا ﷺ أحلم الّناس وأكرم الّناس‪ ،‬تعال وسلم عليه بالّنبوة‪ ،‬وقل له كما قال إخوة يوسف‬
‫ليوسف‪{ :‬تاِهَّلل َلَقْد آَثَر َك ُهَّللا َعَلْيَنا َو ِإْن ُكَّنا َلَخاِط ِئيَن } [يوسف‪ :‬اآلية ‪ ،]91‬فلّم ا جلس ﷺ بعد الفتح‬
‫وحوله الجيش أتى أبو سفيان وسّلم عليه بالّنبوة‪ ،‬وقال والّنبي ﷺ جالس‪{ :‬تاِهَّلل َلَقْد آَثَر َك ُهَّللا َعَلْيَنا َو ِإْن‬
‫ُكَّنا َلَخاِط ِئيَن }‪ ،‬فرفع ﷺ طرفه إليه وقال‪َ{ :‬قاَل َال َتْثِر يَب َعَلْيُكُم اْلَيْو َم َيْغِفُر ُهَّللا َلُكْم َو ُهَو َأْر َح ُم‬
‫الَّر اِح ِم يَن } [يوسف‪ :‬اآلية ‪.]92‬‬
‫فعاد أبو سفيان جندًّيا وفًّيا ُيقاتل بين يدي رسول هللا ﷺ‪ ،‬وُيقّدم نحره دون نحر الّنبّي ﷺ يوم‬
‫حنين وغيره من المشاهد‪ ،‬ويقسم أن لن يترك نفقة أنفقها في الجاهلية في حرب الّنبي ﷺ إاّل أنفق‬
‫أضعافها لنصرته‪.‬‬
‫وروى ابن إسحاق في «الّسيرة» أّن الشاعر عبدهللا بن الِّز َبْعَر ى آذى رسول هللا ﷺ وهجاه‪،‬‬
‫فلّم ا قدم ﷺ فاتًح ا مكة أتى عبدهللا إليه ُم سلًم ا ُم عتذًر ا يقول‪:‬‬
‫َمَض ِت اْلَعَد اَو ُة َواْنَق َضْت َأْسَباُبَه ا‬
‫ِص‬
‫َو َدَعْت َأَوا ُر َبْيَنَنا َوُح ُلوُم‬
‫َفاْغِف ْر ‪ِ -‬فًد ى َلَك َواِلَد اَي ِكاَل َمُها‪-‬‬
‫ِح‬
‫ِل‬
‫َزل ي‪َ ،‬فِإ َّنَك َرا ٌم َمْرُح وُم‬
‫َو َعَلْيَك ِم ْن ِع ْلِم اَملِليِك َعاَل َمة‬
‫ُنوٌر َأَغُّر َوَخ اٌمَت ْخَمُتوُم‬
‫َأْع َطاَك َبْع َد حَم َّبٍة ُبْرَه اَنُه‬
‫ِه ِظ‬
‫َش رًفا َوُبْرَه اُن اِإْل َل َع يُم‬
‫فعفا عنه ﷺ وحلم عليه وتجاوز عن زللـِه ‪.‬‬
‫وُر وي في الّسير كما في «االستيعاب» وغيره‪ ،‬أّن عكرمة بن أبي جهل هرب بعد فتح مكة‬
‫نحو البحر أو طريق اليمن‪ ،‬فأخذت له امرأته األمان من رسول هللا ﷺ‪ ،‬فأتى طريًدا شريًدا بعد‬
‫انهزامه وفراره‪ ،‬فاستقبله ﷺ بحفاوة وقال له بكل حلم‪ ،‬ورأفة‪ ،‬وسماحة‪« :‬مرحًبا بالّر اكب الُم هاجر»‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫ولم ُيعّيره ﷺ بأّنه هرب وشرد‪ ،‬بل رفع من قيمته وأعلى من قدره‪ ،‬وكأّن هذا الّر جل الذي‬
‫هرب من رسول هللا ﷺ ورسالته أقبل أصاًل ُم هاجًر ا إلى هللا ورسوله‪ ،‬وكأّنني بعكرمة (رضي هللا‬
‫عنه) وهو يرى رسول هللا ﷺ يتهلل‪ ،‬ويهش‪ ،‬ويبش‪ ،‬ويكرر عليه‪« :‬مرحًبا بالّر اكب الُم هاجر»‪،‬‬
‫تمتلُئ روحه يقيًنا‪ ،‬وإيماًنا‪ ،‬وفرحًة‪ ،‬وُبشرى‪.‬‬
‫وتأّلف ِبِح لِم ه ﷺ صناديد العرب الذين آذوه‪ ،‬وحاربوه‪ ،‬وامتشقوا الّسيوف في وجهه‪،‬‬
‫وأشهروا الّر ماح لقتاله‪ ،‬فلّم ا نصره هللا أسلموا‪ ،‬فأكرمهم ﷺ وأعطى بعضهم مئة ناقة‪ ،‬وأخذ يستميلهم‬
‫بالُخ لق الحسن‪ ،‬والعفو‪ ،‬والصفح‪ ،‬والحلم حتى دخلوا في دين هللا أفواًج ا‪.‬‬
‫كان غضبه ﷺ هلل‪ ،‬ورضاه هلل‪ ،‬ومنعه هلل‪ ،‬وعطاؤه هلل‪ ،‬وما كان يثأر لنفسه وال يقتص انتقاًم ا‬
‫مّم ن آذاه‪ ،‬بل يعفو‪ ،‬ويصفح‪ ،‬ويغّض الّطرف‪ ،‬وما كان يثأر‪ ،‬فعن عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪:‬‬
‫«ما َض َر َب َر سوُل هللا ﷺ شيًئا َقُّط بَيِدِه ‪ ،‬واَل اْم َر أًة‪ ،‬واَل َخ اِد ًم ا‪ ،‬إاّل َأْن ُيَج اِه َد في َسبيِل هللا‪َ ،‬و ما ِنيَل‬
‫منه شيٌء َقُّط‪َ ،‬فَيْنَتِقَم ِم ن َص اِح ِبِه ‪ ،‬إاَّل َأْن ُيْنَتَه َك شيٌء ِم ن َم حاِر ِم هللا‪َ ،‬فَيْنَتِقَم َعَّز َو َجَّل » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ أحلم الناس مع أهله‪ ،‬يصبر ويعفو ويصفح‪ ،‬ومن لطيف عشرته ﷺ وحلمه على‬
‫أهله‪ ،‬غّضه الّطرف عّم ا يحصل من غيرة نسائه‪ ،‬وما يصدر منهّن من غضٍب‪ .‬وسع الجميَع بحلمه‪،‬‬
‫وأفاض على الكّل بعفوه وصفحه‪ ،‬فعن َأَنِس بن مالك (رضي هللا عنه)‪َ ،‬قاَل ‪َ( :‬كاَن الَّنِبُّي ﷺ ِع ْنَد‬
‫َبْعِض ِنَساِئِه ‪َ ،‬فَأْر َسَلْت ِإْح َدى ُأَّم َهاِت الُم ْؤ ِم ِنيَن ِبَصْح َفٍة ِفيَه ا َطَعاٌم ‪َ ،‬فَض رَبِت اَّلِتي الَّنِبُّي ﷺ ِفي َبْيِتَه ا‬
‫َيَد اْلَخ اِد ِم َفَسَقَطِت الَّصْح َفُة؛ َفاْنَفَلَقْت ‪َ ،‬فَجَمَع الَّنِبُّي ﷺ ِفَلَق الَّصْح َفِة ‪ُ ،‬ثَّم َجَعَل َيْج َمُع ِفيَه ا الَّطَعاَم اَّلِذي‬
‫َكاَن ِفي الَّصْح َفِة ‪َ ،‬و َيُقوُل‪َ« :‬غاَر ْت ُأُّم ُكْم »‪ُ ،‬ثَّم َحَبَس اْلَخ اِد ِم َح َّتى ُأِتَي ِبَصْح َفٍة ِم ْن ِع ْنِد اَّلِتي ُهَو ِفي‬
‫َبْيِتَه ا‪َ ،‬فَد َفَع الَّصْح َفَة الَّصِح يَح َة ِإَلى اَّلِتي ُكِس َر ْت َصْح َفُتَه ا‪َ ،‬و َأْم َسَك الَم ْك ُسوَر َة ِفي َبْيِت اَّلِتي َكَسَر ْت )‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكانت إحداهّن تغضب فتهجر اسمه ﷺ‪ ،‬تقول أّم المؤمنين َعاِئَشَة (رضي هللا عنها)‪ :‬قال لي‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬إِّني َأَلْع َلُم إذا ُكْنِت َعِّني راِض َيًة‪ ،‬وإذا ُكْنِت َعَلَّي َغْض بى»‪ .‬قاَلْت ‪َ :‬فُقلُت ‪ِ :‬م ن أْيَن‬
‫َتْعِر ُف ذلَك ؟ فقاَل ‪« :‬أّم ا إذا ُكْنِت َعِّني راِض َيًة‪ ،‬فإَّنِك َتُقوِلين ال وَر ِّب ُم َح َّم ٍد‪ ،‬وإذا ُكْنِت َعَلَّي َغْض بى»‪،‬‬
‫ُقْلِت‪ :‬ال وَر ِّب إْبراِه يَم قاَلْت ‪ُ :‬قلُت ‪« :‬أَجْل وهللا يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما أْه ُج ُر إاّل اْس َم َك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فكان ﷺ مع أهله أحلم الّناس‪ ،‬يمازحهم ويالطفهم ويعفو عما يصدر عنهم‪ ،‬ويدخل عليهم‬
‫بّساًم ا ضّح اًكا‪ ،‬يمأل قلوبهم وبيوتهم أنًسا وسعادة‪ ،‬وكان ﷺ يحمل األطفال‪ ،‬ويحلم على أذاهم‪ ،‬فعن‬
‫عائشة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) أّنها قالت‪ُ« :‬أِتَي َر سوُل هللا ﷺ بَص ِبٍّي‪َ ،‬فباَل على َثْو ِبِه ‪َ ،‬فَدعا‬
‫بماٍء فأْتَبَعُه إّياُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول أنس (رضي هللا عنه)‪َ :‬خ َدْم ُت النبَّي ﷺ َعشْـر ِسِنيَن ‪َ ،‬فما قاَل ِلي‪ُ« :‬أٍّف ‪ ،‬وال‪َ :‬ص َنْعَت ؟‬
‫وال‪ :‬أال َص َنْعَت » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فأّي كرم؟! وأّي حلم تمّثل في شخص هذا الّنبي ﷺ؟! إّن هذا غاية الّنبل‪ ،‬وقّم ة ُح سن الخلق‪.‬‬
‫فاق حلمه وعفوه ﷺ‪ ،‬وُح سن عشرته ألهله ما يصفه الواصفون‪ ،‬فهو القدوة واألسوة للّز وج‬
‫الحليم الكريم‪ ،‬فعن عمر بن الخطاب (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال‪ُ« :‬كَّنا َم ْعَشَر ُقَر ْيٍش َنْغِلُب الِّنَساَء ‪َ ،‬فَلَّم ا‬
‫َقِد ْم َنا عَلى األْنَص اِر إَذا َقْو ٌم َتْغِلُبُه ْم ِنَساُؤُهْم ‪َ ،‬فَطِفَق ِنَساُؤ َنا َيْأُخ ْذَن ِم ن أَد ِب ِنَساِء األْنَص اِر ‪َ ،‬فَصِخ ْبُت‬
‫عَلى اْم َر َأتي َفَر اَجَعْتِني‪ ،‬فأْنَكْر ُت أْن ُتَر اِج َعِني‪ ،‬قاَلْت ‪ :‬وِلَم ُتْنِك ُر أْن ُأَر اِج َعَك ؟ َفَو هللا إَّن أْز َو اَج النبِّي‬
‫ﷺ َلُيَر اِج ْعَنُه‪ ،‬وإَّن إْح َداُهَّن َلَتْهُج ُر ُه اليوَم حَّتى الَّلْيِل ‪ ،‬فأْفَز َعِني ذلَك وُقلُت َلَه ا‪ :‬قْد َخ اَب َم ن َفَعَل َذِلِك‬
‫منهَّن ‪ُ ،‬ثَّم َج َم ْعُت َعَلَّي ِثَياِبي‪َ ،‬فَنَز ْلُت َفَد َخ ْلُت عَلى َح ْفَص َة َفُقلُت َلَه ا‪ :‬أْي َح ْفَص ُة‪ ،‬أُتَغاِض ُب إْح َداُكَّن‬
‫النبَّي ﷺ اليوَم حَّتى الَّلْيِل ؟ قاَلْت ‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬قْد ِخ ْبِت وَخ ِس ْر ِت‪ ،‬أَفَتْأَم ِنيَن أْن َيْغَض َب ُهللا ِلَغَض ِب‬
‫َر سوِلِه ﷺ َفَتْهِلِك ي؟» [متفق عليه]‪.‬‬
‫إّن هذه الّتعاليم الّنبوية الّشريفة واألخالق الّسامية الكريمة من معلم الخير ﷺ لو ُطّبقت في‬
‫البيوت لما حصل شجار‪ ،‬وال نزاع‪ ،‬وال فراق‪.‬‬
‫كان اليهود أشّد َم ن ناصب الَعَداء لرسول هللا ﷺ‪ ،‬فأخذوا ُيدّبرون له المكائد‪ ،‬ويتفننون في‬
‫إيذائه‪ ،‬ويغرون المنافقين ومشـركي العرب بالصّد عن سبيل هللا والكفر برسالة نبّي هللا ﷺ‪ ،‬حتى‬
‫بلغوا في ذلك إلى محاولة اغتياله ﷺ‪ ،‬فعن أنس بن مالك(رضي هللا عنه)‪«:‬أَّن اْم َر َأًة َيُه وِد َّيًة َأَتْت‬
‫َر سوَل هللا ﷺ بشاٍة َم ْس ُم وَم ٍة‪ ،‬فأَكَل منها‪َ ،‬فِج يَء بها إلى َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فَسَأَلها عن ذلَك ؟‪َ ،‬فقاَلْت ‪:‬‬
‫َأَر ْدُت َألْقُتَلَك ‪ ،‬قاَل ‪ :‬ما كاَن هللا ِلُيَسِّلَطِك على ذاك‪ ،‬قاَل ‪َ :‬أْو قاَل ‪َ :‬عَلَّي ‪ ،‬قالوا‪َ :‬أال َنْقُتُلها؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال»‪.‬‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫وجاء تاجر من تّج ار اليهود ُيدعى زيد بن َسْعنة قبل إسالمه يتقاضى ديًنا عند الّنبّي ﷺ قبل‬
‫موعد الوفاء‪ ،‬فأغلظ للّنبي ﷺ وجّر ه بثيابه أمام الّناس‪ ،‬وصاح في وجهه الّشريف ﷺ قائاًل ‪ :‬إّنكم يا‬
‫بني عبد المطلب مطٌل ‪ ،‬فزجره عمر (رضي هللا عنه) وهَّم أن يبطش به‪ ،‬والّنبي ﷺ ينظر إلى ُعمر‬
‫في سكوٍن وُتؤَدٍة وتبّسم‪ ،‬ثم قال ﷺ لعمر‪« :‬إَّنا كَّنا أحوَج إلى غيِر هذا منك يا عمُر ‪ ،‬أْن تأُمَر ني‬
‫بُح سِن األداِء وتأُمَر ه بُح سِن الَقَض اِء ‪ .‬اذَهْب به يا عمُر فاقِض ه حَّقه‪ ،‬وِز ْده عشريَن صاًعا ِم ن تمر‬
‫مكاَن ما ُر ْع َته»‪ ،‬قال زيٌد‪ :‬فذَهب بي عمُر فقضاني حِّقي وزادني عشـريَن صاًعا ِم ن تمٍر ‪ ،‬فُقْلُت ‪ :‬ما‬
‫هذه الِّز يادُة؟ قال‪ :‬أَم رني رسوُل هللا ﷺ أْن أزيَدك مكاَن ما ُر ْع ُتك‪ .‬فُقْلُت ‪ :‬أتعِر ُفني يا عمُر ؟ قال‪ :‬ال‪،‬‬
‫فَم ن أنَت ؟ ُقْلُت ‪ :‬أنا زيُد بُن َسْعنَة‪ .‬قال‪ :‬الحبُر ؟ ُقْلُت ‪َ :‬نعم‪ ،‬الحبُر ‪ ،‬قال‪ :‬فما دعاك أْن تقوَل لرسوِل هللا‬
‫ﷺ ما ُقْلَت وتفَعَل به ما فَعْلَت !؟ فُقْلُت ‪ :‬يا عمُر كُّل عالماِت الُّنبَّو ِة قد عَر ْفُتها في وجِه رسوِل هللا ﷺ‬
‫حيَن نَظْر ُت إليه إاّل اثنتيِن لم أختِبْر هما منه‪ :‬يسِبُق ِح ْلُم ه جهَله‪ ،‬وال يزيُده شَّدُة الجهِل عليه إاّل ِح ْلًم ا‪،‬‬
‫فقد أختَبْر ُتهما‪ ،‬فُأشِه ُدك يا عمُر أني قد رضيُت باهلل رًّبا‪ ،‬وباإلسالِم ديًنا‪ ،‬وبمحَّم ٍد ﷺ نبًّيا [رواه ابن‬
‫حبان]‪.‬‬
‫فُقل لي باهلل من الذي يمّر به مثل هذا الموقف الّنبيل من الّنبي الكريم ﷺ وفيه ذرة من‬
‫اإلنسانية ثم ال تتحرك مشاعره ويجيش فؤاده باإلقبال على دين هذا اإلمام العظيم ﷺ والنبي الكريم!؟‬
‫إّن شريعته ﷺ ُتدّر س في كل باب من أبواب الحياة‪ ،‬وُسّنته ُتّتبع في كل موقف من مواقف‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومنها مواقف ِح ْلمه ﷺ على العصاة والُم ذنبين‪ ،‬فلنتعّلم كيف تجاوز عنهم ﷺ بحلمه‪،‬‬
‫وأعطاهم فرصة العودة إلى هللا والّتوبة إليه‪ ،‬ومنحهم األمل في رحمة هللا وعفوه‪ ،‬ولم ُيغلق عليهم‬
‫باب العودة‪ ،‬فعندما أرسل حاطب ابن أبي بلتعة (رضي هللا عنه) رسالة إلى مشركي مكة يخبرهم‬
‫فيها أّن رسول هللا ﷺ عازم على فتح مكة‪ ،‬وأّنه جَّه ز جيًشا لذلك‪ ،‬فنزل الوحي وأخبر الّنبي ﷺ‪،‬‬
‫فأرسل ﷺ إلى حاطب‪ ،‬وسأله في هدوء‪َ« :‬يا َح اِط ُب ‪َ ،‬م ا َهَذا؟»‪ .‬قال َح اِط ُب ‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ال َتْعَج ْل‬
‫َعَلَّي ‪ ،‬إّني كنت اْم َر ًأ ُم ْلَص ًقا في‏ قريش‪َ ،‬و َلْم َأُكْن ِم ْن َأْنُفِس َه ا‪َ ،‬و َكاَن َم ْن َمَعَك ِم َن الُم َه اِج ِر يَن َلُه م‬
‫َقَر اَباٌت ِبَم َّكَة َيْح ُم وَن ِبَه ا َأْه ِليِه ْم َو َأْم َو اَلُهْم ؛ َفَأْح َبْبُت ِإْذ َفاَتِني َذِلَك ِم َن الَّنَسِب ِفيِه ْم َأْن أَّتِخ َذ ِع ْنَدُهْم َيًدا‬
‫َيْح ُم وَن ِبَه ا َقَر اَبِتي‪َ ،‬و َم ا َفَعْلُت ُكْفًر ا َو ال اْر ِتَداًدا َو ال ِر ًض ا ِباْلُكْفِر‬
‫«َلَقْد َص َد َقُكْم »‪َ .‬قاَل ُعَم ُر ‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬دْع ِني َأْض ِر ْب ُعُنَق َهَذا‬
‫َو َم ا ُيْد ِر يَك َلَعَّل هللا َأْن َيُكوَن َقِد اَّطَلَع َعَلى َأْه ِل َبْد ٍر ‪َ ،‬فَقاَل ‪ :‬اْع َم ُلوا َم ا ِش ْئُتْم َفَقْد َغَفْر ُت َلُكْم » [متفق‬
‫عليه]‪ ،‬فانظر لحلمه ﷺ كيف عرف لهذا منزلته وسابقته فتجاوز عنه! إّن هذا لموقف يستدّر دمع‬
‫َبْعَد اِإل ْسالِم ؛ َفَقاَل َر ُسوُل هللا ﷺ‪:‬‬
‫َاْلُم َناِفِق ‪َ .‬قاَل ‪ِ« :‬إَّنُه َقْد َشِه َد َبْد ًر ا؛‬
‫العين‪ ،‬ويخفق له القلب‪.‬‬
‫لقد جعل ﷺ شرف اإلنسان في الحلم‪ ،‬وكظم الغيظ‪ ،‬ال في البطش واالنتقام‪ ،‬ويقول ﷺ في‬
‫كلمة قوية مؤثرة‪« :‬ليَس الَّشِديُد بالُّص َر َعِة (أي الذي يصرع الرجال عند الُم غالبة)‪ ،‬إَّنما الَّشِديُد‬
‫الذي َيْم ِلُك َنْفَسُه ِع ْنَد الَغَض ِب» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وهذه هي معاني اإلنسانية الّر اقية الّر ائعة‪ ،‬وليس البطش واألذية وتدبير الّضرر لآلخرين‪.‬‬
‫لقد أعلى رسول هللا ﷺ من قيمة الحلم والعفو والّص فح‪ ،‬وجعلها تيجاًنا على رؤوس‬
‫أصحابها‪ ،‬ولذلك قال ﷺ‪« :‬ال َتحاَسُدوا‪ ،‬وال َتناَج ُشوا‪ ،‬وال َتباَغُضوا‪ ،‬وال َتداَبُر وا‪ ،‬وال َيِبْع َبْعُضُكْم‬
‫على َبْيِع َبْعٍض ‪ ،‬وُكوُنوا ِع باَد هللا إْخ واًنا‪ .‬الُم ْسِلُم أُخ و الُم ْسِلِم ‪ ،‬ال َيْظ ِلُم ُه وال َيْخ ُذُلُه‪ ،‬وال َيْح ِقُر ُه»‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول ﷺ في كلمة جميلة رائعة‪« :‬ما زاَد هللا َعْبًدا بَعْفٍو ‪ ،‬إاّل ِع ًّز ا» [رواه مسلم]‪ ،‬وروى أبو‬
‫داود عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬م ْن َكظَم غيًظا‪ ،‬وهو قاِد ٌر على أْن ُيْنِفَذُه‪ ،‬دعاه ُهللا عّز وجل على رؤوِس‬
‫الخالِئِق يوم القيامة‪ ،‬حّتى ُيخِّيَر ُه هللا ِم َن الحوِر العيِن ما شاُء »‪.‬‬
‫إّن هذه المعاني يجب أن ندرسها بعناية‪ ،‬دراسة من يعتقد ويتيقن أّن في العمل بها نجاته في‬
‫الّدنيا واآلخرة‪ ،‬وأّنها شريعة ُيتعبد هللا بها‪ ،‬ال أّنها أخبار تاريخية للّتسلية والمتعة الّذهنية‪.‬‬
‫ولّم ا أراد الخروج ﷺ لغزوة تبوك جاءه بعض الُم نافقين‪ ،‬يعتذرون بأعذار كاذبة‪ ،‬فقبل عليه‬
‫الّص الة والّسالم أعذارهم‪ ،‬وحملهم على الّظاهر‪ ،‬فجاء العتب من هللا تعالى لنبّيه ﷺ‪ ،‬فقال سبحانه‪:‬‬
‫{َعَفا ُهَّللا َعْنَك ِلَم َأِذ ْنَت َلُهْم َح َّتى َيَتَبَّيَن َلَك اَّلِذيَن َص َدُقوا َو َتْعَلَم اْلَكاِذ ِبيَن } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]43‬‬
‫وهنا لفتة جميلة‪ ،‬فمن حّب هللا لرسوله ولمكانته ﷺ عند مواله‪ ،‬بدأه هللا بالعفو قبل أن ُيعاتبه‬
‫في شأن الُم نافقين‪ ،‬وما ذاك إاّل لمنزلته الّر فيعة ﷺ عند رّبه‪ ،‬فهو أعّز الخليقة على هللا‪ ،‬وأحّبهم إلى‬
‫هللا‪ ،‬وأكرمهم على هللا ‪.‬‬
‫في الموقف الّسابق تلمح سعة حلمه ﷺ‪ ،‬وعظيم عفوه‪ ،‬مع علمه بمؤامرتهم‪ ،‬ودسائسهم‪،‬‬
‫وغدرهم‪ ،‬وكفرهم بدعوته في الباطن‪ ،‬ومع هذا كّله قبل أعذارهم‪ ،‬وَح ُلم عليهم‪ ،‬وعفا عنهم‪.‬‬
‫وانظر إلى تعامله ﷺ مع رأس المنافقين عبدهللا بن أبي بن سلول‪ ،‬فقد فعل األفاعيل في‬
‫اإلسالم‪ ،‬وانخذل بثلث الجيش يوم أحد‪ ،‬واّتهم أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) في عرضها‪،‬‬
‫الّص ديقة بنت الّص ديق المبّر أة من فوق سبع سماوات‪ ،‬وقال في إحدى الغزوات لّم ا تشاجر مهاجرّي‬
‫وأنصاري‪َ« :‬لِئْن َر َجْعنا إلى الَم ِديَنِة َلُيْخ ِر َج َّن األَعُّز منها األَذَّل » [متفق عليه]‪ ،‬يقصد أّنه األعز‬
‫قاتله هللا‪ -‬وأّن األذّل نبّي هللا ﷺ صانه هللا‪ ،‬فلّم ا قدموا إلى المدينة وقف ابنه موقف المؤمن الّص ادق‬‫الُم حب هلل ولرسوله ﷺ وقال ألبيه كما في الترمذي‪ :‬ال تدخل المدينة حتى يأذن لك نبّي هللا ﷺ‪ ،‬فإّنك‬
‫أنت األذل وهو األعّز ‪ ،‬فأذن له ﷺ‪ ،‬وعفا‪ ،‬وحلم‪ ،‬وصفح‪.‬‬
‫ولّم ا مات ابن َسلول جاء ابنُه عبُد هللا للّنبي ﷺ وطلب منه ثوبه الّشريف ليكّفن فيه أباه‪،‬‬
‫فأعطاه الّنبي ﷺ ثوبه ُلطًفا وحلًم ا وكرًم ا منه فُكّفن فيه‪ ،‬وسأل ابنُه‪ :‬أُتَصِّلي عليه يا رسوَل هللا؟ فقال‬
‫ﷺ‪ :‬نعم‪-‬وكان هذا قبل أن يوحى إليه بعدم الصالة على المنافقين‪،-‬كما وصف عمر بن الخطاب هذا‬
‫المشهد فقال(رضي هللا عنه)‪َ« :‬لما َم اَت عبُد هللا بُن ُأَبٍّي بن َسُلوَل ‪ُ ،‬دِع َي له َر سوُل هللا ﷺ ِلُيَصِّلَي‬
‫عليه‪َ ،‬فَلَّم ا َقاَم َر سوُل هللا ﷺ وَثْبُت إَلْيِه ‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬يا َر سول هللا‪ ،‬أُتَصِّلي َعَلى اْبِن ُأَبٍّي وقْد َقاَل َيوَم َكَذا‬
‫وَكَذا‪َ :‬كَذا وَكَذا؟ ُأَعِّدُد عليه َقْو َلُه‪َ ،‬فَتَبَّسَم َر سوُل هللا ﷺ وَقاَل ‪ :‬أِّخ ْر َعِني يا ُعَمُر ‪َ ،‬فَلَّم ا أْك َثْر ُت عليه‪،‬‬
‫َقاَل ‪ :‬إِّني ُخ ِّيْر ُت َفاْخ َتْر ُت ‪ ،‬لو أْع َلُم أِّني إْن ِز ْدُت َعَلى الَّسْبِع يَن ُيْغَفُر له َلِز ْدُت َعَلْيَه ا‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬فصَّلى‬
‫عليه َر سوُل هللا ﷺ ُثَّم اْنَص َر َف » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فتصّو ر وأنت تعيش هذا المشهد أن تقف لُتصّلي على أكبر أعدائك‪ ،‬وتستغفر له وتترحم‬
‫عليه‪ ،‬وهو الذي كاد لك المكائد في حياته وسّبك وشتمك وأّلب عليك الرأي العام‪ ،‬وسعى في الفتك‬
‫واإلضرار بك‪ ،‬وطعنك في عرضك‪ ،‬وكّذبك‪ ،‬واستهزأ بك‪ ،‬وتفنن في إيذائك بصنوف اإليذاء‪ ،‬وبعد‬
‫كل هذا يكون الّص فح والعفو والحلم والّتجاوز‪ ،‬أشهد أّن هذه األخالق ال تكون إاّل في إنسان واحد‬
‫اسمه‪ :‬محمد بن عبدهللا ﷺ‪.‬‬
‫وانظر إليه ﷺ وهو يتحّم ل جفاء أعرابي أتاه يطلب منه المعونة وكان عليه ﷺ رداء نجرانّي‬
‫غليظ الحاشية فجّر ه األعرابي من خلفه حتى أّثر الّر داء في ُعنقه الشريف‪ ،‬كما روى أنس بن مالك‬
‫(رضي هللا عنه) فقال‪ُ« :‬كْنُت أْم شِـي مع َر سوِل هللا ﷺ وعليه ُبْر ٌد َنْج َر اِنٌّي َغِليُظ الَح اِشَيِة ‪ ،‬فأْد َر َكُه‬
‫أْع َر اِبٌّي َفَجَبَذ بِر َداِئِه َجْبَذًة َشِديَد ًة‪ ،‬قاَل أَنٌس ‪َ :‬فَنَظْر ُت إلى َص ْفَحِة َعاِتِق النبِّي ﷺ‪ ،‬وقْد أَّثَر ْت بَه ا‬
‫َح اِشَيُة الِّر َداِء ِم ن ِش َّد ِة َجْبَذِتِه ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬يا ُم َح َّم ُد ُمْر لي ِم ن َم اِل هللا الذي ِع ْنَدَك ‪َ ،‬فاْلَتَفَت إَلْيِه‬
‫َفَض ِح َك ‪ُ ،‬ثَّم أَمَر له بَعَطاء» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وهنا قام األعرابي بثالثة تجاوزات‪ :‬جذب الّنبي ﷺ‪ ،‬وعّبس في وجهه‪ ،‬وأغلظ له القول‪ ،‬فرد‬
‫عليه ﷺ بثالث ُم باركات‪ :‬التفت إليه‪ ،‬ثم ضحك في وجهه‪ ،‬ثم أمر له بعطاء‪.‬‬
‫وهذا منهجه بأبي هو وأمي‪ ،‬كما قال له رّبه‪{ :‬اْدَفْع ِباَّلِتي ِه َي َأْح َسُن َفِإَذا اَّلِذي َبْيَنَك َو َبْيَنُه‬
‫َعَداَو ٌة َكَأَّنُه َو ِلٌّي َح ِم يٌم } [فصلت‪ :‬اآلية ‪ ،]34‬فصّلى هللا وسلم على خير من نّفذ أمر رّبه‪ ،‬وبّلغ عن‬
‫مواله‪ ،‬ودفع بالتي هي أحسن‪.‬‬
‫ومن حلمه ﷺ أّنه كان يتلّطف باألعراب الذين يجهلون أحكام الّدين لحداثة دخولهم فيه‪ ،‬فعن‬
‫أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قاَم َر سوُل هللا ﷺ في َص الٍة وُقْم نا معُه‪َ ،‬فقاَل أْعراِبٌّي وهو في‬
‫الَّص الِة‪ :‬اللهَّم اْر َح ْم ِني وُم َح َّم ًدا‪ ،‬وال َتْر َح ْم معنا أَح ًدا‪َ .‬فَلّم ا َسَّلَم الّنبُّي ﷺ قاَل ِلَألْع َر اِبِّي‪« :‬لَقْد َحَّج ْر َت‬
‫واِسًعا»‪ُ ،‬يِر يُد َر ْح َم َة هللا‪[ .‬رواه البخاري]‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪« :‬بْيَنما َنْح ُن في الَم ْس ِج ِد مع َر سوِل هللا ﷺ إْذ جاَء‬
‫أْعراِبٌّي َفقاَم َيُبوُل في الَم ْس ِج ِد‪ ،‬فقاَل أْص حاُب َر سوِل هللا ﷺ‪َ :‬م ْه َم ْه‪ ،‬قاَل ‪ :‬قاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬ال‬
‫ُتْز ِر ُم وُه َدُعوُه (أي‪ :‬دعوه ال تقطعوا عليه بوله)‪َ ،‬فَتَر ُكوُه حّتى باَل ‪ُ ،‬ثَّم إن َر سوَل هللا ﷺ َدعاُه فقاَل‬
‫له‪ :‬إَّن هِذه الَم ساِج َد ال َتْص ُلُح ِلشيٍء ِم ن هذا الَبْو ِل ‪ ،‬وال الَقَذِر إَّنما هي ِلِذ ْك ِر هللا عَّز وجَّل ‪ ،‬والَّص الِة‬
‫وِقراَءِة الُقْر آِن ‪ ،‬وأَمَر َر ُج اًل ِم َن الَقْو ِم َفجاَء بَد ْلٍو ِم ن ماٍء َفَشَّنُه عليه» [متفق عليه]‪ .‬فمثلما أمر ﷺ‬
‫بإفراغ الماء على بول األعرابي لُيطهره‪ ،‬أفرغ ﷺ من حلمه على جهل هذا الرجل فنّقاه‪.‬‬
‫بل إّنه ﷺ حلم وعَفا عّم ن أراد قتله‪ ،‬وهذا غاية ما يصل إليه الحلماء‪ ،‬فعن َج اِبر ْبن َعْبِد هللا‬
‫(رضي هللا عنهما)‪َ ،‬أَّنُه َغَز ا َمَع َر ُسوِل هللا ﷺ ِقَبَل َنْج ٍد‪َ ،‬فَلَّم ا َقَفَل َر ُسوُل هللا ﷺ‪َ ،‬قَفَل َمَعُه‪َ ،‬فَأْدَر َكْتُه ُم‬
‫اْلَقاِئَلُة ِفي َو اٍد َكِثيِر اْلِع َض اِه‪َ ،‬فَنَز َل َر ُسوُل هللا ﷺ‪َ ،‬و َتَفَّر َق الَّناُس َيْس َتِظ ُّلوَن ِبالَّشَجِر ‪َ ،‬فَنَز َل َر ُسوُل هللا‬
‫ﷺ َتْح َت َسُم َر ٍة َو َعَّلَق ِبَه ا َسْيَفُه‪َ ،‬و ِنْم َنا َنْو َم ًة؛ َفِإَذا َر ُسوُل هللا ﷺ َيْدُعوَنا‪َ ،‬و ِإَذا ِع ْنَدُه َأْع َر اِبٌّي ‪َ ،‬فَقال‪:‬‬
‫«ِإَّن َهَذا اْخ َتَر َط َعَلَّي َسْيِفي َو َأَنا َناِئٌم ‪َ ،‬فاْس َتْيَقْظ ُت َو ُهَو ِفي َيِدِه َص ْلًتا‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬م ْن َيْم َنُعَك ِم ِّني؟‪َ ،‬فُقْلُت ‪:‬‬
‫هللا‪َ ،‬ثاَل ًثا‪َ ،‬و َلْم ُيَعاِقْبُه َو َج َلَس » [متفق عليه]‪ .‬وورد أّن هذا الّر جل ذهب إلى قومه وأسلم‪ ،‬وكان سبًبا‬
‫في إسالمهم‪[ .‬اإلصابة]‪.‬‬
‫وروى جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما)‪ ،‬قصة أخرى عن حلمه وعفوه ﷺ حينما اعترض‬
‫عليه أعرابّي وهو ُيقّسم الغنائم في حنين وقال له‪« :‬يا ُم َح َّم ُد‪ ،‬اْعِدْل‪ ،‬فقال ﷺ‪ :‬وْيَلَك ‪ ،‬وَم ن َيْعِدُل إذا‬
‫َلْم أكن َأْعِدل!؟ قْد ِخ ْبَت وَخ ِس ْر َت إْن َلْم َأُكْن َأْع ِدُل »‪ ،‬فقال عمر (رضي هللا عنه)‪َ :‬دْع ِني‪ ،‬يا َر سوَل‬
‫هللا‪ ،‬فأْقُتَل هذا الُم ناِفَق ‪ ،‬فقال ﷺ‪ :‬معاَذ هللا‪َ ،‬أْن َيَتَح َّد َث الّناُس َأِّني َأْقُتُل َأْصحابي» [رواه البخاري‪-‬‬
‫مختصًر ا ‪ -‬ومسلم]‪.‬‬
‫فهو ﷺ مع حلمه وعفوه وصفحه نظر إلى المصلحة الكبرى وإلى المقصد األعظم وهو هداية‬
‫الّناس‪ ،‬فإذا سمع الناس أّنه ﷺ قتل بعًض ا مّم ن صاحبه‪ ،‬انجفلوا عن الّدين‪ ،‬وخافوا من اإلسالم‪،‬‬
‫فانظر سعة الّنظرة‪ ،‬وجالل الحكمة‪ ،‬ونور البصيرة‪ ،‬في ترك هذا الُم عترض واإلعراض عنه‬
‫لمصلحة الّدعوة‪ ،‬وهذا من حرصه ﷺ على إظهار اإلسالم بصورته الجميلة‪ ،‬وحرصه على ُح سن‬
‫الّسمعة للّر سالة المحمدية الخالدة‪.‬‬
‫إّن أخالقه الكريمة ﷺ ومنها عفوه وحلمه‪ ،‬كانت من أعظم األسباب لهداية الّناس‪ ،‬وإقبالهم‬
‫على دين هللا عّز وجل‪ ،‬واعتناقهم رسالته ﷺ‪ ،‬تقول أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) وهي‬
‫تصف سجاياه ﷺ وتتحدث عن حلمه‪ ،‬وُنبله‪ ،‬وكرمه‪« :‬لم َيُكن ﷺ فاِح ًشا وال ُم تَفِّح ًشا وال صّخ اًبا في‬
‫األسواِق ‪ ،‬وال َيجزي بالَّسِّيئِة الَّسِّيئَة‪ ،‬وَلِك ن َيعفو وَيصَفُح» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فهذه سجاياه وشمائله وخلقه الّنبيل ﷺ‪ ،‬وكيف ال يكون كذلك وهو الذي ُأنزل عليه قوله‬
‫تعالى‪َ{ :‬و اْلَكاِظ ِم يَن اْلَغْيَظ َو اْلَعاِفيَن َعِن الَّناِس َو ُهَّللا ُيِح ُّب اْلُم ْح ِسِنيَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪!]143‬؟‪،‬‬
‫وبّلغنا هذه اآلية بقوله وفعله وحاله‪ ،‬وهو الذي ُأوحي إليه قول الباري‪ُ{ :‬خ ِذ اْلَعْفَو َو ْأُم ْر ِباْلُعْر ِف‬
‫َو َأْع ِر ْض َعِن اْلَج اِهِليَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]199‬‬
‫وهذه اآلية وحدها دستور أخالق عالمي‪ ،‬وميثاق شرف إنساني‪ ،‬لن تسعد البشرية إاّل بتنفيذ‬
‫هذه التعاليم الّر ّبانية والّسنن الُم حمدّية‪ ،‬وِم ن أين ُتتعّلم الرجولة‪ ،‬وشيم األوفياء‪ ،‬وسجايا الّشـرفاء‪ ،‬إاّل‬
‫من سيرته العطرة ﷺ وأخالقه الفّو احة الّز كية؟!‬
‫صلى هللا وسّلم على أعظم العالمين ِح لًم ا‪ ،‬وأكثرهم صفًح ا وعفًو ا‪ ،‬نشهد أّنه أعظم َم ن َكظم‬
‫غيًظا في تاريخ البشرّية ﷺ‪ ،‬ونشهد أّنه اإلمام في كل خلق نبيل‪ ،‬والُم قَّدم في كل سجّية حميدة‪ ،‬ونشهد‬
‫أّن كل ُخ لق محبوب أحّبه رّب العالمين كان في نبّينا الكريم‪ ،‬فتحّبب إلى هللا بُخ لق نبّيه ﷺ تكن من‬
‫أوليائه‪ ،‬وإذا أردت أن ينصرك هللا بال جنود‪ ،‬ويحميك بال عشيرة‪ ،‬فعليك بالحلم‪.‬‬
‫مسة الّنبّو ِة أن تكون حليما‬
‫َبًّرا َو صواًل حُم سًنا وكرميا‬
‫فكأّنك الغيُث اهلينء على الّرىب‬
‫أحيت وكانت قبل ذاك حطيما‬
‫ّملا عفوت عن اخلصوم تفّضاًل‬
‫ّمساك رّبك يف الكتاِب رحيما‬
‫هتفت لك األرواُح ّملا آنست‬
‫من روِض عفوك نفحًة ونسيما‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َك ِرًمْيا‬
‫محمد بن عبدهللا ﷺ أجود البرّية نفًسا‪ ،‬وأسخاها يًدا‪ ،‬هو الغمامة الّسحاء‪ ،‬والغيث المدرار‪،‬‬
‫أسرع بالخير من الّر يح المرسلة‪ُ ،‬يعطي عطاء من ال يخشى الفقر‪ُ ،‬يعطي مع الحاجة‪ ،‬يجمع الغنائم‬
‫ثم ُيوّز عها وال يأخذ منها شيًئا لخاصة نفسه‪ .‬مائدته معروضة لكل قادم‪ ،‬وبيته قبلة لكل وافد‪ُ ،‬يكرم‬
‫الّضيف‪ ،‬وُيطعم الجائع‪ ،‬ويكسو العاري‪ ،‬وُيكسب المعدوم‪ ،‬وُيغيث الملهوف‪ ،‬وُينقذ المكروب‪ ،‬وُيعين‬
‫على نوائب الّدهر‪ ،‬ويؤثر المحتاج‪ ،‬ويصل القريب‪ ،‬ويحتوي الّشريد‪ ،‬ويواسي المصاب‪ ،‬ويحتفي‬
‫بالغريب‪ ،‬ويرأف بالمسكين‪ ،‬ويكفل اليتيم‪ ،‬ويرحم الضعيف‪ .‬فكان ﷺ آية في الجود والكرم‪ ،‬ال ُيقارن‬
‫به أجواد العرب كحاتم وَهِر م وابن ُج ْدعان؛ ألّنه ﷺ يعطي عطاء َم ن ال يطلب الخلف إاّل من هللا‪،‬‬
‫ويجود جود َم ن بذل نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل رّبه ومواله‪ ،‬فهو أندى العالمين راًح ا‪،‬‬
‫وأسمحهم ُر وًح ا‪ ،‬وأكرمهم محتًدا‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪« :‬ما ُسِئَل َر سوُل هللا ﷺ‬
‫عَلى اإلْس اَل ِم شيًئا إاّل َأْع َطاُه‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَج اَءُه َر ُجٌل فأْع َطاُه َغَنًم ا بين َجَبَلْيِن ‪َ ،‬فَر َجَع إلى َقْو ِم ِه ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬يا‬
‫َقْو ِم َأْسِلُم وا‪ ،‬فإَّن ُم َح َّم ًدا ُيْعِط ي َعَطاًء ال َيْخ َشى الَفاَقَة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫قد َو ِس ع الّناس بّر ه ﷺ‪ ،‬فطعامه مبذول‪ ،‬ووجهه بّسام‪ ،‬وخلقه سهل‪ ،‬وصدره واسع‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫تراُه‪ ،‬إذا ما جئتُه‪ ،‬متهّلاًل‬
‫كأّنَك تعطيِه الذي أنَت سائُلْه‬
‫ِم‬
‫ُه َو الَبحُر ن َأِّي الَّنواحي َأَتيَتُه‬
‫َفُلَّج ُتُه اَملعروُف َواجلوُد ساِح ُلْه‬
‫ومن لطيف كرمه ﷺ أّنه غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه ‪ -‬بل أعداءه ‪ -‬بجوده وبّر ه وإحسانه‪،‬‬
‫أكل اليهود من طعامه‪ ،‬وجلس األعراب على مائدته‪ ،‬وحّف المنافقون بجفنته‪ ،‬وأناٌس حاربوه‬
‫وأسالوا دمه‪ ،‬وقتلوا أولياءه‪ ،‬وآذوا أصحابه‪ ،‬وكّذبوا دعوته‪ ،‬فلّم ا أسلموا تأّلفهم بالمال‪ ،‬فأعطى مئة‬
‫ناقة لكل رئيٍس من رؤسائهم‪ ،‬وأكرمهم بسائر العطايا والهدايا‪ ،‬وترك نفسه ومحبيه حتى أتاه عتٌب‬
‫من األنصار في ذلك‪ ،‬فأجابهم ﷺ فقال‪َ« :‬أما َتْر َض ْو َن َأْن َيْر ِج َع الّناُس بالُّد ْنيا‪َ ،‬و َتْر ِج ُعوَن بَر سوِل هللا‬
‫إلى ُبُيوِتُكْم ؟ لو َسَلَك الّناُس واِد ًيا‪َ ،‬و َسَلَك األْنصاُر ِشْعًبا‪َ ،‬لَسَلْك ُت ِش ْعَب األْنصاِر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وأمر ﷺ باإلنفاق والكرم والبذل‪ ،‬ودعا للجود والّسخاء‪ ،‬فقال‪َ« :‬م ن كاَن ُيْؤ ِم ُن باهلل والَيوِم‬
‫اآلِخ ِر فلُيحسن إلى جاره‪ ،‬وَم ن كاَن ُيْؤ ِم ُن باهلل والَيوِم اآلِخ ِر َفْلُيْك ِر ْم َض ْيَفُه» [متفق عليه]‪ ،‬وكان ﷺ‬
‫ُيحّذر أصحابه من الُبخل‪ ،‬وينذرهم شؤم الُّشح‪ ،‬ويخبرهم أّنه من أعظم الّذنوب وأكبر الخطايا فقال‬
‫ﷺ‪َ« :‬م ا ِم ْن َيْو ٍم ُيْص ِبُح اْلِعَباُد ِفيِه ِإاّل َم َلَكاِن َيْنِز اَل ِن َفَيُقوُل َأَح ُدُهَم ا‪ :‬اللهَّم َأْع ِط ُم ْنِفًقا َخَلًفا‪َ ،‬و َيُقوُل‬
‫اآْل َخ ُر ‪ :‬اللهَّم َأْع ِط ُمْم ِسًكا َتَلًفا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫ولّم ا وّز ع ﷺ غنائم حنين لم يّدخر لنفسه خاصة درهًم ا وال ديناًر ا‪ ،‬وال ناقة وال شاة‪ ،‬فعن‬
‫ُجَبْيِر ْبِن ُم ْط ِعٍم (رضي هللا عنه) ‪َ«:‬أَّنُه َبْيَنَم ا ُهَو َيِسيُر َمَع َر ُسوِل هللا ﷺ َو َمَعُه الَّناُس َم ْقَفَلُه ِم ْن‬
‫ُح َنْيٍن َفَعِلَقُه الَّناُس َيْس َأُلوَنُه َح َّتى اْض َطُّر وُه ِإَلى َسُمَر ٍة َفَخ ِط َفْت ِر َداَءُه‪َ ،‬فَو َقَف الَّنِبُّي ﷺ َفَقاَل ‪:‬‬
‫َأْع ُطوِني ِر َداِئي‪َ ،‬لْو َكاَن ِلي َعَدُد َهِذِه اْلِع َض اِه َنَعًم ا َلَقَسْم ُتُه َبْيَنُكْم ُثَّم ال َتِج ُدوِني َبِخ ياًل ‪َ ،‬و ال َكُذوًبا‪،‬‬
‫َو ال َجَباًنا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وَعْن َأِبي َسِع يٍد اْلُخْدِر ِّي(رضي هللا عنه) قال‪« :‬أَّن َناًسا ِم َن األْنَص اِر َسَأُلوا َر سوَل ِهللا ﷺ‪،‬‬
‫فأْع َطاُهْم ‪ُ ،‬ثَّم َسَأُلوُه فأْع َطاُهْم ‪ ،‬حَّتى إَذا َنِفَد ما ِع ْنَد ُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وسأله محتاج ذات يوم ثوًبا جديًدا كان يرتديه ﷺ فخلع الّثوب له‪ ،‬ولبس ثيابه القديمة‪ ،‬فَعْن‬
‫َسْهٍل بن سعد(رضي هللا عنه)‪َ« :‬أَّن اْم َر َأًة َج اَء ِت الَّنِبَّي ﷺ ِبُبْر َد ٍة َم ْنُسوَج ٍة‪ِ ،‬فيَه ا َح اِشَيُتَه ا‪َ ...‬قاَلْت ‪:‬‬
‫َنَسْج ُتَه ا ِبَيِدي َفِج ْئُت َأِلْك ُسَو َكَه ا َفَأَخ َذَها الَّنِبُّي ﷺ ُم ْح َتاًج ا ِإَلْيَه ا‪َ ،‬فَخ َر َج ِإَلْيَنا َو ِإَّنَه ا ِإَز اُر ُه‪َ ،‬فَحَّسَنَه ا‬
‫ُفالٌن ‪َ ،‬فَقاَل ‪ :‬اْك ُسِنيَه ا‪َ ،‬م ا َأْح َسَنَه ا!‪َ ،‬قاَل الَقْو ُم ‪َ :‬م ا َأْح َسْنَت ‪َ ،‬لِبَسَه ا الَّنِبُّي ﷺ ُم ْح َتاًج ا ِإَلْيَه ا‪ُ ،‬ثَّم َسَأْلَتُه‪،‬‬
‫َو َعِلْم َت َأَّنُه ال َيُر ُّد‪َ ،‬قاَل ‪ِ :‬إِّني َو هللا‪َ ،‬م ا َسَأْلُتُه َأِلْلَبَسُه‪ِ ،‬إَّنَم ا َسَأْلُتُه ِلَتُكوَن َكَفِني‪َ ،‬قاَل َسْه ٌل ‪َ :‬فَكاَنْت‬
‫َكَفَنُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫بل كان ﷺ أسعد بالعطّية من السائل‪ ،‬فيتبّسم عند العطاء‪ ،‬وتهّش روحه للّسخاء‪ ،‬وينشرح‬
‫صدره للبذل‪ ،‬وتندى يده بالجود‪ ،‬ويسيل الكرم من قلبه الّطاهر الّز كي‪ ،‬ولم ُيحفظ عنه ﷺ أّنه تبّر م‬
‫بضيٍف ‪ ،‬أو تضّج ر من سائل‪ ،‬أو تضايق من طالب‪ ،‬بل جّر أعرابّي ُبرده حتى أّثر في ُعنقه ﷺ‪،‬‬
‫وقال له‪« :‬يا ُم َح َّم ُد‪ُ ،‬مْر لي ِم ن ماِل هللا الذي ِع ْنَدَك ‪ ،‬فاْلَتَفَت إَلْيِه َر سوُل هللا ﷺ ُثَّم َض ِح َك ‪ُ ،‬ثَّم أَمَر له‬
‫بَعطاٍء » [متفق عليه]‪.‬‬
‫هللا أكبر! هنا اجتمع الحلم والكرم‪ ،‬الحلم في أبهى صوره‪ ،‬والكرم في أجمل مظاهره‪ ،‬وال‬
‫يكون إاّل في جلباب الّنبوة وثوب الّر سالة‪ ،‬فصّلى هللا وسّلم عليه من جواٍد كريٍم ومن عفٍو حليٍم ‪.‬‬
‫انظر كيف بذل وتصّدق على أعرابّي جاٍف قاٍس لم يوّفه حّقه‪ ،‬ولم يعرف قدره‪ ،‬ومع ذلك‬
‫جمع ﷺ الكرم كّله‪ ،‬والبّر أّو له وآخره‪ ،‬فهو كريم القلب واليد والّلسان‪ ،‬وكريم المخبر والمظهر‬
‫والمعشر‪ ،‬ولو ُص ِّو ر الكرم رجاًل لكان هو ﷺ‪ ،‬وهل الكرم والجود إاّل سجاياه وشمائله؟! وهل‬
‫الّسخاء والبذل إاّل عطاياه وفضائله؟! وهل المجد والسؤدد إاّل مناقبه ومحامده؟!‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫ِم‬
‫ُمِف يٌد و ْتالٌف إذا ما َس َأْلَتُه‬
‫َمىت ْأَتِتِه َت ْع ُش و إىل َض ْو ِء اَن ِره‬
‫َت َّل اْهَت َّز اْه ِت اَز اُمل َّنِد‬
‫َز َه‬
‫َه َل َو‬
‫ِجَتْد خَري اَن ٍر عنَد ها خُري ُمْو‬
‫ِقِد‬
‫لقد َشمل كرُم ه ﷺ كرم الّنفس‪ ،‬وكرم اليد‪ ،‬وكرم الُخ لق‪ ،‬وكرمه جبلة جبله ُهللا عليها‪َ ،‬عْن‬
‫ُعْقَبَة بن عامر (رضي هللا عنه) َقاَل ‪َ« :‬ص َّلْيُت َو َر اَء الَّنِبِّي ﷺ ِباْلَم ِديَنِة الَعْصـَر ‪َ ،‬فَسَّلَم ‪ُ ،‬ثَّم َقاَم‬
‫ُم ْس ِر ًعا‪َ ،‬فَتَخ َّطى ِر َقاَب الَّناِس ِإلى َبْعِض ُحَج ِر ِنَساِئِه ‪َ ،‬فَفِز َع الَّناُس ِم ْن ُسْر َعِتِه ‪َ ،‬فَخ َر َج َعَلْيِه ْم ‪،‬‬
‫َفَر َأى َأَّنُه ْم َعِج ُبوا ِم ْن ُسْر َعِتِه ‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬ذَكْر ُت َشْيًئا ِم ْن ِتْبٍر ‪-‬أي‪ :‬ذهب‪ِ -‬ع ْنَد َنا‪َ ،‬فَكِر ْه ُت َأْن َيْح ِبَسِني‪،‬‬
‫َفَأَمْر ُت ِبِقْس َم ِتِه » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فكانت يده ﷺ سّح اء بالكرم ال ُتمسك شيًئا‪ ،‬يؤثر بطعامه وهو جائع‪ ،‬كما جاء في «صحيح‬
‫البخاري» أّنه أطعم أهل الصّفة وهم فقراء في مسجده على لبٍن ُأهدي إليه وكان جائًعا فسقاهم قبل أن‬
‫يشرب ﷺ‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬لْو كاَن لي ِم ْثُل ُأُح ٍد َذَهًبا ما َيُسُّر ِني أْن َيُمَّر َعَلَّي َثالٌث ‪ ،‬وِع نِدي منه شيٌء إاّل‬
‫شيٌء ُأْر ِص ُدُه ِلَد ْيٍن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول حكيم بن ِح زام(رضي هللا عنه)‪َ« :‬سَأْلُت َر سوَل هللا ﷺ فأْعطاِني‪ُ ،‬ثَّم سَألُتُه فأْعطاِني‪،‬‬
‫ُثَّم قاَل ِلي‪ :‬يا َحِك يُم ‪ ،‬إَّن هذا الماَل َخ ِض ٌر ُح ْلٌو ‪ ،‬فَم ن َأَخ َذُه بَسخاَو ِة َنْفٍس ُبوِر َك له ِفيِه ‪ ،‬وَم ن َأَخ َذُه‬
‫بإْشراِف َنْفٍس َلْم ُيباَر ْك له ِفيِه ‪ ،‬وكاَن كاَّلِذي َيْأُكُل وال َيْش َبُع ‪ ،‬والَيُد الُعْليا َخ ْيٌر ِم َن الَيِد الُّسْفلى»‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫ومن كرمه ﷺ‪ :‬لّم ا رأى في وجه أبي هريرة (رضي هللا عنه) الجوع‪ ،‬تبّسم ودعاه إلى إناء‬
‫فيه لبن‪ ،‬ثم أمره أن يشرب منه‪ ،‬فشرب حتى ارتوى‪ ،‬وظّل الّنبي ﷺ يعيد له اإلناء حّتى قال أبو‬
‫هريرة (رضي هللا عنه)‪« :‬والذي َبَعَثَك بالَح ِّق ‪ ،‬ما أِج ُد له َم ْس َلًكا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وفي «الصحيحين» أّن أبا طلحة األنصاري (رضي هللا عنه) أرسَل أنس بن مالك (رضي‬
‫هللا عنه) ليدعَو الّنبي ﷺ إلى طعام صنعه له‪ ،‬فقام رسول هللا ﷺ ومعه ما ُيقارب األربعين من‬
‫أصحابه‪ ،‬وَج َعَل َيْدُعو َعَشَر ًة َعَشَر ًة ويقّدم لهم الطعام‪ ،‬ثم أكل بعدهم‪.‬‬
‫فكان يشارك ﷺ طعامه مع الكبير والّص غير‪ ،‬والّر جل والمرأة‪ ،‬والغنّي والفقير‪ ،‬والحاضر‬
‫والباد بطيب نفس‪ ،‬وال يّدخر شيًئا يخصه من الّطعام‪ ،‬فبابه مفتوٌح ‪ ،‬وصدره مشروٌح ‪ ،‬وعطاؤه يغدو‬
‫ويروح‪ ،‬قد وِس َع الناس ببّر ه‪ ،‬وعّم الخليقة بكرمه‪.‬‬
‫هل سمعتم بقائد قّدم أصحابه وأتباعه إلى الّطعام ووقف على خدمتهم وهو جائع؟‬
‫هل مّر بكم زعيٌم سكن غرفة من طيٍن ‪ ،‬وبلغ به الجوع مبلًغا عظيًم ا فإذا أتاه طعاٌم دعا‬
‫الفقراء وقّدمه إليهم ولم يأكل إاّل آخرهم؟‬
‫وهنا أقول كلمة لم أقلها من قبل‪ ،‬وما وجدت َم ن قالها‪ ،‬وأسأل هللا أن يجعلها صادقة وخالصة‬
‫لوجهه الكريم‪:‬‬
‫إن الُكرماء على مّر الّتاريخ لهم ُم شاركات في جوانب من الكرم‪ ،‬فمنهم من يجود بروحه‪،‬‬
‫ومنهم من يجود بماله‪ ،‬ومنهم من يجود بطعامه‪ ،‬ومنهم من يجود بلباسه‪ ،‬ومنهم من يجود بعلمه‪،‬‬
‫ومنهم من يجود بجاهه‪ ،‬لكن رسولنا ﷺ كانت حياته كّلها كرم‪ ،‬وليله ونهاره كّله جود وسخاء‪ ،‬فهو‬
‫كريم في إمامته بالّناس‪ُ ،‬يصّلي بهم ُم حتسًبا لوجه هللا ال ُيريد َعَر ًض ا من الّدنيا‪ .‬كريم في ُخ طبه فينفع‬
‫بها القلوب‪ ،‬ويجود بها على األرواح‪ .‬كريم في فتاويه ُيب بها الحالل والحرام‪ .‬كريم في تواضعه‬
‫يفعله بال تكّلف‪ ،‬يؤثر غيره بالّدنيا سماحًة وتفضاًل ‪ .‬كريم في صلته وبّر ه يفعل ذلك عبودية لرّبه‪.‬‬
‫كريم في دعوته يريد بها ما عند هللا‪ ،‬ال لعرٍض زائٍل ‪ ،‬وال لُم لٍك فاٍن ‪ ،‬وال لمجٍد خّداع من أمجاد‬
‫الّدنيا‪.‬‬
‫كريم في علمه ُيعّلم الناس ال لراتٍب معين‪ ،‬وال لوظيفة قائمة‪ ،‬وال لمنصب مرجٍّو ‪ ،‬بل كرم‬
‫في هللا‪ ،‬وهلل‪ ،‬وابتغاء مرضاة هللا عَّز وجل‪ ،‬كريم بأخالقه الّندية‪ .‬كريم في ضحكه وتبّسمه الذي يمأل‬
‫القلوب انشـراًح ا‪ ،‬ويعمر الّنفوس سروًر ا‪ .‬كريم برعايته وواليته‪ ،‬فهو العدل كّله‪ ،‬والحنان والّشفقة‬
‫والّر أفة بأسرها‪.‬‬
‫ومن المعاني الّنبيلة‪ ،‬واإلشارات الجليلة‪ :‬أّن كّل كريم في العالم َم َدحه على كرمه بشٌر مثله‪،‬‬
‫وأثنى عليه مخلوٌق من جنسه‪ ،‬إاّل رسولنا ﷺ‪ ،‬فقد مدحه رّب العالمين‪ ،‬وأثنى عليه ُسبحانه بكريم‬
‫الخصال‪ ،‬وأشرف الخالل‪ ،‬وأنبل الفعال‪ ،‬وأرقى وأحسن األقوال واألحوال‪ ،‬وجمع له معاني‬
‫الجاللة‪ ،‬والسؤدد‪ ،‬والكرم‪ ،‬والُّنبل‪ ،‬في قوله تعالى‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى ُخ ُلٍق َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪ ،]4‬فإذا‬
‫جمعت مدح البشـر بعضهم لبعض تجده ذّر ة من محيط مدح هللا لرسوله ومصطفاه ﷺ؛ ألّنه األّو ل ﷺ‬
‫في كل فضٍل وخيٍر ‪ ،‬وهو الغاية في كل ُنبل وسمو‪.‬‬
‫ومن كرمه ﷺ أّنه لم يكن على بابه ُحّج اب‪ ،‬وال على ُسفرته بّو اب‪ ،‬بل كان يدخل عليه وقت‬
‫طعامه القريب والغريب‪ ،‬والُم قيم والُم سافر‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬فكان ﷺ ُيرّح ب بالجميع‪ ،‬وُيكرمهم‪،‬‬
‫وُيشاركهم الّطعام على مائدته‪ ،‬وعند أحمد وأبي داود من حديث المغيرة بن شعبة (رضي هللا عنه)‬
‫أّنه دخل على الّنبي ﷺ‪ ،‬فشوى له ﷺ جنب شاٍة‪ ،‬وأخذ ُيقّطع له من الّلحم لطًفا منه وكرًم ا عليه‬
‫الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫ومن كرمه ﷺ أّنه كان ُيثيُب على الهدّية ويرّد عليها بأحسن وأثمن وأنفس منها‪ ،‬وال يقبل مّنة‬
‫من أحد‪ ،‬وكان يحفظ الجميل لمن أسداه‪ ،‬ويحث الّناس على ذلك فيقول ﷺ‪َ« :‬م ِن استعاَذ باهلل‬
‫فأعيذوُه‪ ،‬ومن سأَلُكم باهلل فأعطوُه‪ ،‬وَم ِن استجاَر باهلل فأجيروُه‪ ،‬وَم ن أتى إليُكم معروًفا َفكافئوُه‪،‬‬
‫فإن لم َتِج دوا فادعوا َلُه حَّتى تعَلموا أن قد كافأُتموُه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ومن كرمه ﷺ وسخائه أّنه لم يّدخر يوًم ا درهًم ا وال ديناًر ا‪ ،‬ولم يكن له خزانة لماله‪ ،‬وال‬
‫حقيبة لدراهمه‪ ،‬إّنما ينطلق الّدرهم من كّفه الّشريف انطالًقا إلى صاحب الحاجة‪:‬‬
‫إاّن إَذا اجتمعْت يوًما دراُمهنا‬
‫ظّلْت إىل ُطرِق املعروِف َتسَتبُق‬
‫ال أيَلُف الِّد ْرهُم املْض ـُروُب ُصَّرَت َنا‬
‫لِكْن ُمَيُّر َعَليَه ا َو ْه َو ُمْنَطِلُق‬
‫ومن كرمه ﷺ أّنه كان يشتري الّسلعة من صاحبها ويزيد في ثمنها‪ ،‬وأحياًنا بعد أن يشتريها‬
‫ﷺ ُيعيدها إلى صاحبها ومعها ثمُنها‪ ،‬كما جاء َعْن َج اِبِر ْبِن َعْبِدهللا (رضي هللا عنهما)‪َ ،‬قاَل ‪ُ :‬كَّنا َمَع‬
‫َر ُسوِل هللا ﷺ ِفي َسَفٍر ‪َ ،‬فاْش َتَر ى ِم ِّني َبِع يًر ا‪َ ،‬فَجَعَل ِلي َظْه َر ُه َح َّتى َأْقَد َم اْلَم ِديَنَة‪« ،‬يعني ركوب ظهر‬
‫البعير إلى المدينة»‪َ ،‬فَلَّم ا َقِد ْم ُت َأَتْيُتُه ِباْلَبِع يِر ‪َ ،‬فَدَفْعُتُه ِإَلْيِه ‪َ ،‬و َأَمَر ِلي ِبالَّثَمِن ‪ُ ،‬ثَّم اْنَصَر ْفُت ‪َ ،‬فِإَذا َر ُسوُل‬
‫هللا ﷺ َقْد َلِح َقِني‪َ ،‬قاَل ‪ُ :‬قْلُت ‪َ :‬لَعَّلُه َقْد َبَدا َلُه‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬فَلَّم ا َأَتْيُتُه‪َ ،‬د َفَع ِإَلَّي اْلَبِع يَر ‪َ ،‬و َقاَل ‪ُ« :‬هَو َلَك »‪،‬‬
‫َفَمَر ْر ُت ِبَر ُج ٍل ِم َن اْلَيُه وِد‪َ ،‬فَأْخ َبْر ُتُه‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬فَجَعَل َيْعَج ُب ‪ ،‬وَقاَل ‪ :‬اْش َتَر ى ِم ْنَك اْلَبِع يَر ‪َ ،‬و َد َفَع ِإَلْيَك الَّثَم َن ‪،‬‬
‫َو َو َهَبُه َلَك ؟‪َ ،‬قاَل ‪ُ :‬قْلُت ‪َ :‬نَعْم ‪[ .‬رواه أحمد]‪.‬‬
‫ولقد تمّيز ﷺ بكرم خاص لم يفعله أحد قّط على مّر الّدهر من البشر ‪ -‬إاّل الّر سل عليهم‬
‫الّص الة والّسالم ‪ -‬إّنه كرم الهداية الّر بانية‪ ،‬وكرم الّسخاء المحمدّي ‪ ،‬حيث أهدى علمه ونوره ألّم ته‬
‫فأخرجهم من الّظلمات إلى الّنور‪ ،‬ورّدهم من الّضالل إلى الهدى‪ ،‬ومن الغّي إلى الّر شد‪ ،‬واستنقذهم‬
‫من الّنار إلى الجّنة‪ ،‬فهل فوق هذا الكرم من كرم؟! مهما بذل الباذلون على مدى الّدهر‪ ،‬وطول‬
‫فترات التاريخ ال يساوي ذلك ذرًة من كرمه ﷺ في هداية البشرّية وتعبيدهم لرّب البرّية جّل في‬
‫عاله‪.‬‬
‫ومن جميل الّلفتات‪ ،‬وأروع الوقفات‪ ،‬أّن كّل كريم في األّم ة اإلسالمّية أراد بكرمه وجه هللا‬
‫فإّنما إمامه ّسيد الكرماء ﷺ‪ ،‬فهو الذي عّلمه وحّثه على البذل والعطاء بما ُأوتيه من َو حٍي ُم قّدس‪.‬‬
‫وفي كرمه ﷺ ملمحان عظيمان لم يجتمعا في جواد وال كريم قط ﷺ‪ :‬األول كرمه ﷺ بما في‬
‫يده قّل أو كثر‪ ،‬والثاني زهده ﷺ فيما عند الّناس‪ ،‬وبعض الكرماء إذا بذلوا أموالهم طمعوا في‬
‫المقابل‪ ،‬أو تحقيق مكاسب للوصول إلى امتيازات وفرص للثراء والّتطلع لزيادة المغانم‪ ،‬ومنهم من‬
‫يّدخر أصول أمواله فيجود باألرباح دون أصل المال‪ ،‬أو يبذل جزًء ا من أمواله كالُعشر مثاًل أو‬
‫الُتسع أو الُثمن أو أقّل أو أكثر‪ ،‬أّم ا رسول هللا ﷺ فقد بذل ماله كّله‪ ،‬وعمله كّله‪ ،‬وطعامه كّله‪ ،‬وجاهه‬
‫كّله‪ ،‬حتى إّنه لم يترك من ماله بعد موته ال قلياًل وال كثيًر ا‪ ،‬بل كان يجوع ليشَبَع اآلخرون‪ ،‬فال يمّر‬
‫بخاطره طمع وال جشع؛ ألّن هللا صانه‪ ،‬وعصمه‪ ،‬وحّص ن سمعه وبصـره‪ ،‬وطّه ر فؤاده‪.‬‬
‫وكان كرمه ﷺ خالًيا من الّنقائص والّشوائب‪ ،‬فال يمّن إذا أعطى‪ ،‬وال ينتظر عوًض ا وال خلًفا‬
‫إذا بذل‪ ،‬وال ُيريد مديًح ا‪ ،‬بل ُينفق وُيكرم لوجه مواله‪ ،‬وُيعطي ويبذل لما عند هللا‪ ،‬كرًم ا‪ ،‬خالًص ا‪،‬‬
‫طاهًر ا‪ ،‬طيًبا‪ ،‬بريًئا من كل نقيصة وعيب‪ ،‬وَم ا من صحابّي من صحابته ﷺ إاّل وقد ناله نوٌع من‬
‫كرمه عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فبعضهم أكرمه ﷺ بوالية أو منصب‪ ،‬أو ُم هّم ة أو مال‪ ،‬أو دعوة طيبة‪،‬‬
‫أو طعام أو شراب‪ ،‬أو اختصاص أو تمييز‪ ،‬أو تقديم أو حفاوة أو ُبشـرى‪ ،‬حتى إّن بعضهم فرح‬
‫ببشارة بّشره بها الّنبي ﷺ فكانت عنده أعظم من الّدنيا وما فيها‪ ،‬كما جاء عن َعْم ِر و ْبِن َتْغِلَب‬
‫(رضي هللا عنه)‪َ :‬أَّن َر ُسوَل هللا ﷺ ُأِتَي ِبَم اٍل َأْو َسْبٍي َفَقَسَم ُه‪َ ،‬فَأْع َطى ِر َج ااًل َو َتَر َك ِر َج ااًل ‪َ ،‬فَبَلَغُه َأَّن‬
‫اَّلِذيَن َتَر َك َعَتُبوا‪َ ،‬فَح ِم َد هللا‪ُ ،‬ثَّم َأْثَنى َعَلْيِه ‪ُ ،‬ثَّم َقاَل ‪َ« :‬أَّم ا َبْعُد‪َ ،‬فَو هللا ِإِّني ُأَلْع ِط ي الَّر ُجَل ‪َ ،‬و َأَدُع الَّر ُجَل ‪،‬‬
‫َو اَّلِذي َأَدُع َأَح ُّب ِإَلَّي ِم َن اَّلِذي ُأْع ِط ي‪َ ،‬و َلِك ْن ُأْع ِط ي َأْقَو اًم ا ِلما َأَر ى ِفي ُقُلوِبِه ْم ِم َن الَج َز ِع َو الَه َلِع‪،‬‬
‫َو َأِكُل َأْقَو اًم ا ِإَلى َم ا َجَعَل هللا ِفي ُقُلوِبَه ْم ِم َن الِغ َنى َو اَلخْيِر ‪ِ ،‬فيِه ْم َعْم ُر و ْبُن َتْغِلَب ‪ ،‬قال عمرو‪َ :‬فَو هللا‬
‫َم ا ُأِح ُّب َأَّن ِلي ِبَكِلَم ِة َر ُسوِل هللا ﷺ ُح ْم َر الَّنَعِم » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان ﷺ وهو ُيكرم وُيعطي ويجود يجلس مع الفقراء على المائدة التي ُيقّدمها لهم‪ ،‬وُيشارك‬
‫المساكين الّطعام الذي يجود به‪ ،‬بينما تجد البعض من المترفين والُكبراء لهم مجلس خاص وطعام‬
‫خاص‪ ،‬وإذا شبعوا وشبعت أسُر هم وخدمهم بدؤوا بإعطاء فضول أموالهم‪ ،‬وبقايا طعامهم للفقراء‬
‫والمساكين دون أن يخالطوهم أو يجلسوا معهم أو ُيؤثروهم‪ ،‬فشّتان بين هذا الكرم وذاك‪.‬‬
‫وبخالف كثير من الُكرماء الذين يريدون الّسؤدد وعلو المنزلة في الّدنيا‪ ،‬أو يطمحون إلى‬
‫انقياد الّناس لهم واالستعانة بهم في بناء جاههم وأمورهم الّدنيوية ومطالبهم األرضّية‪ ،‬كان رسول‬
‫هللا ﷺ يريد بكرمه ما عند هللا‪ ،‬ومقصوده أن ُيعيد الّناس إلى رّب العالمين‪ ،‬وأن يؤّلف بين قلوبهم‪،‬‬
‫وُيعّبدهم لموالهم وخالقهم‪ ،‬ويدعوهم إلى جّنات الّنعيم‪ ،‬وينقذهم من الّنار‪ ،‬فلم ُيرْد ﷺ ُم لًكا ُدنيوًّيا‪ ،‬وال‬
‫منصًبا أرضًّيا‪ ،‬وال شهرة وال جاًها عند الخلق؛ ألّن هللا أعطاه أعظم من ذلك‪ ،‬فقد أعطاه هللا المقام‬
‫المحمود‪ ،‬الذي يغبطه عليه األولون واآلخرون‪ ،‬وأعطاه الحوض المورود‪ ،‬الذي َيِر ُد عليه‬
‫الواردون‪ ،‬وأعطاه الّلواء المعقود الذي ُيحشـر تحته الوافدون‪ ،‬فأّي كرم أعظم من كرم خاتم األنبياء‪،‬‬
‫وسّيد األولياء‪ ،‬وإمام األتقياء‪ ،‬وقدوة العلماء‪ ،‬فما أعظمها من مكانة! وما أجّلها من ُز لفى! فكرمه‬
‫يختلف تماًم ا عن كّل كرم ُر وي عن إنساٍن أو ُأثر عن مخلوق‪ ،‬يقول عبدهللا بن عباس (رضي هللا‬
‫عنهما)‪ ،‬عن كرمه وجوده ﷺ‪« :‬كاَن الّنبُّي ﷺ أْج َو َد الَّناِس بالَخ ْيِر ‪ ،‬وكاَن أْج َو َد ما َيكوُن في َر َم َض اَن‬
‫ِح يَن َيْلَقاُه ِج ْبِر يُل ‪ ،‬وقال‪ :‬كاَن ﷺ أْج َو َد بالَخ ْيِر ِم َن الِّر يِح الُمْر َسَلةِ» [متفق عليه]‪.‬‬
‫سبقَت ابجلوِد َج ود الّريح ُمرسلًة‬
‫أْس خى من البْح ر بْل أنَد ى من املطِر‬
‫ففاَض ِبّرك حىّت عَّم انئُله‬
‫طوائَف الَناس ِم ن بدٍو وِم ن َح ضـِر‬
‫أسرت ابجلوِد أعناًقا وأفئدًة‬
‫فكنَت منها حمّل الّس مع والبصـِر‬
‫اَل زاَل إحَس اُنك الّس امي ُيطّو قنا‬
‫مْن فضل رّبك ُنور اآلي والّس وِر‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَت َف اِئاًل‬
‫منذ فجر دعوته‪ ،‬وبداية بعثته‪ ،‬وهو يثق في خالقه‪ ،‬وُيحسن ظّنه بمواله‪ ،‬ويتطّلع للغد‬
‫الُم شرق‪ ،‬ويتفاءل ﷺ بالُم ستقبل الواعد‪ ،‬حياته عامرة بالّتفاؤل‪ ،‬وروحه ُم شرقة باألمل‪َ ،‬بّشره رّبه‬
‫باالنشراح المنشود‪ ،‬والفأل الميمون فقال له‪َ{ :‬أَلْم َنْش َر ْح َلَك َص ْدَر َك } [الشرح‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬شرح ُهللا‬
‫صدره فكان واسًعا رحًبا‪ُ ،‬يشرق بالّنور‪ ،‬ويّتسع لكل مواقف الّدنيا‪ ،‬بل من أجمل الفأل في حياته ﷺ‬
‫اسمه الجميل‪ُ« :‬م حّم د»‪ ،‬فإّنه جمع المحامد في هذا االسم‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫وشّق لُه مِن امسِه ليجّلُه‬
‫فذو العرِش حمموٌد‪ ،‬وهذا حمّم ُد‬
‫َنٌّيب أاَت اَن َد ٍس َف ْت ٍة‬
‫َبْع أَي َو َر‬
‫مَن الّرسِل ‪ ،‬واألواثُن يف األرِض تعبُد‬
‫كان ﷺ رائق البشر‪ ،‬دائم الّتفاؤل‪ ،‬جميل البسمة‪ ،‬ال يعرف اإلحباط وال االنكسار‪ ،‬بل‬
‫المواصلة واالستمرار‪ .‬لّم ا جاءه َم َلك الجبال‪ ،‬وعرض عليه أن ُيطبق على َم ن آذْو ه اَألْخ َشَبين‬
‫(جبلين بمكة) قال ﷺ بكل أمل وتفاؤل‪َ« :‬بْل َأْر ُج و َأْن ُيْخ ِر َج هللا ِم ن َأْص اَل ِبِه ْم َم ن َيْعُبُد هللا َو ْح َد ُه ال‬
‫ُيْش ِر ُك به شيًئا» [ُم تفق عليه]‪ .‬ووقع ذلك بفضل هللا ورحمته‪ ،‬وبركة تفاؤل نبّيه ﷺ‪ ،‬وُح سن ظّنه‬
‫بمواله‪.‬‬
‫ومنذ انطالقة رسالته الميمونة‪ ،‬وركبه الُم بارك‪ ،‬وعزيمته ﷺ ماضية‪ ،‬وهّم ته متوّقدة‪ ،‬يمأل‬
‫تفاؤله صدر الّز مان‪ ،‬ويشّع أمله في الوجدان‪َ ،‬يِع ُد أصحابه بنصـر مجيد‪ ،‬وفتٍح ُم بيٍن ‪ ،‬وُم ستقبٍل‬
‫واعٍد‪ ،‬يفيُض ببرد تفاؤله على قلوبهم في شّدة األزمات وتتابع الُكُر بات‪ ،‬فُيبّشرهم بأّن الّدنيا سوف‬
‫ُتفتح لهم‪ ،‬وأّن العاقبة للُم ّتقين‪ ،‬وأّن الّنصر لهذا الّدين العظيم‪ ،‬وقد كان والحمد هلل‪.‬‬
‫ُيؤذى ﷺ في مكة‪ ،‬وُيضّيق عليه‪ ،‬وُيَعّذب أصحابه‪ ،‬فيقول بكل تفاؤل وثقة برّبه‪« :‬وهللا ليِتمَّن‬
‫هللا َهذا اَألْم ر حَّتى يِسير الَّر اِك ُب ِم ْن صْنعاَء ِإلى َح ْض َر َمْو َت ال يخاُف ِإاّل َهللا والِّذ ْئَب َعَلى غَنِم ِه ‪،‬‬
‫ولِك َّنُكْم َتْس َتْعِج ُلوَن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فتفاءَل ﷺ أّن دينه سوف ينتشر‪ ،‬وانتشر برحمة هللا‪ ،‬وتفاءل ﷺ أّن الّناس سوف ُيقبلون على‬
‫اإلسالم أفراًدا وجماعات‪ ،‬فدخلوا في دين هللا أفواًج ا والحمد هلل‪ ،‬واستقبل وفود العرب من كّل حدٍب‬
‫وصوٍب‪ ،‬وصدق قول الباري سبحانه‪ِ{ :‬إَذا َج اَء َنْص ُر ِهَّللا َو اْلَفْتُح * َو َر َأْيَت الَّناَس َيْدُخ ُلوَن ِفي ِديِن‬
‫ِهَّللا َأْفَو اًج ا * َفَسِّبْح ِبَح ْم ِد َر ِّبَك َو اْس َتْغِفْر ُه ِإَّنُه َكاَن َتَّو اًبا} [سورة النصر‪ :‬اآلية ‪.]3 -1‬‬
‫وتفاءل ﷺ أّن اإلسالم سيبلغ ما بلغ الّليل والّنهار‪ ،‬وقد بلغ ذلك بفضل هللا‪ ،‬ووهللا لقد رأيُت‬
‫ذلك بعيني وأنا فرد من أفراد أّم ته‪ ،‬وخادم من خّدام رسالته‪ ،‬يوم سافرت إلى شرق الّص ين في‬
‫مقاطعة «النجو»‪ ،‬ويوم وصلت إلى غرب الكرة األرضية «نيس» و«كان» في فرنسا‪ ،‬رأيت‬
‫الُم صّلين والُخ طباء‪ ،‬واألئّم ة والعلماء‪ ،‬جميعهم من طاّل ب دعوته‪ ،‬ومن حملة رسالته ﷺ‪.‬‬
‫وتفاءل ﷺ في أصعب المواقف وأشّد األزمات‪ ،‬فعندما اختبأ ﷺ في غار ثور ومعه صاحبه‬
‫الّص ديق (رضي هللا عنه)‪ ،‬ووصل المشركون إلى الغار ومعهم الّسيوف تقطر موًتا وحقًدا وُسًّم ا‬
‫ُز عاًفا‪ ،‬وطّو قوا الغار يبحثون عن الّنبي ﷺ للفتك به‪ ،‬ولكنه ﷺ كان في أمان هللا‪ ،‬ورعاية هللا‪ ،‬وحفظ‬
‫هللا‪ ،‬قد أنزل هللا عليه الّسكينة‪ ،‬وعّم ر قلبه بالّثقة به‪ ،‬والّتوكل عليه‪ ،‬وتفويض األمر إليه ُسبحانه‪ ،‬فهو‬
‫في جّنة من األنس والّر ضا‪ ،‬ال يشعر بأّي قلق‪ ،‬وال خوف‪ ،‬وال هٍّم وال حزن؛ ولهذا وصف رّب‬
‫العالمين هذا المشهد فقال تعالى‪ِ{ :‬إَّال َتْنُصُر وُه َفَقْد َنَصَر ُه ُهَّللا ِإْذ َأْخ َر َج ُه اَّلِذيَن َكَفُر وا َثاِنَي اْثَنْيِن ِإْذ‬
‫ُهَم ا ِفي اْلَغاِر ِإْذ َيُقوُل ِلَص اِح ِبِه َال َتْح َز ْن ِإَّن َهَّللا َمَعَنا َفَأْنَز َل ُهَّللا َسِك يَنَتُه َعَلْيِه َو َأَّيَدُه ِبُج ُنوٍد َلْم َتَر ْو َها‬
‫َو َج َعَل َكِلَم َة اَّلِذيَن َكَفُر وا الُّسْفَلى َو َكِلَم ُة ِهَّللا ِه َي اْلُعْلَيا َو ُهَّللا َعِز يٌز َح ِك يٌم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]40‬‬
‫ويقول أبو بكر الّص ديق (رضي هللا عنه) ‪ -‬واصًفا هذا المشهد الّص عب ‪ُ :-‬قلُت للنبِّي ﷺ‪ :‬وَأنا‬
‫في الغاِر ‪ :‬لو أَّن أَح َدُهْم َنَظَر َتْح َت َقَدَم ْيِه َأَلْبَصَر نا‪َ ،‬فقاَل ‪« :‬ما َظُّنَك يا أبا َبْك ٍر باْثَنْيِن هللا ثاِلُثُه ما»‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫إّن كلمته ﷺ‪« :‬ما َظُّنَك باْثَنْيِن هللا ثاِلُثُه ما» ُتغني عن عشرات المؤلفات‪ ،‬ومئات الُم صّنفات‪،‬‬
‫وكل الُم حاضرات التي قيلت في الّتفاؤل‪ ،‬فكانت الّثقة باهلل َعَتاده‪ ،‬والّتوكل على هللا زاُده‪ ،‬وهو يقول‬
‫لصاحبه‪َ{ :‬ال َتْح َز ْن ِإَّن َهَّللا َمَعَنا}‪ ،‬فقل لي باهلل‪ :‬أّي كلمة في الكون أكثر تفاؤاًل من‪َ{ :‬ال َتْح َز ْن ِإَّن َهَّللا‬
‫َمَعَنا}!؟ وأّي جملة أعذب في أذن الّدنيا من جملة‪َ{ :‬ال َتْح َز ْن ِإَّن َهَّللا َمَعَنا}!؟ وأّي رسالة أرّق‬
‫وألطف وأكثر إشراًقا وأماًل من رسالة‪َ{ :‬ال َتْح َز ْن ِإَّن َهَّللا َمَعَنا}!؟ وأّي برقية عاجلة كّلها طمأنينة‬
‫واعتماد على هللا وتفويض إليه أعظم من برقية‪َ{ :‬ال َتْح َز ْن ِإَّن َهَّللا َمَعَنا}!؟‬
‫لقد عاش ﷺ الّتفاؤل وهو ُيصارع األعداء وُينازل األقران‪ ،‬فبعد أن تهّيأت قريش لُم حاربته‬
‫بجيش قوامه ألف مقاتل مدّج جين بالّسالح ومعهم المؤن واإلبل والخيل‪ ،‬التجأ ﷺ مباشرة إلى هللا‪،‬‬
‫وقام يدعوه سبحانه ويناجيه ويسأله حتى سقط رداؤه من على كتفيه ﷺ‪ ،‬فأَتاُه َأُبو َبْك ٍر فأَخ َذ ِر َداَء ُه‪،‬‬
‫فأْلَقاُه عَلى َم ْنِك َبْيِه ‪ُ ،‬ثَّم الَتَز َم ُه ِم ن َو َر اِئِه ‪َ ،‬و قاَل ‪« :‬يا َنِبَّي هللا‪َ ،‬كَفاَك ُم َناَشَدُتَك َر َّبَك ‪ ،‬فإَّنه َسُيْنِج ُز لَك ما‬
‫َو َعَدَك »‪ ،‬فأْنَز َل هللا َعَّز َو َج َّل ‪ِ{ :‬إْذ َتْس َتِغ يُثوَن َر َّبُكْم َفاْس َتَج اَب َلُكْم َأِّني ُم ِم ُّدُكْم ِبَأْلٍف ِم َن اْلَم َالِئَكِة‬
‫ُم ْر ِدِفيَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪[ ]9‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫واستمّر ﷺ على مناشدة رّبه‪ ،‬وفي الّص باح ومع إطاللة الفجر الباهي الجميل أطل ﷺ بوجهه‬
‫األجمل‪ ،‬وبسمته الّر ائعة الّر ائقة ُيبّشر أصحابه بكل تفاؤل وثقة في هللا‪ ،‬ويقول فيما صح عنه‪:‬‬
‫«سيروا على بركِة هللا وأبشـروا‪ ،‬فإَّن هللا قد وعدني إحَدى الَّطائفتين‪ ،‬وهللا لكأِّني أنظُر اآلن إلى‬
‫مصارِع القوِم غًدا»‪ .‬ذكره ابن هشام في [السيرة]‪ .‬وقال تعالى عن هذا المشهد‪َ{ :‬و ِإْذ َيِع ُدُكُم ُهَّللا‬
‫ِإْح َدى الَّطاِئَفَتْيِن َأَّنَه ا َلُكْم َو َتَو ُّدوَن َأَّن َغْيَر َذاِت الَّشْو َكِة َتُكوُن َلُكْم َو ُيِر يُد ُهَّللا َأْن ُيِح َّق اْلَح َّق ِبَكِلَم اِتِه‬
‫َو َيْقَطَع َداِبَر اْلَكاِفِر يَن * ِلُيِح َّق اْلَح َّق َو ُيْبِط َل اْلَباِط َل َو َلْو َكِر َه اْلُم ْج ِر ُم وَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]8 -7‬‬
‫إّن هذه اآلية الكريمة ُتلّخ ص كّل المشهد‪ ،‬وُتبّين نتيجة المعركة‪ ،‬وُتقّدم أروع ُبشرى‬
‫للّص حابة‪ ،‬فقد امتألت صدورهم طمأنينة وثقة باهلل‪ ،‬وزيادة في الُبشـرى ُينّز ل هللا الغيث من السماء‪،‬‬
‫كما قال سبحانه‪ِ{ :‬إْذ ُيَغِّشيُكُم الُّنَعاَس َأَم َنًة ِم ْنُه َو ُيَنِّز ُل َعَلْيُكْم ِم َن الَّسَم اِء َم اًء ِلُيَطِّهَر ُكْم ِبِه َو ُيْذِه َب‬
‫َعْنُكْم ِر ْج َز الَّشْيَطاِن َو ِلَيْر ِبَط َعَلى ُقُلوِبُكْم َو ُيَثِّبَت ِبِه اَألْقَداَم } [األنفال‪ :‬اآلية ‪ .]11‬فنزل الغيث وشربوا‬
‫وتوضؤوا واغتسلوا‪ ،‬وربط ُهللا على قلوبهم وثّبت أقدامهم‪ ،‬وقام ﷺ يتصّر ف تصُّر ف الُم نتصر الذي‬
‫ُح سمت له نتيجة المعركة قبل أن تبدأ‪ ،‬ثّم بدأت المعركة‪ ،‬وشاركت المالئكة في نصره ﷺ‪ ،‬وتّم‬
‫الّنصر والحمد هلل في ذاك اليوم يوم الُفرقان‪ ،‬وكان أّو ل انتصار كاسح لإلسالم‪ ،‬وبعدها توالت‬
‫االنتصارات والفتوحات حتى أعّز هللا دينه‪ ،‬وأعلى كلمته‪ ،‬وأتّم نعمته‪.‬‬
‫لم يعترف ﷺ باليأس أبًدا‪ ،‬وكيف يقنط وييأس وهو الُم نّز ل عليه‪َ{ :‬و َال َتْيَأُسوا ِم ْن َر ْو ِح ِهَّللا‬
‫ِإَّنُه َال َيْيَأُس ِم ْن َر ْو ِح ِهَّللا ِإَّال اْلَقْو ُم اْلَكاِفُر وَن } [يوسف‪ :‬اآلية ‪ ،]87‬فكان ﷺ أبعد الّناس من ذلك‪،‬‬
‫وعّلم أصحابه ُح سن الّظن باهلل‪ ،‬والّتفاؤل بموعوده‪ ،‬والّتوكل عليه‪.‬‬
‫ومن أروع وأجمل مواقف تفاؤله ﷺ هذا الموقف الذي طاف بوجداني وعقلي وُم خيلتي‪،‬‬
‫وكأّنني انتقلت بروحي إلى الخندق‪ ،‬وإلى هذا المشهد العظيم حيث يحفر نبّي الّر حمة الخندق مع‬
‫أصحابه‪ ،‬وقد أخذ منهم الجوع والّتعب واإلعياء كل مأخذ‪ ،‬وُطّو قوا بجيش عرمرم من األحزاب‬
‫(ُكّفار قريش‪ ،‬واليهود‪ ،‬وبعض قبائل العرب)‪ ،‬وبلغت بهم الّضائقة لدرجة أّن القرآن الكريم نقل لنا‬
‫بدّقة صورة ذلك الّضيق الّشديد الذي نزل بهم‪ ،‬فقال ُسبحانه وتعالى‪ِ{ :‬إْذ َج اُء وُكْم ِم ْن َفْو ِقُكْم َو ِم ْن‬
‫َأْس َفَل ِم ْنُكْم َو ِإْذ َز اَغِت اَألْبَص اُر َو َبَلَغِت اْلُقُلوُب اْلَح َناِج َر َو َتُظُّنوَن ِباِهَّلل الُّظُنوَنا * ُهَناِلَك اْبُتِلَي‬
‫اْلُم ْؤ ِم ُنوَن َو ُز ْلِز ُلوا ِز ْلَز اًال َشِديًدا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]11 - 10‬‬
‫إّن هؤالء الُح فاة الجائعين الُض عفاء الفقراء الُم تعبين الذين يحفرون الخندق بآالتهم البدائية‪،‬‬
‫ويتساقط الّتراب على ثيابهم‪ ،‬ويتناثر الغبار على رؤوسهم وكأّنهم يحفرون قبورهم‪ ،‬والموت‬
‫يترّص دهم ذات اليمين وذات الّشمال‪ ،‬وهم في ضيق ال يعلمه إاّل هللا‪ ،‬حيث نزل بهم الكرب‪ ،‬وأحاط‬
‫بهم الخطب‪ ،‬يتمَّنى الواحد منهم كسرة خبٍز من شّدة الجوع‪ ،‬وإْذ بنبّي هللا ﷺ ُيفّج ر لهم األمل والّنور‪،‬‬
‫وُيخرج لهم الّتفاؤل من بين الحجارة والّص خور‪ ،‬فيقول عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‪ :‬احتفر‬
‫رسول هللا ﷺ الخندق وأصحابه قد شّدوا الحجارة على بطونهم من الجوع ثّم مشوا إلى الخندق‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اْذَهُبوا ِبَنا ِإَلى َسْلَم اَن ‪َ ،‬فِإَذا َص ْخ َر ٌة َبْيَن َيَد ْيِه َقْد َض ُعَف َعْنَه ا‪َ ،‬فَقاَل َنبُّي هللا ﷺ َأِلْص َح اِبِه ‪:‬‬
‫«َدُعوِني َفَأُكوُن َأَّو َل َم ْن َض َر َبَه ا»‪َ ،‬فَقاَل ‪ِ« :‬بْس ِم هللا» َفَض َر َبها َفَو َقَعْت ِفْلَقٌة ُثُلُثَه ا‪َ ،‬فَقاَل ‪« :‬هللا َأْك َبُر‬
‫ُقُص وُر الُّر وِم َو َر ِّب اْلَكْعَبِة »‪ُ ،‬ثَّم َض َر َب ِبُأْخ َر ى َفَو َقَعْت ِفْلَقٌة َفَقاَل ‪« :‬هللا َأْك َبُر ُقُص وُر َفاِر َس َو َر ِّب‬
‫اْلَكْعَبِة »‪َ ،‬فَقاَل ‪ِ« :‬ع ْنَد َها اْلُم َناِفُقوَن ‪َ :‬نْح ُن ُنَخْنِدُق َعَلى َأْنُفِس َنا َو ُهَو َيِع ُدنا ُقُص وَر َفاِر ٍس َو الُّر وِم »‬
‫[رواه الطبراني]‪.‬‬
‫وكأّن هذا الّتفاؤل وهذه البشرى من خير الخلق ﷺ سحابة غيث تحمل معها الماء العذب‬
‫الّز الل البارد في شّدة الّظمأ‪ ،‬ويقول ﷺ‪ِ« :‬إَّن هللا َز َو ى ِلي اَألْر َض ‪ ،‬فرَأْيُت َم شاِر َقها وَم غاِر َبها‪َ ،‬و ِإَّن‬
‫ُأَّم ِتي َسَيْبُلُغ ُم ْلُكَه ا َم ا ُز ِو َي ِلي ِم ْنَه ا‪َ ،‬و ُأْع ِط يُت اْلَكْنَز ْيِن اَأْلْح َمَر َو اَأْلْبَيَض » [رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫هذه الّنقلة الّنوعية من الّثرى إلى الّثريا‪ ،‬ومن حفر خندٍق بسيط باليد إلى االنتصار على‬
‫أعظم دولتين على وجه األرض في تلك الفترة‪ ،‬والحصول على كنوزهما‪ ،‬لم يتصورها ولم ُيصّدقها‬
‫إاّل المؤمنون الّص ادقون الموقنون من أصحابه رضوان هللا عليهم‪ ،‬الذين انتقلوا بعد هذه البشارة إلى‬
‫حالة من الّر ضا والّسكينة والبشر والّطمأنينة‪ ،‬وصارت تتألأل وجوههم‪ ،‬وتكاد أرواحهم تطير فرًح ا‬
‫وسروًر ا بهذا األمل وهذه البشرى ويرددون ما جاء في القرآن حكاية عنهم‪َ{ :‬هَذا َم ا َو َعَدَنا ُهَّللا‬
‫َو َر ُسوُلُه َو َص َدَق ُهَّللا َو َر ُسوُلُه َو َم ا َز اَدُهْم ِإَّال ِإيَم انًا َو َتْسِليًم ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]22‬‬
‫أّم ا المنافقون فأخذوا ُيرّددون مع الّشك والّتشاؤم وسوء الّظن باهلل ما جاء في القرآن حكاية‬
‫عنهم‪َ{ :‬م ا َو َعَدَنا ُهَّللا َو َر ُسوُلُه ِإَّال ُغُر وًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪ ،]12‬ويقولون باستهزاء وُسخرية‪:‬‬
‫«الواحد مّنا ال يستطيع قضاء حاجته من الخوف وهو يعدنا قصور فارس والّر وم!»؛ ألّنهم نظروا‬
‫بنظر الّشك والّر يبة‪ ،‬ولكن رسول هللا ﷺ دمغهم بمنطق الوحي فحّلت الُبشرى‪ ،‬ووقع ما أخبر ﷺ‪،‬‬
‫وتحّقق أمله‪ ،‬وصّح ت نبّو ته‪ ،‬بعد سنوات معدودات‪ ،‬ودخلت جيوش اإلسالم أرض فارس والّر وم‬
‫ُم هّللة ُم كّبرة‪ ،‬وسجد الّص حابة في إيوان كسرى‪ ،‬وفي معقل هرقل‪.‬‬
‫فانظر إلى الّنفوس المتفائلة والمتشائمة في مشهد واحد‪ ،‬يقول تعالى‪َ{ :‬و ِإَذا َم ا ُأْنِز َلْت ُسوَر ٌة‬
‫َفِم ْنُهْم َم ْن َيُقوُل َأُّيُكْم َز اَدْتُه َهِذِه ِإيَم اْنًا َفَأَّم ا اَّلِذيَن آَم ُنوا َفَز اَدْتُهْم ِإيَم انًا َو ُهْم َيْس َتْبِش ُر وَن * َو َأَّم ا اَّلِذيَن ِفي‬
‫ُقُلوِبِه ْم َمَر ٌض َفَز اَدْتُهْم ِر ْج ًسا ِإَلى ِر ْج ِس ِه ْم َو َم اُتوا َو ُهْم َكاِفُر وَن } [التوبة‪ :‬اآلية ‪،]125 - 124‬‬
‫فاآليات واحدة‪ ،‬والّتنزيل واحد‪ ،‬والمشهد واحد‪ ،‬والمكان واحد‪ ،‬والّز مان واحد‪ ،‬ولكّن الّنفوس‬
‫اختلفت‪ ،‬هناك نفوس تثق في هللا‪ ،‬وتؤمن به‪ ،‬وتتوّكل عليه‪ ،‬فآتاها ُهللا األمل والفأل الحسن والُبشرى‪،‬‬
‫ونفوس منكوسة مظلمة تظّن باهلل ظّن الّسوء‪ ،‬وتكفر بدينه‪ ،‬وتكّذب رسوله ﷺ فعاقبها هللا في الّدنيا‬
‫بالِخ زي والعار‪ ،‬وفي اآلخرة بالّطرح في الّنار‪.‬‬
‫ولئن كان موسى عليه الّسالم ضرب الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيًنا من الماء‪ ،‬فإّن‬
‫رسولنا ﷺ انبجست له الّسماء‪ ،‬ورّح بت به الغبراء‪ ،‬وبلغ دينه مبلغ الّص باح والمساء‪ ،‬بّشر وهو يحفر‬
‫الخندق‪ ،‬بفتح ُم حّقق‪ ،‬ونصـر ُم صّدق‪ ،‬فبلغ دينه المغرب والمشرق‪ ،‬فإذا اشتّد ظالم الليل ُو لد الفجر‪،‬‬
‫وإذا تلّبدت الّسماء بالغيوم نزل القطر؛ ألّن الُيسر مع العسر‪.‬‬
‫ويقف ﷺ على المنبر وأمامه الّص حابة الكرام‪ ،‬ثم يأتي سبطه الحسن بن علي وفاطمة‬
‫(رضي هللا عنهم)‪ ،‬فُيجلسه ﷺ معه على المنبر وهو طفل صغير وينظر إلى الّناس ويقول‪« :‬إَّن اْبِني‬
‫هذا َسِّيٌد‪ ،‬وَلَعَّل هللا أْن ُيْصِلَح به بْيَن ِفَئَتْيِن َعِظ يَم َتْيِن ِم َن اْلُم ْسِلِم يَن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكأّنه ﷺ ُيطالع الغيب من ستر رقيق‪ ،‬ويتفاءل لهذا الّطفل أن يكون سبًبا لحقن دماء‬
‫المسلمين‪ ،‬وَدْر ِء الفتنة‪ ،‬وإّنهاء الّتقاتل بين طوائف األمة اإلسالمّية‪ ،‬وهو ما حصل‪ -‬والحمد هلل‪ -‬لهذا‬
‫اإلمام الكريم الحسن بن علي (رضي هللا عنهما) حيث تنازل عن الخالفة لمعاوية بن أبي سفيان‬
‫(رضي هللا عنهما) فهدأت الفتنة‪ ،‬وُح سم الّشر من أصله‪.‬‬
‫وقد صاحَبه ﷺ الّتفاؤل والُبشـرى حّتى في منامه‪ ،‬كما روْت أّم حرام بنت ملحان ‪-‬وكانت من‬
‫محارمه‪( -‬رضي هللا عنها) ‪ ،‬فتقول‪َ« :‬ناَم الّنبُّي ﷺ َيْو ًم ا َقِر يًبا ِم ِّني‪ُ ،‬ثَّم اْس َتْيَقَظ َيَتَبَّسُم ‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬ما‬
‫َأْض َح َكَك ؟ قاَل ‪ُ :‬أَناٌس ِم ن ُأَّم تي ُعِر ُضوا َعَلَّي َيْر َكُبوَن هذا الَبْح َر األْخ َض َر َكالمُلوك عَلى األِس َّر ِة‪،‬‬
‫قاَلْت ‪َ :‬فاْد ُع هللا َأْن َيْج َعَلِني منهْم َفَدَعا َلها‪ُ ،‬ثَّم َناَم الَّثاِنيَة‪َ ،‬فَفَعَل ِم ْثَلَه ا‪َ ،‬فقاَلْت ِم ْثَل َقْو ِلَه ا‪ ،‬فأجابها‬
‫ِم ْثَلَه ا َفقاَلْت ‪ :‬اْد ُع هللا َأْن َيْج َعَلِني منهْم ‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬أْنِت ِم َن األَّو ِليَن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫يا هللا حتى ُر ؤاه ﷺ تفاؤل وأمل‪ ،‬وُبشرى‪ ،‬وُيحققها هللا يقظة‪ ،‬ويقع ما أخبر به ﷺ‪ ،‬فقد سار‬
‫هذا الجيش ومعه الّص حابي الجليل عبادة بن الصامت وأم حرام بنت ملحان زوجته (رضي هللا‬
‫عنهما)‪ ،‬وآالف المؤمنين األبرار يعبرون البحر إلى جزيرة قبرص‪ ،‬وهم يحملون كلمة األمن‬
‫والّسالم واإليمان‪« :‬أشهد أن ال إله إاّل هللا وأّن محمًدا رسول هللا»‪ ،‬هّللف الحمد على إتمام الّنعمة‪،‬‬
‫وإكمال الّدين‪ ،‬وتحقيق الُبشرى الّنبوية‪.‬‬
‫ومن تفاؤله ﷺ حّبه لألسماء التي تحمل الُبشرى والخير والتفاؤل‪ ،‬وفيها معاني الحياة والّنماء‬
‫والبركة‪ ،‬ونهى عن الّتسمية باألسماء القبيحة أو الّدال معناها على شيء مكروه كالّتشاؤم أو الحرب‬
‫أو الّشر أو الخوف أو الحزن أو المصائب‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فعن أبي وهب الجشمي (رضي هللا عنه) أّنه‬
‫ﷺ قال‪« :‬أحُّب األسماِء إلى هللا عبُدهللا‪ ،‬وعبُدالرحمِن ‪ ،‬وأصُدُقها‪ :‬حارٌث ‪ ،‬وَهَّم اٌم ‪ ،‬وأقَبُح ها‪َ :‬ح ْر ٌب ‪،‬‬
‫وُمَّر ُة»‪[ .‬رواه البخاري في األدب الُم فرد]‪.‬‬
‫فأخذ ﷺ من األسماء األمل‪ ،‬والّص دق‪ ،‬وُح سن الطالع‪ ،‬والفأل المحمود‪ ،‬والنتائج الجميلة‪،‬‬
‫والّثمار الُم باركة‪ ،‬ودّل على أّن أحب األسماء إلى هللا ما ُعّبد باسمه جّل في ُعاله‪ ،‬كعبدهللا‬
‫وعبدالرحمن‪ ،‬وأقبحها‪( :‬حرٌب وُم ّر ة)؛ ألّن دينه ﷺ دين الّسالم والعدل واألمن واإليمان‪ ،‬والحرب‬
‫ضد ذلك‪ ،‬و(مّر ة) ضد الحلو الّطيب الذي يعارض دين اإلسالم الذي أعاله حالوة‪ ،‬وأسفله طالوة‪،‬‬
‫وغّير ﷺ اسم امرأة كما جاء في «صحيح مسلم» كانت ُتدعى‪( :‬عاصية)‪ ،‬فجعل اسمها‪( :‬جميلة)؛‬
‫ألّنه ﷺ جاء بالّدين الجميل‪ ،‬والّنهج الجميل‪.‬‬
‫وسأل رسول هللا ﷺ رجاًل ‪« :‬ما اْس ُم َك ؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬اْسِم ي َح ْز ٌن ‪ ،‬فقاَل ﷺ‪َ :‬بْل أْنَت َسْهٌل » [رواه‬
‫البخاري]؛ ألن شريعته ﷺ سهلة ميّسرة‪ .‬وفي يوم الحديبية‪ ،‬لّم ا أرسل كفار قريش مندوبين للّنبي ﷺ‬
‫وكان آخرهم سهيل بن عمرو قال ﷺ للّص حابة ُم تفائاًل ‪« :‬لَقْد َسُهَل َلُكْم ِم ن أْم ِر ُكْم » [ذكره البخاري‬
‫مرساًل ]‪.‬‬
‫ولّم ا َقدَم ﷺ إلى المدينة كان اسمها‪( :‬يثرب)‪ ،‬فغّير اسمها إلى‪( :‬طيبة)؛ ألّن الّتثريب هو‬
‫الّتشنيع والّتبكيت والّتوبيخ‪ ،‬ولكن طيبة اسم رائع جميل حسن يدل على الخير والّنماء والّطيب في كل‬
‫شيء‪.‬‬
‫وروى ُم سلم عن سمرة بن جندب (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬ال ُتَسِّم َيَّن‬
‫ُغالَم َك ‪َ :‬يَساًر ا‪َ ،‬و ال َر باًح ا‪َ ،‬و ال َنجاًح ا‪َ ،‬و ال أْفَلَح‪ ،‬فإَّنَك َتُقوُل ‪ :‬أَثَّم ُهَو ؟ َفال َيُكوُن ‪َ ،‬فَتُقوُل ‪ :‬ال‪ ،‬إَّنَم ا‬
‫ُهَّن َأْر َبٌع َفال َتِز يدوَن َعلَّي »‪.‬‬
‫ومعنى الحديث أّنك إذا سّم يت بهذه األسماء فإّنك تقول مثاًل ‪ :‬أفي البيت يسار‪ ،‬فُيقال لك‪ :‬ال‪،‬‬
‫فيقع التشاؤم بأّن فيه عسـًر ا‪ ،‬أو تقول‪ :‬أرباح موجود؟ فيقولون‪ :‬ال‪ ،‬فتحّل في المقابل الخسارة‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬وهذا لحرصه ﷺ على حسن الّطالع وجميل الّتفاؤل‪ ،‬فأغلَق كل األبواب الموصلة إلى اإلحباط‪،‬‬
‫والّتذّم ر‪ ،‬والّتشاؤم‪ ،‬والّتطير‪ ،‬وكان يشتق ﷺ من األسماء كّل حسن وجميل لينشـرها ُبشرى في‬
‫الحياة‪ ،‬فعن أنس (رضي هللا عنه)َأَّن َر ُسوَل هللا ﷺ َأَتى َخ ْيَبَر َلْياًل َو َكاَن ِإَذا َأَتى َقْو ًم ا ِبَلْيٍل َلْم ُيِغ ْر ِبِه ْم‬
‫َح َّتى ُيْص ِبَح َفَلَّم ا َأْصَبَح َخ َر َجِت اْلَيُه وُد ِبَمَساِح يِه ْم َو َم َكاِتِلِه ْم َفَلَّم ا َر َأْو ُه َقاُلوا ُم َح َّم ٌد َو هللا‪ُ ،‬م َح َّم ٌد‬
‫َو اْلَخ ِم يُس !‪-‬يعني الجيش‪َ -‬فَقاَل الَّنِبُّي ﷺ‪َ« :‬خ ِر َبْت َخ ْيَبُر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فانظر كيف اشتّق ﷺ من اسم بلدهم الّشؤم‪ ،‬وهو أشبه بالجناس‪َ« :‬خ ِر َبْت َخْيَبُر »‪ ،‬ثم تفاؤله‬
‫ﷺ لّم ا شاهد آالت الهدم بأيديهم كالمسحاة ونحوها التي تسحو األرض فأخبر بأّن أمر يهود خيبر إلى‬
‫دمار‪ ،‬وأّن قوتهم إلى انكسار‪ ،‬وأّنه عليه الّص الة والّسالم وأصحابه إلى االنتصار‪.‬‬
‫وفي صلح الحديبية كان ظاهر الّص لح أّنه تنازل منه ﷺ في قضايا كثيرة‪َ ،‬فَج اَء ُعَم ُر ْبُن‬
‫اْلَخ َّطاِب (رضي هللا عنه)‪ ،‬إلى َر ُسوَل هللا ﷺ َفَقاَل ‪َ«:‬يا َر ُسوَل هللا َأَلْس َنا َعَلى َح ٍّق َو ُهْم َعَلى َباِط ٍل ؟‬
‫َقاَل ‪َ :‬بَلى َقاَل ‪َ :‬أَلْيَس َقْتاَل َنا ِفي اْلَج َّنِة َو َقْتاَل ُهْم ِفي الَّناِر ؟ َقاَل ‪َ :‬بَلى َقاَل ‪َ :‬فِفيَم ُنْعِط ي الَّد ِنَّيَة في ِديِنَنا‬
‫َو َنْر ِج ُع َو َلَّم ا َيْح ُكُم ُهللا َبْيَنَنا َو َبْيَنُه ْم ؟ فَقاَل ‪َ :‬يا اْبَن اْلَخ َّطاِب ِإِّني َر ُسوُل هللا َو َلْن ُيَض ِّيَعِني ُهللا َأَبًدا‪،‬‬
‫َفَنَز َل اْلُقْر آُن َعَلى َر ُسوِل هللا ﷺِباْلَفْتِح َفَأْر َسَل ِإَلى ُعَمَر َفَأْقَر َأُه ِإَّياُه‪ِ{ :‬إَّنا َفَتْح َنا َلَك َفْتًح ا ُم ِبينًا * ِلَيْغِفَر‬
‫َلَك ُهَّللا َم ا َتَقَّدَم ِم ْن َذْنِبَك َو َم ا َتَأَّخ َر َو ُيِتَّم ِنْعَم َتُه َعَلْيَك َو َيْه ِد َيَك ِص َر اًطا ُم ْس َتِقيًم ا * َو َيْنُص َر َك ُهَّللا َنْص ًر ا‬
‫َعِز يًز ا} [الفتح‪ :‬اآلية ‪َ ،]3 -1‬فَقاَل ‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا َأَو َفْتٌح ُهَو ؟‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬نَعْم ‪َ .‬فَطاَبْت َنْفُسُه َو َر َجَع » [ُم ّتفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وهنا تحّقق تفاؤله ﷺ بالوحي‪ ،‬وبّشر ُعمَر (رضي هللا عنه) بالفتح‪ ،‬بعد أن جمع هللا له في‬
‫هذه الّسورة‪ ،‬الفتح‪ ،‬والمغفرة‪ ،‬وإتمام الّنعمة‪ ،‬والهداية الكاملة‪ ،‬والّنصر الُم بين‪ ،‬كل هذا في سطر‬
‫واحد‪ ،‬ورغم كّل شروط الّص لح المجحفة الجائرة إأّل أّنه ﷺ كان ينظر إلى العواقب الحميدة بروح‬
‫الّتفاؤل والّثقة في نصر هللا‪ ،‬ويرى أّنه سوف يعود إلى مكة منتصًر ا‪ ،‬وسُترفع راية الّتوحيد‪ ،‬وُتهزم‬
‫راية الّشرك‪ ،‬ويعلو الحق‪ ،‬وُيزهق الباطل‪ ،‬كأّنه يرى ذلك رأي العين أَم امه مباشرة؛ ألّن معه نور‬
‫الوحي وعصمة الّنبوة ورعاية هللا‪ ،‬فكل خطوة من خطواته ﷺ أمل‪ ،‬وكل مشـروع من مشاريعه‬
‫نجاح‪ ،‬وكل كلمة من كلماته ُبشرى‪ ،‬وكل خاتمة ألي عمل يعمله فتح‪ ،‬وفي قوله ‪َ« :‬لْن ُيَض ِّيَعِني ُهللا‬
‫َأَبًدا»‪ ،‬غاية الّثقة برّبه‪ ،‬وكامل الّتوكل واالعتماد على مواله‪ ،‬فكانت الّنتيجة الّنصر الُم بين‪ ،‬والفتح‬
‫القريب‪.‬‬
‫إّن كلمته ﷺ‪َ« :‬لْن ُيَض ِّيَعِني ُهللا َأَبًدا»‪ ،‬هي توقيع رّباني‪ ،‬وشهادة تفاؤل نبوّية‪ ،‬لو امتثلها كّل‬
‫مؤمن في الحياة‪ ،‬وجعلها دستوًر ا له في كل موقف‪ ،‬ألفلح وأجح‪ ،‬فرِّد ْدها في كّل أزمٍة‪ ،‬وثق برّبك‬
‫حين يمّر بك الكرب والفقر والمرض والشّدة‪ ،‬وُقْل بإيمان وثبات‪َ« :‬لْن ُيَض ِّيَعِني ُهللا َأَبًدا»‪ ،‬حينها‬
‫يكون هللا معك‪ ،‬وتكون العاقبة الحسنة لك‪.‬‬
‫وحّث ﷺ كل مؤمن ومؤمنة على الّتفاؤل وُح سن الّظن باهلل‪ ،‬وبّشـرنا أّننا في خير مع أّي حال‬
‫نزلت بنا‪ ،‬من ضراء أو سراء‪ ،‬أو شدة أو رخاء‪ ،‬أو صحة أو مرض‪ ،‬أو غنى أو فقر‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ما‬
‫ِم ن ُمِص يَبٍة ُيصاُب بها الُم ْسِلُم ‪ ،‬إاّل ُكِّفَر بها عْنه حّتى الَّشْو َكِة ُيشاُكها» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فأّي أمل فوق هذا األمل؟ وأّي فأل حسٍن أعلى من هذا الفأل؟ خسائرك وأرباحك وهمومك‬
‫وسرورك كّلها في صالحك‪ .‬فالحمد هلل على هذا الّدين الميّسـر الّسمح الّسهل‪ ،‬وأخبر ﷺ بأّن‬
‫ٌة‬
‫للمتفائلين أجًر ا ومثوبة عند هللا‪ ،‬فصح عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬تَبُّسُم َك في وْج ِه أِخ يَك َلَك صَدقٌة» [رواه‬
‫الترمذي]‪.‬‬
‫البسمة التي ال ُتباع وال ُتشترى‪ ،‬وإّنما تفتر عن أسنان باسمة بالِبشْـر‪ ،‬وشفاه واعدة باألمل‬
‫ُيؤجر عليها صاحبها؛ ألّنه يوم يتبّسم ألخيه ُيشعره أّن الّدنيا بخير‪ ،‬وأّن الّناس طيبون‪ ،‬وأّن الغد‬
‫أجمل‪ ،‬والقادم أفضل‪ ،‬بل جعل رسول هللا ﷺ تفاؤل المؤمن سبًبا لتحقق أمانيه بإذن هللا؛ ألّنه توّقع‬
‫األجمل من هللا فأكرمه هللا بما تمناه وما رجاه‪ ،‬فقد صّح عنه ﷺ أّنه دخل على شاٍّب وهو في الموِت‪،‬‬
‫فقال‪ :‬كيف تجُدك؟ قال‪ :‬وهللا يا رسوَل هللا إّني أرجو َهللا‪ ،‬وإني أخاف ذنوبي‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ال يجَتِم عاِن‬
‫في قلِب عبٍد في مثِل هذا الموِط ِن إاّل أعطاُه هللا ما يرجو وآمَنُه مّم ا يخاُف » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫والّر جاء هو الّتفاؤل بمغفرة هللا ورحمته ورضوانه‪ ،‬وهو األمل الموصل لرضا هللا ونعيم‬
‫جنانه‪ ،‬لقد جمع لنا نبّينا الكريم ﷺ الّتفاؤل كّله‪ ،‬وُح سن الطالع أجمعه‪ ،‬واألمل أوله وآخره في جملة‬
‫واحدة‪ ،‬يقول عليه الّص الة والّسالم عن هللا عّز وجل أّنه قال‪« :‬أنا ِع ْنَد َظِّن َعْبِدي بي» [متفق عليه]‪.‬‬
‫هل هناك كالم يوّفي أو يشرح هذه الكلمة العظيمة الجليلة التي تصل إلى قلوب الناس‬
‫مباشرة؟!‬
‫إذا ظننت باهلل الخير‪ ،‬وأّنه أجود األجودين‪ ،‬وأكرم األكرمين‪ ،‬وأرحم الراحمين‪ ،‬فأبشر‬
‫بالّنتائج الجميلة الواعدة الّر ائعة‪ ،‬وعلى الّضد من ذلك فمن ظن باهلل سوًء ا أو شًر ا ‪-‬أعاذنا هللا‪ -‬وقع به‬
‫المكروه جزاًء لظنه الّسيئ كما قال تعالى‪{ :‬الَّظآِّنيَن ِباِهَّلل َظَّن الَّسْو ِء َعَلْيِه ْم َداِئَر ُة الَّسْو ِء َو َغِض َب ُهَّللا‬
‫َعَلْيِه ْم َو َلَعَنُهْم َو َأَعَّد َلُهْم َج َه َّنَم َو َساَء ْت َم ِص يًر ا} [الفتح‪ :‬اآلية ‪.]6‬‬
‫إّن أغلب الّدراسات العلمية الحديثة أّكدت أّن التفاؤل يطيل ُعمَر اإلنسان بمعدل سبع سنوات‬
‫ونصف تقريًبا‪ ،‬وأّن المتفائلين بالحياة أطول الّناس أعماًر ا بإذن هللا جّل في ُعاله‪ ،‬وكّل شيء بقضاء‬
‫وقدر‪ ،‬ولكن الذي قّدر طول العمر قّدر الّتفاؤل لهم‪ ،‬فالتفاؤل مدد قوّي وطاقة إيجابية اّتفق عليها‬
‫علماء العالم‪ ،‬ولكن الُم ذهل أّن رسول الهدى ﷺ قبل أكثر من ألف وأربع مئة عام أخبر بهذا‪ ،‬فعن‬
‫أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ :‬سمعت رسول هللا ﷺ يقول‪« :‬ال َيزاُل َقْلُب الَكِبيِر شاًّبا في اْثَنَتْيِن ‪:‬‬
‫في ُح ِّب الُّد ْنيا‪ ،‬وُطوِل األَم ِل » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وأتى العلم المعاصر ليؤِّك د هذا الخبر الّنبوي الكريم‪ ،‬وفي الّثقافة الغربية الُم عاصرة في القرن‬
‫العشرين قّدموا دراسات في مئات المؤلفات انتهت إلى نتيجة‪« :‬كما تتوّقع يكون»‪ ،‬وقد سبقهم الوحي‬
‫قبل أكثر من ألف وأربع مئة عام بقاعدة أفضل وأجمل وهي‪« :‬أنا ِع ْنَد َظِّن َعْبِدي بي»‪ ،‬فحّو ل‬
‫بوصلة قلبك‪ ،‬ودّفة نّيتك إلى الّتفاؤل واألمل دائًم ا‪ ،‬وأبشر بما يسّر ك من رّب العالمين‪.‬‬
‫لقد عّلمنا رسولنا ﷺ أّن نتفاءل‪ ،‬وأّن نتوقع األجمل واألحسن في حياتنا‪ ،‬وأّن ال ننتظر‬
‫الّسوء؛ ألّن منهج القرآن يؤّكُد أّن َم ن توّقع الجميل من هللا‪ ،‬وأحسَن الّظن به أعطاه وأسعده وحّقق له‬
‫أمانيه‪ ،‬وبالمقابل َم ن ظَّن باهلل ظن الّسوء وانتظر المصائب والمصاعب وقع له ذلك‪.‬‬
‫وكان ﷺ ينهى عن الّتشاؤم‪ ،‬ومن ذلك أّنه دخل ﷺ على أعرابي ُيوعك فقال له‪« :‬ال َبْأَس‬
‫عليك‪َ ،‬طُه وٌر إْن شاَء هللا»‪ ،‬فأجاب األعرابي‪َ :‬طُه وٌر ؟! َبْل هي ُىمّح َتُفوُر على شيٍخ َكِبيٍر ُتِز يُر ُه‬
‫الُقُبوَر ‪ ،‬فقال النبي ﷺ‪َ« :‬فَنَعْم إًذا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫والمعنى أّنك طالما رفضت الّتفاؤل فخذ الّتشاؤم الذي سوف يقع بك‪ ،‬ونهى ﷺ عن الّتطير‪،‬‬
‫فقال‪« :‬ال َعْدوى‪ ،‬وال ِط َيَر َة‪ ،‬وُيْعِج ُبِني الَفْأُل ‪ .‬قاَل ‪ :‬قيَل ‪ :‬وما الَفْأُل ؟ قاَل ‪ :‬الَكِلَم ُة الَّطِّيَبُة» [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫والمعنى أّنه بعد االلتزام وأخذ الحيطة ال ُيعدي شيء شيًئا إاّل بإذن هللا؛ ألّن من ُيشغل نفسه‬
‫بالّتحسس من العدوى يصبح في ريبة وشك ووهم وتشاؤم‪ ،‬والذي يتعّلق بحركة الّطير ُيفسد ُم عتقده‬
‫كما هي عادة العرب في الجاهلية‪ ،‬فإّنهم كانوا ُيعّلقون سفرهم وأمورهم بوجهة الّطير‪ ،‬ويسمونه‬
‫الّسانح والبارح‪ ،‬فنهى ﷺ عن ذلك كّله‪ ،‬وأمر بالّتوكل على هللا وتفويض األمر إليه والّثقة به سبحانه‪،‬‬
‫فكل شيء بقضاء وقدر‪ ،‬وكٌل في كتاب مسّطر‪ ،‬فعن عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما) أّن الّنبي‬
‫ﷺ قال‪َ« :‬يْد ُخ ُل الَج َّنَة ِم ن ُأَّم تي َسْبُعوَن أْلًفا بغيِر ِح ساٍب‪ُ ،‬هُم اَّلِذيَن ال َيْس َتْر ُقوَن ‪ ،‬وال َيَتَطَّيُر وَن ‪،‬‬
‫وعلى َر ِّبِه ْم َيَتَو َّكُلوَن »‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الّتشاؤم والّتطير‪ ،‬يقول أبو ُهَر ْيَر َة (رضي هللا عنه)‪َ :‬سِم ْعُت َر ُسوَل هللا ﷺ‬
‫َيُقوُل‪« :‬ال ِط َيَر َة وَخ ْيُر ها الَفْأُل »‪َ ،‬قاُلوا‪َ :‬و َم ا اْلَفْأُل ؟ َقاَل ‪« :‬اْلَكِلَم ُة الَّص اِلَح ُة َيْسَمُعَه ا َأَح ُدُكْم » [ُم تفق‬
‫عليه]‪ ،‬وكان ﷺ يتفاءل بُح سن الّطالع‪ ،‬مثل الكلمة الطيبة فيستبشر بها‪ ،‬وكان يكل األمور لقضاء هللا‬
‫وقدره‪ ،‬ويفّو ض األمر إليه ويتوكل عليه‪ ،‬ونهى ﷺ عن األفعال التي تدعو إلى الّتشاؤم واإلحباط‬
‫والّشك في القضاء والقدر وعدم الّر ضا بُح كم هللا تعالى‪ ،‬كلطم الخدود‪ ،‬وشّق الجيوب‪ ،‬وتمني الموت‬
‫أو الّتسخط من قضاء هللا‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ليَس ِم َّنا َم ن َلَطَم الُخ ُدوَد‪ ،‬وَشَّق الُجُيوَب ‪ ،‬وَدَعا بَدْع َو ى‬
‫الَج اِهِلَّيِة » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫حتى الموت وهو قضاء ال بد منه‪ ،‬يقول عنه ﷺ‪« :‬ال َيَتَم َّنَيَّن أَح ُدُكُم الَمْو َت ِم ن ُض ٍّر أصاَبُه‪،‬‬
‫فإْن كاَن ال ُبَّد فاِع اًل ‪َ ،‬فْلَيُقْل‪ :‬الَّلُه َّم أْح ِيِني ما كاَنِت الَح ياُة َخ ْيًر ا ِلي‪ ،‬وَتَو َّفِني إذا كاَنِت الَو فاُة َخ ْيًر ا‬
‫ِلي» [ُم تفق عليه]‪ .‬فجعل ﷺ الّدعاء على اختيار األصلح‪ ،‬والّنظر إلى اختيار هللا األجمل‪ ،‬وطلب‬
‫األحسن في البقاء أو في الّر حيل‪ ،‬يقول خَّباُب (رضي هللا عنه)‪« :‬لوال أَّن َر سوَل هللا ﷺ َنَه اَنا أْن‬
‫َنْدُعَو بالَمْو ِت َلَدَعْو ُت بِه » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فكان رسولنا ﷺ يدعو إلى الحياة الجميلة‪ ،‬فالحياة في سبيل هللا فيها نماء وعطاء وتزود‬
‫بالخير ومضاعفة للحسنات ورفع للّدرجات؛ ولهذا يقول الباري سبحانه‪َ{ :‬و َال َتْقُتُلوا َأْنُفَسُكْم ِإَّن َهَّللا‬
‫َكاَن ِبُكْم َر ِح يًم ا} [النساء‪ :‬اآلية ‪.]29‬‬
‫فجاءت الّر حمة عند ذكر القتل‪ ،‬وهي قمة الّتفاؤل وطلب الحياة الّسعيدة الّطيبة‪ ،‬فكل فعل فيه‬
‫اكتئاب أو إحباط أو تسُّخ ط نهى عنه ﷺ‪ ،‬وقال‪َ« :‬م ن َتَر ّدى ِم ن َجَبٍل َفَقَتَل َنْفَسُه‪َ ،‬فهو في ناِر َجَه َّنَم‬
‫َيَتَر َّدى فيها خاِلًدا ُم َخ َّلًدا ِفيها َأَبًدا‪َ ،‬و َم ن َتَحَّسى ُسًّم ا َفَقَتَل َنْفَسُه‪َ ،‬فُسُّم ُه في َيِدِه َيَتَحّساُه في َناِر‬
‫َجَه َّنَم خاِلًدا ُم َخ َّلًدا ِفيها َأَبًدا‪َ ،‬و َم ن َقَتَل َنْفَسُه ِبَح ِديَد ٍة‪َ ،‬فَح ِديَد ُتُه في َيِدِه َيَج ُأ ِبَه ا في َبْط ِنِه في ناِر‬
‫َجَه َّنَم خاِلًدا ُم َخ َّلًدا ِفيها َأَبًدا»‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫لقد عّلمنا نبُينا ﷺ الّتفاؤل والّثقة وعلو الهّم ة حتى في الّدعاء‪ ،‬فأمرنا أن ُنكثر من الّطلب‬
‫ونتفاءل برحمته سبحانه‪ ،‬ونرفع قيمة ما نرغب فيه؛ ألّن َهللا ال يعجزه شيء جّل في ُعاله‪ ،‬فهو أكرم‬
‫األكرمين وأرحم الّر احمين‪ ،‬يقول ﷺ‪« :‬إذا َسَأْلُتُم َهللا‪ ،‬فاْس َأُلوُه الِفْر َد ْو َس ‪ ،‬فإَّنه أْو َسُط الَج َّنِة وَأْع َلى‬
‫الَج َّنِة ‪ُ -‬أراُه ‪َ -‬فْو َقُه َعْر ُش الَّر ْح َم ِن ‪ ،‬وِم ْنُه َتَفَّج ُر أْنهاُر الَج َّنِة » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان أكثر دعائه ﷺ ومناجاته لرّبه أماًل وتفاؤاًل ‪ ،‬فكان ُيكثر من قول‪« :‬اللهَّم إِّني أُعوُذ بَك‬
‫ِم َن اَلهِّم والَح َز ِن ‪ ،‬والَعْج ِز والَكَسِل ‪ ،‬والُبْخ ِل والُجْبِن ‪ ،‬وَض َلِع الَّد ْيِن ‪ ،‬وَغَلَبِة الِّر جاِل » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ال إحباط في حياته ﷺ وال كسل وال جبن وال ُبخل‪ ،‬وإّنما انتصار وفتوحات وأمل وتفاؤل‬
‫وثقة باهلل‪ ،‬وعواقب حميدة‪ ،‬وجوائز رائعة‪ ،‬ومستقبل واعد‪ ،‬وأمل منشود‪ ،‬وهدف سام‪ ،‬وغاية‬
‫ُم باركة‪ ،‬هللف ما أعظم هذا اإلنسان الكريم!‪-‬بأبي هو وأمي ﷺ‪-‬حتى دعاؤه ﷺ ألصحابه كّله ثقة‪،‬‬
‫وُح سن ظن باهلل‪ ،‬فحينما جاء أعرابي إليه ﷺ يريد أن يسافر ألهله في الّص حراء وأمامه مئات‬
‫األميال‪ ،‬وليس له زاد وال متاع‪ ،‬وخاف أن ينقطع في فالة مقفرة‪ ،‬فوقف على ُم عّلم الخير ﷺ ُيلّخ ص‬
‫طلبه وحاجته فيقول‪ :‬إِّني ُأِر يُد سفًر ا فزّو دِني‪ ،‬والّظاهر أّنه أراد متاًعا من متاع الّدنيا‪ ،‬إّم ا ُبًّر ا أو‬
‫شعيًر ا أو تمًر ا أو نحو ذلك‪ ،‬ولكن رسول الهدى ﷺ أعطاه ما هو أرفع وأثمن وأنفس‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫«زّو دَك ُهللا الّتقوى»‪ ،‬ومن زوده هللا التقوى فال خوف عليه‪ ،‬فاستحسن األعرابّي وتلّذذ‪ ،‬وقال‪ِ :‬ز ْدني‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬وغفَر ذنبَك »‪ ،‬ومن غفر هللا ذنبه كيف يخاف؟! وكيف يحزن؟!‪ ،‬فانتشى‬
‫األعرابي وانشرح صدره‪ ،‬وقال‪ِ :‬ز دِني بأبي أنَت وأمي‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ويَّسر لَك الخير حيثما كنَت »‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫ومن يّسر له هللا الخير حيثما كان‪ ،‬فلن يشكو جوًعا‪ ،‬وال ظمًأ‪ ،‬وال تعًبا‪ ،‬وال سفًر ا‪ ،‬وغاية ما‬
‫يتمناه اإلنسان في حياته‪ ،‬ويتفاءل به‪ ،‬تقوى هللا‪ ،‬ومغفرة الّذنوب‪ ،‬وتيسير األمور‪.‬‬
‫وقد صّح من حديث جابر (رضي هللا عنه) أّنه سمع رسول هللا ﷺ قبل موته بثالثة أيام يقول‪:‬‬
‫«ال َيُم وَتَّن َأَح ُدُكْم إاّل َو هو ُيْح ِس ُن الَّظَّن باهلل َعَّز َو َجَّل » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وهنا لفتة عجيبة قبل موته ﷺ وهي أّن األمل معه ﷺ حتى الوفاة‪ ،‬وحسن الّظن برّبه يصاحبه‬
‫حتى الموت‪.‬‬
‫حتى في مرض موته ﷺ كان متفائاًل ‪ ،‬يقول أنس بن مالك(رضي هللا عنه)‪« :‬إَّن أَبا َبْك ٍر كاَن‬
‫ُيَصِّلي لهْم في وَج ِع َر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬الذي ُتُو ِّفَي فيه حَّتى إَذا كاَن َيْو ُم اإلْثَنْيِن وُهْم ُص ُفوٌف في‬
‫الَّص الِة َكَشَف َر سوُل هللا ﷺ ِس ْتَر الُحْج َر ِة‪َ ،‬فَنَظَر إَلْيَنا‪ ،‬وهو َقاِئٌم ‪َ ،‬كأَّن وْج َه ُه وَر َقُة ُم ْصَحٍف ‪ُ ،‬ثَّم‬
‫َتَبَّسَم َر سوُل هللا ﷺ َض اِح ًكا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫تبّسم ﷺ ثقًة بموعود رّبه‪ ،‬وفرًح ا بصالح ُأّم ته‪ ،‬واجتماعهم على إمام واحد‪ ،‬وتآلف قلوبهم‪،‬‬
‫فاألمل يحدوه‪ ،‬والّتفاؤل رفيقه‪ ،‬حتى في أحلك الّظروف وفي أوقات المعاناة‪.‬‬
‫إن تفاؤله ﷺ يختلف عن تفاؤل أّي شخص في العالم؛ ألّن تفاؤله مبنّي على الوحي الُم قّدس‬
‫من هللا تعالى‪ ،‬وكأّنه ﷺ ينظر إلى الغيب من ستر رقيق وهو واثق بمستقبله؛ وألّنه على علم بهذا‬
‫المستقبل بخالف غيره الذي ُيخّم ن تخميًنا‪ ،‬ويظن ظًنا وال يستيقن بالعواقب‪.‬‬
‫وتمّيز تفاؤله ﷺ بأّنه تفاؤل العامل الُم جّد الذي يجمع بين الّتوكل على هللا والعمل‪ ،‬فلم يكن‬
‫توّكله مجّر د أمنيات عذبة يرّددها أو عواطف‪ ،‬بل كان تفاؤاًل بمدد هللا ونصره‪ ،‬فمن داخل الغار وفي‬
‫تلك المرحلة الحرجة خَّطط للّذهاب إلى المدينة وبناء الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫ويوم كان يتفاءل باالنتصار على فارس والروم وحيازة كنوزهما من الذهب والفضة لألمة‬
‫كان يحفر في تلك اللحظة في الخندق‪ ،‬ويعمل بجد‪ ،‬بخالف من يعيش األمنيات المعسولة العذبة وهو‬
‫متكئ على أريكته‪ ،‬وجالس على كرسيه ُيقّلب كفيه‪ ،‬فالمؤمن دائًم ا يقتدي برسوله الكريم ﷺ‪ ،‬في‬
‫ُح سن الظن برّبه‪ ،‬وانتظار األجمل دائًم ا‪ ،‬وتوقع األحسن‪ ،‬والّر ضا باختيار هللا عّز وجل‪ ،‬فهو قدوتنا‬
‫ﷺ في استقبال الحياة بصدر رحب‪ ،‬وأمل وفأل حسن‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬لَقْد َكاَن َلُكْم ِفي َر ُسوِل ِهَّللا ُأْس َو ٌة‬
‫َحَسَنٌة ِلَم ْن َكاَن َيْر ُج و َهَّللا َو اْلَيْو َم اآلِخ َر َو َذَكَر َهَّللا َكِثيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]21‬‬
‫من ليلِة الغاِر فارْقنا مآَمِتَنا‬
‫مْن بْر ِد (ال حتزْن ) انسابْت تغاريُد‬
‫وكيَف حنزُن والكوُن انتشى طراًب‬
‫من هدي (اقرأ) توحيٌد وجتديُد‬
‫وكيَف أنسى ويف أرواِح َنا أَلٌق‬
‫من رمحِة هللا منها ُتعشُب الِبيُد‬
‫حنُن احلياُة فهل تقسو احلياُة بَنا‬
‫من وحِيَنا ساَل ابألهناِر ُج لموُد‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َراِض ًيا‬
‫تحّقق رضاه ﷺ عن مواله في كل أطوار الحياة‪ ،‬في السّـراء والضّـراء والّشدة والّر خاء‪،‬‬
‫والبأساء والّنعماء‪ ،‬فكان مشـروح الّص در‪ُ ،‬م طمئن القلب‪ ،‬مسـرور الّر وح‪.‬‬
‫رضَي عن هللا وهو يتجّر ع مرارة الُيتم فآواه ورعاه واجتباه‪ ،‬ورضي عن هللا وهو ُيعاني‬
‫الفقر فأغناه وأعطاه‪ ،‬ورضي عن هللا وهو يالقي األذى والمكاره والّشدائد‪ ،‬فأّيده ونصره وتواّل ه‪،‬‬
‫تقول أّم المؤمنين َعاِئَشُة (رضي هللا عنها) ‪َ« :‬كاَن َر ُسوُل هللا ﷺ ِإَذا َر َأى َم ا ُيِح ُّب َقاَل ‪ :‬الَح ْم ُد ِهلل‬
‫اَّلِذي ِبِنْعَم ِتِه َتِتُّم الَّصاِلَحاُت ‪َ ،‬و ِإَذا َر َأى َم ا َيْك َر ُه َقاَل ‪ :‬الَح ْم ُد ِهلل َعَلى ُكِّل َح اٍل » [رواه ابن ماجه]‪.‬‬
‫أهاًل وسهاًل مبا أييت به القدُر‬
‫ِم‬
‫فإمّن ا حنُن يف أحكا ه بشـُر‬
‫ومرحًبا بقضاء هللا خالقنا‬
‫حىت ولو مّس نا ّمما قضـى الضّـرُر‬
‫لقد تلّقى ﷺ المآسي والُكربات بقلب ُم طمئن‪ ،‬وصدر ُم نشرح‪ ،‬ونفس راضية ساكنة إلى‬
‫موعود رّبها‪ ،‬واثقة بأّن ما قّدره هللا وقضاه هو غاية االختيار واالصطفاء‪ ،‬والحكمة الُم طلقة منه‬
‫سبحانه‪ ،‬وهناك الكثير من المواقف التي تمّر باإلنسان فتوقع به في غيابات الّتسخط والّتذمر وقلة‬
‫الصبر وضيق الّص در وعدم الّر ضا‪ ،‬مثل الفقر والَّدين والمرض ونحو ذلك من الّظروف القاسية‪،‬‬
‫وجميعها قد مّر بها نبّينا ﷺ‪ ،‬بل وأعظم وأصعب منها‪ ،‬لكنه قابلها بالّتسليم والقبول‪ ،‬وكان في غاية‬
‫الّر ضا‪ ،‬وهو يمشي على جمر الغضا‪ ،‬ولو ُلّخ صت حياته ﷺ في كلمة لكانت‪( :‬الّر ضا)‪ ،‬فبالّر ضا لقي‬
‫الخطوب‪ ،‬وواجه المخاطر‪ ،‬وخاض المعارك‪ ،‬وتغّلب على الّص عاب‪ ،‬وتجاوز األزمات ﷺ‪.‬‬
‫كّذبه أعداؤه‪ ،‬وقاتلوه‪ ،‬وسّبوه‪ ،‬وآذوه‪ ،‬وطردوه‪ ،‬واّتهموه بالجنون‪ ،‬والّسحر‪ ،‬فرضي بقضاء‬
‫رّبه وسّلم أمره لمواله‪.‬‬
‫شاهد أصحابه ُيعَّذبون وُيسحبون في الّر مضاء‪ ،‬وُيجلدون بالّسياط‪ ،‬وُيجّو عون وُيحاصرون‬
‫في الِّش ْعب‪ ،‬فرضي وسّلم واحتسب‪ ،‬وواصل الّسير واثًقا بنصر هللا وتأييده‪.‬‬
‫مات عّم ه أبو طالب الذي حماه‪ ،‬ودافع عنه‪ ،‬وآواه‪ ،‬فسّلم ورضي‪.‬‬
‫فقد زوجته خديجة التي ناصرته‪ ،‬ووقفت معه‪ ،‬وكانت له عزاًء في ُح زنه‪ ،‬فسّلم ورضَي ‪.‬‬
‫ُقتل عّم ه حمزة (رضي هللا عنه) الذي ناصره وسانده وأّيده فسّلم ورضي وأعاد األمر لخالقه‬
‫بنفس ُم طمئنة‪.‬‬
‫أخرجه قومه من مكة بالقّو ة الّظالمة‪ ،‬والجبروت الغاشم‪ ،‬واقتلع ﷺ ُخ طاه في الّص حراء‪،‬‬
‫وذاَق حرارة الّر مضاء جائًعا‪ُ ،‬م تعًبا ُم بعًدا من مكة مهد شبابه‪ ،‬ومغنى فتوته‪ ،‬وخير أرض هللا‪،‬‬
‫فحاصروه في الغار بسيوف الحقد والّضغينة والّتآمر فلم يكن منه ﷺ إاّل أن فاض قلبه بالّر ضا كالّنبع‬
‫الهنيء المريء بالماء الّنمير‪.‬‬
‫ُيقتل أحبابه ﷺ أمام عينه في المعركة‪ ،‬وُيجّر ح في وجهه الّشريف‪ ،‬وُيشّج جبينه‪ ،‬وُتكسر‬
‫رباعيته‪ ،‬فَيرضى وُيسّلم‪.‬‬
‫ُيشاهد ﷺ دسائس المشـركين‪ ،‬ويّطلع على مكائد اليهود‪ ،‬ويكشف غدر الُم نافقين‪ ،‬وما ُيحاك‬
‫ضّده‪ ،‬لمحق دعوته‪ ،‬وإلحاق األذى به‪ ،‬فيرضى وُيسّلم ويستعين برّبه‪.‬‬
‫يغشاه الفقر فال يجد ﷺ كسرة خبز وال حفنة تمر‪ ،‬ويتلوى من الجوع‪ ،‬ويعيش أزمة القوت‪،‬‬
‫ويمّر به الهالل بعد الهالل وال ُيوقد في بيته ﷺ نار فيرضى وُيسّلم لُح كم رّبه‪ .‬تقول أّم المؤمنيَن‬
‫عائشُة لُعروة بن الزبير (رضي هللا عنهم)‪«:‬إْن ُكَّنا َلَنْنُظُر إلى الِه اَل ِل َثاَل َثَة أِه َّلٍة في َشْه َر ْيِن ‪ ،‬وما‬
‫ُأوِقَدْت في أْبَياِت رسوِل هللا ﷺ َناٌر ‪ .‬قال عروة‪ :‬ما كاَن ُيِع يُشُكْم ؟ قاَلْت ‪ :‬األْس َو َداِن ‪ :‬الَّتْم ُر والَم اُء ‪ ،‬إاّل‬
‫أَّنه قْد كاَن ِلَر سوِل هللا ﷺ ِج يَر اٌن ِم َن األْنَص اِر ‪ ،‬كاَن لهْم َم َناِئُح‪ ،‬وَكاُنوا َيْم َنُح وَن َر سوَل هللا ﷺ ِم ن‬
‫أْبَياِتِه ْم َفَيْسِقيَناُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫التفَت ﷺ لجيش الُم سلمين خلفه فوجد أعدادهم قليلة‪ ،‬وطالع أمامه جيوش الُم شركين فوجدها‬
‫جيوًشا تمأل المكان‪ ،‬لها صولة وعنفوان‪ ،‬فيرضى وُيسّلم وُيوّكل أمره لرّبه‪.‬‬
‫يمرض ﷺ مرًض ا شديًدا‪ ،‬ويتعب تعًبا ُم رهًقا‪ ،‬وُيجهد إجهاًدا ُم ضنًيا‪ ،‬وُيهزم المسلمون هزيمة‬
‫ُم ّر ة‪ ،‬فيفيض الّر ضا من روحه الّطاهرة كما يفيض الغمام المدرار بالماء البارد العذب الّز الل‪ ،‬يقول‬
‫ابن مسعود(رضي هللا عنه)‪َ« :‬د َخ ْلُت على الّنبِّي ﷺ وهو ُيوَعُك ‪َ ،‬فَم ِس ْس ُتُه بَيِدي َفُقلُت ‪ :‬إَّنَك َلُتوَعُك‬
‫وْعًكا َشِديًدا‪ ،‬قاَل ‪ :‬أَج ْل‪ ،‬كما ُيوَعُك َر ُج الِن ِم نُكم‪ .‬قاَل ‪ :‬لَك أْج ران؟ قاَل ‪َ :‬نَعْم ‪ ،‬ما ِم ن ُمْسِلٍم ُيِص يُبُه‬
‫أًذى‪َ ،‬مَر ٌض َفما ِس واُه‪ ،‬إاّل َح َّط هللا َسِّيئاِتِه ‪ ،‬كما َتُح ُّط الَّشَج َر ُة وَر َقها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫يفقد ﷺ ابنه إبراهيم وثالًثا من بناته وُيشّيعهم ودموعه تسيل على خّده الّشريف‪ ،‬والُح زن‬
‫يأخذ منه كل مأخذ‪ ،‬فيرضى ويذعن وُيفوض األمر لرّبه‪ ،‬ويقول‪« :‬إَّن الَعْيَن َتْد َمُع ‪ ،‬والَقْلَب َيْح َز ُن ‪،‬‬
‫واَل َنُقوُل إاَّل ما َيْر َض ى َر ُّبَنا‪ ،‬وإَّنا بِفَر اِقَك يا إْبَر اِه يُم َلَم ْح ُز وُنوَن » [ُم ّتفق عليه]‪.‬‬
‫وكان إبراهيم ابنه الوحيد آنذاك‪ ،‬ونحن َنْعَلم مدى تعّلق األب بابنه‪ ،‬وزد على ذلك أّنه كان‬
‫صغيًر ا حبيًبا إلى قلبه ﷺ‪ ،‬وبرغم هذا كّله أعلن عليه الّص الة والّسالم الّر ضا والّتسليم لرّبه؛ ألّنه‬
‫على يقين تام بُح سن اختيار هللا عّز وجل‪ ،‬هللف هذه الّنفس الّز كية الّطاهرة التي يحملها ﷺ بين جنبيه!‬
‫كْم ُم لئت إيماًنا ورًض ا‪ ،‬وسكينًة وُطهًر ا!‬
‫وَنْعَلم مدى ُح ب األب لبناته‪ ،‬خاصة إذا ُكّن باّر ات‪ ،‬راشدات‪ ،‬مؤمنات‪ ،‬طاهرات‪ ،‬فتموت‬
‫بناته ﷺ الواحدة تلو األخرى‪ ،‬وال تجده إاّل راضًيا‪ ،‬مفوًض ا األمر لرّبه‪ ،‬واثًقا بُح سن اختيار مواله‬
‫جّل في ُعاله‪.‬‬
‫ورغم كل ما عاناه ﷺ من شدائد وصعاب كان ُيطمئن أصحابه‪ ،‬ويسكب الّر ضا في قلوبهم‪،‬‬
‫الّر ضا بما قّدر هللا‪ ،‬والّر ضا بما قسمه جل في عاله‪ ،‬ثم ُيذّكرهم بما فيه العوض عن كل مفقود‪،‬‬
‫والّسلوة عن كل فائت‪ ،‬وهو ما ُأعّد لهم من نعيم ُم قيم‪ ،‬في جوار رّب كريم‪ ،‬ولّخ ص لهم ﷺ الحياة‬
‫الطّيبة في الّر ضا‪ ،‬فقال‪« :‬اْر َض بما َقَسَم ُهللا لك َتُكْن َأْغ َنى الناِس » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فعند الّر ضا تجد غنى القلب وطمأنينة الّر وح بما كتب هللا لك‪ ،‬وتلمح ُح سن اختيار هللا لك‬
‫فيما قّدر وقضى ُسبحانه‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحّث على طلب مرضاة هللا وحده فيقول‪َ« :‬م ن اْلتَمَس ِر ضا ِهللا بَسَخ ِط الَّناِس ‪ ،‬كَفاه‬
‫ُهللا ُم ْؤ نَة الَّناِس ‪ ،‬وَم ن اْلَتمس ِر ضا الَّناِس بَسَخ ِط هللا وَكَله ُهللا إلى الَّناِس » [رواه الّترمذي]‪ ،‬أي‪:‬‬
‫إذا رضيت عن هللا ورضي عنك ُسبحانه فما عليك من الخليقة‪ ،‬يقول الّشاعر‪:‬‬
‫فليتَك حتلو واحلياُة مريرٌة‬
‫وليتَك ترضى واألانُم غضاُب‬
‫وليت الذي بيين وبينَك عامٌر‬
‫وبيين وبني العاملَني خراُب‬
‫ِم‬
‫إذا َص َّح ْنَك الوُّد فالكُّل َهٌنّي‬
‫وكُّل الّذ ي فوَق الرّت اِب تراُب‬
‫يقول ﷺ‪« :‬ليَس الِغ َنى عن َكْثَر ِة الَعَر ِض ‪ ،‬وَلِك َّن الِغ َنى ِغ َنى الَّنْفِس » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فليس الغنى باألموال وال بالمدخرات‪ ،‬وإّنما بهذا الكنز الّثمين الذي تحمله في نفسك‪ ،‬إّنه (كنز‬
‫الّر ضا)‪ ،‬فإذا أنعم ُهللا عليك بهذا الكنز هانت عليك الّدنيا بأسرها‪ ،‬وصرت من أغنى عباد هللا تعالى‪.‬‬
‫َص احَبه الّر ضا في دعائه ﷺ فكان يدعو ويتبّتل في صالة الّليل‪ ،‬وقد سافرت روحه الّطاهرة‬
‫الّشريفة لتطوف حول العرش‪ ،‬وهو يلهج بهذه العبارة الُم شجية الُم بكية‪« :‬الَّلهَّم إِّني أُعوُذ بِر ضاَك‬
‫ِم ن سَخ ِط َك » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫يا لهذا الّدعاء الحار الّص ادق الخالص الُم نبعث من قلبه الّطاهر ﷺ! ُسبحان من ألهمه بليغ‬
‫المناجاة‪ ،‬لرّب األرض والّسماوات!‬
‫هنا منتهى اآلمال‪ ،‬وغاية السؤال‪ ،‬وقمة االنطراح على باب ذي الجالل‪ ،‬وكان ﷺ يقول في‬
‫دعائه‪« :‬أسَأُلك الِّر ضا بعَد القضاِء » [رواه النسائي]‪ ،‬ال أدري كيف ُأعّبر عن هذه العبارة الّنبوية‬
‫الُم شرقة الباهرة التي كان يدعو بها نبّي هللا ﷺ إاّل أن أقول‪« :‬أشهد أّنه رسول هللا»‪ ،‬وتاهلل لو امتثلنا‬
‫الّر ضا بعد القضاء لهانت علينا الّشدائد‪ ،‬وُسّه لت لنا الّص عاب‪.‬‬
‫علمَنا ﷺ أّن كَّل أقدار هللا جّل وعال ُلطٌف ورحمٌة وعدٌل ‪ ،‬فتلذذنا بالعيش في جوار هللا‪،‬‬
‫ونعمَنا بجنة الّدنيا قبل جنة اآلخرة‪ ،‬قال ﷺ في دعاء االستخارة‪« :‬واْقُدْر لي الَخ ْيَر َحْيُث كاَن ُثَّم‬
‫َر ِّض ِني به» [رواه البخاري]‪ ،‬فما أجمل كلمة «َر ِّض ِني بِه » بعد «واْقُدْر لي الَخْيَر »! فإذا كان نبّي هللا‬
‫ﷺ َيطلب منه رّبه تبارك وتعالى أن يرضى بما ُقّدر له من خيٍر ‪ ،‬فهو أيًض ا يرضى عن أقدار هللا ولو‬
‫كان فيها مرارة وصعوبة؟‬
‫وهذا أعلى منازل الّر ضا؛ ألن الّتسخط باب الكفر‪ ،‬وبريد الّنفاق‪ ،‬وُسّلم الّشك في أقدار هللا‬
‫عّز وجل‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬ذِلَك ِبَأَّنُهْم َكِر ُهوا َم ا َأْنَز َل ُهَّللا َفَأْح َبَط َأْع َم اَلُهْم } [محمد‪:‬اآلية ‪ ،]9‬وعن أنس‬
‫(رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪ِ« :‬إَّن ِع َظَم الَج َز اِء َمَع ِع َظِم الَبالِء ‪َ ،‬و ِإَّن َهللا ِإَذا َأَح َّب َقْو ًم ا اْبَتالُهْم ‪،‬‬
‫َفَم ْن َر ِض َي َفَلُه الِّر َض ا‪َ ،‬و َم ْن َسِخ َط َفَلُه الُّسْخ ط» [رواه الّترمذي]‪.‬‬
‫هذا ُح كم نبوّي شريف‪ ،‬وليختر اإلنسان أّي المنزلتين‪ :‬منزلة الّر ضا عن هللا في أحكامه‬
‫وأقداره ومعه رضوان هللا‪ ،‬أو منزلة الّسخط على هللا وعلى شرعه وأقداره والعياذ باهلل‪ ،‬فله سخط‬
‫هللا ومقته‪ ،‬فاهلل حكم عدل‪ ،‬من رضي عنه وفوض األمر إليه وأذعن ألحكامه مأل صدره رًض ا‬
‫وسكينة وطمأنينة يجد حالوتها في قلبه‪ ،‬ومن سخط واعترض وَج َد ُسخًطا ومقًتا وشقاًء وتعاسًة حتى‬
‫يلقى هللا‪.‬‬
‫وما أجملها من لحظة وأعظمها من ساعة مّر ت بالّص حابة الكرام!‪ ..‬حينما نزل جبريل عليه‬
‫الّسالم بقول الباري سبحانه‪َ{ :‬لَقْد َر ِض َي ُهَّللا َعِن اْلُم ْؤ ِم ِنيَن ِإْذ ُيَباِيُعوَنَك َتْح َت الَّشَجَر ِة َفَعِلَم َم ا ِفي‬
‫ُقُلوِبِه ْم َفَأْنَز َل الَّسِك يَنَة َعَلْيِه ْم َو َأَثاَبُهْم َفْتًح ا َقِر يًبا} [الفتح‪ :‬اآلية ‪!]18‬؛ فكيف يكون إًذا رضا الّر حمن‬
‫الّر حيم عّم ن كان سبًبا في هدايتهم وإيمانهم‪ ،‬ومعرفتهم برّبهم‪ ،‬وبيعتهم لنبّيهم‪ ،‬وُنصرتهم لدين خالقهم‬
‫حتى نالوا رضا هللا؟! كل رضا عن هللا يعتقده أّي مؤمن أو مؤمنة إلى يوم القيامة فإّنما تعّلمه من‬
‫خير الّر اضين وسيد العابدين ﷺ‪.‬‬
‫وبّين ﷺ أن الّر ضا أعلى المقامات وأرفع الدرجات‪ ،‬فقال في حديثه الذي رواه ُم سلم عن‬
‫العباس(رضي هللا عنه)‪« :‬ذاَق َطْعَم اإليماِن َم ن َر ِض َي باهلل َر ًّبا‪ ،‬وباإلْس الِم ِديًنا‪ ،‬وِبُم َح َّم ٍد َر سواًل »‪،‬‬
‫وذكر في حديثه الذي رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص(رضي هللا عنه)‪ :‬أن‪« :‬من قال َر ِض يُت باهلل‬
‫َر ًّبا‪ ،‬وِبُم َح َّم ٍد َر سواًل ‪ ،‬وباإلْس اَل ِم ِديًنا‪ُ ،‬غِفَر له َذْنُبُه»‪ ،‬وفي لفظ صحيح رواه أبو داود‪« :‬وَجَبْت له‬
‫الجَّنُة»‪.‬‬
‫َفتذّو ق طعم اإليمان وغفران الّذنوب ودخول الجّنة مرهون بالّر ضا عن هللا عّز وجل‪ ،‬فإذا‬
‫رضيت بهذه المقامات الّر فيعة الّطاهرة‪( :‬الّر ضا بالّر بوبية‪ ،‬والّر ضا بدين اإلسالم وشريعته‪،‬‬
‫والّر ضا بنبوة الّر سول الكريم ﷺ ورسالته)‪ ،‬فأبشـر برضوان هللا عّز وجّل ‪ ،‬وانتظر الجائزة الُكبرى‬
‫والهدية الُعظمى في جوار ملك الملوك في الفردوس األعلى حينما تقرأ التوقيع اإللهي على بطاقتك‬
‫في خاتمة رحلتك ونهاية روايتك‪َ{ :‬ر ِض َي ُهَّللا َعْنُهْم َو َر ُض وا َعْنُه َو َأَعَّد َلُهْم َج َّناٍت َتْج ِر ي َتْح َتَه ا‬
‫اَألْنَه اُر َخ اِلِديَن ِفيَه ا َأَبًدا َذِلَك اْلَفْو ُز اْلَعِظ يُم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]100‬‬
‫فكل ما يحصل عليه اإلنسان من نجاحات أو إنجازات أو هبات أو لذائذ أو نعيم فرضوان هللا‬
‫أكبر من هذا كّله‪.‬‬
‫ما شعورك إذا علمت أّن الّر حمن الذي على العرش استوى سبحانه قد رضي عنك؟! هل‬
‫بقي لك مطلوب أو أمنية أعظم من هذا؟! قال الشاعر‪:‬‬
‫دع املقاديَر جتري يف أَعّنتها‬
‫وال تبيّنت إال خا الباِل‬
‫َيل‬
‫ما بني َغمضِة عنَي وانتباهتها‬
‫يغرّي هللا من حاٍل إىل حاِل‬
‫رضي ﷺ عن هللا رًّبا وخالًقا قد أبدع في صنعه‪ ،‬ورضي به ُم دّبًر ا قد عدل في قسمته جّل في‬
‫ُعاله‪ ،‬لذلك وجد األمن والّسكينة‪ ،‬واألمان والطمأنينة‪ ،‬في كل مراحل عمره‪ ،‬وجميع أيام حياته‪،‬‬
‫وفاض رضاه ﷺ عن رّبه من أعماق روحه الّطاهرة‪ ،‬فاض في قسمات وجهه‪ ،‬فاض في نور ُم حّياه‪،‬‬
‫فاض في بهجة نفسه‪ ،‬فاض في ثقته برّبه‪ ،‬فاض في اعتماده على مواله‪ ،‬فاض في توكله على خالقه‪،‬‬
‫فاض في تسليمه بأمر إلهه‪ ،‬فكانت حياته رًض ا في رضا‪ ،‬رًض ا يفيض ثناًء من لسانه‪ ،‬وجميع‬
‫جوارحه ﷺ‪ ،‬دائم الّشكر واالمتنان والعرفان‪ ،‬للواحد الدّيان‪ ،‬وللملك الّر حمن‪.‬‬
‫وما له ﷺ بأبي هو وأمي ال يرضى عن رّبه!؟ أما شرح صدره؟ أما غفر ذنبه؟ أما رفع‬
‫ذكره؟ أما حقق نصره؟ أما أرغم حاسديه؟ أما جعل المنابر تعلن مبادئه؟ أما جعل المنائر ُترّدد‬
‫اسمه؟ أما جعل المليارات من البشر ُتصّلي وُتسّلم عليه؟ أما جعل السماء تتفّتح بالقبول له؟ أما جعل‬
‫األرض ُترّح ب بأتباعه إلى يوم الّدين؟ أما جعل اسمه في كل كتاب ودفتر‪ ،‬وكل ديوان وسجل‪ ،‬وكل‬
‫جامعة ومدرسة؟‬
‫وما له ال يرضى ﷺ وقد أعطاه رّبه النبّو ة في الوجود‪ ،‬والمقام المحمود‪ ،‬واللواء المعقود‪،‬‬
‫وما له ﷺ ال يرضى وقد وعده هللا بأجمل وعد‪ ،‬وأغلى هدية‪ ،‬وأعظم عطّية‪ ،‬فقال له سبحانه‪:‬‬
‫{َو َلَسْو َف ُيْعِط يَك َر ُّبَك َفَتْر َض ى} [الضحى‪ :‬اآلية ‪ ،]5‬بعد هذا الوعد يعجز الكالم‪ ،‬وَتحار األفهام‪،‬‬
‫وتجف األقالم‪ .‬يا له من قسم عظيم من أكرم األكرمين ألشرف الُم رسلين! ورافق هذا القسم الّشريف‬
‫ُم خاطبة ُم باشرة‪ ،‬تدّل على قربه ﷺ من رّبه‪ ،‬وعظيم ُحّب خالقه له‪ ،‬فقال له ُسبحانه‪ُ{ :‬يْعِط يَك } ‪،‬‬
‫عطاًء مباشًر ا دون أّي وسيط‪ ،‬وفي قوله تعالى‪َ{ :‬ر ُّبَك } ‪ ،‬كل االحتفاء واالجتباء واالصطفاء‪ ،‬وفي‬
‫قوله تعالى‪َ{ :‬فَتْر َض ى} ‪ ،‬غاية الّسرور ونهاية الحبور‪ ،‬وقمة الفرح بالمقدور‪.‬‬
‫وعندما أقرأ قول الباري ُسبحانه وهو ُيخاطب نبّيه ﷺ ويقول له‪َ{ :‬و َلَسْو َف ُيْعِط يَك َر ُّبَك‬
‫َفَتْر َض ى} تملؤني الّدهشة‪ ،‬ويهّز ني االنبهار؛ ألّنني أبحث عن العطاء الّدنيوي الذي أعطاه رّبه فال‬
‫أجد شيًئا كثيًر ا من المحسوسات والماديات‪ ،‬فال قصور وال دور‪ ،‬وال حدائق غّناء‪ ،‬وال بساتين‬
‫فيحاء‪ ،‬وال أنهار جارية‪ ،‬وال كنوز ُم ّدخرة‪ ،‬بل أجد غرفة من طين يسكنها‪ ،‬وحصيًر ا يجلس عليه‪،‬‬
‫وثوًبا ُم رّقًعا يلتحف به‪ ،‬وخبًز ا يابًسا يأكله‪ ،‬فال خيول مسّو مة وال أنعام وال حرث وال ُم ّدخرات‪.‬‬
‫فأعود إلى اآلية وأقرؤها مرة أخرى‪َ{ :‬و َلَسْو َف ُيْعِط يَك َر ُّبَك َفَتْر َض ى} ‪ ،‬فأجد أّن هناك‬
‫عطاًء آخر أغلى وأثمن وأنفس‪ ،‬عطاًء أرفع وأعلى من كل المناصب‪ ،‬ومن كل القناطير الُم قنطرة‪،‬‬
‫وكل الكنوز المحفوظة‪ ،‬وكل األشياء النفيسة الغالية‪ ،‬عطاًء جعل الّنبي ﷺ راضًيا عن الواحد القهار‪،‬‬
‫في الليل والّنهار‪ ،‬إّنه عطاء الّنبوة‪ ،‬وهبة الّر سالة‪ ،‬وهدّية الوحي الّر باني والغيث الّر وحاني‪ ،‬وجائزة‬
‫اإليمان العظيم‪ ،‬والعلم الّنافع‪ ،‬مع انشراح الّص در‪ ،‬وراحة البال‪ ،‬واطمئنان القلب‪ ،‬وبهجة الّر وح‪،‬‬
‫وعطاء هداية البشرّية‪ ،‬وداللة اإلنسانّية إلى رّب البرّية‪.‬‬
‫لقد أرضاه رّبه في حياته بأن نصره نصًر ا مؤّز ًر ا‪ ،‬وفتح له فتًح ا ُم بيًنا‪ ،‬وهداه صراًطا‬
‫ُم ستقيًم ا‪ ،‬وأكمل له الّدين‪ ،‬وأتّم عليه الّنعمة‪ ،‬وكبت أعداءه‪ ،‬وكسـر خصومه‪ ،‬ونشر مّلته‪ ،‬وأعّز‬
‫أصحابه وأتباعه إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫ثم أنعم عليه هللا وأرضاه بعطاء أخروي أعظم وأنفس وأغلى وأثمن من هذا العطاء الّدنيوي‪.‬‬
‫إّنه عطاء الّشفاعة الُكبرى‪ ،‬عطاء نهر الكوثر العظيم‪ ،‬عطاء دخول الجّنة قبل البشر أجمعين‪ ،‬ثم‬
‫عطاء الوسيلة‪ ،‬وهي المنزلة العالية‪ ،‬والّدرجة الّر فيعة‪ ،‬أعلى درجة في جنات الّنعيم‪ ،‬ليست ألحد إاّل‬
‫له ﷺ‪ ،‬وَم ّن عليه سبحانه بمفتاح الّر ضا وبوابته الُكبرى وطريقه الموصل‪ ،‬فقال سبحانه‪َ{ :‬و َسِّبْح‬
‫ِبَح ْم ِد َر ِّبَك َقْبَل ُطُلوِع الَّشْم ِس َو َقْبَل ُغُر وِبَه ا َو ِم ْن آَناِء الَّلْيِل َفَسِّبْح َو َأْط َر اَف الَّنَه اِر َلَعَّلَك َتْر َض ى}‬
‫[طه‪ :‬اآلية ‪ ،]130‬فأرشده إلى تسبيحه ودوام ذكره ؛ ألن في هذا العمل ذروة الّر ضا وغاية‬
‫الّسعادة‪ ،‬وقال ُسبحانه‪َ{ :‬لَعَّلَك َتْر َض ى} ‪ ،‬ولم يقل‪« :‬لعلي أرضى ‪ »،‬فإّنه راض عن رسوله ونبّيه‬
‫ﷺ بال شك‪ ،‬ولكن لعلك أنت يا محمد أن تسعد‪ ،‬وأن تفرح وتهنأ‪ ،‬وأن يطمئن قلبك وتبهج روحك؛‬
‫ولهذا كان الّنبي الكريم ﷺ أكثر الناس تسبيًح ا وتحميًدا وتكبيًر ا وتهلياًل وذكًر ا هلل‪ ،‬فأدرك من الرّضا‬
‫غايته‪ ،‬ومن الّسرور نهايته‪ ،‬فهنيًئا له هذا الرّضا عن هللا‪ ،‬وهنيًئا له رضوان هللا عليه‪ ،‬فالُم سلمون‬
‫والُم سلمات من سكان القارات وهم أكثر من المليار ونصف المليار ُيصّلون ويسلمون عليه في كل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬صالة وسالًم ا ممزوجين بالّدموع‪ ،‬والُحّب ‪ ،‬والّشوق‪ ،‬والحنين إلى هذا الّنبي العظيم‬
‫واإلمام الكريم ﷺ‪.‬‬
‫لقد عّلمنا رسولنا ﷺ أن نرضى عن هللا في خلقه وأمره‪ ،‬في خلقه حيث بديع صنعه‪ ،‬وفي‬
‫أمره حيث جميل شرعه‪ ،‬فكما أن هللا جّم ل الكون وأبدعه ونّسقه‪ ،‬وأحسن نظامه‪ ،‬فكذلك أحكم‬
‫تشريعه‪ ،‬وبّين تنزيله‪ ،‬وأحسن فيما كتب وقّدر‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫عَّلمتين احلياة أن أتلَّق ى‬
‫كَّل ألواهنا رًض ا وَقبوال‬
‫ورأيُت الِّرضا خيِّف ف أثقايل‬
‫وُيلقي على املآسي ُس دوال‬
‫والذي ُأهلَم الِّرضا ال تراُه‬
‫أبَد الدهر حاسًد ا أو َعذوال‬
‫أان راٍض بكِّل ما كتب ُهللا‬
‫وُمْزٍج إليه ْمَحًد ا َج زيال‬
‫فأخبرنا ﷺ أّن قضاء هللا كّله جميل‪ ،‬وكّله حسن‪ ،‬وأّن ما يقضيه للعبد فهو خير على أّي حال‪،‬‬
‫وَم ن يعتقد هذه العقيدة يجد كل االطمئنان والّر ضا في تقّبل أمر هللا‪ ،‬ويوم تعتقد هذا االعتقاد وتتيّقنه‬
‫غاية اليقين ال تجد هًّم ا‪ ،‬وال غًّم ا‪ ،‬وال ُح زًنا‪ ،‬بل تشعر بالّسكينة واالطمئنان وهذا سر مسألة الّر ضا‪.‬‬
‫وقد دّلنا ﷺ على طريقة سهلة ُم يّسرة نصل بها إلى الّر ضا عن هللا عّز وجل فيما قّسم من‬
‫الّر زق فقال ﷺ‪ِ« :‬إَذا َنَظَر َأَح ُدُكْم ِإَلى َم ْن ُفِّض َل َعَلْيِه ِفي الَم اِل َو الَخ ْلِق ‪َ ،‬فْلَيْنُظْر ِإَلى َم ْن ُهَو َأْس َفَل‬
‫ِم ْنُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وأخبرنا ﷺ بجزاء من رضي عن هللا تعالى أن يثيبه هللا أعظم الّثواب في الجنة‪ ،‬وأرفع‬
‫درجات الجزاء في دار الخلود‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إَّن هللا َتباَر َك وَتعالى يقوُل ألْه ِل الَج َّنِة ‪ :‬يا أْه َل الَج َّنِة ‪.‬‬
‫فَيقولوَن ‪َ :‬لَّبْيَك َر َّبنا وَسْعَد ْيَك ‪ ،‬فَيقوُل ‪ :‬هْل َر ِض يُتْم ؟ فَيقولوَن ‪ :‬وما لنا ال َنرَض ْى وقْد أْع َطْيَتنا ما َلْم‬
‫ُتْعِط أَح ًدا ِم ن َخ ْلِقَك ! فَيقوُل ‪ :‬أنا ُأْع ِط يُكْم أْفَض َل ِم ن ذلَك ‪ ،‬قالوا‪ :‬يا َر ِّب‪ ،‬وَأُّي شيٍء أْفَض ُل ِم ن ذلَك ؟‬
‫فَيقوُل ‪ُ :‬أِح ُّل عَلْيُكم ِر ْض واِني‪ ،‬فال أْس خُط عَلْيُكم َبْعَد ُه أَبًدا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وألهمنا ﷺ ألمر إذا اعتقدناه وجدنا أقدار هللا كّلها بلسًم ا شافًيا‪ ،‬وبرًدا وسالًم ا حتى ولو كانت‬
‫أزماٍت‪ ،‬وخطوًبا‪ ،‬وكروًبا‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬عجًبا ألمِر الُم ؤِم ِن ‪ ،‬إَّن أْم َر ه ُكَّله َخ يٌر ‪ ،‬وليس ذاك ألحٍد إاَّل‬
‫للمؤِم ِن ‪ِ :‬إْن أصاَبته سَّر اُء شَكَر فكان خيًر ا له‪َ ،‬و ِإْن أصاَبته ضَّر اُء صَبَر فكان خيًر ا له» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ بأن الّر ضا عن هللا برهان على قوة اليقين‪ ،‬ودليل على ُح سن الّظن برّب العالمين‪،‬‬
‫وأّنه الّطريق األقرب لنيل رضوان الباري جّل في عاله‪ ،‬وفي الّر ضا عن هللا نجاة من الهموم‪،‬‬
‫والغموم‪ ،‬واألحزان‪ ،‬والّتسخط‪ ،‬والقلق‪ ،‬واالضطراب الّنفسي‪ ،‬فال تجد الّر اضي عن هللا إاّل ُم طمئًنا‬
‫ُم نشرح الّص در‪ ،‬مسـرور الخاطر‪ ،‬يعيش أسعد لحظات عمره‪ ،‬وأفضل أيام حياته‪ ،‬ألّنه رضي عن‬
‫هللا فرضي هللا عنه‪.‬‬
‫ووّج ه رسول الُه دى ﷺ ُأّم ته إلى الّر ضا عن هللا ُسبحانه رغم أي ظروف قاسية تمّر بهم‪،‬‬
‫ولهذا مدح الخالق سبحانه من كانت هذه صفته فقال‪َ{ :‬و َلْو َأَّنُهْم َر ُض وا َم ا آَتاُهُم ُهَّللا َو َر ُسوُلُه َو َقاُلوا‬
‫َح ْسُبَنا ُهَّللا َسُيْؤ ِتيَنا ُهَّللا ِم ْن َفْض ِلِه َو َر ُسوُلُه ِإَّنا ِإَلى ِهَّللا َر اِغُبوَن } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]59‬‬
‫فانظر هنا إلى كلمة‪َ{ :‬ر ُض وا} ‪ ،‬ولم يقل‪« :‬قبلوا أو أخذوا»‪ ،‬بل‪َ{ :‬ر ُض وا} َر ُض ْو ْا بما‬
‫كتب هللا لهم‪ ،‬فانشرحت صدورهم‪ ،‬إن أمسك َر ُض وا‪ ،‬إن أرسل َر ُض وا‪ ،‬إن قّلل َر ُض وا‪ ،‬إن أنعم‬
‫َر ُض وا‪ ،‬وإن ابتلى َر ُض وا‪ ،‬إن أصّح الجسم َر ُض وا‪ ،‬وإن أمرضه َر ُض وا‪ ،‬إن وهب الّذرية َر ُض وا‪،‬‬
‫وإن لم ُيقّدرها َر ُض وا‪ ،‬إن أغنى َر ُض وا‪ ،‬وإن أفقر َر ُض وا‪ ،‬فالّر ضا الُم طلق كما عّلمنا نبّينا ﷺ هو‬
‫الّسالح األعظم لتجاوز الّص عاب واألزمات‪ ،‬وتخطي العقبات‪ ،‬في هذه الحياة‪ ،‬وهو البوابة العظمى‬
‫إلى الفردوس األعلى والفردوس األدنى‪ ،‬فردوس اآلخرة‪ ،‬وفردوس الّدنيا‪ ،‬وهو نهاية الّتسليم‪ ،‬وغاية‬
‫اإلذعان‪ ،‬وديوان العبودّية‪ ،‬وسّر االنقياد‪ ،‬وهو غيث ُيمطره هللا على القلوب الُم طمئنة‪ ،‬وسكينة‬
‫يغّشيها هللا األرواح الّطاهرة‪ ،‬وهو سر انشراح الّص در‪ ،‬وصالح األمر‪ ،‬وإبدال الُعسر بالُيسر‪ ،‬وهو‬
‫فرحة عامرة غامرة يجدها من فّو ض أمره لرّبه‪ ،‬ووثق بتدبير خالقه‪ ،‬وعلم تمام العلم أّن اختيار هللا‬
‫له خير من اختياره لنفسه‪ ،‬فيرضى على كل حال وهيئة‪ ،‬وفي كل زمان ومكان‪ ،‬يرضى بكل ما قّدر‬
‫هللا وقضى‪ ،‬حينها يكون العذاب من أقدار هللا عذًبا‪ ،‬والُم ّر مّم ا يجري عليه من القضاء حلًو ا‪ ،‬فيتلّذذ‬
‫حتى بالمكاره في مرضاة هللا‪ ،‬وُتصبح عنده الّشدائد رغائب‪ ،‬ويهنأ ويسعد في أّي منزلة أنزله هللا‬
‫بها‪ ،‬من شّدة ورخاء‪ ،‬وضّر اء وسّر اء‪ ،‬ألّنه أيقن من قلبه تمام اليقين أّن رّبه ال يختار له إاّل األحسن‪،‬‬
‫وال يكتب له إاّل األجمل‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫َدِع اَألاّي َم َتفَعُل ما َتشاُء‬
‫َوال جَت َزع حِل اِد َثِة الَليايل‬
‫ِط‬
‫َو ب َنفًس ا ِإذا َح َك َم الَق ضاُء‬
‫َفما واِدِث‬
‫َحِل‬
‫الُد نيا َبقاُء‬
‫وفي الختام أقول للبؤساء والفقراء والمساكين واأليتام والمحرومين والمصابين‬
‫والمضطهدين والمشّر دين والمنكوبين‪:‬‬
‫إّن إمامكم سيد ولد آدم رسول هللا ﷺ فاقتدوا به في الّر ضا والّتسليم والقناعة والّطمأنينة‬
‫وانتظار الَفَر ج‪ ،‬والّر كون إلى هللا‪ ،‬والّثقة بحسن صنيعه تعالى وجميل اختياره‪ ،‬واجعلوا هذه اآلية‬
‫الكريمة نصب أعينكم في كل ُم لّم ة وأزمة‪ ،‬وفي كل حادثة وُم شكلة‪ ،‬وفي كل خطب وكرب‪:‬‬
‫{َو َعَسى َأْن ُتِح ُّبوا َشْيًئا َو ُهَو َشٌر َلُكْم َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم َال َتْعَلُم وَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]216‬‬
‫وأقول للُم سلمين الُم هتدين بُسّنة سّيد الُم رسلين‪ :‬انزلوا مع رسولكم ﷺ المنازل التي نزلها من‬
‫غنى وفقر‪ ،‬وسّر اء وضّر اء‪ ،‬وشّدة ورخاء‪ ،‬ومرض وصحة‪ ،‬ونصـر وهزيمة‪ ،‬برضا ويقين وتسليم‬
‫تاٍّم لرّب العالمين‪ ،‬فوالذي نفسي بيده لو فعلتم ذلك لوجدتم االنشراح واألفراح‪ ،‬ولزال عنكم كل أسى‬
‫ولوعة‪ ،‬وكل هم وغٍّم ‪ ،‬ولدخلتم جنة الّدنيا قبل جنة اآلخرة‪ ،‬ولذقتم األنس باهلل والّتلّذذ بقضائه وقدره‬
‫والفرح بما كتبه؛ ألّنه حكيم ال يختار إاّل األصلح جّل في ُعاله‪ ،‬وحينها تنالون سعادة الّدنيا واآلخرة‪:‬‬
‫مشس الّرضا من نور وجهك تلمُع‬
‫والبدُر من أنوار هديك يسطُع‬
‫ترضى ولو أّن الّزماَن مصائٌب‬
‫وتظل تشكر واحلوادث ُتوجُع‬
‫وُتقابل اخلط العظيم هبمٍة‬
‫َب‬
‫متوكاًل ال تستكني وجتزُع‬
‫صّلى عليك ُهللا أّي عقيدة‬
‫يف كل قلب ابلّس ماحة تزرُع!؟‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َص اِبًرا‬
‫وصف ُهللا عّز وجل الّص بر بأّنه جميل فقال ُسبحانه‪َ{ :‬فَص ْبٌر َج ِم يٌل } [يوسف‪ :‬اآلية ‪،]18‬‬
‫وهذا أجمل تعريف‪ ،‬وأجّل توصيف‪ ،‬فالّص بر ُم ّر لكّنه جميل‪ ،‬وعذاب لكّنه جميل‪ ،‬وقاس ومؤلم لكّنه‬
‫جميل‪ ،‬جميل لثماره اليانعة‪ ،‬وجميل إلنجازاته البارعة‪ ،‬فبالّص بر ُيدرك المجد‪ ،‬وُينال الحمد‪ ،‬وكل‬
‫خلق فاضل سببه ومعينه الّص بر‪ ،‬فال رحمة‪ ،‬وال عدل‪ ،‬وال حلم‪ ،‬وال كرم‪ ،‬وال شجاعة‪ ،‬وال زهد إاّل‬
‫بالّص بر‪ ،‬وقس عليها كّل ُخ لق نبيل‪:‬‬
‫اي صُرب إّنك يف اخلطوب مجيُل‬
‫فوق املعايل دائًم ا إكليُل‬
‫هللا أعطاَك اجلماَل تكّرًما‬
‫وأتى به للمصطفى جربيُل‬
‫صبر آدم عليه السالم على ُم فارقة الوطن األّو ل في الجّنة‪ ،‬وصبر نوح عليه السالم على فقد‬
‫الولد‪ ،‬وصبر إبراهيم عليه السالم على مقام ذبح االبن‪ ،‬وصبر يعقوب عليه السالم على فراق‬
‫يوسف‪ ،‬وصبر موسى عليه السالم على أذى الّطاغية‪ ،‬وصبر سليمان عليه السالم على فتنة الّدنيا‪،‬‬
‫وصبر عيسى عليه السالم على ألم الفقر‪ ،‬أّم ا ُم حّم د ﷺ فقد صبر عليها كّلها‪ ،‬وعاشها كّلها‪ ،‬وذاقها‬
‫كّلها‪.‬‬
‫وبعض الناس ُيمدح لصبره على الضراء‪ ،‬أو صبره على الّشدائد‪ ،‬أو صبره في مواقف‬
‫الّلقاء مع األعداء‪ ،‬أو صبره على فقد األحبة‪ ،‬أو صبره على شدة المرض‪ ،‬أو صبره على قّلة ذات‬
‫اليد‪ ،‬أو صبره على تأّخ ر مراده‪ ،‬وتطاول الّز مان دون أن ينال ما يطمح إليه‪ ،‬أو صبره على كثرة‬
‫الخصوم وتأّلب األعداء وكيد المناوئين‪ ،‬أو صبره على قّلة الّناصر وخذالن القريب‪ ،‬أو صبره على‬
‫فراق الوطن وإبعاده من أهله وذويه وتشريده عن ُم حبيه‪ ،‬أو صبره على القيام بالواجبات وأداء‬
‫المروءات والّص دق في المقامات‪ ،‬أو صبره على الكّف عن الهوى وشهوة الّنفس والّتهالك على‬
‫الحطام الفاني‪ ،‬وهذه ُم فّر قة في الّناس‪ ،‬ولم تجتمع إاّل في شخص واحد‪ ،‬وإنسان عظيم هو الّنبي‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬فإّن كل هذه المآسي والمواجع والمصائب والّشدائد والكربات والويالت قد ُج معت له ﷺ‪،‬‬
‫فكان الّص ابر في كل موقف‪ ،‬وكان الّص بر درعه في الخطوب‪ ،‬وحصنه في األزمات‪ ،‬ومطّيته في‬
‫األسفار‪ ،‬ولباسه في الّنوائب‪.‬‬
‫لقد صبر ﷺ على الكالم المؤذي‪ ،‬والكيد الخفي‪ ،‬والفقر الُم ضني‪ ،‬والمرض الُم وجع‪ ،‬والفراق‬
‫الُم بكي‪.‬‬
‫َفَقد َم ن ناصره وواساه فصبر‪ ،‬وَتشّفى عدّو ه وخصمه فيه َفَص بر‪ ،‬وقّلت ذات يده َفَص بر‪،‬‬
‫وَسمَع من الّشتم الُم ّر ما ُيمرض القلب َفَص بر‪ ،‬وُج رح في وجهه الّشريف َفَص بر‪ ،‬ونيل من عرضه‬
‫الّطاهر َفَص بر‪.‬‬
‫وجميع مقامات الّر يادة في حياته ﷺ نالها بالّص بر‪ ،‬وكل مواقف الّسيادة أدركها بالّص بر‪،‬‬
‫فصالته الخاشعة أّداها بالّص بر‪ ،‬وتالوته الُم تدّبرة الُم باركة أحسنها بالّص بر‪ ،‬وتعليمه للناس ودعوتهم‬
‫إّنما كانت بالّص بر‪ ،‬وانتصاره في الحروب وكسـره لألعداء كان بالّص بر‪ ،‬وتحّم له مصاعب الّسفر‬
‫وآالم الّتنقل ومتاعب الّر حلة بالّص بر‪.‬‬
‫بالّص بر صّلى فكان أفضل الُم صلين‪ ،‬وبالّص بر صام فكان أتقى الّص ائمين‪ ،‬وبالّص بر جاهد‬
‫فكان قائد الُم جاهدين‪ ،‬وبالّص بر تعّبد فكان قدوة العابدين‪.‬‬
‫هو األّو ل ﷺ قبل أصحابه في كل موقف يحتاج إلى صبر‪ ،‬إن جاعوا فهو أّو ل الجائعين‪،‬‬
‫وعند الّتضحية فهو إمام الُم ضحين‪ ،‬وعند البذل فهو إمام الباذلين‪.‬‬
‫أجهده الفقر حتى لم يجد درهًم ا يتمّو ل به فصبر‪ ،‬وعّضه الجوع حتى لم يجد كسرة خبز‬
‫يتقّو ت بها فصبر‪ ،‬وأوجعه المرض حتى كان ُيوعك ﷺ كما يوعك رجالن فصبر‪ ،‬وتكالب عليه‬
‫األعداء هو وأصحابه حتى بلغت القلوب الحناجر فصبر‪ ،‬وصبر ﷺ على فراق الوطن‪ ،‬ومراتع‬
‫الفتّو ة‪ ،‬ومالعب الّص با‪ ،‬وربوع الّشباب‪ ،‬فترك األهل والعشيرة والّدار والمال‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على فقد الولد‪ ،‬فاضت أرواح أبنائه بين يديه‪ ،‬وذابت أنفسهم أمام ناظريه‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على ألم األذى فُأوذي في المنهج والوطن‪ ،‬والُّسمعة والُخ لق‪ ،‬والّر سالة والّز وجة‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على بطر األغنياء‪ ،‬وزهو الُكبراء‪ ،‬وجالفة األعراب‪ ،‬وصلف الجهالء‪ ،‬وسوء‬
‫أدب الجفاة‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على خيانات اليهود‪ ،‬ومراوغة الُم نافقين‪ ،‬وُم جابهة الُم شـركين‪ ،‬وبطء استجابة‬
‫المدعوين‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على َفَر ح الفتح‪ ،‬وافتخار االنتصار‪ ،‬وإقبال الّدنيا‪ ،‬وإذعان الملوك‪ ،‬واستسالم‬
‫الجبابرة‪ ،‬ودخول الّناس في دين هللا أفواًج ا‪.‬‬
‫وصبر ﷺ وهو يرى الكنوز ُتفّر غ في أوعية الّناس فلم يأخذ منها لنفسه درهًم ا واحًدا‪ ،‬وصبر‬
‫ﷺ وهو ُيشاهد القناطير الُم قنطرة من الّذهب والفضة يتقاسمها الّناس ولم يحمل منها قطميًر ا‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على سكنى بيت الطين‪ ،‬وأكل الّشعير‪ ،‬ولباس الّص وف‪ ،‬وافتراش الحصير‪.‬‬
‫لقد جعل ﷺ الّص بَر أعظَم كنز يحمله اإلنسان‪ ،‬وأعظم طاقة تمّده في طريق مواجهة‬
‫مصاعب الحياة‪ ،‬وشدائد الّز مان‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري (رضي هللا عنه) أّنه ﷺ قال‪َ« :‬م ن َيْس َتْعِفْف‬
‫ُيِع َّفُه هللا‪َ ،‬و َم ن َيْس َتْغِن ُيْغِنِه هللا‪َ ،‬و َم ن َيْص ِبْر ُيَص ِّبرُه هللا‪َ ،‬و ما ُأْع ِط َي َأَح ٌد ِم ن َعَطاٍء َخ ْيٌر َو َأْو َسُع ِم َن‬
‫الَّصْبِر » [ُم ّتفق عليه]‪.‬‬
‫وقال أسيد بن حضير (رضي هللا عنه)‪«:‬إَّن َر جاًل ِم َن األْنَص اِر قاَل ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬أال‬
‫َتْس َتْعِم ُلِني كما اْس َتْعَم ْلَت ُفالًنا؟ قاَل ‪َ :‬سَتْلَقْو َن َبْعِدي َأَثَر ًة‪ ،‬فاْص ِبُر وا حّتى َتْلَقْو ِني على الَحْو ِض »‬
‫[متفق عليه]‪ .‬و(اَألْثَر ة) أي‪ :‬استئثار الّناس عليهم بالّدنيا ويبخسونهم حقوقهم‪.‬‬
‫فأخبر ﷺ األنصار بالعوض والخلف إذا استأثر الّناس عليهم باألموال والمناصب‪ ،‬ودّلهم‬
‫على أعظم كنز‪ ،‬وأجّل عّز ُيغنيهم عن كل شيء‪ ،‬وهو الّص بر‪ ،‬فاجعله شعارك‪ ،‬واّتخذة دثارك‪ ،‬يقول‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫َت َعَّز فإّن الّصَرب ابحلِّر أمجُل‬
‫وليَس على ريب الَّزمان ُمَعَّو ُل‬
‫ُّل‬
‫فلو كاَن ُيْغين أن ُيرى املرُء جاِزًعا‬
‫ٍة‬
‫ُّل‬
‫حلادث أو كان ُيغين الَّتَذ ُل‬
‫لكان الَّتعزي عند كل صيبٍة‬
‫ُم‬
‫واَن ئبة ابحلِّر َأْو ىل وأمجُل‬
‫وَق ْينا ُحبسن الّصرب مّنا ُنفوَس َنا‬
‫َفَصّح ْت لنا األعراُض والّناُس ُه َّزُل‬
‫األب مات ولم يره‪ ،‬واألم ُتوّفيت في طفولته‪ ،‬والجّد فارق الّدنيا ولم ُيكمل رعايته‪ ،‬والعّم‬
‫ذهب وقت الّنضال‪ ،‬وخديجة وّدعت يوم الحزن‪ ،‬واالبن سالت روحه يوم تمام الُحّب ‪ ،‬وعائشة ُترمى‬
‫باإلفك ساعة َكمال األنس‪ ،‬وحمزة ُيقتل زمن المصاولة‪َ ،‬أنَس بالمدينة فنّغص عليه المنافقون ُأنسه‪،‬‬
‫استبشـر بالّنصـر في بدر فأسرعته ُغّص ة األلم في ُأحد‪ ،‬أزهر وجهه كالقمر ليلة البدر فشج بالّسهام‪،‬‬
‫وتألألت أسنانه كالبرد فُكسرت ثنيته في المعركة‪.‬‬
‫كّذبوه‪ ،‬شتموه‪ ،‬سّبوه‪ ،‬آذوه‪ ،‬فنزل‪َ{ :‬فاْص ِبْر َعَلى َم ا َيُقوُلوَن } [طه‪ :‬اآلية ‪.]130‬‬
‫حاربوه‪ ،‬نازلوه‪ ،‬أخرجوه‪ ،‬طاردوه‪ ،‬قاتلوه‪ ،‬فنزل‪َ{ :‬و اْص ِبْر َو َم ا َص ْبُر َك ِإَّال ِباِهَّلل} [النحل‪:‬‬
‫اآلية ‪.]127‬‬
‫هجروه‪ ،‬وأعرضوا عنه‪ ،‬وصّدوا عن سبيله‪ ،‬ووقفوا في طريقه‪ ،‬فنزل‪َ{ :‬فاْص ِبْر َص ْبًر ا‬
‫َج ِم يًال } [المعارج‪ :‬اآلية ‪.]5‬‬
‫طال عليه المدى‪ ،‬ترَقب الّنصر‪ ،‬كثر العدّو ‪ ،‬تزاحمت الّنكبات‪ ،‬فنزل‪َ{ :‬فاْص ِبْر ِإَّن َو ْع َد ِهَّللا‬
‫َح ٌّق } [الروم‪ :‬اآلية ‪.]60‬‬
‫رّد عليه قومه أقذع رٍّد‪ ،‬وأفظع جواب‪ ،‬وأبشع خطاب‪ ،‬وأقبح مواجهة‪ ،‬فنزل‪َ{ :‬فاْص ِبْر َكَم ا‬
‫َص َبَر ُأوُلو اْلَعْز ِم ِم َن الُّر ُسِل } [األحقاف‪ :‬اآلية ‪.]35‬‬
‫فكان صبره ﷺ صبًر ا جمياًل ‪ ،‬صبر الواثق بنصـر هللا‪ ،‬الُم طمئن إلى وعد هللا‪ ،‬الّر اكن إلى‬
‫مواله‪ ،‬الُم حتسب الّثواب من رّبه جّل في ُعاله‪.‬‬
‫َص َبَر ﷺ صبَر من َعلم أّن هللا ناصُر ه ال محالة‪ ،‬وأّن العاقبة له‪ ،‬وأّن هللا معه حسبه وكافيه‪.‬‬
‫يصبر على الكلمة الّنابية فال تهّز ه‪ ،‬وعلى الّلفظة الجارحة فال تزعجه‪ ،‬وعلى اإليذاء الُم تعّم د‬
‫فال ينال منه‪ ،‬ليبقى أجره في اآلخرة موفوًر ا‪ ،‬وسعيه عند ربه مشكوًر ا‪ ،‬وليلقى ولّيه ومعبوده‬
‫مسروًر ا‪ ،‬ويجتمع له الّثواب كّله‪ ،‬أوله وآخره‪ ،‬في مقعد صدق عند مليك مقتدر‪.‬‬
‫واستحق ذلك ﷺ فله الّز لفى‪ ،‬وتمام الّر فعة‪ ،‬والوسيلة والفضيلة‪ ،‬والمنازل الجليلة ألّنه صبر‪.‬‬
‫وله المقام المحمود‪ ،‬والحوض المورود‪ ،‬والّلواء المعقود‪ ،‬ألّنه صبر‪ .‬وله الّشفاعة‪ ،‬والقرب‪،‬‬
‫والحظوة‪ ،‬ألّنه صبر‪.‬‬
‫وماذا أقول‪ ،‬وماذا أترك إذا تحّدثت عن مواقف صبره ﷺ التي تجّف األقالم إذا كتبُت عنها‪،‬‬
‫وتنتهي األوراق إذا دّو نتها!؟‬
‫لقد صبر ﷺ على أذّية الُم شركين لّم ا تجاوزوا كل األعراف القبلّية‪ ،‬ومعاني المروءة‬
‫والّشهامة في أذّيته صلوات رّبي وسالمه عليه‪ ،‬يقول ابن مسعود‪( :‬رضي هللا عنه) «بْيَنما َر سوُل‬
‫هللا ﷺ ُيَصِّلي ِع ْنَد الَبْيِت‪َ ،‬و َأُبو َجْه ٍل َو َأْصحاٌب له ُج ُلوٌس ‪َ ،‬و َقْد ُنِح َر ْت َج ُز وٌر باألْم ِس ‪َ ،‬فقاَل َأُبو‬
‫َجْه ٍل ‪َ :‬أُّيُكْم َيُقوُم إلى َسال َج ُز وِر َبِني ُفالٍن ‪َ ،‬فَيْأُخ ُذُه َفَيَض ُعُه في َكِتَفْي ُم َح َّم ٍد إذا َسَج َد؟ فاْنَبَعَث َأْشقى‬
‫الَقْو ِم فأَخ َذُه‪َ ،‬فَلّم ا َسَج َد النبُّي ﷺ َو َض َعُه بْيَن َكِتَفْيِه ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فاْس َتْض َح ُكوا‪َ ،‬و َجَعَل َبْعُض ُه ْم َيِم يُل على‬
‫َبْعٍض َو َأنا قاِئٌم َأْنُظُر ‪ ،‬لو كاَنْت لي َم َنَعٌة َطَر ْح ُتُه عن َظْه ِر َر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬والنبُّي ﷺ ساِج ٌد ما َيْر َفُع‬
‫َر ْأَسُه حّتى اْنَطَلَق إْنساٌن فأْخ َبَر فاِط َم َة‪َ ،‬فجاَء ْت ‪َ -‬و هي ُج َو ْيِر َيٌة ‪َ -‬فَطَر َح ْتُه عْنه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومشهد آخر في غاية الّشناعة‪ ،‬وُم نتهى الفظاعة‪ ،‬عندما أقبل ُعقبة بن أبي ُم عيط ورسول هللا‬
‫ﷺ ُيصّلي في ِح ْج ر الكعبة‪ ،‬فأخذ بمنكب رسول هللا ﷺ ولوى ثوبه في عنقه‪ ،‬فخنقه خنًقا شديًدا‪ ،‬فأقبل‬
‫أبو بكر (رضي هللا عنه)‪ ،‬فأخذ بمنكبه‪ ،‬ودفعه عن رسول هللا ﷺ وقال‪َ« :‬أَتْقُتُلوَن َر ُج اًل َأْن َيُقوَل‬
‫َر ِّبَي ُهللا؟» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبلغت أذّيتهم للّنبي ﷺ حتى شّج وا وجهه الّشريف‪ ،‬وأسالوا دمه الطاهر‪ ،‬يقول سهل بن سعد‬
‫الّساعدي(رضي هللا عنه)‪َ« :‬لّم ا ُكِس َر ْت َبْيَض ُة الّنبِّي ﷺ على َر ْأِسِه ‪ ،‬وُأْد ِم َي وْج ُه ُه وُكِس َر ْت‬
‫رباِعَيُتُه‪ ،‬وكاَن َعِلٌّي َيْخ َتِلُف بالماِء في الِم َج ِّن ‪ ،‬وكاَنْت فاِط َم ُة َتْغِس ُلُه‪َ ،‬فَلّم ا َر َأِت الَّد َم َيِز يُد على الماِء‬
‫َكْثَر ًة‪َ ،‬عَم َدْت إلى َح ِص يٍر فأْح َر َقْتها وَأْلَص َقْتها على ُج ْر ِح ِه ‪َ ،‬فَر َقَأ الَّد ُم » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ففي تلك المعركة ُشّج وجهه الّشريف‪ ،‬وُج رح في جبينه‪ ،‬وُكسرت رباِع َيُتُه‪ ،‬مع اإلعياء الذي‬
‫أصابه‪ ،‬والّتعب والجوع واإلرهاق الّشديد من مصاولة األعداء‪ ،‬ومع هذا كّله صبر واحتسب عليه‬
‫الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫وبلغ األذى ذروته والمكائد قمتها إلى درجة أّن الّص حابة رضوان هللا عليهم قالوا له ﷺ‪ :‬أال‬
‫تستنصر لنا؟! أال تدعو لنا؟! فما كان جوابه ﷺ إاّل أن قال لهم‪« :‬قْد كاَن َم ن َقْبَلُكْم ‪ُ ،‬يْؤ َخ ُذ الَّر ُجُل‬
‫فُيْح َفُر له في األْر ِض ‪ ،‬فُيْج َعُل فيها‪ ،‬فُيجاُء بالِم ْنشاِر فُيوَض ُع عَلى َر ْأِسِه فُيْج َعُل ِنْص َفْيِن ‪ ،‬وُيْم َشُط‬
‫بَأْم شاِط الَح ِديِد‪ ،‬ما ُدوَن َلْح ِم ِه وَعْظ ِم ِه ‪َ ،‬فما َيُص ُّد ُه ذلَك عن ِديِنِه ‪ ،‬وهللا َلَيِتَّم َّن هذا األْم ُر ‪ ،‬حَّتى َيِسيَر‬
‫الَّر اِك ُب ِم ن َص ْنعاَء إلى َح ْض َر َمْو َت ‪ ،‬ال َيخاُف إاَّل هللا‪ ،‬والِّذ ْئَب عَلى َغَنِم ِه ‪ ،‬وَلِك َّنُكْم َتْس َتْعِج ُلوَن » [رواه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫هللا أكبر! أّي هّم ة‪ ،‬وأّي صبر جاء به هذا الّنبي الكريم!؟ لقد بلغت ثقته بوعد رّبه أن ُيقسم‬
‫قسًم ا على هللا أّنه سوف ُيتم أمره‪ ،‬وينصـره نصـًر ا مؤّز ًر ا‪ ،‬وهو ما حصل بالفعل‪ ،‬وما أجمل قوله‬
‫ﷺ‪« :‬وَلِك َّنُكْم َتْس َتْعِج ُلوَن »! «أي‪ :‬تريدون المقاصد بال أسباب‪ ،‬والمجد بال ثمن‪ ،‬والمعالي بال‬
‫تضحيات‪ ،‬ونسيتم أّن الصبر مفتاح كل هذه األبواب»‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على مقاطعة المشركين له ومحاصرته وقرابته في ِشْعب أبي طالب ثالث سنوات‬
‫ِع جاف‪ ،‬ونّص ت بنود المقاطعة والحصار على عدم ُم بايعتهم أو ُم ناكحتهم أو ُم كالمتهم أو ُم جالستهم‬
‫حتى يتخَّلوا عن الّنبي ﷺ وينَفّضوا من حوله‪ ،‬وكتب ُكّفار قريش صحيفة‪ ،‬وعّلقوها في جوف‬
‫الكعبة‪ ،‬فبقي ﷺ مع أصحابه يأكلون أوراق الّشجر من الجوع‪ ،‬ومع ذلك لم يستسلم ﷺ‪ ،‬ولم يهادن‪،‬‬
‫ولم يتنازل عن رسالته وال مبدئه ولو بكلمة واحدة‪ ،‬وبقي صابًر ا محتسًبا كالّطود الّشامخ ُيعلن‬
‫رسالته بكل قوة‪ ،‬وُيرّدد قبل الحصار‪ ،‬وفي الحصار‪ ،‬وبعد الحصار‪« :‬يا أُّيها الناُس ‪ُ ،‬قولوا‪ :‬ال إلَه‬
‫إاّل ُهللا‪ُ ،‬تفِلحوا»‪.‬‬
‫ُيرّددها بعزيمة وإصرار‪ ،‬وإباء وشموخ‪ ،‬فلم ُتكسر له قناة‪ ،‬ولم ُيفّل له عزم‪ ،‬ولم تضعف له‬
‫هّم ة‪ ،‬لقد ُح وصر ﷺ في مواطن كثيرة‪ ،‬فما زاده ذلك إاّل عزًم ا ومضاًء ‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫ما َأبَعَد الَعيَب َوالُنقصاَن َعن َش َريف‬
‫ِن‬
‫َأان الُثَراّي َو ذا الَش يُب َواهَل َرُم‬
‫َك م َتطُلبوَن َلنا َعيًبا َف ُيعِج ُزُك م‬
‫َوَيكَرُه ُهللا ما أَت توَن َوالكَرُم‬
‫ُح وصر ﷺ في بيته يوم طّو قه الُم شركون ونام علٌّي (رضي هللا عنه) في فراشه‪ ،‬وُح وصر‬
‫ﷺ مع أبي بكر الّص ديق (رضي هللا عنه) في الغار بخمسين شاًبا وخمسين سيًفا‪ ،‬وُح وصر ﷺ في‬
‫ِشْعب أبي طالب‪ ،‬وُح وصر ﷺ في المدينة من األحزاب‪ ،‬ومع كل هذه الحصارات كان ﷺ أعظم‬
‫صبًر ا‪ ،‬وأكثر توكاًل على هللا‪ ،‬وأجّل ثقًة برّبه‪ ،‬وأجمل حسن ظن بمواله‪.‬‬
‫وهناك حصار أفظع وأشنع‪ ،‬وهو حصار الّدعوة حّتى ال تصل إلى الّناس‪ ،‬فقد قام المشركون‬
‫بُكل ُج هد لمنع دعوته‪ ،‬وبكل وسيلة لحبس رسالته‪ ،‬وقد وصف القرآن أساليبهم في ُم حاربته‪ ،‬فقال‬
‫ُسبحانه‪َ{ :‬و ِإْذ َيْم ُكُر ِبَك اَّلِذيَن َكَفُر وا ِلُيْثِبُتوَك َأْو َيْقُتُلوَك َأْو ُيْخ ِر ُج وَك َو َيْم ُكُر وَن َو َيْم ُكُر ُهَّللا َو ُهَّللا َخْيُر‬
‫اْلَم اِك ِر يَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]30‬‬
‫فكان كفار قريش ‪ -‬ومنهم عّم ه أبو لهب ‪ -‬يقومون في األسواق ُيحّذرون الّناس منه ﷺ‬
‫ويخبرون العرب بأّنه مجنون‪ ،‬وتارة ساحر‪ ،‬وتارة كاهن‪ ،‬وتارة شاعر‪ ،‬أعاذه هللا من ذلك كله!‬
‫وحصار الفكر والعلم والّدعوة من أقسى ما يمّر على الّنفوس‪ ،‬وأشّد ما يعصف باألرواح‪،‬‬
‫ومع ذلك صبر ﷺ وواصل ولم تلن له عريكة‪ ،‬ولم يفتر له عزم‪ ،‬بل كان يصل إلى الّضعفاء‬
‫والمساكين والموالي ُيعّلمهم ويدعوهم‪ ،‬وُيواصل نشـر رسالته حّتى كانت العاقبة الحميدة له ﷺ‪.‬‬
‫حاول أعداؤه أن ُيحاصروه بين الجدران‪ ،‬فدخل ُح ّبه كّل جنان‪ ،‬حاولوا أن يخنقوا صوته‪،‬‬
‫فبلغ اآلفاق صيته‪.‬‬
‫ولم يترك المشركون والمنافقون واليهود وأعداء الّر سالة أّي لفظ ُيسـيء للّنبي ﷺ إاّل قالوه‪،‬‬
‫وال شتيمة إاّل تفّو هوا بها‪ ،‬ولهذا ُيعّز يه رّبه وُيسليه بقوله تعالى‪َ{ :‬و َلَقِد اْس ُتْه ِز ىَء ِبُر ُسٍل ِم ْن َقْبِلَك‬
‫َفَح اَق ِباَّلِذيَن َسِخ ُر وا ِم ْنُهْم َم ا َكاُنوا ِبِه َيْس َتْه ِز ُئوَن } [األنعام‪ :‬اآلية ‪ ،]10‬ويقول سبحانه‪َ{ :‬و ِإَذا َر آَك‬
‫اَّلِذيَن َكَفُر وا ِإْن َيَّتِخ ُذوَنَك ِإَّال ُهُز ًو ا َأَهَذا اَّلِذي َيْذُكُر آِلَه َتُكْم َو ُهْم ِبِذ ْك ِر الَّر ْح َم اِن ُهْم َكاِفُر وَن } [األنبياء‪:‬‬
‫اآلية ‪]36‬؛ ألّنهم لّم ا عجزوا عن ُم قارعة الُحّج ة بالُحّج ة‪ ،‬والبرهان بالبرهان‪ ،‬رجعوا إلى أسلوب‬
‫خسيس بذيء دنيء وهو الّتعّر ض لمقامه الّشريف‪ ،‬وعرضه الطاهر‪ ،‬ومجده المنيف ﷺ‪ ،‬فأخذوا‬
‫يخترعون له ألقاًبا‪ ،‬وشتائم ليْه زؤوا من شخصه الكريم‪ ،‬فما زاده ذلك إاّل صبًر ا‪ ،‬ومواصلًة‪،‬‬
‫واستمراًر ا‪.‬‬
‫اّتهموه ﷺ بالجنون‪ ،‬وصانه هللا من ذلك‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َقاُلوا َياَأُّيَه ا اَّلِذي ُنِّز َل َعَلْيِه الِّذ ْك ُر ِإَّنَك‬
‫َلَم ْج ُنوٌن } [الحجر‪ :‬اآلية ‪ ،]6‬فدافع هللا عنه‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬و َم ا * َص اِح ُبُكْم * ِبَم ْج ُنوٍن *} [التكوير‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]22‬وقال سبحانه‪{ :‬ن َو اْلَقَلِم َو َم ا َيْس ُطُر وَن * َم ا َأْنَت ِبِنْعَم ِة َر ِّبَك ِبَم ْج ُنوٍن } [القلم‪ :‬اآلية ‪-1‬‬
‫‪.]2‬‬
‫أمجنون من يأتي باآليات الُم حكمات‪ ،‬والُم عجزات الباهرات‪ ،‬والدالئل الساطعات؟!‬
‫أمجنون من أتى بالمّلة الُم طّه رة‪ ،‬والبراهين الّدامغة‪ ،‬والّسنن العظيمة‪ ،‬واألخالق الكريمة؟!‬
‫أمجنون من لم تحفظ له عثرة‪ ،‬ولم ُتنقل عنه زّلة‪ ،‬ولم ُتؤثر عنه كذبة؟!‬
‫بل المجنون من كّذبه‪ ،‬وعصاه‪ ،‬ورّد الحق الذي ُبعث به ﷺ‪.‬‬
‫واّتهموهﷺ بأّنه كاهن يتنّبأ باألخبار الُم ستقبلية‪ ،‬يقول تعالى‪{ :‬وَال ِبَقْو ِل َكاِه ٍن َقِليًال َم ا‬
‫َتَذَّكُر وَن } [الحاقة‪ :‬اآلية ‪ .]42‬فهو أبعد ما يكون ﷺ عن الكهانة؛ ألّن الكهانة عمل المشعوذين‬
‫األّفاكين اآلثمين‪ ،‬وشغل الاّل هين الّدجاجلة الكّذابين‪ ،‬أّم ا هو فصاحب نور رّباني‪ ،‬ووحي سماوي‪،‬‬
‫وميراث نبوّي شريف‪.‬‬
‫واّتهموه ﷺ بأّنه شاعر‪ ،‬قال تعالى حكاية عنهم‪َ{ :‬أِإَّنا َلَتاِر ُكو آِلَه ِتَنا ِلَشاِع ٍر َم ْج ُنوٍن }‬
‫[الصافات‪ :‬اآلية ‪ ،]36‬وقال تعالى‪َ{ :‬أْم َيُقوُلوَن َشاِعٌر َنَتَر َّبُص ِبِه َر ْيَب اْلَم ُنوِن } [الطور‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]30‬وقال تعالى‪َ{ :‬بْل َقاُلوا َأْضَغاُث َأْح َالٍم َبْل اْفَتَر اُه َبْل ُهَو َشاِعٌر } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪.]5‬‬
‫ولم يكن بشاعر ‪-‬بأبي هو وأمي‪ -‬ألّن الشاعر يضرب في أودية الخيال‪ ،‬ويهيم في أوهام‬
‫الّتصور‪ ،‬ويخبط خبط عشواء في سراديب الّضالل إاّل من عصمه هللا‪ ،‬يقول رّب العزة والجالل في‬
‫وصفهم‪َ{ :‬و الُّشَعَر اُء * َيَّتِبُعُه ُم * اْلَغاُو وَن * َأَلْم َتَر َأَّنُهْم ِفي ُكِّل َو اٍد َيِه يُم وَن * َو َأَّنُهْم َيُقوُلوَن َم ا َال‬
‫َيْفَعُلوَن } [الشعراء‪ :‬اآلية ‪ ،]226 - 224‬بل جاء بالحّق وصّدق الُم رسلين‪ ،‬وجاء بالبيان وأّيد‬
‫الّنبيين‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َعَّلْم َناُه الِّش ْعَر َو َم ا َيْنَبِغ ي َلُه ِإْن ُهَو ِإَّال ِذ ْك ٌر َو ُقْر آٌن ُم ِبيٌن } [يس‪ :‬اآلية ‪.]69‬‬
‫واّتهموه ﷺ بأّنه ساحر صانه ُهللا عن ذلك قال تعالى‪َ{ :‬أَكاَن ِللَّناِس َعَج ًبا َأْن َأْو َح ْيَنا ِإَلى َر ُج ٍل‬
‫ِم ْنُهْم َأْن َأْنِذ ِر الَّناَس َو َبِّش ِر اَّلِذيَن آَم ُنوا َأَّن َلُهْم َقَدَم ِص ْدٍق ِع ْنَد َر ِّبِه ْم َقاَل اْلَكاِفُر وَن ِإَّن َهَذا َلَساِح ٌر‬
‫ُم ِبيٌن } [يونس‪ :‬اآلية ‪ ،]2‬وهو أبعد ما يكون ﷺ عن الّسحر‪ ،‬بل جاء ﷺ بما ُيبطل الّسحر‪ ،‬ويدمغه‬
‫ويسحقه؛ ألّن الّساحر ُيغّير الحقائق‪ ،‬ويلعب على العقول ويهيم باألفئدة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬كَذِلَك َم ا َأَتى‬
‫اَّلِذيَن ِم ْن َقْبِلِه ْم ِم ْن َر ُسوٍل ِإَّال َقاُلوا َساِح ٌر َأْو َم ْج ُنوٌن } [الذاريات‪ :‬اآلية ‪.]52‬‬
‫واّتهموه ﷺ بأّنه أبتر ال ُينجب‪ ،‬كما روى عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‪ ،‬قال‪ :‬لّم ا قِدم‬
‫كعُب بُن األشرِف مَّكَة أَتْو ه فقالوا‪ :‬نحُن أهُل الِّسقايِة والَّسدانِة وأنَت سِّيُد أهِل يثِر َب فنحُن خيٌر أم‬
‫هذا الُّص َنْيِبيُر الُم نَبِتُر ِم ن قوِم ه يزُعُم أَّنه خيٌر مّنا؟ فقال‪« :‬أنتم خيٌر منه» فنَز ل على رسوِل هللا ﷺ‪:‬‬
‫{ِإَّن َشاِنَئَك ُهَو اَألْبَتُر } [الكوثر‪ :‬اآلية ‪[ ]3‬رواه ابن حّبان]‪.‬‬
‫فلفظة‪( :‬الُّص َنْيِبيُر الُم نَبِتُر ) يقصدون بها رسول هللا ﷺ‪ ،‬وهي لفظة بشعة مهينة مشينة‬
‫استخدمها هذا الُم شرك األّفاك األثيم للّنيل من شخصه الكريم ﷺ‪ ،‬حتى في تكوينه الّشخصـي لم يسلم‬
‫منهم ﷺ‪ ،‬فرّد هللا عليهم ودمغهم فقال سبحانه‪ِ{ :‬إَّن َشاِنَئَك ُهَو اَألْبَتُر } [الكوثر‪ :‬اآلية ‪ .]3‬أّي أّن‬
‫عدّو ك هو األبتر مقطوع البركة‪ ،‬مقطوع الّنفع‪ ،‬مقطوع األثر الّطيب في األرض‪ ،‬مقطوع الّسمعة‬
‫الجميلة‪ ،‬والّثناء الحسن‪ ،‬أّم ا أنت فأنت الُم بارك‪ ،‬باقي األثر إلى يوم الّدين‪ ،‬وسوف يبقى ذكرك يدوي‬
‫في العالمين‪ ،‬وسيرتك ُتدّر س في الخالدين‪.‬‬
‫واّتهموه ﷺ في عرضه الّشـريف‪ ،‬في زوجته الّطاهرة المبّر أة من فوق سبع سماوات‪،‬‬
‫الصّديقة بنت الصّديق‪ ،‬عائشة أم المؤمنين (رضي هللا عنها) ؛ ألّنها كانت أحّب الّنساء إليه‪ ،‬فبّر أها‬
‫ُهللا‪ ،‬وأنزل فيها قرآًنا ُيتلى إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫واّتهموه ﷺ أّنه يذهب إلى غالم نصراني كان يقرأ التوراة واإلنجيل من الموالي الُفقراء‬
‫المساكين في مكة‪ ،‬وكان حّداًدا يصنع الّسيوف‪ ،‬ذهب يدعوه ﷺ فقال كفار قريش‪« :‬محمد ذهب يتعّلم‬
‫القرآن منه»‪ ،‬وهو أعجمي والّنبي ﷺ عربي‪ ،‬والقرآن عربي‪ ،‬فرد القرآن على هذه الّشبه بأبلغ رد‬
‫فقال تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َنْعَلُم َأَّنُهْم َيُقوُلوَن ِإَّنَم ا ُيَعِّلُم ُه َبَشٌر ِلَساُن اَّلِذي ُيْلِح ُدوَن ِإَلْيِه َأْع َج ِم ٌّي َو َهَذا ِلَساٌن‬
‫َعَر ِبٌّي ُم ِبيٌن } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]103‬‬
‫واّتهموهﷺ أّنه يكذب ‪-‬أعاذه هللا من ذلك‪ -‬وكيف يكذب وهو أصدق البشر؟ كيف يكذب وقد‬
‫أّيده هللا باآليات البّينات‪ ،‬والُم عجزات الخالدات؟ بل هو أصدق من أظّلت الخضراء‪ ،‬وأقّلت الغبراء‪،‬‬
‫اتهموه بالكذب وهم يعلمون أّنه أصدق الّناس‪ ،‬فعن أبي سفيان أّنه لّم ا سأله هرقل يوم قابله‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فَقْد أْع ِر ُف أَّنه َلم َيُكْن ِلَيَذَر الَكِذ َب‬
‫عَلى الَّناِس وَيْك ِذ َب عَلى هللا»‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫فالكذب على هللا أصعب وأشد من الكذب على الّناس‪ ،‬ولهذا عّز اه ُهللا وساَّل ه لّم ا كّذبه أعداؤه‬
‫فقال‪َ{ :‬و َلَقْد ُكِّذ َبْت ُر ُسٌل ِم ْن َقْبِلَك َفَص َبُر وا َعَلى َم ا ُكِّذُبوا َو ُأوُذوا َح َّتى َأَتاُهْم َنْص ُر َنا َو َال ُم َبِّدَل ِلَكِلَم اِت‬
‫ِهَّللا َو َلَقْد َج اَء َك ِم ْن َنَبِإ اْلُم ْر َسِليَن } [األنعام‪ :‬اآلية ‪.]34‬‬
‫واّتهموه ﷺ أّنه يكتب ُص حًفا في الّليل ويقرؤها في الّنهار‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َقاُلوا َأَساِط يُر‬
‫اَألَّو ِليَن اْك َتَتَبَه ا َفِه َي ُتْم َلى َعَلْيِه ُبْك َر ًة َو َأِص يًال} [الفرقان‪ :‬اآلية ‪ .]5‬كيف يكتتبها في الّليل وهو لم يقرأ‬
‫ولم يكتب‪ ،‬وهللا ُسبحانه يقول عنه‪َ{ :‬و َم ا ُكْنَت َتْتُلو ِم ْن َقْبِلِه ِم ْن ِك َتاٍب َو َال َتُخ ُّطُه ِبَيِم يِنَك ِإًذا َالْر َتاَب‬
‫اْلُم ْبِط ُلوَن * َبْل ُهَو آَياٌت َبِّيَناٌت ِفي ُص ُدوِر اَّلِذيَن ُأوُتوا اْلِع ْلَم َو َم ا َيْج َح ُد ِبآَياِتَنا ِإَّال الَّظاِلُم وَن }‬
‫[العنكبوت‪ :‬اآلية ‪ ،]49 - 48‬بل هو ﷺ نبّي أّم ي معصوم مؤّيد بوحي من هللا‪.‬‬
‫واّتهموه ﷺ بأّنه يفتري ويختلق أحاديث ال أصل لها‪ ،‬ولهذا رّد ُهللا عليهم‪ ،‬فقال سبحانه‪َ{ :‬أْم‬
‫َيُقوُلوَن اْفَتَر اُه ُقْل ِإِن اْفَتَر ْيُتُه َفَعَلَّي ِإْج َر اِم ي َو َأَنا َبِر يٌء ِم َّم ا ُتْج ِر ُم وَن } [هود‪ :‬اآلية ‪ ،]35‬ويقول‬
‫سبحانه‪َ{ :‬أْم َيُقوُلوَن اْفَتَر اُه َبْل ُهَو اْلَح ُّق ِم ْن َر ِّبَك ِلُتْنِذ َر َقْو ًم ا َم ا َأَتاُهْم ِم ْن َنِذيٍر ِم ْن َقْبِلَك َلَعَّلُهْم‬
‫َيْه َتُدوَن } [السجدة‪ :‬اآلية ‪.]3‬‬
‫لقد تعّر ضوا لشخصه الكريم ﷺ مّر ًة بحرب شعواء‪ ،‬ومّر ًة بإفك أثيم‪ ،‬وكيد خفي مدسوس من‬
‫الُم نافقين‪ ،‬ومّر ًة بُم كاشفة وقحة‪ ،‬وبهجوم قبيح‪ ،‬والقرآن ُيجيب على الُّشبه شبهًة ُشبهًة‪ ،‬ويرد على‬
‫الّسخريات ُسخريًة ُسخريًة‪ ،‬وُيفّند األقاويل اآلثمة قواًل قواًل ‪ ،‬وخرج ﷺ بعد كل هذه االتهامات‪ ،‬وكل‬
‫هذه االفتراءات‪ ،‬وجميع هذه الشتائم والّدسائس وهو أصدق الّناس‪ ،‬وأبّر البشر‪ ،‬وأطهر الخليقة‪ ،‬إلى‬
‫يوم الّدين‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على الجوع والفقر ومشاق الحياة‪ ،‬فذاق وأصحابه كّل أنواع المشاق من جوع‬
‫وفقر وحاجة‪ ،‬فكان أّو ل من يجوع إذا جاعوا‪ ،‬وأّو ل َم ن يتعب إذا تعبوا‪ ،‬وأّو ل َم ن ُيضّح ي إذا‬
‫ضّح وا‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬لَقْد ُأِخ ْفُت في هللا وما ُيخاُف أَح ٌد‪،‬‬
‫ولقْد أوذيُت في هللا وما ُيؤَذى أَح ٌد‪ ،‬ولقْد أَتْت عَلَّي ثالثوَن ‪ ،‬من بيِن يوٍم وليَلٍة ‪ ،‬وما لَي ولبالٍل‬
‫طعاٌم يأُكُلُه ذو كبٍد إاَّل شيٌء يواريه إبُط بالٍل » [رواه أحمد والترمذي]‪.‬‬
‫لقد كان رسولنا ﷺ يبحث عن قوت يومه‪ ،‬وأحياًنا ال يجد كسرة خبز يسّد بها رمق جوعه‪،‬‬
‫وال يجد حفنة من تمر ُيقيم بها صلبه‪ ،‬فعن الّنعمان بن بشير (رضي هللا عنه) قال‪ :‬سمعت عمر بن‬
‫الخطاب (رضي هللا عنه) يخطب فذكر ما فتح على الّناس فقال‪« :‬لَقْد َر َأْيُت َر سوَل هللا ﷺ َيَظُّل اليوَم‬
‫َيْلَتِو ي‪ ،‬ما َيِج ُد َد َقاًل َيْم ُأل به َبْط َنُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫واسمْع أبا هريرة (رضي هللا عنه) يروي لنا قصة من قصص صبره ﷺ على الجوع فيقول‪:‬‬
‫«َخ َر َج َر سوُل هللا ﷺ ذاَت َيوٍم ‪َ -‬أْو َلْيَلٍة ‪َ -‬فِإذا هو بَأِبي َبْك ٍر َو ُعَمَر ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬ما َأْخ َر َج ُكما ِم ن ُبُيوِتُكما‬
‫هِذه الّساَعَة؟ قاال‪ :‬الُج وُع يا َر سوَل هللا‪ ،‬قاَل ‪َ :‬و َأنا‪ ،‬واَّلِذي َنْفِسي بَيِدِه ‪َ ،‬ألْخ َر َجِني الذي َأْخ َر َج ُكما»‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫فانظر إلى أحّب خلق هللا إلى هللا‪ ،‬وأقربهم منه‪ ،‬كيف صبر على شظف العيش بين جوع‬
‫وفقر‪ ،‬وجهد ومشقة‪ ،‬وبذل وتضحية‪ ،‬فماذا يقول األثرياء والوجهاء واألغنياء الذين قّل شكرهم على‬
‫الّنعم‪ ،‬وقّل صبرهم على الّشدائد؟!‬
‫أحاطه ﷺ األعداء من كل جانب‪ ،‬وأرهقه الّتعب واإلجهاد‪ ،‬لكن كان معه المالذ اآلمن في‬
‫األزمات‪ ،‬والّدرع الحصين في الُم لّم ات‪ ،‬إّنه الّص بر الجميل‪ ،‬وتمّر به أيام وليال من المعاناة‬
‫والّتضحية‪ ،‬ويبقى صابًر ا‪ ،‬صامًدا‪ُ ،‬م حتسًبا‪ ،‬يقول جابر‪( :‬رضي هللا عنه) «إّنا َيوَم الَخْنَد ِق َنْح ِفُر ‪،‬‬
‫َفَعَر َضْت ُكْد َيٌة َشِديَد ٌة ‪-‬صخرة صلبة‪َ ،-‬فجاُؤوا الّنبَّي ﷺ َفقالوا‪ :‬هِذه ُكْد َيٌة َعَر َضْت في الَخْنَد ِق ‪َ ،‬فقاَل ‪:‬‬
‫أنا ناِز ٌل ‪ُ .‬ثَّم قاَم وَبْط ُنُه َم ْعُص وٌب بَحَج ٍر ‪ ،‬وَلِبْثنا َثالَثَة أّياٍم ال َنُذوُق َذواًقا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫لقد اجتمع له ﷺ اإليثار‪ ،‬والّص بر‪ ،‬وكرم الّنفس‪ ،‬والّتواضع‪ ،‬وهي شمائل نبوّية‪ ،‬وفتوحات‬
‫رّبانية‪ ،‬ال تجتمع بكمالها وجمالها إاّل في نفسه الّشـريفة الُم طهرة‪ ،‬وهذه الّسجايا الحميدة والخصال‬
‫الّنبيلة ومعجزة البركة في الّطعام على يديه ﷺ من عالمات نبّو ته وشواهد رسالته‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على المنافقين لّم ا قاموا في المدينة بالمكر والكيد له ولدعوته وافتعلوا الّدسائس‬
‫والمؤامرات للّنيل من مقامه الّشـريف ﷺ‪.‬‬
‫ومن مواقف صبره على المنافقين‪ :‬ما جاء في «الّص حيحين» عن أسامة بن زيد (رضي هللا‬
‫عنهما)‪ ،‬أَّن النبَّي ﷺ مّر ومعه بعض أصحابه بمجلس فيه عبُد هللا بن ُأبِّي ابن َسلول رأس الُم نافقين‪،‬‬
‫فسّلم ﷺ ودعاهم إلى اإلسالم فأغلظ عبدهللا بن ُأَبٍّي القول للّنبي ﷺ‪ ،‬وحصل خالف وتنازع وخصام‬
‫فنزل ﷺ من على حماره وسّكت الناس وسّكنهم‪ ،‬ثم عفا ﷺ عنهم وصفح وصبر‪ ،‬وكان رئيسهم في‬
‫الّنفاق والمكر والكيد عبدهللا بن أبي ابن سلول‪ ،‬وهو الذي قال تعالى حكاية عنه‪َ{ :‬لِئْن َر َج ْعَنا ِإَلى‬
‫اْلَم ِديَنِة َلُيْخ ِر َج َّن اَألَعُّز ِم ْنَه ا اَألَذَّل } [المنافقون‪ :‬اآلية ‪ ،]8‬يقصد أّنه األعز ‪ -‬قاتلُه ُهللا ‪ -‬ويقصد‬
‫باألذل‪ :‬نبّي هللا ﷺ ‪-‬صانه ُهللا‪ -‬وهو الذي انخذل بثلث الجيش في أحد‪ ،‬وهو المقصود بقوله تعالى في‬
‫قصة اإلفك‪ِ{ :‬لُكِّل اْم ِر ىٍء ِم ْنُهْم َم ا اْك َتَسَب ِم َن اِإل ْثِم َو اَّلِذي َتَو َّلى ِك ْبَر ُه ِم ْنُهْم َلُه َعَذاٌب َعِظ يٌم } [النور‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]11‬وهو الذي نال من أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪ ،‬وطعن في عرض الّنبي ﷺ‪،‬‬
‫ورغم هذا كّله صبر عليه ﷺ‪ ،‬وتحّم ل مكره وكيده وأذّيته‪.‬‬
‫وفي تبوك جلس المنافقون يسمرون ويمزحون ويخوضون في الحديث‪ ،‬وينالون من الّنبي ﷺ‬
‫ومن أصحابه‪ ،‬ويقولون‪« :‬ما رأينا مثَل ُقَّر اِئنا هؤالِء أرغَب بطوًنا‪ ،‬وال أكذَب ألُسًنا‪ ،‬وال أجَبَن عنَد‬
‫الّلقاِء »‪ ،‬يقصدون رسول هللا ﷺ والّص حابة رضوان هللا عليهم‪ ،‬فكشف هللا سّر هم‪ ،‬وهتك سترهم‪،‬‬
‫وأنزل فيهم‪َ{ :‬و َلِئْن َسَأْلَتُهْم َلَيُقوُلَّن ِإَّنَم ا ُكَّنا َنُخ وُض َو َنْلَعُب ُقْل َأِباِهَّلل َو آَياِتِه َو َر ُسوِلِه ُكْنُتْم َتْس َتْه ِز ُئوَن *‬
‫َال َتْعَتِذ ُر وا َقْد َكَفْر ُتْم َبْعَد ِإيَم اِنُكْم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]66 - 65‬‬
‫وقد نقل لنا القرآن الكريم صوًر ا كثيرة ومواقف مثيرة لخبثهم ومكرهم وما دّبروه من مكائد‬
‫خفية‪ ،‬وهنا يتجّلى عظيم صبره ﷺ على هذه الدسائس والمكائد‪ ،‬ونظرته للمقاصد الُعظمى والغايات‬
‫الُكبرى من تأليف الّناس‪ ،‬وتسكين الفتنة‪ ،‬والُم حافظة على الّسمعة‪ ،‬وجذب األمم لإلسالم‪.‬‬
‫ويا ليتنا نتعامل مع أصدقائنا ‪ -‬وال أقول‪ :‬مع أعدائنا ‪ -‬كما تعامل ﷺ مع أعدائه من الُم نافقين‪،‬‬
‫فإّنه لم ينتقم منهم‪ ،‬وصفح عنهم‪ ،‬وصبر عليهم‪ ،‬واستغفر لهم‪ ،‬وَقِبل ُعذرهم‪ ،‬ووَكل سرائرهم إلى‬
‫هللا‪ ،‬ودعاهم بالتي هي أحسن‪ ،‬بينما كان بعض الّص حابة يستأذنونه في قتل بعض الُم نافقين وعلى‬
‫رأسهم عبُد هللا بن ُأبِّي بن َسلول‪ ،‬لكنه ﷺ منعهم‪ ،‬ورّد بكل صبر قائاًل ‪« :‬ال َيَتَح َّد ُث الّناُس أَّن ُم َح َّم ًدا‬
‫َيْقُتُل أْصحاَبُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫بل كانوا يحضرون الصالة معه في الظاهر‪ ،‬وُيشاركونه الطعام والجلوس‪ ،‬ولم يمنعهم من‬
‫ذلك‪ ،‬وامتثل أمر رّبه سبحانه‪َ{ :‬و اْص ِبْر َو َم ا َص ْبُر َك ِإَّال ِباِهَّلل َو َال َتْح َز ْن َعَلْيِه ْم َو َال َتُك ِفي َض ْيٍق ِم َّم ا‬
‫َيْم ُكُر وَن } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]127‬‬
‫ومن رحابة صبره وسعة صدره ﷺ أّنه تعايش مع جميع الفئات في المدينة من المؤمنين‬
‫والمنافقين واليهود‪ ،‬بكّل صبر وسالم‪ ،‬وُألفة ومودة‪ ،‬يقول ﷺ‪« :‬المؤمُن اَّلذي ُيخاِلُط الَّناَس وَيصبُر‬
‫على أذاهم أعظُم أجًر ا من الذي ال يخاِلُطهم وال َيصبُر على أذاهم» [رواه أحمد والّترمذي]‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على المرض وآالمه‪ ،‬فكان يقّض مضجعه األلم‪ ،‬وتزوره الحّم ى بحرارتها‬
‫فيتلّقاها ببرودة صبره‪ ،‬وُيطفئ نارها بماء يقينه‪ ،‬ليرفع ُهللا درجته في عّليين‪ ،‬وُيبقي ذكره في‬
‫الخالدين‪ ،‬يقول عبدهللا بن مسعود(رضي هللا عنه)‪َ« :‬دَخ ْلُت على َر سوِل هللا ﷺ وهو ُيوَعُك وْع ًكا‬
‫َشِديًدا‪( ،‬يوعك) أي (يصيبه األلم والّتعب من الحمى)‪َ ،‬فَم ِسْس ُتُه بَيِدي َفُقلُت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إَّنَك َلُتوَعُك‬
‫وْع ًكا َشِديًدا؟ فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬أَج ْل‪ ،‬إِّني ُأوَعُك كما ُيوَعُك َر ُج الِن ِم نُكم‪َ .‬فُقلُت ‪ :‬ذلَك أَّن لَك‬
‫أْج َر ْيِن ؟‪ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬أَج ْل‪ُ .‬ثَّم قاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬ما ِم ن ُمْسِلٍم ُيِص يُبُه أًذى‪َ ،‬مَر ٌض َفما ِس واُه‪،‬‬
‫إاّل َح َّط هللا له َسِّيئاِتِه ‪ ،‬كما َتُح ُّط الَّشَج َر ُة وَر َقها» [متفق عليه]‪ ،‬والحمى من أكثر األمراض إيالًم ا‬
‫للجسد‪ ،‬وهي في الغالب تأتي المريض لياًل ‪.‬‬
‫وعن عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬أَّنَه ا َسَأَلْت َر سوَل هللا ﷺ َعِن الَّطاُعوِن ‪ ،‬فأْخ َبَر َها َنِبُّي هللا‬
‫ﷺ‪« :‬أَّنه كاَن َعَذاًبا َيْبَعُثُه ُهللا عَلى َم ن َيَشاُء ‪َ ،‬فَجَعَلُه ُهللا َر ْح َم ًة ِلْلُم ْؤ ِم ِنيَن ‪ ،‬فليَس ِم ن َعْبٍد َيَقُع‬
‫الَّطاُعوُن ‪َ ،‬فَيْم ُكُث في َبَلِدِه َص اِبًر ا‪َ ،‬يْعَلُم أَّنه َلْن ُيِص يَبُه إاَّل ما َكَتَب ُهللا له‪ ،‬إاَّل كاَن له ِم ْثُل أْج ِر‬
‫الَّشِه يِد » [رواه البخاري]‪ ،‬ويقول أنس بن مالك (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬إَّن هللا قاَل ‪ :‬إذا اْبَتَلْيُت‬
‫َعْبِدي بَح ِبيَبَتْيِه َفَصَبَر ‪َ ،‬عَّو ْضُتُه منهما الَج َّنَة‪ُ .‬يِر يُد‪َ :‬عْيَنْيِه » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على طاعة هللا وعبادته جّل في ُعاله‪ ،‬فلم يكن صبره على البالء والّشدائد‬
‫والمصاعب فقط‪ ،‬بل كان هناك صبر آخر‪ ،‬صبر جميل على أداء العبادات في أجمل حاالتها كما‬
‫ُيحب ُهللا تعالى‪ ،‬وقد أمره ُهللا بالّص بر في مواقف كثيرة في القرآن فقال ُسبحانه عند ذكر الّص الة‪:‬‬
‫{َو ْأُم ْر َأْه َلَك ِبالَّص َالِة َو اْص َطِبْر َعَلْيَه ا} [طه‪ :‬اآلية ‪ ،]132‬ولهذا قرن ُسبحانه الّص بر بالّص الة؛ ألّنها‬
‫كما وصفها ﷺ رباط‪ ،‬تأتي مع اختالف المناسبات‪ ،‬وتغّير الحاالت‪ ،‬من حٍّر وبرد‪ ،‬وصيف وشتاء‪،‬‬
‫ونوم ويقظة‪ ،‬وليل ونهار‪ ،‬وحل وترحال‪ ،‬وصحة ومرض‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و اْس َتِع يُنوا ِبالَّص ْبِر َو الَّص َالِة‬
‫َو ِإَّنَه ا َلَكِبيَر ٌة ِإَّال َعَلى اْلَخاِشِعيَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]45‬‬
‫وقد أمره سبحانه وتعالى بالّص بر على إتمام العبادة وأداء الّطاعة فقال سبحانه‪َ{ :‬ر ُّب‬
‫الَّسَم اَو اِت َو اَألْر ِض َو َم ا َبْيَنُه َم ا َفاْعُبْدُه َو اْص َطِبْر ِلِع َباَدِتِه َهْل َتْعَلُم َلُه َسِم ًّيا} [مريم‪ :‬اآلية ‪ ،]65‬وكل‬
‫العبادات وشعائر الّدين تحتاج إلى صبر‪ ،‬وقد صبر ﷺ على أداء الّص يام في أكمل صوره‪ ،‬وصبر ﷺ‬
‫على أداء الحج ومعاناة مصاعب الّسفر إليه‪ ،‬وأدائه أحسن األداء من سعي وطواف ووقوف ومبيت‬
‫ورمي ونحر‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على أعباء الّدعوة‪ ،‬وتبليغ الّر سالة‪ ،‬فمنذ أن أنزل هللا عز وجل عليه قوله‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫اْلُم َّدِّثُر * ُقْم َفَأْنِذ ْر * َو َر َّبَك َفَكِّبْر * َو ِثَياَبَك َفَطِّه ْر * َو الُّر ْج َز َفاْه ُجْر * َو َال َتْم ُنْن َتْس َتْك ِثُر * َو ِلَر ِّبَك‬
‫َفاْص ِبْر } [المدثر‪ :‬اآلية ‪ ،]7 -1‬بعدها قام قياًم ا لم يعرف بعده راحًة وال فتوًر ا‪ ،‬وال كساًل ‪ ،‬وإّنما‬
‫صبر‪ ،‬ومجاهدة‪ ،‬وجالد‪ ،‬وسهاد وتضحية‪ ،‬وبذل وعطاء‪ُ ،‬مْم تثاًل أمر رّبه‪َ{ :‬ر ُّب الَّسَم اَو اِت‬
‫َو اَألْر ِض َو َم ا َبْيَنُه َم ا َفاْعُبْدُه َو اْص َطِبْر ِلِع َباَدِتِه َهْل َتْعَلُم َلُه َسِم ًّيا} [مريم‪ :‬اآلية ‪ ،]65‬وهذا في العبادة‪،‬‬
‫فليله ﷺ‪ُ{ :‬قِم الَّلْيَل ِإَّال َقِليًال} [المزمل‪ :‬اآلية ‪ ،]2‬ونهاره‪ُ{ :‬قْم َفَأْنِذ ْر } [المدثر‪ :‬اآلية ‪ ،]2‬فـ«سورة‬
‫الُم ّدثر» لإلنذار والّتبليغ‪ ،‬ونشر الّدعوة وتعليم الّر سالة‪ ،‬و«سورة المّز مل» للتزود بقيام الّليل‪،‬‬
‫والّتهجد في الّظلماء‪ ،‬والّتبتل لرّب األرض والّسماء‪ ،‬فكان ليله ونهاره ﷺ بين تهّج د وجهاد‪ ،‬وعلم‬
‫وتعليم‪ ،‬وعبادة ودعوة‪ ،‬وتزّو د وتبليغ‪.‬‬
‫إّن أفراد الّناس يصبر كل واحد منهم على ما ُفتح عليه من باب عبادة أو علم‪ ،‬فمنهم َم ن‬
‫يصبر على الصيام حتى ُيعرَف به‪ ،‬ومنهم َم ن ُفتح عليه في الجهاد‪ ،‬وآخر في كثرة الّنوافل في‬
‫الّص الة‪ ،‬ورابع في تبليغ الّدين وتعليم الّناس‪ ،‬وخامس في بذل المال‪ ،‬وسادس في العدل واإلصالح‬
‫بين الناس‪ ...‬إلى آخر هذه القائمة من الفتوحات الّر بانية على سائر البشرّية‪.‬‬
‫أّم ا رسوُلنا ﷺ فُفتح عليه في كِّل باب‪ :‬فهو األّو ل في العبادة والّطاعة بأنواعها‪ ،‬من صالة‬
‫وصيام وحج وجهاد وتعليم وعدل ورعاية ووالية وتربية‪ ،‬فسبحان من جعله الُم قّدم في كل فضيلة!‬
‫وجعله األّو ل في كل خصلة نبيلة!‬
‫وأقول‪ :‬ال يوجد باب من أبواب الخير والعطاء‪ ،‬والبذل والفداء‪ ،‬إاّل وكان رسولنا ﷺ هو‬
‫األسوة في هذا الباب‪ ،‬والقدوة في هذا الّطريق؛ ولهذا عّر فه هللا بذلك‪ ،‬ونّو ه بهذا المقام الّشريف‪،‬‬
‫وهذه هي الوظيفة الُم قّدسة‪ ،‬فقال ُسبحانه‪َ{ :‬لَقْد َكاَن َلُكْم ِفي َر ُسوِل ِهَّللا ُأْس َو ٌة َحَسَنٌة ِلَم ْن َكاَن َيْر ُج و َهَّللا‬
‫َو اْلَيْو َم اآلِخ َر َو َذَكَر َهَّللا َكِثيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]21‬‬
‫فمن الذي صّلى أطول صالة فقرأ في ركعة واحدة بعد الفاتحة سورة البقرة والّنساء وآل‬
‫عمران على ترتيب ابن مسعود؟‬
‫ومن الذي قام أطول قيام في صالة الكسوف نهاًر ا فقرأ قراءة طويلة مقدار سورة البقرة‪،‬‬
‫وركع نحو ذلك‪ ،‬ورفع نحو ذلك‪ ،‬وسجد نحو ذلك‪ ،‬حتى تجّلت الّشمس؟‬
‫ومن الذي صام أطول صيام على مّر التاريخ؟ إّنه وحده ﷺ الذي كان يتابع الّليالي واأليام‬
‫صياًم ا مواصاًل ‪ ،‬ونهى أصحابه أن يواصلوا‪.‬‬
‫ومن الذي دعا أطول دعاء على مّر الدهر؟ إّنه هو ﷺ‪ ،‬فقد دعا يوم عرفة من صالة الّظهر‬
‫إلى صالة المغرب في وقفة واحدة دعاًء واحًدا ُم ّتصاًل ‪.‬‬
‫ومن الذي صبر على أعظم وأشق رحلة؟ رحلة الهجرة من دار الكفر الى دار االيمان‪ ،‬رحلة‬
‫المعاناة والجوع والظمأ والتعب واالعياء‪ ،‬والتربص من األعداء‪ ،‬رحلة الهجرة العظيمة التي قام بها‬
‫ﷺ مع صاحبه الصّديق (رضي هللا عنه)‪.‬‬
‫ومن الذي صبر على كثرة الوظائف‪ ،‬وتنّو ع المهام‪ ،‬وتعدد الّتخصصات؟‬
‫صبر ﷺ على تربية الّناس وتزكيتهم‪ ،‬وتطهيرهم‪ ،‬وفيهم الجافي‪ ،‬والجاهل‪ ،‬والُم عاند‪،‬‬
‫والمغرض‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على تبليغ الّر سالة للجن واإلنس‪ ،‬والحاضر والباد‪ ،‬والّر جل والمرأة‪ ،‬والكبير‬
‫والصغير‪.‬‬
‫وصبر ﷺ على تنفيذ األحكام العادلة في الّسلم والحرب‪ ،‬والّر ضا والغضب‪ ،‬والحّل‬
‫والّترحال‪ ،‬ووقت الّر احة والّتعب‪ ،‬فما ظلم‪ ،‬وال استبّد‪ ،‬وال جار‪.‬‬
‫رسول هللا ﷺ هو قدوة الّص ابرين إلى يوم الّدين‪ ،‬وكّل أذى مّر بأّي فرد من أفراد أّم ته‪ ،‬أو‬
‫خوف أو جوع أو فقر أو مشّقة فهو الّسابق في هذا الباب‪ ،‬واألسوة في هذا الّطريق‪ ،‬وقد أراد هللا‬
‫تعالى أن يمّر ﷺ بهذه الّظروف القاسّية‪ ،‬وهذه المواقف الّشاقة؛ ليكون قدوة ألّم ته‪ ،‬ويجمع بين صدق‬
‫القول‪ ،‬وصّح ة العمل‪ ،‬وأن يكون أجره موفوًر ا‪ ،‬وسعيه مشكوًر ا‪ ،‬وعمله مبروًر ا‪.‬‬
‫وعّلمَنا رسوُلنا ﷺ أّن الّص بر هو جندك الذي ال ُيغلب‪ ،‬وكنزك الذي ال ينفد‪ ،‬ومعينك الذي ال‬
‫ينضب‪ ،‬إّنه عوض لكل فاقد‪ ،‬وسلوة عن كل ذاهب‪ ،‬وعزاء في كل مصاب‪ ،‬قّر ة عين للّص ابرين‪،‬‬
‫وبشـرى للمحتسبين بأجر رّب العالمين‪.‬‬
‫ولو ذهب بنا الحديث في ذكر صبره ﷺ على أنواع األذى وتحّم له لمختلف المشاق‪ ،‬لطال‬
‫المقام ولكثر الكالم‪ ،‬ولكننا نقف خاشعين مبهورين مذهولين أمام هذه القّم ة الّسامقة‪ ،‬والعظمة الباذخة‬
‫في شخص الّنبي الكريم ﷺ الذي جعله ُهللا للعالمين قدوًة أسمى‪ ،‬ومثاًل أعلى‪.‬‬
‫ِن‬
‫الّصُرب من ديوا أمحَد ُيكتُب‬
‫صرب الّنبّو ة يف احلياة حُم ّبُب‬
‫عّلمتنا الّصَرب اجلميَل عبادًة‬
‫ومعني صربك للورى ال َينُضُب‬
‫شّيدت فينا الّصرب صرًح ا شاًخما‬
‫فحياتنا من هنر صربك َتعُذ ُب‬
‫ال رب نهل منك سن صنيعِه‬
‫ُح‬
‫ّص َي‬
‫واجملُد يف ُدنيا مسّو ك خَي طُب‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َش اِكًرا‬
‫َم ن يقرأ سيرته ﷺ يجد أّن الّشكر قد مأل حياته‪ ،‬واستغرق أوقاته‪ ،‬ألّنه يرى ِنعم هللا تترى من‬
‫بين يديه‪ ،‬ومن خلفه‪ ،‬وعن يمينه‪ ،‬وعن شماله‪ ،‬فهو ُيثني ويمدح ويقّدس‪ ،‬بل إّنك إذا ذهبت تدّقق‬
‫أحاديثه ﷺ في األذكار واألدعية تجدها مملوءة بالحمد والّشكر‪ ،‬فثناؤه على رّبه حمد‪ ،‬ومدحه لمواله‬
‫حمد‪ ،‬ودعاؤه لخالقه حمد‪ ،‬ومقامه يوم القيامة في الّشفاعة الكبرى هو مقام الحمد‪ ،‬ولذلك قال له رّبه‪:‬‬
‫{َعَسى َأْن َيْبَعَثَك َر ُّبَك َم َقاًم ا َم ْح ُم وًدا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]79‬وهو المقام الذي ُيثني فيه ﷺ على هللا‬
‫كما قال‪« :‬فإذا َر َأْيُت َر ِّبي وَقْعُت له ساِج ًدا‪َ ،‬فَيَدُعِني ما شاَء هللا أْن َيَدَعِني‪ُ ،‬ثَّم ُيقاُل ‪:‬لي اْر َفْع ُم َح َّم ُد‬
‫وُقْل ُيْس َم ْع ‪ ،‬وَسْل ُتْعَطْه‪ ،‬واْش َفْع ُتَشَّفْع ‪ ،‬فأْح َم ُد َر ِّبي بَم حاِم َد َعَّلَم ِنيها‪ُ ،‬ثَّم أْش َفُع َفَيُح ُّد لي َح ًّدا‪،‬‬
‫َفُأْد ِخ ُلُه ُم الَج َّنَة» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فالحمد مفتاح الخيرات‪ ،‬وعربون البركات‪ ،‬وباب المسـّر ات‪ ،‬وهو طريق االستزادة‪ ،‬ووسيلة‬
‫الُقربى‪ ،‬به تثبت الّنعمة‪ ،‬وتستقّر البركة‪ ،‬ويصلح الحال‪ ،‬ويدوم الّنعيم‪ ،‬وتتوالى الهبات‪ ،‬وُيستمطر‬
‫الّر زق‪ ،‬وهو تاج األعمال‪ ،‬ودليل الوفاء‪ ،‬وقيد اإلحسان؛ وألّن رسول الهدى ﷺ هو أعرف الّناس‬
‫بمقام رّبه‪ ،‬وبجالل خالقه‪ ،‬وعظمة مواله‪ ،‬وكانت تخرج كلمة‪« :‬الَح ْم د هلل» من شفتيه الّطاهرتين‬
‫عذبًة صادقًة كأّنها تنبعث من كل جزء من جسده الّشريف‪ ،‬وكأّنها تنسكب من كل ذرة من بدنه‬
‫الّطاهر‪.‬‬
‫ومن ُيطالع سيرته ﷺ يجد أّن كل جارحة من جوارحه تشكر رّبها‪ ،‬فهو صاحب القلب‬
‫الّشاكر والّلسان الذاكر‪ ،‬والّر وح الُم سّبحة في ملكوت الّسماوات واألرض‪ ،‬واألعضاء العاملة في‬
‫مرضاة رّبها‪ ،‬فهو أعظم العباد لربه شكًر ا‪ ،‬وأجّلهم لمواله حمًدا‪ ،‬وكّل الّشاكرين بعده إّنما تعّلموا‬
‫الّشكر منه ﷺ‪ ،‬فالفؤاد والّلسان والجوارح كّلها تشارك في حمد رّب العالمين‪.‬‬
‫شكر ﷺ رّبه بقلبه يوم تيّقن غاية اليقين أّن كل نعمة جّلت أو دّقت‪ ،‬كبرت أو صغرت‪ ،‬قُدمت‬
‫أو حدثت‪ ،‬ظهرت أو بطنت‪ ،‬هي من هللا وحده جّل في ُعاله‪ ،‬وشكر القلب من أركان العبودّية عند‬
‫المؤمن؛ ألّنه يتيّقن أّن كل نعمة وصلته هي من هللا‪ ،‬فعن ثوبان (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪:‬‬
‫«ليَّتِخ ْذ أحُدُكم َقلًبا شاكًر ا‪ ،‬وِلساًنا ذاكًر ا» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وشكر ﷺ رّبه بلسانه فكان دائم الحمد له والثناء عليه سبحانه‪ ،‬يشكره في السّر اء والضـّر اء‪،‬‬
‫والّشدة والّر خاء‪ ،‬وفي كل زمان ومكان‪ ،‬فهو دائم الحمد للّر حمن‪ ،‬والّثناء على الدّيان‪ ،‬يأكل الّطعام‬
‫فيحمد مواله‪ ،‬ويشـرب الّشـراب فيشكر خالقه‪ ،‬ويلبس الّثوب فُيثِني على واهبه‪ ،‬ويركب الّدابة‬
‫فيعترف بنعمة ربه‪.‬‬
‫وهو ﷺ الّشاكر بالجوارح‪ ،‬فكل جوارحه تشكر رّبه‪ ،‬وتحمد مواله‪ ،‬بل إّنه شكر رّبه في كل‬
‫موقف ولو كان صعًبا‪ ،‬وفي كل مشهٍد ولو كان كرًبا‪ ،‬فُر وي عنه ﷺ أّنه في غزوة أحد بعد الهزيمة‬
‫والجراح‪ ،‬وبعدما ُقِتل أصحابه‪ ،‬وُشّج وجهه الّطاهر‪ ،‬وُكِسـرت رباعيته‪ ،‬قال‪« :‬اْس َتُو وا َح َّتى ُأْثِنَي‬
‫َعَلى َر بي» [رواه أحمد‪ ،‬والبخاري في األدب المفرد]‪.‬‬
‫فعّلم ﷺ األُّم ة معنى لطيًفا وسًر ا شريًفا في الُّشكر‪ ،‬أال وهو ُشكر هللا وحمده على المصائب‪،‬‬
‫فإّنه أعلى درجات اليقين والّتسليم‪ ،‬وأرفع من الّر ضا‪ ،‬والّر ضا أرفع من الّص بر‪ ،‬ولهذا أورد هللا‬
‫شكره ﷺ وشكر أصحابه بعد معركة ُأُح د فقال تعالى‪َ{ :‬و َم ْن َيْنَقِلْب َعَلى َعِقَبْيِه َفَلْن َيُضَّر َهَّللا َشْيًئا‬
‫َو َسَيْج ِز ي ُهَّللا الَّشاِك ِر يَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]144‬‬
‫وحمد هللا وشكره سبحانه يستجلب رضاه‪ ،‬ويستدعي المزيد من عطاياه‪ ،‬وقد حمد ُهللا نفسه‬
‫قبل أن يحمده الحامدون‪ ،‬وشكر ذاته قبل أن يشكره الشاكرون‪ ،‬وأثنى على نفسه المقّدسة قبل أن‬
‫يثني عليه المثنون‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َر ِّب اْلَعاَلِم يَن } [الفاتحة‪ :‬اآلية ‪ ،]2‬وقال ُسبحانه‪ُ{ :‬سْبَح اَن‬
‫اَّلِذي َأْس َر ى ِبَعْبِدِه َلْيًال‬
‫{َو ُقِل اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َلْم‬
‫ِم َن اْلَم ْس ِج ِد اْلَحَر اِم ِإَلى اْلَم ْس ِج ِد اَألْقَص ى} [الكهف‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬وقال ُسبحانه‪:‬‬
‫َيَّتِخ ْذ َو َلًدا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]111‬‬
‫لك احلمُد اَي رمحاُن ما هّل صّيُب‬
‫وما اتَب اي مْن يقبُل الّتوب ُمذنُب‬
‫لك احلمُد ما هاَج الغراُم وما َمهى‬
‫غماٌم وما غىّن احلمام اُملطِّرُب‬
‫وتروي أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪ :‬أّن رسول هللا ﷺ كاَن‬
‫َتَتَفَّطَر َقَد َم اُه‪ ،‬فتقول له‪َ :‬لِم َتْص َنُع هذا يا َر سوَل هللا‪ ،‬وقْد َغَفَر هللا لَك ما َتَقَّد َم‬
‫فيقول ﷺ‪« :‬أفال ُأِح ُّب أْن أُكوَن َعْبًدا َشُكوًر ا!؟» [متفق عليه]‪.‬‬
‫َيُقوُم ِم َن الَّلْيِل حَّتى‬
‫ِم ن َذْنِبَك وما َتَأَّخ َر ؟‬
‫فترجم ﷺ شكره هلل عّز وجل إلى عمل وعبادة‪ ،‬وُقربى وطاعة‪ ،‬ولم يكن شكره مجرد ذكر‬
‫بالّلَسان‪ ،‬أو أداء بعض الّر كعات‪ ،‬أو الّتصّدق بدريهمات‪ ،‬بل أتبع ذلك صّف القدمين في محراب‬
‫العبودّية‪ُ ،‬يحيي الليل تسبيًح ا وقرآًنا‪ ،‬وتالوًة وُم ناجاًة‪ ،‬وُبكاًء وُدعاًء ‪ ،‬وقياًم ا هلل رّب العالمين‪ ،‬في‬
‫الُّثلث األخير من الليل حين ينام الّناس‪ ،‬ويستسلمون ألسّر ة الّر احة‪ ،‬يقف هو وقوًفا تتفّطر منه قدماه‪،‬‬
‫لطول التهّج د‪ ،‬وزيادة الُم ناجاة‪ ،‬وكثرة الّر كوع والّسجود‪ ،‬ولم يأخذ ﷺ كلمة‪« :‬غَفَر هللا له ما َتَقَّدَم ِم ن‬
‫َذْنِبه وما َتَأَّخ َر » على أّنها رسالة أمان يتكئ عليها ويترك العمل‪ ،‬بل جعلها رسالة تشجيع ومثابرة‬
‫تدعو للمزيد من الّطاعة‪ ،‬والّتكثير من نوافل العبادة‪ ،‬واالنطراح على عتبات الّر بوبية‪ ،‬وقضاء‬
‫أوقات الّنوم والّر احة في مناجاة ملك الملوك وشكره؛ ألّن حق من تفّضل باإلحسان أن ُيشكر وُيثنى‬
‫عليه‪ ،‬وأن ُيحمد الحمد الكثير‪ ،‬سبحانه وبحمده‪.‬‬
‫ويوالي ﷺ الحمد على رّبه والّثناء على خالقه فيقول‪« :‬اللهَّم لَك الَح ْم ُد أْنَت ُنوُر الَّسَم اَو اِت‬
‫واألْر ِض ‪ ،‬وَلَك الَح ْم ُد أْنَت َقِّيُم الَّسَمَو اِت واألْر ِض ‪ ،‬وَلَك الَح ْم ُد أْنَت َر ُّب الَّسَمَو اِت واألْر ِض وَم ن‬
‫ِفيِه َّن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫أّم ا قوله ﷺ‪« :‬اللهَّم لَك الَح ْم ُد‪ ،‬أْنَت َر ُّب الَّسَم اَو اِت واألْر ِض »‪ ،‬فهنا يحمد رّبه على ربوبيته؛‬
‫ألّن فيها الخلق والّر زق والّتصـريف والّتدبير‪ ،‬فاستحق هللا بها الّشكر من عباده‪ ،‬وأّو ل الّشاكرين هو‬
‫رسولنا ﷺ‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬لَك الَح ْم ُد أْنَت َقِّيُم الَّسَم اَو اِت واألْر ِض وَم ن ِفيِه َّن » تقتضي قيومّية هللا إصالح‬
‫أحوال الخليقة وتصريف شؤونهم‪ ،‬ورعاية مصالحهم‪ ،‬فحمده ﷺ على هذا الفضل العظيم‪ ،‬و«لَك‬
‫الَح ْم ُد أْنَت ُنوُر الَّسَم اَو اِت واألْر ِض » ُسبحانه هو الذي نّو ر الّسماوات واألرض نوًر ا حسًّيا ومعنوًّيا‪،‬‬
‫حسًّيا بالّشمس والقمر والّنجوم والكواكب‪ ،‬ونوًر ا معنوًّيا بإرسال الّر سل وإنزال الُكتب‪ ،‬فحمَد ﷺ رّبه‬
‫على أسمائه الجليلة وأوصافه الُم قّدسة‪ ،‬وحمده وقت الجوع والّشبع‪ ،‬والّظمأ والّر ي‪ ،‬والمرض‬
‫والّص حة‪ ،‬واالبتالء والعافية‪ ،‬والفقر والغنى‪ ،‬والهزيمة والّنصـر‪ ،‬فكل مقام من مقاماته ﷺ شكر‬
‫لرّبه‪ ،‬وكّل كلمة من كلماته ثناء‪ ،‬وعّلمنا بقوله وفعله ﷺ أن نقابل الحياة بحلوها وُم ّر ها‪ ،‬ومكروهها‬
‫ومكروبها‪ ،‬بالّشكر والحمد في كل حال‪.‬‬
‫اي رّب محًد ا ليس غريَك حُي مُد‬
‫اي من له كّل اخلالئق َتسجُد‬
‫أبواب غريَك رّبنا قد أُوِص دْت‬
‫ورأيُت اببَك واسًعا ال يوَص ُد‬
‫وكتابه ﷺ القرآن العظيم يبدأ بالحمد‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َر ِّب اْلَعاَلِم يَن } [الفاتحة‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]2‬وصاغ ﷺ الحمد في عبارات عظيمة مؤثرة جليلة‪ ،‬مرة يقول‪« :‬الحمد هلل»‪ ،‬ومرة يقول‪:‬‬
‫«الحمد هلل رّب العالمين»‪ ،‬وأخرى يقول‪« :‬الّلهم لك الحمد كما ينبغي لجالل وجهَك وعظيم‬
‫سلطانك»‪.‬‬
‫وعن أبي ُأمامة (رضي هللا عنه)‪ ،‬أن النبَّي ﷺ َم َّر به وهو ُيحِّر ُك َشَفَتْيِه ‪ ،‬فقال‪َ« :‬م اَذا َتُقوُل َيا‬
‫َأَبا ُأَم اَم َة؟»‪ .‬قال‪َ :‬أْذُكُر َر ِّبي‪ .‬قال ﷺ‪« :‬أال ُأخبُر َك بأكثَر وأفضَل من ِذكِر ك بالَّليِل والَّنهاِر ؟»‪ .‬قال‪:‬‬
‫بلى يا رسوَل هللا! قال ﷺ‪ :‬تقوُل‪« :‬سبحان هللا عَدَد ما خلق‪ ،‬سبحان هللا ِم ْل َء ما خَلق‪ ،‬سبحان هللا‬
‫عَدَد ما في األرِض والسماِء سبحان هللا ِم ْل َء ما في األرِض والسماِء ‪ ،‬سبحان هللا عَدَد ما أحصى‬
‫كتاُبه‪ ،‬سبحان هللا ِم ْل َء ما أحصى كتاُبه‪ ،‬سبحان هللا عدَد كِّل شيٍء ‪ ،‬سبحاَن هللا ِم ْل َء كِّل شيٍء ‪،‬‬
‫الحمُد هلل عدَد ما خلق‪ ،‬والحمُد هلل ِم ْل َء ما خَلق‪ ،‬والحمُد هلل عَدَد ما في األرِض والسماِء ‪ ،‬والحمُد‬
‫هلل ِم ْل َء ما في األرِض والسماِء ‪ ،‬والحمُد هلل عَدَد ما أحصى كتاُبه‪ ،‬والحمُد هلل ِم ْل َء ما أحصى كتاُبه‪،‬‬
‫والحمُد هلل عَدَد كِّل شيٍء ‪ ،‬والحمُد هلل ِم ْل َء كِّل شيٍء » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وبّين ﷺ نوًعا جمياًل من أنواع الّشكر وهو إظهار نعمة الباري جّل في ُعاله والتحّدث بها‬
‫كما قال تعالى‪َ{ :‬و َأَّم ا ِبِنْعَم ِة َر ِّبَك َفَح ِّد ْث } [الضحى‪ :‬اآلية ‪ .]11‬وروى أحمد وأبو داود عنه ﷺ أّنه‬
‫رأى رجاًل رّث الّثياب فقاله له‪« :‬ألك مال؟»‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إذا آتاك ُهللا ما فْلُيَر أَثَر نعمِة هللا عليك‬
‫وكرامِته‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬إَّن َهللا عَّز وَجَّل ُيِح ُّب أْن َيرى أَثر ِنعَم ِته على عبِده» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وهنا ُيعِّلُم ﷺ ُأّم ته الّشكر باالعتراف بالّنعم وإظهارها والّثناء بالّلسان على الُم نعم سبحانه‪،‬‬
‫قال تعالى‪َ{ :‬و َكَذِلَك َفَتَّنا َبْعَضُهْم ِبَبْعٍض ِلَيُقوُلوا َأَهُؤ َالِء َم َّن ُهَّللا َعَلْيِه ْم ِم ْن َبْيِنَنا َأَلْيَس ُهَّللا ِبَأْع َلَم‬
‫ِبالَّشاِك ِر يَن } [األنعام‪ :‬اآلية ‪.]53‬‬
‫وكان أّو ل كلمة يقولها ﷺ إذا استيقظ من نومه‪« :‬الَح ْم ُد هلل الذي أْح يانا َبْعَد ما أماَتنا وإَلْيِه‬
‫الُّنُشوُر » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فيحمد رّبه على نعمة الّنوم المريح بعد الّتعب الُم ضني‪ ،‬ويحمد رّبه على أن رّد إليه روحه‬
‫ليستقبل يوًم ا جمياًل وحياة ملؤها األمل والعمُل‪ ،‬ويحمد رّبه على نعمة الّص باح الذي أطّل على الكون‬
‫ببهائه‪ ،‬وغّطى المعمورة بسنائه‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ ُأّم ته كما جاء في [سنن أبي داود] أّنه قال‪« :‬من قال حين يصبُح‪ :‬اللهَّم ما أصبح‬
‫بي من نعمٍة فمنك وحدك ال شريَك لك فلك الحمُد ولك الشكُر فقد أّدى شكَر يوِم ه‪ .‬ومن قال مثَل ذلك‬
‫حين ُيمسي‪ ،‬فقد أّدى شكَر ليلِته»‪.‬‬
‫ومن ُيطالع سيرته ﷺ يجد أّن حاله مع رّبه بين الحمد والمدح‪ ،‬إّم ا أن يشكر هللا على نعمه‬
‫الجزيلة‪ ،‬وهذا «حمد»‪ ،‬وإّم ا أن ُيثني عليه ُسبحانه بأوصافه الجليلة وهذا «مدح»‪.‬‬
‫وكذلك قرن ﷺ بين‪« :‬الّتسبيح» و«الحمد»‪ ،‬فكان يقول في الّص باح ‪ -‬كما عند ُم سلم في‬
‫الّص حيح‪ُ« :-‬سْبحاَن هللا َو ِبَح ْم ِدِه ‪َ ،‬عَدَد َخ ْلِقِه ‪َ ،‬و ِر ضا َنْفِسِه ‪َ ،‬و ِز َنَة َعْر ِشِه ‪َ ،‬و ِم داَد َكِلماِتِه » (ثالًثا)‪.‬‬
‫ويستمر حمده ﷺ وشكره لرّبه حتى عند نومه‪ ،‬فيقول إذا أتى فراشه‪« :‬الحَم ْد هلل الذي َأْط َعَم َنا‬
‫َو َسَقاَنا‪َ ،‬و َكَفاَنا َو آَو اَنا‪َ ،‬فَكْم ِم َّم ْن ال َكاِفَي له وال ُم ْؤ ِو َي » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫يحمد رّبه على أن سّلمه من اآلفات سائر يومه‪ ،‬وغمره بالّنعم‪ ،‬وصرف عنه الّنقم‪ ،‬وبّلغه ليلة‬
‫وديعة ونوًم ا هانًئا‪.‬‬
‫وأوصى ﷺ صهره علًّيا‪ ،‬وفلذة كبده ابنته فاطمة (رضي هللا عنهما)‪ ،‬ودّلهما على كنز عظيم‬
‫قبل الّنوم‪ ،‬فقال‪َ« :‬أال ُأَعِّلُم ُكَم ا َخ ْيًر ا ِم َّم ا َسَأْلُتَم ا!؟ ِإَذا َأَخ ْذُتَم ا َم َض اِج َعُكَم ا ُتَكِّبَر ا َأْر َبًعا َو َثالِثيَن ‪،‬‬
‫َو ُتَسِّبَح ا َثالًثا َو َثالِثيَن ‪َ ،‬و َتْح َم َداه َثالًثا َو َثالِثيَن ‪َ ،‬فُه َو َخ ْيٌر َلُكَم ا ِم ْن َخ اِد ٍم » [ُم ّتفق عليه]‪.‬‬
‫حتى في الّر ؤيا الحسنة دّلنا رسولنا ﷺ على أن نحمد هللا ونشكره؛ ألنه سبحانه الذي سّه ل لنا‬
‫هذه الّر ؤيا المنامية‪ ،‬فكيف بالّنعم التي ُنشاهدها‪ ،‬ونلمسها ونحّسها‪ ،‬ونذوقها في اليقظة سائر الّنهار؟‬
‫فقال ﷺ‪« :‬إذا َر أى أَح ُدُكْم ُر ْؤ يا ُيِح ُّبها‪ ،‬فإَّنما هي ِم َن هللا‪َ ،‬فْلَيْح َم ِد هللا عليها وْلُيَحِّد ْث بها» [رواه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫وكانت صالته ﷺ مملوءة بحمد هللا‪ ،‬والّثناء عليه جّل في عاله‪ ،‬من افتتاحها بالّتكبير إلى‬
‫ختامها بالّتسليم‪ ،‬فكان يستفتح صالته فيقول‪ُ« :‬سبحاَنَك الَّلهَّم وبَحمِد َك ‪ ،‬وتباَر ك اسُم َك ‪ ،‬وتعالى‬
‫َج ُّدَك ‪ ،‬واَل إَلَه َغْيُر َك » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فأجّل نعم هللا تعالى أن وّفقنا لعبادته‪ ،‬ومن أعظمها الّص الة‪ ،‬فالعبادات ُتفتتح بالحمد‪ ،‬والّنعم‬
‫ُتختتم بالحمد‪ ،‬ويقرأ سورة الفاتحة التي ُسّم يت‪( :‬الّص الة) في «صحيح مسلم»‪ ،‬كما قال تعالى في‬
‫الحديث القدسي‪َ« :‬قَسْم ُت الَّص الَة َبْيِني وبْيَن َعْبِدي ِنْص َفْيِن ‪ ،‬وِلَعْبِدي ما َسَأَل ‪ ،‬فإذا قاَل الَعْبُد‪( :‬اْلَح ْم ُد‬
‫هلل َر ِّب العاَلِم يَن )‪ ،‬قاَل ُهللا َتعاَلى‪َ :‬حِم َد ِني َعْبِدي»‪.‬‬
‫فسورة الفاتحة تستفتح بشكر هللا على نعمه وآالئه‪ ،‬وكان يقول عند الّر فع من الّر كوع‪َ« :‬سِم َع‬
‫هللا لَم ِن َحِم َد ُه»‪ ،‬وهنا غاية االحتفاء‪ ،‬ومنتهى االصطفاء‪ ،‬واالجتباء لمن حمده وشكره ُسبحانه‪ ،‬فُكن‬
‫من الّشاكرين الحامدين‪ ،‬فقد سمع هللا لمن حمده‪ ،‬وما ظنك بقدر الجزاء والّثواب والّتكريم من رّب‬
‫العالمين إذا سمعك وأنت تحمده وتشكره؟ والذي نفسي بيده لكفى إكراًم ا وشرًفا لك أن يسمعَك‬
‫ُسبحانه وأنت تقول‪« :‬رّبنا ولَك الحمُد»‪ ،‬اقرأ «َسِم َع هللا لَمِن َح ِم َدُه» بتأّم ل‪ ،‬وتفّكر‪ ،‬وعناية‪ ،‬وأكثر‬
‫من حمد رّبك ُسبحانه‪ ،‬فإّنه إذا سمعك فقد رفعك‪ ،‬وإذا سمعك فقد رحمك‪ ،‬وإذا سمعك فقد غفر لك‪،‬‬
‫أال يكفيك هذا تعظيًم ا لُشكره‪ ،‬وتقديًر ا لحمده ُسبحانه؟!‬
‫ولهذا كاَن َر سوُل هللا ﷺ إذا َر َفَع َر ْأَسُه ِم َن الُّر ُكوِع قاَل ‪َ« :‬ر َّبنا لَك الَح ْم ُد ِم ْل َء الَّسَم واِت‬
‫واألْر ِض ‪ ،‬وِم ْل َء ما ِش ْئَت ِم ن شيٍء َبْعُد‪ ،‬أْه َل الَّثناِء واْلَم ْج ِد‪ ،‬أَحُّق ما قاَل الَعْبُد‪ ،‬وُكُّلنا لَك َعْبٌد‪ :‬اللهَّم‬
‫ال ماِنَع ِلَم ا أْع َطْيَت ‪ ،‬وال ُم ْعِط َي ِلَم ا َم َنْعَت ‪ ،‬وال َيْنَفُع ذا الَجِّد ِم ْنَك الَج ُّد» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فهذا الّدعاء يتقاطر بعطر تحميد هللا‪ ،‬وبطيب شكره والّثناء عليه جّل في ُعاله‪ ،‬وهو من أبلغ‬
‫األدعية في االعتراف بالّنعمة والّثناء على هللا به وشكره عليها‪ ،‬يقول رفاعة بن رافع (رضي هللا‬
‫عنه)‪ُ« :‬كَّنا َيْو ًم ا ُنَصِّلي وَر اَء النبِّي ﷺ‪َ ،‬فَلَّم ا َر َفَع َر ْأَسُه ِم َن الَّر ْك َعِة قاَل ‪َ :‬سِم َع هللا ِلَم ن َحِم َد ُه‪ ،‬قاَل‬
‫َر ُجٌل وَر اَءُه‪َ :‬ر َّبَنا وَلَك الَح ْم ُد َح ْم ًدا َكِثيًر ا َطِّيًبا ُم َباَر ًكا ِفيِه ‪َ ،‬فَلَّم ا اْنَص َر َف ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬م ِن الُم َتَكِّلُم ؟‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫أَنا‪ ،‬قاَل ‪َ :‬ر َأْيُت بْض َعًة وَثاَل ِثيَن َم َلًكا َيْبَتِد ُر وَنَه ا أُّيُه ْم َيْك ُتُبَه ا أَّو ُل » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وعن ابِن عمَر (رضي هللا عنهما) قال‪« :‬بينما نحُن نصِّلي مع رسوِل هللا ﷺ إذ قال رجٌل في‬
‫القوِم ‪ُ :‬هللا أكَبُر كبيًر ا‪ ،‬والحمُد هلل كثيًر ا‪ ،‬وسبحاَن هللا ُبكرًة وأصيل‪ ،‬فقال رسوُل هللا ﷺ‪َ :‬م ن القائُل‬
‫كذا وكذا؟ قال رجٌل ِم ن القوِم ‪ :‬أنا يا رسوَل هللا‪ ،‬قال‪ :‬عِج ْبُت لها‪ُ ،‬فِتَح ْت لها أبواُب الَّسماِء ‪ ،‬قال ابُن‬
‫ُعَمَر ‪ :‬فما تركُتهَّن منُذ سمعُت رسوَل هللا ﷺ يقوُل ذلك» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن عظيم شكره ﷺ لرّبه أّنه سّن سجود الّشكر؛ فقد صَّح عنه عند أبي داود وابن ماجه عن‬
‫أبي بكرة بن الحارث (رضي هللا عنه) قال‪« :‬كان رسوَل هللا ﷺ إذا جاءه أمُر سروٍر أو ُبِّشر به‪،‬‬
‫َخ َّر ساجًدا شاكًر ا هللا»‪ ،‬وفي هذا ِسٌّر لطيف‪ ،‬وهو أّن الّنعمة قد ُتحدث زهًو ا وفخًر ا‪ ،‬فدوامها‬
‫بالخضوع واالستكانة للُم نعم ُسبحانه والّسجود له‪ ،‬وهو أجمل صور الّشكر‪ ،‬وأبهى مشهد للّثناء على‬
‫هللا‪ ،‬كما قال ﷺ‪َ« :‬أْقَر ُب ما َيكوُن الَعْبُد ِم ن َر ِّبِه ‪ ،‬وهو ساِج ٌد» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا انتهى من الّطعام والّشراب قال‪« :‬الَح ْم ُد ِهلل الذي َأْط َعَم َنا َو َسَقاَنا‪َ ،‬و َكَفاَنا َو آَو اَنا‪،‬‬
‫َفَكْم ِم َّم ْن ال َكاِفَي له وال ُم ْؤ ِو َي » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وهنا إعادة الّنعمة إلى هللا‪ ،‬واالعتراف بجميله ُسبحانه‪ ،‬واإلقرار بإحسانه‪ ،‬ثّم الّثناء عليه‬
‫والّشكر له‪ ،‬وإذا ُر فعت المائدة كان يقول ﷺ‪« :‬الَح ْم ُد هلل حمًدا َكِثيًر ا َطِّيًبا ُم َباَر ًكا ِفيِه ‪َ ،‬غْيَر َم ْك ِفٍّي َو ال‬
‫ُمَو َّد ٍع َو ال ُم ْس َتْغًنى َعْنُه َر َّبَنا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وما أجمل‪« :‬حمًدا كثيًر ا طّيًبا ُم بارًكا فيه»! ليستغرق أوصاف الحمد‪ ،‬وقوله‪« :‬غيَر َم ْك ِفٍّي»‪،‬‬
‫أي ال يكفيه غيره سبحانه وال يقوم أحد مقامه جّل في عاله في إهداء الّنعمة‪ ،‬فليس هناك ُم نعم إاّل‬
‫هللا‪« ،‬وال ُمَو َّد ٍع» أي‪ :‬ال نأخذ هذه الّنعمة‪ ،‬ثم نهجر الّثناء عليه وندع حمده وشكره سبحانه‪« ،‬وال‬
‫ُم ْس َتْغًنى عْنه َر َّبَنا»‪ ،‬فنحن بأشّد الحاجة إليه عّز وجل في كل لمحة طرف‪.‬‬
‫وكان ﷺ يمتثل لقول الباري سبحانه‪َ{ :‬فُكُلوا ِم َّم ا َر َز َقُكُم ُهَّللا َح َالًال َطِّيًبا َو اْشُكُر وا ِنْعَم َة ِهَّللا ِإْن‬
‫ُكْنُتْم ِإَّياُه َتْعُبُدوَن } ‪[ ،‬النحل‪ :‬اآلية ‪ ،]114‬ما أيسـر العمل! وما أعظم الجائزة! وما أحسن اإلرشاد!‬
‫{َفُكُلوا ِم َّم ا َر َز َقُكُم ُهَّللا َح َالًال َطِّيًبا} هذه هبة هللا وعطيته لعباده‪ ،‬وفي قوله تعالى‪َ{ :‬و اْشُكُر وا‬
‫ِنْعَم َة ِهَّللا ِإْن ُكْنُتْم ِإَّياُه َتْعُبُدوَن } ‪ :‬واجب الّشكر للمنعم سبحانه‪ ،‬لتقوم حياة الُم سلم على أجمل صورة‬
‫من الّسعادة‪ ،‬واالطمئنان‪ ،‬واالستعانة على الّر زق بشكر الّر زاق جّل في عاله‪ ،‬ولهذا كان ﷺ ُيذّكرنا‬
‫بهذه اآليات‪ ،‬ويحّثنا على أكل الحالل وُشكر ذي الجالل‪.‬‬
‫وعن أبي أيوب األنصاري (رضي هللا عنه) قال‪ :‬كاَن رسوُل هللا ﷺ إذا أَكَل أو شرَب قاَل ‪:‬‬
‫«الحمُد هلل اَّلذي أطعَم وَسقى‪ ،‬وسَّو َغُه وجعَل َله مخرًج ا» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬من أكل طعاًم ا ثم قال‪ :‬الحمُد هلل‬
‫الذي أطعَم ني هذا الطعاَم ورزقِنيِه من غيِر حوٍل مني وال قوٍة؛ ُغِفَر له ما تقَّد َم من ذنِبه وما تأَّخ َر »‬
‫[رواه أبو داود]‪.‬‬
‫إّن هذه الكلمات تندى بالّشكر الّص ادق‪ ،‬واالمتنان من القلب‪ ،‬فجّر بها في حياتك إذا تناولت‬
‫طعاًم ا أو شربت شراًبا‪ ،‬وليعترف قلبك بأّن مسديها وُم هديها هو هللا‪ ،‬ولينطق لسانك باالمتنان‪،‬‬
‫والحمد للواهب جّل في عاله‪ ،‬وستجد كيف ُيعمر فؤادك باليقين‪ ،‬وتشعر بالّر ضا والّطمأنينة‪ ،‬ويبارك‬
‫هللا في عافيتك ووقتك ألّنك شكرته وهللا ُيحب الّشاكرين‪ ،‬فَعْن َأَنِس ْبِن َم اِلٍك (رضي هللا عنه) َقاَل ‪:‬‬
‫َقاَل َر ُسوُل هللا ‪« :‬إَّن َهللا َلَيْر َض ى َعِن اْلَعْبِد َأْن َيْأُكَل اَأْلْك َلَة َفَيْح َم َد ُه َعَلْيَه ا‪َ ،‬أْو َيْش َر َب الَّشْر َبَة َفَيْح َم َد ُه‬
‫َعَلْيَه ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فالّشاكرون الحامدون هم الفائزون في الّدنيا واآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َم ْن ُيِر ْد َثَو اَب الُّدْنَيا‬
‫ُنْؤ ِتِه ِم ْنَه ا َو َم ْن ُيِر ْد َثَو اَب اآلِخ َر ِة ُنْؤ ِتِه ِم ْنَه ا َو َسَنْج ِز ي الَّشاِك ِر يَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]145‬‬
‫وكان ﷺ إذا ارتدى أّي نوع من أنواع الّلباس حمد هللا وشكره على أن رزقه إّياه‪ ،‬فَعْن َأِبي‬
‫َسِع يٍد الُخْدِر َّي (رضي هللا عنه) َقاَل ‪َ :‬كاَن َر ُسوُل هللا ﷺ‪ِ :‬إَذا اْس َتَج َّد َثْو ًبا سَّم اُه ِباْسِم ِه ِع َم اَم ًة‪َ ،‬أْو‬
‫َقِم يًص ا‪َ ،‬أْو ِر َداًء ‪ُ ،‬ثَّم َيُقوُل ‪ « :‬اللهَّم َلَك الحمُد َأْنَت َكَسْو َتِنيِه ‪َ ،‬أْس َأُلَك ِم ْن َخ ْيِر ِه َو َخ ْيِر َم ا ُصِنَع َلُه‪،‬‬
‫َو َأُعوُذ ِبَك ِم ْن شِّر ِه ‪َ ،‬و شَّر َم ا ُصِنَع َلُه» [رواه أبو داود والنسائي]‪.‬‬
‫نعمة اللّباس من أجّل الّنعم‪ ،‬وهي ِم ّم ا امتّن ُهللا به على عباده فقال سبحانه‪َ{ :‬ياَبِني آَدَم َقْد‬
‫َأْنَز ْلَنا َعَلْيُكْم ِلَباًسا ُيَو اِر ي َسْو آِتُكْم َو ِر يًشا َو ِلَباُس الَّتْقَو ى َذِلَك َخْيٌر َذِلَك ِم ْن آَياِت ِهَّللا َلَعَّلُهْم َيَّذَّكُر وَن }‬
‫[األعراف‪ :‬اآلية ‪.]26‬‬
‫وسّن لنا رسول هللا ﷺ أن نبدأ الّدعاء بحمد هللا والّثناء عليه سبحانه‪ ،‬ثم الّص الة عليه ﷺ؛ ألن‬
‫الّداعي يطلب من رّبه‪ ،‬وُيستحب تقديم المدح والثناء قبل الطلب‪ ،‬فقد سمع رسول هللا ﷺ رجاًل‬
‫ُيصّلي‪ ،‬فمّج د هللا وحمده وصّلى على الّنبي ﷺ‪ ،‬فقال رسول هللا‪« :‬اْد ُع َتُجْب ‪َ ،‬و َسْل ُتْعَط» [رواه‬
‫النسائي]‪ ،‬ويقول ﷺ‪« :‬أفضُل الذكِر ‪ :‬ال إَله إاّل ُهللا‪ ،‬وأفضُل الدعاِء ‪ :‬الحمُد هلل» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فجعل ﷺ الحمد دعاًء ؛ ألّن من أثنى على هللا وشكره فقد تعّر ض لسؤاله والطلب منه عّز‬
‫وجل‪ ،‬ومن كرم هللا وجالله وعظمته أّنك إذا أثنيت عليه أو مدحته أو سألته فقد شكرته‪.‬‬
‫وقد ُسئل ُسفيان بن ُعيينة‪ :‬كيف يكون الحمد دعاء؟ قال‪ :‬أما سمعت قول أمية ابن أبي الّص لت‬
‫يمدح ابن ُج ْدعان‪:‬‬
‫َأَأْذُك ُر َح اَج يِت َأْم َقْد َك فايِن‬
‫إَذا أَثىن عليَك املرُء يوًما‬
‫ِش‬
‫َحَياُؤَك ِإَّن يَم َتَك اَحلَياُء‬
‫كَف اه من تعُّرِضِه‬
‫الثناُء‬
‫حتى في االستسقاء بدأ خطبته ﷺ فقال‪« :‬الَح مُد هلل َر ِّب العاَلميَن ‪ ،‬الَّر حمِن الَّر حيِم ‪َ ،‬م اِلِك َيوِم‬
‫الِّديِن ‪ ،‬ال إلَه إاَّل ُهللا يفَعُل ما يريُد» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فقبل أن يسأل حمد هللا‪ ،‬وقبل أن يطلب شكر هللا‪ ،‬فإّن االعتراف بالّنعم والّثناء بها على هللا‬
‫من أعظم أسباب إجابة الّدعاء ونزول الغيث‪ ،‬وكان ﷺ يفتتح خطبه بالحمد فيقول‪ِ « :‬إَّن اْلَح ْم د ِهلل‪،‬‬
‫َنْح َم ُدُه َو َنْس َتِع يُنُه َو َنْس َتْغِفُر ُه‪َ ،‬و َنُعوُذ ِباهلل ِم ْن ُشُر وِر َأْنُفِس َنا َو ِم ْن َسِّيَئاِت َأْع َم اِلَنا»‪[ .‬رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فِلعظم عبودية الحمد والّشكر جعلها رسول هللا ﷺ في مقّدمة كالمه‪ ،‬ليكون الحمد أّو ل ما‬
‫يطرق أسماع الجمهور‪ ،‬ويكون الّشكر في مقدمة ما يقع في قلوب الحضور‪ ،‬وعند الّترمذي يقول‬
‫ﷺ‪َ« :‬م ن َر َأى ُم ْبت فقال‪ :‬الحمُد هلل الذي عافاني ِم َّم ا ابتالك به وَفَّض َلِني على كثيٍر ِم َّم ْن َخ َلَق‬
‫تفضياًل ‪ ،‬لم ُيِص ْبُه ذلك البالُء »‪.‬‬
‫فصرف هذا البالء عنك نعمة تستوجب الُّشكر‪ ،‬وقد عّلمنا ﷺ أن نقول هذا الّدعاء‪ ،‬وال ُنسمع‬
‫الُم بتلى مراعاة له‪ ،‬فيكون شكرك بينك وبين رّبك على أن أتّم عليك الّنعمة‪ ،‬وصرف عنك البالء‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحمد رّبه ويشكره عند العطاس؛ ألّنه عالمة الّص حة والعافية‪ ،‬حتى إن كثيًر ا من‬
‫األطباء يستبشرون للمريض‪ ،‬ويتفاءلون له إذا عطس وُيبّشـرونه بالّشفاء‪ ،‬فانظر كيف اتفق كالم‬
‫طبيب القلوب مع كالم طبيب األبدان‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه)‪ ،‬أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬إذا‬
‫َعَطَس أَح ُدُكْم َفْلَيُقْل‪ :‬الَح ْم ُد هلل‪ ،‬وْلَيُقْل له أُخ وُه أْو صاِح ُبُه‪َ :‬يْر َح ُم َك هللا‪ ،‬فإذا قاَل له‪َ :‬يْر َح ُم َك هللا‪،‬‬
‫َفْلَيُقْل‪َ :‬يْه ِديُكُم هللا وُيْصِلُح باَلُكْم » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ولّم ا دخل ﷺ مكة فاتًح ا ُم نتصًر ا‪ ،‬نّكس رأسه على هيئة الخضوع حتى وصلت لحيته إلى‬
‫ظهر رحل دابته‪ ،‬كما صّح في الحديث‪ ،‬متواضًعا شاكًر ا لرّبه‪ُ ،‬م ثنًيا على مواله‪ُ ،‬م عترًفا بفضله في‬
‫وقت االنتصار واالفتخار‪.‬‬
‫ولّم ا وقف ليلقي خطبته على الّناس وقد امتأل الحرم واكتّظ بهم كانت أّو ل كلمة قالها ﷺ هي‪:‬‬
‫«الحمُد هلل الذي صدَق وعَد ُه‪ ،‬ونصر عبَد ُه‪ ،‬وهزم األحزاَب وحَد ُه» [رواه أبو داود]‪ ،‬فمأل بها‬
‫الّز مان‪ ،‬وهّز بها المكان‪.‬‬
‫وكان الّشكر أّو ل جملة نطق بها؛ ألن هذا االنتصار العظيم‪ ،‬والفتح المبين إّنما حصل بعون‬
‫هللا وتسديده وتوفيقه جّل في عاله‪.‬‬
‫وعن ابن عباس (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬إَّن المؤمَن بكِّل خيٍر على كِّل حاٍل ‪ ،‬إَّن‬
‫نفَسه تخُر ُج من بيِن َج ْنَبْيه وهو يحَم ُد هللا عَّز وجل» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فانظر إلى حمده لرّبه في وقت حزنه‪ ،‬وفي وقت نزول المصيبة به؛ ألن اختيار هللا تعالى‬
‫جميل‪ ،‬وقضاؤه كّله حسن‪ ،‬وعن أبي موسى األشعري (رضي هللا عنه) أن رسول هللا ﷺ قال‪« :‬إذا‬
‫ماَت وَلُد العبِد قاَل هللا لمالئِك تِه ‪ :‬قبضتم ولَد عبدي؟ فيقولوَن ‪ :‬نعم‪ ،‬فيقوُل ‪ :‬قبضُتم ثمرَة فؤاِدِه ؟‬
‫فيقولوَن ‪ :‬نعم‪ ،‬فيقوُل ‪ :‬ماذا قاَل عبدي؟ فيقولوَن ‪ :‬حِم َدَك واسترجَع ‪ .‬فيقوُل هللا‪ :‬ابنوا لعبدي بيًتا في‬
‫الجَّنِة ‪ ،‬وسُّم وُه‪ :‬بيَت الحْم ِد» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فأثاب هللا سبحانه عبده؛ ألّنه حمده وقت نزول المكروه؛ ولهذا كان من أعظم العبادات أن‬
‫تحمد هللا وتشكره في الّضراء والمصيبة والّشدائد‪ ،‬وإاّل فحمده عند الّنعم أمر مفروغ منه وُم سّلم‪،‬‬
‫ولكن األصدق من ذلك أن يقع عليك القضاء القاسي‪ ،‬والكرب الّشديد فتثني على هللا وتحمده‬
‫وتشكره‪ ،‬هذا المقام من مقامات العبودّية الجليلة التي ال ُيوّفق إليها إاّل األبرار‪.‬‬
‫وقد جعل ﷺ الّشكر على الّنعمة نعمة أخرى تستوجب الّشكر‪ ،‬فقد ُر وي عند الطبراني أّنه ﷺ‬
‫قال‪« :‬ما أنعَم ُهللا على عبٍد نعمًة فحِم َد َهللا عليها‪ ،‬إاّل كان ذِلَك الحمُد أفضَل مْن تلَك النعمِة »‪ ،‬وعند‬
‫ابن ماجه‪« :‬ما أنعم هللا على عبد نعمة فقال‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬إاّل كان الذي َأْع َطى أفضل مّم ا أخذ»‪.‬‬
‫وفي لفتة عجيبة ورسالة ُم هّم ة منه ﷺ لُم عاذ بن جبل (رضي هللا عنه) كما جاء عند أبي‬
‫داود‪ ،‬وابن حّبان‪ ،‬أّنه ﷺ قال‪« :‬يا معاُذ وهللا إِّني ُألِح ُّبك‪ ،‬فقال معاٌذ‪ :‬بأبي أنَت وُأِّم ي وهللا إِّني‬
‫ُألِح ُّبك‪ ،‬فقال‪« :‬يا معاُذ أوصيك أاَّل َتَدَعَّن في دُبِر كِّل صالٍة أْن تقوَل ‪ :‬الَّلهَّم أِعِّني على ِذكِر ك وُشكِر ك‬
‫وُح سِن عبادِتك»‪.‬‬
‫وهنا تنتهي عبارات المدح وقصائد العشق عند قول الّنبي ﷺ لمعاذ‪« :‬يا معاُذ وهللا إِّني‬
‫ُألِح ُّبك»‪.‬‬
‫أي تكريم وحٍّب وحفاوة من هذا اإلمام العظيم ألحد أتباعه؟!‬
‫وبعد هذا التشريف والُقرب يوصيه ﷺ بأعظم وصّية وأغلى هدّية‪ ،‬وهي خير من الّدنيا وما‬
‫فيها فيقول له‪« :‬يا معاُذ أوصيك أاَّل َتَدَعَّن في دُبِر كِّل صالٍة أْن تقوَل ‪ :‬الَّلهَّم أِعِّني على ِذكِر ك‬
‫وُشكِر ك وُح سِن عبادِتك»‪ ،‬والشاهد‪« :‬وشكرك»‪ ،‬أي‪ :‬أسألك أن ُتعينني وُتلهمني أن أشكرك غاية‬
‫الّشكر على ما أسديت من الّنعم‪ ،‬وما أعطيت من المواهب‪ ،‬وما يّسرت من الُه دى‪ ،‬فإذا أعانك هللا‬
‫على ذكره وشكره فلتنس كّل مواهب األرض‪ ،‬وكّل كنوز الّدنيا‪ ،‬وكل مّدخرات البشر‪.‬‬
‫ولقد أثبت علماء العصر الحديث من خالل دراساتهم وبحوثهم أّن كثرة الّشكر طاقة ال‬
‫ُيستهان بها في الّر يادة والّنجاح‪ ،‬وهي تجعل الّشاكر يواصل مسيرته بعزيمة وهّم ة‪ ،‬وأن هناك قدرة‬
‫شفائية بإذن هللا لمن يملك الّشكر‪ ،‬وإذا ُج مع الّشكر والّص بر كان دواًء نافًعا ناجًعا بإذن هللا لكثير من‬
‫األمراض الّنفسية المستعصية‪.‬‬
‫وقد أخبر رسولنا ﷺ بهذا قبل أن يكتشف هؤالء العلماء هذه الّدراسات بألف وأربع مئة عام‪،‬‬
‫قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن ِفي َذِلَك َآلَياٍت ِلُكِّل َص َّباٍر َشُكوٍر } [لقمان‪ :‬اآلية ‪.]31‬‬
‫فقرن هللا بين الّص بر على المصائب والّشكر على الّنعم‪ ،‬وكان رسولنا ﷺ يحّثنا دائًم ا على‬
‫الّشكر والحمد ويقول‪« :‬اْلَح ْم ُد هلل َتْم ُأَل اْلِم يَز اَن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فقد بسط ﷺ الّتسبيح بين نصفي الميزان‪ ،‬لكنه لّم ا أتى إلى الحمد‪ ،‬وهو الّثناء على هللا بالّشكر‬
‫أخبر أنه «يمأل الميزان»‪ ،‬وأّي ميزان؟ إّنه ميزان الرحمن جّل في عاله‪ ،‬الم‪ ،‬وقال ﷺ‪َ« :‬م ن قاَل ‪:‬‬
‫الحمُد رِّب العالميَن ‪ِ ،‬م ن قبِل نفِسِه ‪ُ ،‬كِتَبت َلُه ثالثوَن حسنًة‪ ،‬وحَّط عنُه ثالثوَن سِّيئًة» [رواه أحمد]‪،‬‬
‫وهذه الكلمة أعظم الكلمات األربع أجًر ا لمنزلة الحمد عند هللا عّز وجل‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫َمَتَّلَك اَحلمَد َح ىّت ما ِلمُفَتِخ ٍر‬
‫يف اَحلمِد حاٌء َوال ميٌم َوال داُل‬
‫بل إّن رسول هللا ﷺ جعل للّشكر حقواًل عديدة‪ ،‬وأبواًبا كثيرة‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ال َيْشُكُر َهللا َم ن ال‬
‫َيْشُكُر الناَس »‪[ ،‬رواه أبو داود]‪.‬‬
‫كُشكر الُم حسن على إحسانه‪ ،‬وُشكر الوالد‪ ،‬وُشكر الوالدة‪ ،‬وُشكر الّز وج لزوجته‪ ،‬والّز وجة‬
‫لزوجها‪ ،‬وُشكر األبناء‪ ،‬وُشكر الّص ديق‪ ،‬وُشكر كل من له حق علينا‪ ،‬كلها تدخل في الّطاعة وكّلها‬
‫محّفزات للّر يادة واإلنتاج‪ ،‬وانشـراح الّص در‪ ،‬وكثرة األجر‪.‬‬
‫وأخبرنا ﷺ بُسّنته وسيرته‪ ،‬وأقواله وأفعاله‪ ،‬على أن ُشكر هللا عّز وجل يستوجب رضوانه‪،‬‬
‫ومزيد بركاته‪ ،‬وترادف عطاياه‪ ،‬وفتوحاته جّل في ُعاله‪ ،‬وعّلمنا أّن النعم ُتحفظ بشكرها‪ ،‬وتذهب‬
‫بُكفرها‪ ،‬فبقدر ُشكرك ُيعطيك رّبك‪ ،‬وكّلما أكثرت الّشكر أكثر عليك الّنعمة‪ ،‬وكّلما قّللت أمسك عليك‬
‫بقدر هذا اإلقالل‪ ،‬يقول تعالى‪َ{ :‬و ِإْذ َتَأَّذَن َر ُّبُكْم َلِئْن َشَكْر ُتْم ََألِز يَدَّنُكْم َو َلِئْن َكَفْر ُتْم ِإَّن َعَذاِبي َلَشِديٌد}‬
‫[إبراهيم‪ :‬اآلية ‪ ،]7‬فقد أقسم جّلت ُقدرته بأّنه يزيد الّشاكرين بالّنعم‪ ،‬وُيذهب الّنعم عّم ن كفرها‬
‫وجحدها‪.‬‬
‫ووصف لنا ﷺ أجمل مشهد للحمد‪ ،‬وأخبرنا بقول الباري جّل في ُعاله‪َ{ :‬و َتَر ى اْلَم َالِئَكَة‬
‫َح آِّفيَن ِم ْن َحْو ِل اْلَعْر ِش ُيَسِّبُح وَن ِبَح ْم ِد َر ِّبِه ْم َو ُقِض َي َبْيَنُهْم ِباْلَح ِّق َو ِقيَل اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َر ِّب اْلَعاَلِم يَن }‬
‫[الزمر‪ :‬اآلية ‪ ،]75‬ما أجمله من مشهد! وما أعظمها من كلمة! فبعدما سكن هؤالء األبرار دار‬
‫الخلود‪ ،‬في نعيٍم ال يخطر على البال‪ ،‬وال يدور في الخيال‪ ،‬وال سمعت به أذن‪ ،‬وال شاهدت مثله‬
‫عيٌن ظفروا برؤية وجهه الكريم ُسبحانه‪ ،‬فكان أعظم عمل ُيقابلون به هذه الهدّية الّر ّبانية‪ ،‬والعطّية‬
‫اإللهية أن يقولوا‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َأْذَهَب َعَّنا اْلَح َز َن } [فاطر‪ :‬اآلية ‪ ،]34‬يا لها من كلمة عظيمة‬
‫تلّفظ بها هؤالء األبرار بعد أن خرجوا من دار الُح زن والبالء! وشاهدوا الّنعيم في جوار رٍّب كريم‪،‬‬
‫وسعدوا بتلك الحضرة الُقدسية‪ ،‬فخرجت من أعماق قلوبهم عذبة لطيفة جميلة‪ ،‬جعلنا هللا وإّياكم منهم‪.‬‬
‫لبسَت الشكر للّرمحن ثواًب‬
‫مجياًل زاهًيا يِف كّل انِد ي‬
‫وعمرك ُك ّلُه هلل محٌد‬
‫محدَت يف الُك ب الّش داِد‬
‫َهللا‬
‫َر‬
‫حبال أو بقول أو بفعٍل‬
‫ِم‬
‫ثناًء عاطًرا ْلَء‬
‫فص هللا ما ذرفت دموٌع‬
‫على ذكراَك اي خ الِعباِد‬
‫الوهاِد‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَّيْس ًرا‬
‫إمام الّتيسير هو البشير الّنذير والّسراج المنير رسول هللا ﷺ‪ ،‬فقد عاش الحياة في أيسر‬
‫صورها وأبسط حاالتها‪ُ ،‬بعث بالّتيسير‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و ُنَيِّس ُر َك ِلْلُيْس َر ى} [األعلى‪ :‬اآلية ‪،]8‬‬
‫وجاء بالّشريعة الّسمحة‪ ،‬كما قال ﷺ‪ُ« :‬بِع ْثُت ِبالَحِنيِفَّيِة الَّسْم َحِة » [رواه أحمد]‪ ،‬وقال ﷺ‪ِ« :‬إَّن هللا لم‬
‫َيْبَعْثِني ُم َعِّنًتا‪ ،‬وال ُم َتَعِّنًتا‪َ ،‬و َلِك ْن َبَعَثِني ُم َعِّلًم ا ُم َيِّس ًر ا» [رواه مسلم]‪ ،‬فكانت حياته ﷺ كّلها تيسيًر ا في‬
‫تيسير‪ ،‬فالُيسر معه ُيصاحبه أينما حّل وارتحل‪ ،‬وأينما أقام وانتقل‪ ،‬فال يختار ﷺ إاّل األيسـر من‬
‫األقوال واألفعال واألحوال‪ ،‬كالمه وخطبه‪ ،‬ومواعظه وعبادته‪ ،‬وطعامه وشرابه‪ ،‬ويقظته ومنامه‪،‬‬
‫كّلها ُيسـر وسماحة ورحمة‪.‬‬
‫أراد هللا تعالى أن ُييّسر على البشرّية بمبعث سّيد ولد آدم فجعل رسالته فتًح ا ُم بيًنا للعالمين‪،‬‬
‫ولطًفا بالعابدين‪ ،‬وُيسـًر ا للناس أجمعين‪ ،‬فُسبحان من يّسـره للُيسرى‪ ،‬وجّنبه الُعسرى‪ ،‬وبعثه‬
‫بالُبشرى‪ ،‬وجعله إماًم ا في الّدنيا واُألخرى‪.‬‬
‫وقاَم تيسيره لُألّم ة على الّتوازن بين حّق الّر وح وحّق البدن‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬إَّن ِلَجَسِد َك َعَلْيَك‬
‫َح ًّقا‪ ،‬وإَّن ِلَعْيِنَك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وإَّن لضيفك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وإَّن ِلَز ْو ِج َك َعَلْيَك َح ًّقا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فكان تيسيره ﷺ الّتيسير الذي يوافق الحياة وطبيعة اإلنسان كما قال ﷺ‪َ« :‬سِّدُدوا وقاِر ُبوا‪،‬‬
‫واْغ ُدوا وُر وُح وا‪ ،‬وشيٌء ِم َن الُّد ْلجِة (أي قوموا ولو قلياًل من الّليل)‪ ،‬والَقْصَد الَقْصَد َتْبُلُغوا» [متفق‬
‫عليه]‪ .‬أي‪ :‬سلوك األرفق واأليسـر من األمور؛ ألّن ذلك يؤّدي إلى الوصول للغاية بسالم‪ ،‬وهذا كّله‬
‫تيسير على األمة‪ ،‬ودعوة إلى التماس األرفق في كّل شيء ليكون العمل أنشط في األداء‪ ،‬وأسهل‬
‫على الّنفس‪ ،‬وأشرح للّص در‪ ،‬وصح عنه ﷺ أّنه لّم ا ُسِئَل ‪َ :‬أُّي الَعَم ِل َأَح ُّب إلى هللا؟ قاَل ‪َ« :‬أْد َو ُم ُه وإْن‬
‫َقَّل » [متفق عليه]؛ ألن المقصود استمرارية األعمال ودوامها حتى ولو كانت قليلة‪ ،‬فالقليل الُم ّتصل‬
‫خير من الكثير الُم نقطع‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن إرهاق الّنفس وتكليفها فوق طاقتها‪ ،‬فمنهجه ﷺ في الّتيسير منهج االعتدال‬
‫والوسطّية‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َكَذِلَك َج َعْلَناُكْم ُأَّم ًة َو َسًطا} [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]143‬فالحسنة بين سيئتين‪ ،‬بين‬
‫اإلفراط والّتفريط‪ ،‬والغلّو والجفاء‪ ،‬وعن طلحة ابن عبيدهللا (رضي هللا عنه) قال‪ :‬جاَء َر ُج ٌل إلى‬
‫َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فِإذا هو َيْس َأُلُه َعِن اإلْسالِم ‪َ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪َ« :‬خ ْم ُس َص َلواٍت في الَيوِم والَّلْيَلِة ‪،‬‬
‫َفقاَل ‪ :‬هْل َعَلَّي َغْيُر ها؟ قاَل ‪ :‬ال‪ ،‬إاَّل أْن َتَّطَّو َع‪َ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬وِص ياُم َشْه ِر َر َم ضاَن ‪ ،‬قاَل ‪ :‬هْل‬
‫َعَلَّي َغْيُر ُه؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال‪ ،‬إاَّل أْن َتَّطَّو َع‪ ،‬قاَل ‪ :‬وَذَكَر له َر سوُل هللا ﷺ الَّز كاَة‪ ،‬قاَل ‪ :‬هْل َعَلَّي َغْيُر ُها؟‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫ال‪ ،‬إاَّل أْن َتَّطَّو َع‪ ،‬فأْدَبَر الَّر ُج ُل وهو يقوُل‪ :‬وهللا ال أِز يُد على هذا‪ ،‬وال أْنُقُص ‪ ،‬قاَل َر سوُل هللا ﷺ‪:‬‬
‫«أْفَلَح إْن َص َد َق » [متفق عليه]‪.‬‬
‫لقد أتى ﷺ برفع الكلفة والحرج والمشقة عن الّناس‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َج َعَل َعَلْيُكْم ِفي‬
‫الِّديِن ِم ْن َحَر ٍج} [الحج‪ :‬اآلية ‪ ،]78‬وقال تعالى‪َ{ :‬ال ُيَكِّلُف ُهَّللا َنْفًسا ِإَّال ُو ْس َعَه ا} [البقرة‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]286‬وكان يقول ﷺ‪« :‬إَّن الِّديَن ُيْس ـٌر ‪ ،‬وَلْن ُيَشاَّد الِّديَن أَح ٌد إاّل َغَلَبُه‪َ ،‬فَسِّدُدوا وَقاِر ُبوا»‪[ ،‬رواه‬
‫البخاري]‪ .‬وكان يدعو دائًم ا إلى الّتيسير وُيبّشر الُم يسرين فيقول‪َ« :‬م ن يَّسَر على ُم عسـٍر يَّسَر هللا‬
‫علْيِه في الُّد ْنَيا َو اآلِخ َر ِة» [رواه مسلم]‪ ،‬وجاء في الصحيحين‪ :‬أّنه ﷺ ما ُخ ِّير بين أمرين َقّط إاّل أخذ‬
‫أيسرهما‪ ،‬ما لم يكن إثًم ا أو حراًم ا‪.‬‬
‫وفتح ﷺ كافة أبواب الُيسر‪ ،‬ومنها باب الّتوبة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و ُيِح ُّل َلُه ُم الِّط ِّيَباِت َو ُيَحِّر ُم‬
‫َعَلْيِهُم اْلَخ َباِئَث َو َيَضُع َعْنُهْم ِإْص َر ُهْم َو اَألْغَالَل اَّلِتي َكاَنْت َعَلْيِه ْم } [األعراف‪ :‬اآلية ‪ ،]157‬بعدما‬
‫كان توبة بعضهم بقتل أنفسهم لُتقبل توبتهم‪ ،‬قال تعالى عن بني إسرائيل‪َ{ :‬فُتوُبوا ِإَلى َباِر ِئُكْم َفاْقُتُلوا‬
‫َأْنُفَسُكْم َذِلُكْم َخْيٌر َلُكْم ِع ْنَد َباِر ِئُكْم َفَتاَب َعَلْيُكْم ِإَّنُه ُهَو الَّتَّو اُب الَّر ِح يُم } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]54‬فجاءت‬
‫رسالته ﷺ إنقاًذا للبشرّية‪ ،‬ورحمة لإلنسانية‪ ،‬وُبشرى للعالمين‪ ،‬قال تعالى‪ُ{ :‬قْل َياِع َباِد َي اَّلِذيَن‬
‫َأْس َر ُفوا َعَلى َأْنُفِس ِه ْم َال َتْقَنُطوا ِم ْن َر ْح َم ِة ِهَّللا ِإَّن َهَّللا َيْغِفُر الُّذُنوَب َج ِم يًعا} [الزمر‪ :‬اآلية ‪.]53‬‬
‫فقد يّسر ﷺ طرق الّتوبة وقّر بها للتائبين مهما عظمت ذنوبهم ومهما كثرت خطاياهم‪ ،‬مّر ة‬
‫بالوضوء فجعله كفارة وطهارة‪ ،‬ومّر ًة بالّص الة فريضة ونافلة‪ ،‬ومّر ة باالستغفار‪ ،‬وأخرى بالّدعاء‪،‬‬
‫والّنصوص في ذلك فوق الحصر‪.‬‬
‫ومنها ما جاء عن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) أّنه قال‪ُ« :‬كْنُت ِع ْنَد الّنبِّي ﷺ َفجاَءُه َر ُجٌل‬
‫َفقاَل ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إِّني أَصْبُت َح ًّدا فأِقْم ُه َعَلَّي ‪ ،‬قاَل ‪ :‬وَلْم َيْس َأْلُه عْنه‪ ،‬قاَل ‪ :‬وَح َض َر ِت الَّص الُة‪،‬‬
‫َفصّلى مع الّنبِّي ﷺ‪َ ،‬فلّم ا َقضى الّنبُّي ﷺ الَّص الَة‪ ،‬قاَم إَلْيِه الَّر ُجُل َفقاَل ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إِّني أَصْبُت‬
‫َح ًّدا‪ ،‬فأِقْم ِفَّي ِك تاَب هللا‪ ،‬قاَل ‪ :‬أليَس قْد َص َّلْيَت معنا؟! قاَل ‪َ :‬نَعْم ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإَّن هللا قْد َغَفَر لَك َذْنَبَك ‪ ،‬أْو‬
‫قاَل ‪َ :‬ح َّدَك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وعمرو بن العاص (رضي هللا عنه) لّم ا قدم إلى الّنبّي ﷺ لُيسلم فلّم ا جلس بين يديه قال‪:‬‬
‫«اْبُسْط َيِم يَنَك َفُألباِيْعَك ‪َ ،‬فَبَسَط َيِم يَنُه‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَقَبْض ُت َيِدي‪ ،‬قاَل ‪ :‬ما لَك يا َعْم ُر و؟ قاَل ‪ُ :‬قلُت ‪ :‬أَر ْدُت أْن‬
‫أْش َتِر َط‪ ،‬قاَل ‪َ :‬تْش َتِر ُط بماذا؟ ُقلُت ‪ :‬أْن ُيْغَفَر ِلي‪ ،‬قاَل ‪ :‬أما َعِلْم َت أَّن اإلْس الَم َيْهِد ُم ما كاَن َقْبَلُه؟ وأَّن‬
‫الِه ْج َر َة َتْهِد ُم ما كاَن َقْبَلها؟» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وما أجمل وأروع وأيسر كلمته ﷺ‪« :‬اإلْس الَم َيْهِد ُم ما كاَن َقْبَلُه»!‪ ،‬في لحظة واحدة‪ ،‬وجلسة‬
‫واحدة ينتهي الّسجل األسود لعمرو بن العاص بتوبة ومغفرة من هللا جّل في ُعاله‪.‬‬
‫ويّسر لنا ﷺ الّطهارة‪ ،‬وأرشدنا بقول الباري سبحانه‪َ{ :‬و ِإْن ُكْنُتْم َم ْر َض ى َأْو َعَلى َسَفٍر َأْو‬
‫َج اَء َأَح ٌد ِم ْنُكْم ِم َن اْلَغاِئِط َأْو َالَم ْس ُتُم الِّنَساَء َفَلْم َتِج ُدوا َم اًء َفَتَيَّمُم وا َص ِع يًدا َطِّيًبا َفاْم َسُح وا ِبُو ُج وِه ُكْم‬
‫َو َأْيِديُكْم ِإَّن َهَّللا َكاَن َعُفًّو ا َغُفوًر ا} [النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]43‬فتجد الُيسر والّسماحة في كل ُسبل الّطهارة‪،‬‬
‫ومنها على سبيل المثال‪ :‬أّن َم ن أحدث حدًثا أصغر يكفيه أن يغسل أطراف جسمه بالوضوء‬
‫المعروف‪ ،‬ومن كان على طهارة له أن يصلي عّدة صلوات حتى ينتقض وضوؤه‪ ،‬وفي الجنابة‬
‫يغتسل وُيعِّم م جسمه بالماء‪ ،‬وإذا انعدم الماء تيّم م بالّتراب‪.‬‬
‫ومن تيسيره ﷺ ما شرعه في المسح على الخفين للمقيم يوًم ا وليلة‪ ،‬وللمسافر ثالثة أيام‬
‫تخفيًفا من هللا ورحمة؛ ألّنه قد يشق على من لبس الجوربين والخفين خلعهما عند كل وضوء‪.‬‬
‫وكذلك من الّتيسير الّتيمم بالّتراب عند الخوف من الّضـرر من مرض‪ ،‬أو جراح في جسمه‪،‬‬
‫أو شّدة برد يخشى أن يتلف منه‪ ،‬رحمة من هللا وتيسيًر ا وُلطًفا‪ ،‬وقد صّح عنه ﷺ أّنه قال‪ُ« :‬جِع َلْت لي‬
‫األْر ُض َم ْس ِج ًدا وَطُه وًر ا‪ ،‬وَأُّيما َر ُج ٍل ِم ن ُأَّم تي أْد َر َكْتُه الَّص اَل ُة َفْلُيَص ِّل » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وهذا من الّتيسير‪ ،‬فأّي مكان ُو جد من الّص عيد الّطيب جاز الّتيمم به‪ ،‬وكذلك جاز الّص الة فيه‬
‫ما لم يكن هناك مانع شرعّي ‪.‬‬
‫وانظر إلى تيسيره ﷺ في الّص الة فتجدها موّز عة على خمس صلوات بعد أن ُفرضت‬
‫خمسين صالة‪ ،‬فرحمنا ُهللا عّز وجّل ‪ ،‬ولطف بنا عن طريق رسوله ﷺ فجعلها خمًسا في العمل‪،‬‬
‫وخمسين صالة في األجر والّثواب‪ ،‬ورّخ ص ﷺ للمريض أن ُيصّلي قاعًدا أو مضطجًعا أو على‬
‫َج ْنٍب أو مستلقًيا على ظهره‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيصّلي الّنوافل أحياًنا قائًم ا‪ ،‬وأخرى جالًسا‪ ،‬ويطّو ل مرًة وُيقّص ـر أخرى‪ ،‬وربما‬
‫جهر في صالة الّليل ورّبما أسّر ‪ ،‬وأحياًنا يوتر في أّو ل الّليل أو وسطه أو آخره‪ ،‬بل كان ﷺ ينهى عن‬
‫إطالة اإلمام في الّص الة‪ ،‬وأمر بأن ال ُيشق على المأمومين كما فعل مع معاذ بن جبل (رضي هللا‬
‫عنه) حين نهاه أن يطّو ل بقومه وغضب ﷺ وقال‪« :‬يا ُم عاُذ أَفّتاٌن أْنَت ؟» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو (رضي هللا عنه) قال‪ :‬جاَء َر ُج ٌل إلى َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فقاَل ‪:‬‬
‫«يا َر سوَل هللا‪ ،‬إِّني وهللا َأَلَتَأَّخ ُر عن َص الِة الَغداِة ِم ن أْج ِل ُفالٍن ‪ ،‬مّم ا ُيِط يُل بنا ِفيها‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فما َر َأْيُت‬
‫الّنبَّي ﷺ َقُّط أَشَّد َغَض ًبا في َمْو ِع َظٍة منه َيوَم ئٍذ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬يا أُّيها الّناُس إَّن ِم نُكم ُم َنِّفِر يَن ‪ ،‬فأُّيُكْم ما‬
‫صَّلى بالّناِس َفْلُيوِج ْز ‪ ،‬فإَّن ِفيِه ُم الَكِبيَر ‪ ،‬والَّض ِع يَف ‪ ،‬وذا الحاَجِة »‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫وَدَخ َل ﷺ ذات يوم َفِإَذا َح ْبٌل َم ْم ُدوٌد بْيَن ساريتين‪َ ،‬فقاَل ‪« :‬ما هذا الَحْبُل ؟ قالوا‪ :‬هذا َحْبٌل‬
‫ِلَز ْيَنَب َفِإَذا َفَتَر ْت َتَعَّلَقْت ‪َ ،‬فقاَل الّنبُّي ﷺ‪ :‬ال‪ُ ،‬ح ُّلوُه‪ِ ،‬لُيَص ِّل َأَح ُدُكْم َنَشاَطُه‪َ ،‬فِإَذا َفَتَر َفْلَيْقُعْد» [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫ومن تيسيره ﷺ وتسهيله على األمة أّنه كان إذا سافر َقصـر الّص الة الّر باعية ركعتين‪ ،‬وجمع‬
‫بين الّظهر والعصر‪ ،‬أو المغرب والعشاء‪ ،‬وترك الّنوافل إاّل الوتر وركعتي الفجر‪ ،‬وكانت صالته‬
‫ﷺ بالمسلمين قصًدا ميسـرًة يتوّخ ى راحتهم والّتسهيل عليهم‪.‬‬
‫وأمر ﷺ بتخفيف خطبة الجمعة تيسيًر ا وتسهياًل على الّناس‪ ،‬فقال ‪ -‬كما في «صحيح‬
‫مسلم»‪« :-‬إَّن ُطوَل َص الِة الَّر ُج ِل ‪ ،‬وِقصَر ُخ طبِته‪َ ،‬م ِئَّنٌة ِم ن ِفقِه ه»‪ ،‬أي‪ :‬عالمة على فقهه في الّدين‪،‬‬
‫هذا في باب الّص الة التي جعلها ﷺ ُقّر ة عين له ولكل ُم سلم وُم سلمة إلى يوم الّدين‪ ،‬وال تكون قرة‬
‫عين إاّل إذا كانت ُم يّسـرة ال مشقة فيها وال َعنَت ‪.‬‬
‫وجعلها ﷺ راحة له‪ ،‬وال تكون راحة إاّل إذا كانت سهلة ال تكليف فيها‪ ،‬وهذا بالفعل حال‬
‫الّص الة‪ ،‬وعن ِم ْح َج ن بن اَألْدرِع (رضي هللا عنه)‪ ،‬أَّن رسوَل هللا ﷺ قاَل ‪« :‬إَّن خيَر ديِنكم أيسُر ه»‬
‫قاله ثالًثا‪[ .‬رواه أحمد]‪ .‬وقال ﷺ‪« :‬عليكم َهْد ًيا قاصًدا‪ ،‬عليكم َهْد ًيا قاصًدا‪ ،‬عليكم َهْد ًيا قاصًدا‪ ،‬فإَّنه‬
‫َم ن ُيشاَّد هذا الِّديَن يغِلْبه» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فكان اليسر سبيله‪ ،‬والّسماحة مطلبه‪ ،‬والّسهولة منهجه ﷺ‪.‬‬
‫وكان تيسيره ﷺ في الّص يام المفروض ظاهًر ا للعيان‪ ،‬فإّن هللا فرض عليه وعلى ُأّم ته شهًر ا‬
‫في العام فقط مع االستطاعة‪ ،‬قال سبحانه‪َ{ :‬و َم ْن َكاَن َمِر يًض ا َأْو َعَلى َسَفٍر َفِع َّدٌة ِم ْن َأَّياٍم ُأَخ َر ُيِر يُد‬
‫ُهَّللا ِبُكُم اْلُيْس َر َو َال ُيِر يُد ِبُكُم اْلُعْس َر } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]185‬فانظر إلى مقصود الّشريعة في الّتيسير‬
‫والّتسهيل على األمة‪.‬‬
‫وقد أفطر ﷺ في السفر وأمر باإلفطار‪ ،‬فذكروا له ‪ -‬كما في الّص حيح ‪ :-‬أن أناًسا رفضوا أن‬
‫يفطروا وظّلوا صائمين‪ ،‬فقال ﷺ‪ُ« :‬أوَلِئَك الُعَص اُة‪ُ ،‬أوَلِئَك الُعَص اة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ في َسَفٍر ‪َ ،‬فَر َأى ِز َح اًم ا وَر ُج اًل قْد ُظِّلَل عليه‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬ما هذا؟‪َ ،‬فقالوا‪َ :‬ص اِئٌم ‪َ ،‬فقاَل ‪:‬‬
‫«ليَس ِم َن الِبِّر الَّص ْو ُم في الَّسَفِر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومن تيسيره ﷺ أّنه أباح الفطر للمريض والمسافر والحائض والمرضع والحامل في‬
‫رمضان ويقضون في أياٍم ُأخر‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن عمرو (رضي هللا عنهما) قال‪ُ« :‬أْخ ِبَر َر سوُل هللا َص َّلى ُهللا عليه وسَّلَم َأِّني‬
‫َأُقوُل‪ :‬وهللا َأَلُص وَم َّن الَّنَه اَر ‪ ،‬وَأَلُقوَم َّن الَّلْيَل ما ِع ْش ُت ‪َ ،‬فقاَل له َر سوُل هللا َص َّلى ُهللا عليه وسَّلَم ‪َ :‬أْنَت‬
‫الذي َتُقوُل وهللا َأَلُص وَم َّن الَّنَه اَر وَأَلُقوَم َّن الَّلْيَل ما ِعْشُت ؟!‪ُ ،‬قلُت ‪ :‬قْد ُقلُتُه قاَل ‪ :‬إَّنَك ال َتْس َتِط يُع ذلَك ‪،‬‬
‫َفُص ْم وَأْفِط ْر ‪ ،‬وُقْم وَنْم ‪ ،‬وُص ْم ِم َن الَّشْه ِر َثاَل َثَة َأَّياٍم ‪ ،‬فإَّن الَحَسَنَة بَعْش ِر َأْم َثاِلَه ا‪ ،‬وذلَك ِم ْثُل ِص َياِم‬
‫الَّد ْه ِر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وفي صيام الّنافلة كان ﷺ ُم يّسًر ا‪ ،‬فعن عائشة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬كان‬
‫َر سوُل هللا ﷺ َيصوُم حتى نقوَل ‪ :‬ال ُيفِط ُر ‪ ،‬وُيفِط ُر حتى نقوَل ‪ :‬ال يصوُم ‪ ،‬وما رأيُت َر سوَل هللا ﷺ‬
‫استكَم َل ِص ياَم َشهٍر َقُّط إاّل َر مضاَن ‪ ،‬وما رأيُته في َشهٍر أكَثَر منه صياًم ا في َشعباَن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومن ُيسره ﷺ في صيام الّتطوع ما جاء عن أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪:‬‬
‫«قاَل لي َر سوُل هللا ﷺ َذاَت َيوٍم ‪ :‬يا َعاِئَشُة‪ ،‬هْل ِع ْنَدُكْم شيٌء ؟‪ ،‬قاَلْت ‪َ :‬فُقلُت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما ِع ْنَدَنا‬
‫شيٌء ‪ .‬قاَل ‪ :‬فإِّني َص اِئٌم ‪ ،‬قاَلْت ‪َ :‬فَخ َر َج َر سوُل هللا ﷺ َفُأْه ِد َيْت َلَنا َهِدَّيٌة‪َ ،‬أْو َج اَء َنا َز ْو ٌر (أي‪ :‬ضيف)‪،‬‬
‫قاَلْت ‪َ :‬فَلَّم ا َر َج َع َر سوُل هللا ﷺ ُقلُت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ُ ،‬أْه ِد َيْت َلَنا َهِدَّيٌة‪َ ،‬أْو َج اَء َنا َز ْو ٌر ‪َ ،‬و َقْد َخ َبْأُت لَك‬
‫شيًئا‪ ،‬قاَل ‪ :‬ما ُهَو ؟‪ُ ،‬قلُت ‪َ :‬ح ْيٌس ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬هاِتيِه ‪َ .‬فِج ْئُت به فأَكَل ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪« :‬قْد ُكْنُت َأْصَبْح ُت َص اِئما»‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫فانظر إليه ﷺ لّم ا لم يتيسر الّطعام صام‪ ،‬ولّم ا ُو جد الطعام أفطر‪.‬‬
‫وكذلك في سفره ﷺ فإّنه عمل بالّر خصة والّتيسير الذي أنزله هللا في كتابه‪ ،‬ويقول ﷺ‪ِ« :‬إَّن‬
‫هللا ُيِح ُّب َأْن ُتْؤ َتى ُر َخ ُص ُه َكَم ا َيْك َر ُه َأْن ُتْؤ َتى َم ْعِص َيُتُه» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وجاء ﷺ بالُيسر في الّز كاة فهي ال تجب إاّل على َم ن بلغت أمواله مقداًر ا محدًدا‪ ،‬وتكون‬
‫نسبتها قليلة يسيرة تزكية لألموال وتطهيًر ا لصاحبها‪.‬‬
‫وكذلك زكاة بهيمة األنعام‪ ،‬فقد فّر ق ﷺ بين الّسائمة التي ترعى غالب الحول والتي ال‬
‫ترعى‪ ،‬ويّسر ﷺ زكاة محاصيل الحبوب والّثمار‪ ،‬وفّر ق في زكاتها بين ما ُيسقى بالعيون واآلبار‬
‫وما ُيسقى باألمطار‪ ،‬إلى غير ذلك من أحكام الّز كاة المليئة بالُيسر والّسهولة والوضوح‪ ،‬فكان ﷺ‬
‫ُيراعي حق الفقير‪ ،‬وال يضـّر صاحب المال‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُم يّسًر ا في الحّج ‪ ،‬فإّن هللا تعالى لّم ا فرض الحّج قال‪َ{ :‬مِن اْس َتَطاَع ِإَلْيِه َسِبيًال} [آل‬
‫عمران‪ ،]97 :‬فلّم ا حج ﷺ يّسـر على الُم سلمين حتى كان شعاره الّظاهر في الحج‪« :‬اْفَعْل واَل‬
‫َح َر َج »‪ ،‬ففي «الّص حيحين»‪ :‬أنه في يوم الّنحر قام َر ُج ٌل َفَقاَل للّنبي ﷺ‪ُ :‬كْنُت أْح ِسُب أَّن َكَذا َقْبَل َكَذا‪،‬‬
‫ُثَّم َقاَم آَخ ُر َفَقاَل ‪ُ :‬كْنُت أْح ِسُب أَّن َكَذا َقْبَل َكَذا‪َ ،‬ح َلْقُت َقْبَل أْن أْنَحَر ‪َ ،‬نَح ْر ُت َقْبَل أْن أْر ِم َي ‪ ،‬وَأْش َباَه‬
‫ذلَك ‪َ ،‬فَقاَل الّنبُّي ﷺ‪ :‬اْفَعْل واَل َح َر َج لهَّن ُكِّلِه َّن ‪َ ،‬فما ُسِئَل َيوَم ئٍذ عن شيٍء إاّل َقاَل ‪ :‬اْفَعْل واَل َح َر َج‪،‬‬
‫وجملة «اْفَعْل واَل َح َر َج»‪ ،‬هي غاية الُيسـر‪ ،‬ونهاية الّسهولة‪ ،‬وذروة الّر حمة‪ ،‬بالحّج اج‪ ،‬فعن أنس بن‬
‫مالك (رضي هللا عنه) قال‪ :‬إَّن النبَّي ﷺ َر أى شيًخ ا ُيهادى بْيَن اْبَنْيِه ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬ما باُل هذا؟‪ ،‬قالوا‪َ :‬نَذَر‬
‫َأْن َيْم ِش َي ‪ ،‬قاَل ‪« :‬إَّن هللا عن َتْعِذيِب هذا َنْفَسُه َلَغِنٌّي ‪َ ،‬و َأَمَر ُه َأْن َيْر َكَب » [متفق عليه]‪ ،‬فسّه ل ﷺ‬
‫ويّسر على الّناس‪.‬‬
‫َة‬
‫وسألته امرأٌة من َخ ْثعَم في حجِة الوداِع‪ ،‬فقالت‪« :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إَّن َفِر يَض هللا في الَح ِّج‬
‫على ِع باِدِه ‪ ،‬أْد َر َكْت أِبي شيًخ ا َكِبيًر ا‪ ،‬ال َيْس َتِط يُع أْن َيْس َتِو َي على الّر اِح َلِة ‪َ ،‬فهْل َيْقِض ي عْنه أْن أُح َّج‬
‫عْنه؟‪ ،‬قاَل ‪َ :‬نَعْم » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فالّنيابة عن الحاج الذي ال يستطيع من ُيسـر الّشـريعة‪.‬‬
‫ومن تيسيره ﷺ بما ُأوحَّي إليه من رّبه أن الحج ال يجب في العمر إاّل مّر ة واحدة مع‬
‫االستطاعة‪ ،‬ويسقط مع عدم االستطاعة‪ ،‬فأّي فضل أكبر من هذا؟! وأي ُيسـر أعظم من هذا؟!‬
‫وكان ﷺ ُم يسًر ا في تالوة القرآن‪ ،‬ألّن هللا أوحى إليه‪َ{ :‬فاْقَر ُأوا َم ا َتَيَّسَر ِم ْنُه} [المزمل‪ :‬اآلية‬
‫‪ .]20‬فلم يحد حًّدا ﷺ للقراءة‪ ،‬وإّنما على حسب القدرة والطاقة‪ ،‬تسهياًل على األمة‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫{طه * َم ا َأْنَز ْلَنا َعَلْيَك اْلُقْر آَن ِلَتْشَقى} [طه‪ :‬اآلية ‪ ،]2 -1‬فليس القرآن طريًقا للشقاء أو الّص عوبة أو‬
‫الُعسر‪ ،‬بل للُيسـر والّسماحة والّر فق والّر حمة‪.‬‬
‫وقال ﷺ لعبدهللا بن عمرو (رضي هللا عنهما) لّم ا ُأخبر أّنه يختم كل ليلة‪« :‬اْقَر ِأ الُقْر آَن في‬
‫ُكِّل َشْه ٍر »‪ ،‬قاَل ‪ :‬إِّني َأِج ُد ُقَّو ًة‪ ،‬قاَل ﷺ‪َ « :‬فاْقَر ْأُه في ِع ْش ِر يَن »‪ ،‬قاَل ‪ :‬إِّني َأِج ُد ُقَّو ًة‪ ،‬قاَل ﷺ‪َ « :‬فاْقَر ْأُه‬
‫في َسْبٍع َو اَل َتِز ْد عَلى ذلَك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فبدأ ﷺ بالّشهر‪ ،‬وهذه توسعة منه ﷺ وتسهيل لكل ُم سلم ومسلمة إلى يوم القيامة‪ ،‬أي أّنه ﷺ‬
‫دعا إلى قراءة جزء كل يوم‪ ،‬فالحمد هلل على رحمته ُسبحانه وكمال تيسيره وتسهيله لشريعته عن‬
‫طريق رسوله ونبّيه وُم صطفاه محمد بن عبدهللا ﷺ‪.‬‬
‫وكان ﷺ سهاًل ُم يّسـًر ا حّتى في طعامه‪ ،‬فكان ال يتكّلف مفقوًدا‪ ،‬وال يرد موجوًدا‪ ،‬يأكل ما ُقّدم‬
‫له وال يشترط أكاًل ُم حّدًدا‪ ،‬ويرضى بما ُقّدم من الميسور‪ ،‬فأكل ﷺ خبز الّشعير‪ ،‬ورديء الّتمر‪،‬‬
‫ومذقة الّلبن والّسويق إلى آخر تلك األنواع الّسهلة الُم يّسرة‪ ،‬وأكل ﷺ ما ُقّدم له من طّيبات من عسل‬
‫ولحم وغيرها‪ ،‬فكان طعامه من جنس طعام معاصريه الذين عاشوا في عهده‪ ،‬يأكل كما يأكلون‪،‬‬
‫ويشرب كما يشربون‪ ،‬ال يوجد له طعام أو شراب خاص‪ ،‬وإّنما كبقية الّناس ما لم يكن حراًم ا‪،‬‬
‫فطريقته ﷺ في الّطعام هي الّطريقة الُم يّسـرة الّسهلة‪ ،‬ليست طريقة الُم ترفين أهل البذخ واإلسراف‬
‫الذين تشغلهم بطونهم عن الفقراء والمساكين‪ ،‬وال طريقة الُم تزّهدين الُم نحرفين عن الُسّنة‪ ،‬الذين‬
‫ابتدعوا رهبانية ما أنزل هللا بها من سلطان‪ ،‬فأدخلوا األمراض على أجسامهم بحّج ة ترك الّطعام‬
‫وهجر المنام‪.‬‬
‫وكان عليه الّص الة والّسالم ُم يّسـًر ا في الّلباس‪ ،‬يلبس ما وجد من غال ورخيص‪ ،‬ويبتعد عن‬
‫الحرام من ذهب وحرير ونحو ذلك‪ ،‬فلبس ﷺ الّص وف والقطن‪ ،‬ولبس الكساء واإلزار والّر داء‪،‬‬
‫ولبس القميص والُبرد والِح َبرَة والّسراويل‪ ،‬ولبس الَقَلْنُسوة والعمامة‪ ،‬ولبس الخّف والّنعل والجورب‪،‬‬
‫كل ذلك على وجه الّتيسير على حسب ما أمكن وما استطاع أن يلبس‪.‬‬
‫ورّبما لبس األبيض أو األخضر أو األحمر الُم خطط‪ ،‬فكان يلبس مثل ما يلبس من عاش معه‬
‫من الّناس ما لم يكن حراًم ا‪ ،‬فهو الُم يّسـر الّسهل في كل شأن من شؤون الحياة‪ ،‬ولم يلتزم ﷺ بزي‬
‫خاص أو هيئة خاصة‪ ،‬أو وضع خاص في الّطعام أو الّشراب أو الّلباس أو المشي كما يفعل بعض‬
‫المتعّبدين المّتشّددين الُم تزّم تين الذين ُيحافظون على طقوس خاصة‪ ،‬وهيئات ُتخملفة عن الّناس‪.‬‬
‫وكان ﷺ ميسًر ا في كالمه وخطبه ومواعظه‪ ،‬فلم يكن يتكّلف في الحديث‪ ،‬بل نهى عن ذلك‬
‫وقال ‪ -‬كما في الّص حيح‪َ« :-‬هَلَك الُم َتَنِّط ُعوَن ‪ ،‬قاَلها َثالًثا» [رواه مسلم]‪ .‬والُم تنّطعون هم الُم تعّم قون‬
‫الذين يخرجون عن حّد االتزان والّسهولة والُيسر‪ ،‬وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪ُ« :‬كّنا‬
‫ِع ْنَد ُعَمَر َفقاَل ‪ُ« :‬نِه ينا َعِن الَّتَكُّلِف » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وقال تعالى لنبّيه ﷺ‪ُ{ :‬قْل َم ا َأْس َأُلُكْم َعَلْيِه ِم ْن َأْج ٍر َو َم ا َأَنا ِم َن اْلُم َتَكِّلِفيَن } [ص‪ :‬اآلية ‪،]86‬‬
‫فكان ينهى ﷺ عن تشقيق الخطب ويقول‪« :‬أُّيها الَّناُس قولوا بقوِلكم‪ ،‬فإَّنما تشقيُق الكالِم ِم ن‬
‫الَّشيطاِن ‪ ،‬فإَّن ِم ن البياِن ِس حًر ا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫ونهى عن التقعر بالّلسان‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إَّن هللا عَّز وجَّل ُيبِغُض البليَغ مَن الِّر جاِل ‪ ،‬اَّلذي يتخَّلُل‬
‫بلساِنِه ‪ ،‬كما تخَّلُل البقرُة بِلساِنها» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الّتفاصح وهو إظهار المقدرة البالغية تكلًفا وكبًر ا وتجّبًر ا‪ ،‬والّتشّدق وهو‬
‫تحريك الّشفتين بالجمل زهًو ا وخيالًء ‪ ،‬والتعّم ق وهو التقّعر في الكالم‪ ،‬ودعا ﷺ إلى الوضوح‬
‫والّسهولة فكان قوله ﷺ فصاًل ‪ ،‬إذا سّلم سّلم ثالًثا‪ ،‬وإذا دعا دعا ثالًثا‪ ،‬وإذا تكّلم أوجز‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫«ُأْع ِط يُت َج واِم َع الَكِلِم » [متفق عليه]‪ ،‬وعن ابن مسعود (رضي هللا عنه) قال‪« :‬إَّن َر سوَل هللا ﷺ‬
‫كاَن َيَتَخ َّو ُلَنا بالَمْو ِع َظِة في األَّياِم ‪َ ،‬كَر اهيَة الَّسآَم ِة َعَلْيَنا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫ولم يكن ﷺ ُيطيل الخطب وال المواعظ‪ ،‬إاّل في القليل الّنادر‪ ،‬مع أّنه أحسن الّناس حديًثا‪،‬‬
‫وأجملهم منطًقا‪ ،‬وأبينهم لفًظا‪ ،‬وأحّب البشر إلى أصحابه‪ ،‬وهم في غاية الّشوق لسماع كالمه‪ ،‬وفي‬
‫نهاية الُحّب لإلنصات لُدرره وجواهره‪ ،‬ومع ذلك كان ﷺ ُيوجز ويختصر‪ ،‬وُيخّفف على الّسامعين‪،‬‬
‫فغيره أولى منه مهما كان‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُم يّسـًر ا في معامالته وبيعه وشرائه‪ ،‬وأخذه وعطائه‪ ،‬ودعا لهذا الّنهج فقال‪َ« :‬ر ِح َم‬
‫هللا َر جاًل َسْم ًح ا إذا باَع‪ ،‬وإذا اْش َتَر ى‪ ،‬وإذا اْقَتضـى» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ومن ُيسره وسماحته أّنه اشترى جمل عمر بن الخطاب وأهداه البنه عبدهللا (رضي هللا‬
‫عنهما)‪ ،‬واشترى جمل جابر ثم أعطاه الّثمن والجمل‪.‬‬
‫ومن تيسيره ﷺ على األمة تيسيره في مسألة الَم هر والّز واج‪ ،‬فعن عقبة بن عامر (رضي هللا‬
‫عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬خيُر الِّنكاِح أيسـُر ه»‪ .‬وقال الَّنبُّي لرجٍل ‪« :‬أترضى أْن ُأزِّو َج ك فالنَة؟‪ ،‬قال‪:‬‬
‫َنعم‪ ،‬وقال لها‪ :‬أترَض ْيَن أْن ُأزِّو َجِك فالًنا؟‪ ،‬قالت‪َ :‬نعم‪ ،‬فزَّو جها ﷺ ولم يفِر ْض صداًقا فدَخل بها فلم‬
‫ُيعِط ها شيًئا‪ ،‬فلّم ا حَض ـرْته الوفاة‪ ،‬قال‪ :‬إَّن رسوَل هللا ﷺ زَّو جني فالنَة ولم ُأعِط ها شيًئا‪ ،‬وقد‬
‫أعَطْيُتها سهمي ِم ن خيبَر ‪ ،‬فكان له سهٌم بخيبَر فأَخ ذْته فباعْته فبَلغ مئَة ألٍف » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وهذا من مقاصد شريعته ﷺ أن ُيخّفف على األمة ليتم الّز واج بيسـر وسهولة فتقطع المفاسد‬
‫الخلقية في المجتمع‪ ،‬والّسلوك المشين في األّم ة‪.‬‬
‫وأنا أتحدث عن تجربة شخصّية لي بعد مدة طويلة من ُم طالعة سيرته ﷺ فإّني وجدت فيها‬
‫إنقاًذا لروحي من إرهاق الحياة وهمومها وأحزانها‪ ،‬وهي الّسيرة الوحيدة الّسهلة الُم يّسرة التي‬
‫يستطيع أن يعيشها كل إنسان في هدوء وأمن وسالم؛ ألّنها الّسيرة التي ُتناسب الفطرة‪ ،‬وُتوافق‬
‫العقل‪ ،‬وُتراعي مطالب الّر وح والبدن‪ ،‬وتستقيم مع ناموس الكون وطبيعة البشر‪ ،‬ولقد طالعت حياة‬
‫الكثيرين من ُعّباد وعلماء‪ ،‬وُز ّهاد وُح كماء‪ ،‬ومشاهير وُشعراء‪ ،‬فوجدُت أّن سيرة كل واحد منهم ال‬
‫تخلو من مآخذ‪ ،‬من إفراط أو تفريط‪ ،‬أو غلو أو جفاء‪ ،‬إاّل سيرته ﷺ‪ ،‬فهي السيرة اليسيرة الّسمحة‬
‫الُم عتدلة التي وجدت فيها روحي‪ ،‬ونهلت منها اليقين‪ ،‬والّر ضا‪ ،‬واألمن‪ ،‬وشعرت باألنس والبهجة‬
‫والّسعادة‪ ،‬وأنا أعيشها فصاًل فصاًل ‪ ،‬وموقًفا موقًفا‪ ،‬وُكنت أردد من روعة اإلعجاب وقوة االندهاش‪:‬‬
‫«أشهد أّنك رسول هللا»‪.‬‬
‫إن من ُيسره ﷺ وسهولة حياته‪ ،‬وسماحة شريعته؛ أّن كل إنسان يستطيع أن يأخذ منها ما‬
‫ينفعه في حياته الخاصة مهما كان‪ :‬عالًم ا أو عامًّيا أو ملًكا أو وزيًر ا أو غنًّيا أو فقيًر ا أو شيًخ ا أو شاًّبا‬
‫أو رجاًل أو امرأة؛ ألّنه ﷺ عاش أطوار الحياة‪ ،‬ومّر بأدوارها كّلها‪ ،‬فقد عاش الُيتم‪ ،‬ورعى الغنم‪،‬‬
‫وعاش فترة الّشباب‪ ،‬ثم الّز واج‪ ،‬فاألبوة‪ ،‬فالقيادة‪ ،‬ومّر بالّسلم والحرب‪ ،‬والغنى والفقر‪ ،‬والّص حة‬
‫والمرض‪ ،‬والّشدة والّر خاء‪ ،‬ليكون لكل إنسان قدوة‪ ،‬ولكل عبد أسوة‪ ،‬وما ذكرته في هذا الباب ما هو‬
‫إاّل غيض من فيض ُيسره ﷺ‪ ،‬وسهولة منهجه وسماحة شريعته التي نعم بها أصحابه‪ ،‬وسعد بها‬
‫أتباعه إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫ُبعثَت بدين الُيمِن والفأل والُبشـرى‬
‫وأرشدت للُح سىن وُيسّـرت للُيسـرى‬
‫أتيت هبا بيضاء كالّش مس يف الّضحى‬
‫وجئَت بعلٍم ِس ُّر حكمتِه (اقرا)‬
‫مساحُة تشـريٍع ‪ ،‬و سـر عبادٍة‬
‫ُي‬
‫ورمحة ديٍن لن ترى أبًد ا ُعسـَرا‬
‫فَيا رّب بّلغه الصالة زكّيًة‬
‫وسّلم على روٍح قد امتألت ُطهَرا‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَبِّش ًرا‬
‫ُبعث ﷺ بشيًر ا للعالمين‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّنِبُّي ِإَّنا َأْر َسْلَناَك َشاِه ًدا َو ُمَبِّش ًر ا َو َنِذيًر ا}‬
‫[األحزاب‪ :‬اآلية ‪ ،]45‬وتأّم ل هنا تقديم الّتبشير على اإلنذار‪ ،‬وهذا من رحمة هللا بعباده‪ ،‬فكانت‬
‫كلماته ﷺ وعباراته َتندى ُبشرى‪ ،‬وتسيل أماًل ‪ ،‬وتشّع سروًر ا ونوًر ا‪ ،‬تصغي لها اآلذان‪ ،‬وتهفو لها‬
‫األرواح‪ ،‬تهب في القلوب فتنفض عنها غبار اليأس والقنوط‪ ،‬وتملؤها طمأنينة وسكينة‪ ،‬وُتجّدد فيها‬
‫الهّم ة والّنشاط‪ ،‬يتعاهد ﷺ أصحابه بالُبشرى حتى في أحلك الّظروف‪ ،‬وأصعب األزمات‪ ،‬فُترسم‬
‫على وجوههم البسمة‪ ،‬وُتزرع في صدورهم اُأللفة‪ ،‬فالّتبشير أمر إلهي‪ ،‬ومنهج نبوّي ‪ُ ،‬يعين على‬
‫تحّم ل مصاعب الحياة‪ ،‬ويمأل األرواح بُح سن الّظن باهلل‪.‬‬
‫أطالع سيرته ﷺ وأقرأ حديثه‪ ،‬وأفّتش ُسّنته فإذا ُكّلها ُبشـرى‪ ،‬وأمل‪ ،‬وفأل‪ ،‬وُح سن ظن باهلل‪،‬‬
‫ورجاء في رحمته ومغفرته جّل في ُعاله‪ ،‬ال يأس‪ ،‬ال إحباط‪ ،‬ال قنوط‪ُ ،‬بشـرى في كل فريضة‬
‫وُسّنة‪ُ ،‬بشـرى مع الشّدة والّر خاء‪ ،‬والسـّر اء والضـّر اء‪.‬‬
‫ُيبّشـر ﷺ دائًم ا بالعاقبة الجميلة‪ ،‬واألجور الجزيلة‪ُ ،‬يبّشـر ﷺ وهو في عين العاصفة بالّنصر‪،‬‬
‫وُيبّشـر ﷺ وهو في قمة الُم عاناة بالفتح‪ ،‬وُيبّشـر ﷺ وهو في ذروة الّشدة بالّر خاء‪ ،‬وُيبّشـر وهو في‬
‫نهاية الُعسر بالُيسر‪ُ ،‬يبّشـر َم ن شكا له الفقر بالغنى‪ ،‬وَم ن شكا المرض بالعافية‪ ،‬وَم ن شكا الُم صيبة‬
‫باألجر‪ ،‬وَم ن شكا الحزن بالّسرور‪ ،‬ويكفي إطاللة وجهه الّشريف وطلعته البهّية ﷺ على أصحابه‬
‫لتكون أعظم بشارة‪ ،‬وأغلى هدّية‪ ،‬فبسمته ُبشرى‪ ،‬وكلمته ُبشرى‪ ،‬وأمره ُبشـرى‪ ،‬ونهيه ُبشرى‪ ،‬وكل‬
‫حياته ُبشرى‪.‬‬
‫أمره هللا فقال له ُسبحانه‪َ{ :‬فَبِّش ْر ِع َباِد} [الزمر‪ ،]١٧ :‬وبعثه بالبشارة الكبرى‪ ،‬والغاية‬
‫العظمى وهي توحيده واإليمان به ُسبحانه‪ ،‬والبشارة بجّنة عرضها الّسماوات واألرض‪ ،‬والبشارة‬
‫بجميل عفوه وغفرانه ورحمته ورضوانه‪ ،‬فانطلق ﷺ بعد هذا األمر اإللهي والّتوجيه الّر ّباني‪،‬‬
‫ُم بّشـًر ا عباد هللا بإذنه جّل في عاله‪ ،‬فقد بّشر ﷺ بتوبة هللا على من تاب‪ ،‬وعفوه عّم ن أناب‪ ،‬وبّشر‬
‫الُم ذنبين بأن باب الّتوبة مفتوح حتى تطلع الّشمس من مغربها‪ ،‬وبّشر الُعصاة بسعة رحمة هللا‪ ،‬كما‬
‫أمره رّبه‪َ{ :‬نِّبىْء ِع َباِدي َأِّني َأَنا اْلَغُفوُر الَّر ِح يُم } [الحجر‪ :‬اآلية ‪ ،]49‬وقال تعالى‪ُ{ :‬قْل َياِع َباِد َي‬
‫اَّلِذيَن َأْس َر ُفوا َعَلى َأْنُفِس ِه ْم َال َتْقَنُطوا ِم ْن َر ْح َم ِة ِهَّللا ِإَّن َهَّللا َيْغِفُر الُّذُنوَب َج ِم يًعا ِإَّنُه ُهَو اْلَغُفوُر الَّر ِح يُم }‬
‫[الزمر‪ :‬اآلية ‪.]53‬‬
‫وبّشرعليه الّص الة والّسالم بأّن الوضوء يحّط الخطايا‪ ،‬وأّن الّص الة ورمضان والحج‬
‫والعمرة كّفارات لما بينها من الّذنوب إاّل الكبائر‪ ،‬وأّن َم ن قال‪ُ :‬سبحان هللا وبحمده مئة مرة ُح ّطت‬
‫خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر‪ ،‬وأّن َم ن أذنب ذنًبا ثم توّضأ وصّلى ركعتين واستغفر هللا غفر هللا‬
‫له‪ ،‬وقال ﷺ‪ِ« :‬إَذا أْس َلَم الَعْبُد َفَح ُسَن إْس اَل ُم ُه‪ُ ،‬يَكِّفُر هللا عْنه ُكَّل َسِّيَئٍة كاَن َز َلَفَه ا (أي‪ :‬اقترفها‬
‫وفعلها)» [رواه النسائي]‪ .‬إلى غير ذلك من مئات األحاديث له ﷺ تحمل الُبشـرى برحمة هللا‬
‫ومغفرته‪ ،‬وتوبته على من تاب إليه‪.‬‬
‫وجاء ﷺ بأعظم البشارات‪ ،‬وأجّل الُم عجزات‪ ،‬آيات هللا البّينات‪ ،‬القرآن العظيم‪ ،‬قال سبحانه‪:‬‬
‫{َفِإَّنَم ا َيَّسْر َناُه ِبِلَساِنَك ِلُتَبِّش َر ِبِه اْلُم َّتِقيَن } [مريم‪ :‬اآلية ‪ ،]97‬وقال تعالى‪َ{ :‬و َنَّز ْلَنا َعَلْيَك اْلِك َتاَب ِتْبَيانًا‬
‫ِلُكِّل َشْي ٍء َو ُهدًى َو َر ْح َم ًة َو ُبْش َر ى ِلْلُم ْسِلِم يَن } [النحل‪ :‬اآلية ‪ ،]89‬فبّشر ﷺ قارئ القرآن فقال‪َ« :‬م ْن‬
‫َقَر َأ َح ْر ًفا ِم ْن ِك َتاِب هللا َفَلُه ِبِه َحَسَنٌة‪َ ،‬و اْلَحَسَنُة ِبَعْش ِر َأْم َثاِلَه ا؛ اَل َأُقوُل ‪( :‬الم) َح ْر ٌف ‪َ ،‬و َلِك ْن َأِلٌف‬
‫َح ْر ٌف ‪َ ،‬و اَل ٌم َح ْر ٌف ‪َ ،‬و ِم يٌم َح ْر ٌف »‪[ .‬رواه الترمذي]‪.‬‬
‫بل إّنه ﷺ بّشر بأن (ُقْل هو هللا أَح ٌد) َتْعِد ُل ُثُلَث الُقْر آِن ‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أبي شريح الخزاعي (رضي هللا عنه) قال‪ :‬خرج علينا رسول هللا ﷺ فقال‪« :‬أبشروا‪،‬‬
‫أليس تشهدون أن ال إله إال هللا وأني رسول هللا؟‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى‪ .‬قال‪« :‬إن هذا القرآن سبب طرفه بيد‬
‫هللا وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبًدا» [رواه الطبراني بسند جيد]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ بأّن القرآن يأتي يوم القيامة شفيًعا ألصحابه‪ ،‬إلى غير ذلك من األحاديث الكثيرة‬
‫المليئة بالبشارات عن فضل كتاب هللا العظيم‪ ،‬الكتاب الذي يفيض ُبشرى‪ ،‬ويشع أماًل وُأنًسا‪ ،‬فهو من‬
‫أّو له إلى آخره مصدر سعادة ونجاة‪ ،‬وفوز وأمن‪ ،‬ونجاح وفالح لمن آمن به‪ ،‬حتى إّنه بعدما بّشر‬
‫المؤمنين‪ ،‬بقّر ة العين‪ ،‬ورضا رّب العالمين‪ ،‬بّشر الكافرين بالمغفرة إذا آمنوا‪ ،‬والعصاة إذا عادوا‬
‫بالّتوبة‪ ،‬وكّل من قرأ القرآن مؤمًنا به‪ ،‬متدّبًر ا له‪ ،‬انقشعت ُسُح ب همومه‪ ،‬وانزاحت جبال غمومه‪،‬‬
‫ومألت المسّر ة قلبه‪ ،‬وعّم رت البهجة روحه‪.‬‬
‫حتى الُم صابون والمرضى والُم بتلون الّص ابرون بّشـرهم ﷺ كما أمره ربه‪َ{ :‬و َبِّش ِر‬
‫الَّص اِبِر يَن * اَّلِذيَن ِإَذا َأَص اَبْتُهْم ُمِص يَبٌة َقاُلوا ِإَّنا ِهَّلِل َو ِإَّنا ِإَلْيِه َر اِج ُعوَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪،]155-156‬‬
‫فكان ﷺ ُيبّشر المبتلين والمصابين والمحزونين‪ ،‬بما يثلج صدورهم‪ ،‬ويبعث األمل في نفوسهم‪،‬‬
‫وُيخفف من معاناتهم‪ ،‬فبّشر ﷺ من فقد عينيه فصبر بالجّنة‪ ،‬كما جاء َعْن َأنٍس (رضي هللا عنه) قاَل ‪:‬‬
‫َسِم ْعُت َر ُسوَل هللا ﷺ يقوُل‪ :‬إَّن هللا َقاَل ‪ِ« :‬إَذا اْبَتَلْيُت َعبِدي بحبيبَتْيِه َفصبر َعَّو ْضُتُه ِم ْنُه َم ا اْلجَّنَة‪.‬‬
‫ُيريُد عينْيه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ من فقد ابنه فاحتسب بقصـر في الجّنة فقال‪« :‬إذا مات ولُد العبِد المؤمِن قال ُهللا‬
‫للمالئكِة ‪ :‬قَبْضُتم وَلد عبدي؟‪ ،‬قالوا‪َ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬قَبْضُتم ثمرَة فؤاِده؟ قالوا‪َ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فما قال؟ قالوا‪:‬‬
‫استرَج ع وحِم دك‪ ،‬قال‪ :‬ابنوا له بيًتا في الجَّنِة وسُّم وه بيَت الحمِد» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ من أصابه مرض بأّنه يمحو الخطايا‪ ،‬وأّن من أراد هللا به خيًر ا ابتاله‪ .‬وعاد ﷺ‬
‫مريًض ا فقال له‪« :‬أبشر؛ فإن هللا يقول‪ :‬هي ناري (يعني‪ :‬الحمى)‪ ،‬أسّلطها على عبدي المؤمن في‬
‫الّدنيا لتكون حّظه من الّنار في اآلخرة» [رواه الّترمذي بسند حسن]‪.‬‬
‫ولّم ا دخل ﷺ على أّم العالء وهي مريضة قال لها‪َ« :‬أْبِشـِر ي َيا ُأَّم اْلعالِء ؛ َفِإَّن َمَر َض‬
‫اْلُم ْسِلِم ُيْذِه ُب هللا ِبِه َخ َطاَياُه َكَم ا ُتْذِه ُب الَّناُر َخ َبَث الَّذَهِب َو اْلِفَّض ِة » [َر َو اُه َأُبو َداُو د]‪.‬‬
‫بل بّشر ﷺ المرضى بأجمل بشرى فقال‪« :‬إَذا َمِر َض الَعْبُد‪ ،‬أْو َساَفَر ‪ُ ،‬كِتَب له ِم ْثُل ما كاَن‬
‫َيْعَم ُل ُم ِقيًم ا َصِح يًح ا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فكان ﷺ تبشيره بلسًم ا للقلوب المضطربة‪ ،‬ودواًء لألجساد الّسقيمة‪ ،‬وتثبيًتا للّنفوس القلقة‪،‬‬
‫وبّشر أّن َم ن أصابه مرض أو وصب أو نصب أو هّم أو غّم أو حزن حّتى الّشوكة يشاكها جعلها هللا‬
‫كّفارة له من الّذنوب‪ ،‬فقال‪« :‬ما ِم ن ُمِص يَبٍة ُتِص يُب الُم ْسِلَم إاّل َكَّفَر هللا بها عْنه‪ ،‬حّتى الَّشْو َكِة‬
‫ُيشاُكها» [متفق عليه]‪.‬‬
‫حتى في سكرات الموت كانت بشاراته حاضرة ﷺ‪ ،‬يقول ابن شماسة المهري‪َ :‬حَض ْر نا‬
‫َعْم َر و بَن العاِص ‪ ،‬وهو في ِس ياَقِة الَم ْو ِت‪َ ،‬يَبِك ي َطِو ياًل ‪ ،‬وَحَّو َل وْج َه ُه إلى الِج داِر ‪َ ،‬فَج َعَل ابُنُه يقوُل‪:‬‬
‫يا أَبتاُه‪ ،‬أما َبَّشـَر َك َر سوُل هللا ﷺ بَكذا ؟ أما َبَّشـَر َك َر سوُل هللا ﷺ بَكذا؟ قاَل ‪ :‬فأْقَبَل بَو ْج ِه ِه ‪ ،‬فقاَل ‪« :‬إَّن‬
‫أْفَض َل ما ُنِع ُّد َشهاَد ُة أْن ال إَلَه إاَّل هللا‪ ،‬وأَّن ُم َح َّم ًدا َر سوُل هللا»‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيعّلم أصحابه أن ُيبّشـروا الّناس فيقول لهم‪« :‬بّشـروا وال تنّفروا» [متفق عليه]‪،‬‬
‫وطّيب خاطرهم لّم ا اشتدْت بهم الحال فقال‪« :‬أْبِشـروا وَأِّم ُلوا ما َيُسُّر ُكْم » [متفق عليه]‪ ،‬وبّشرهم بأّن‬
‫اإلسالم سينتشر ويبلغ مبلغ الّليل والّنهار‪ ،‬وبّشر المؤمنين يوم الفرقان بقول الباري سبحانه‪ِ{ :‬إْذ‬
‫َتْس َتِغ يُثوَن َر َّبُكْم َفاْس َتَج اَب } {َلُكْم َأِّني ُم ِم ُّدُكْم ِبَأْلٍف ِم َن اْلَم َالِئَكِة ُم ْر ِدِفيَن * َو َم ا َج َعَلُه ُهَّللا ِإَّال ُبْش َر ى‬
‫َو ِلَتْط َم ِئَّن ِبِه ُقُلوُبُكْم َو َم ا الَّنْص ُر ِإَّال ِم ْن ِع ْنِد ِهَّللا ِإَّن َهَّللا َعِز يٌز َح ِك يٌم } [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]10 -9‬‬
‫وكان ُيبّشر ﷺ الّص حابة الكرام فيشحذ هممهم‪ ،‬ويحثهم على االجتهاد في الّطاعات واإلكثار‬
‫من األعمال الّص الحة‪ ،‬كما ثبت في األحاديث الصحيحة‪ ،‬فبّشـر ﷺ ُعْثَم اَن ْبَن َعَّفاَن (رضي هللا عنه)‬
‫َفَقاَل ‪َ« :‬م ا َض َّر ُعْثَم اَن َم ا َعِم َل َبْعَد اْلَيْو ِم »‪ .‬فازداد بذاًل وعطاًء وسخاًء ‪ ،‬وبّشر ﷺ كعب بن مالك‬
‫(رضي هللا عنه) بتوبة هللا عليه‪ ،‬وبّشر ﷺ َثاِبَت ابَن َقْيٍس (رضي هللا عنه) أّنه ِم ن أْه ِل الَج َّنِة ‪ ،‬وبّشـر‬
‫ﷺ جابًر ا (رضي هللا عنه) بأن هللا كّلم أباه‪ ،‬وبّشـر ﷺ المسلمين بدخول زيد وجعفر وابن رواحة‬
‫الجّنة‪( ،‬رضي هللا عنهم)‪ ،‬وبّشـر ﷺ بالاًل (رضي هللا عنه) بأّنه سمع دَّف نعليه في الجّنة‪ ،‬وبّشر ﷺ‬
‫خديجة (رضي هللا عنها) ببيٍت في الجّنة من قصب‪ ،‬ال صخب فيه وال نصب‪ ،‬وبّشر ﷺ عائشة‬
‫(رضي هللا عنها) بتبرئة هللا لها‪ ،‬وبّشـر أبّي بن كعب (رضي هللا عنه) بأّن هللا ذكره في المأل‬
‫األعلى‪ ،‬وبّشـر ﷺ العشـرة (رضي هللا عنهم)بالجّنة‪ ،‬وبّشـر ﷺ أهل بدر بقول الباري في الحديث‬
‫الُقدسي‪« :‬اْع َم ُلوا ما ِش ْئُتْم فَقْد َغَفْر ُت َلُكْم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ أهل البيعة تحت الّشجرة برضوان هللا‪ ،‬وبّشـر ﷺ الذي الزم «ُقْل ُهَو هللا َأَح ٌد» بأّن‬
‫هللا ُيحّبه‪ ،‬وبّشـر رجاًل صّلى معه وقد أصاب حًّدا بأّن هللا قد غفر له‪ ،‬وبّشـر ﷺ صاحبه أبا بكر في‬
‫الغار والّسيوف ُتحيط بهم تقطر ُسًّم ا زعاًفا‪ ،‬فقال له‪« :‬ال َتْح َز ْن ِإَّن هللا َمَعَنا»‪ ،‬وبّشـر ﷺ علي بن‬
‫أبي طالب (رضي هللا عنه) بمحبة هللا ورسوله ﷺ‪ ،‬وبّشـر ﷺ أبا موسى األشعري (رضي هللا عنه)‬
‫بكنٍز من كنوز الجّنة فقال له‪« :‬أاَل أُدُّلَك عَلى َكِلَم ٍة هي َكْنٌز ِم ن ُكُنوِز الَج َّنِة ؟ ال َحْو َل وُقَّو َة إاّل باهلل»‬
‫[متفق عليه]‪ .‬فلم يفتر لسانه (رضي هللا عنه) بعد هذه اللحظة من هذه الكلمة‪.‬‬
‫كان ﷺ كلما لقي أحًدا من أصحابه البررة األطهار أفاض عليه من البشارات ما يسّر خاطره‪،‬‬
‫وتأنس به روحه‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ أهل األعمال الّص الحة بأجورهم الكبيرة‪ ،‬وما اّدخره هللا لهم من أجر جزيل وثواب‬
‫عظيم‪ ،‬كما أمره هللا تعالى فقال‪َ{ :‬و َبِّش ِر اَّلِذيَن آَم ُنوا َو َعِم ُلوا الَّص اِلَح اِت َأَّن َلُهْم َج َّناٍت َتْج ِر ي ِم ْن‬
‫َتْح ِتَه ا اَألْنَه اُر ُكَّلَم ا ُر ِز ُقوا ِم ْنَه ا ِم ْن َثَمَر ٍة ِر ْز ًقا َقاُلوا َهَذا اَّلِذي ُر ِز ْقَنا ِم ْن َقْبُل وُأُتوا ِبِه ُم َتَشاِبًه ا َو َلُهْم‬
‫ِفيَه ا َأْز َو اٌج ُم َطَّه َر ٌة َو ُهْم ِفيَه ا َخ اِلُدوَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]25‬‬
‫فبّشر ﷺ من انتظر الّص الة أّن المالئكة ُتصّلي عليه وتدعو له ما لم يحدث‪ ،‬وبّشـر أّن ليلة‬
‫القدر خير من ألف شهر‪ ،‬وبّشـر أّنه ما من أيام العمل الّص الح فيهّن أحّب إلى هللا من أيام العشـر من‬
‫ذي الحجة‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ من سّبح تسبيحة واحدة بغرس نخلة له في الجّنة‪ ،‬وبّشـر أّن عمرة في رمضان‬
‫تعدل َح ّج ًة معه‪ ،‬وبّشـر ﷺ المشائين ِفي الُّظَلِم ِإَلى اْلَم َساِج ِد ِبالُّنوِر الَّتاِّم َيْو َم اْلِقَياَم ِة ‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ أهل االستقامة بالجّنة‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن اَّلِذيَن َقاُلوا َر ُّبَنا ُهَّللا ُثَّم اْس َتَقاُم وا َتَتَنَّز ُل‬
‫َعَلْيِهُم اْلَم َالِئَكُة َأَّال َتَخاُفوا َو َال َتْح َز ُنوا َو َأْبِش ُر وا ِباْلَج َّنِة اَّلِتي ُكْنُتْم ُتوَعُدوَن } [فصلت‪ :‬اآلية ‪.]30‬‬
‫وبّشر ﷺ من يصل رحمه فقال‪َ« :‬م ن َسَّر ُه أْن ُيْبَسَط له في ِر ْز ِقِه ‪ ،‬أْو ُيْنَسَأ له في أَثِر ِه ‪،‬‬
‫َفْلَيِص ْل َر ِح َم ُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ من ُيحافظ على صالة الجماعة فقال‪َ« :‬ص اَل ُة الَج َم اَعِة َأْفَض ُل ِم ن َص اَل ِة الَفِّذ (أي‪:‬‬
‫الفرد)بَسْبٍع َو ِع ْش ِر يَن َد َر َج ًة» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ من ُيحافظ على صالة الّضحى فقال‪ُ« :‬يْص ِبُح عَلى ُكِّل ُساَل َم ى ِم ن َأَح ِدُكْم َص َد َقٌة‪،‬‬
‫َفُكُّل َتْس ِبيَحٍة َص َد َقٌة‪َ ،‬و ُكُّل َتْح ِم يَد ٍة َص َد َقٌة‪َ ،‬و ُكُّل ْتهِليَلٍة َص َد َقٌة‪َ ،‬و ُكُّل َتْك ِبيَر ٍة َص َد َقٌة‪َ ،‬و َأْم ٌر بالَم عروِف‬
‫َص َد َقٌة‪َ ،‬و َنْه ٌي َعِن الُم ْنَكِر َص َد َقٌة‪َ ،‬و ُيْج ِز ُئ ِم ن ذلَك َر ْك َعَتاِن َيْر َكُعُه ما ِم َن الُّض َح ى» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ المصلين عليه‪ ،‬فقال‪« :‬من صَّلى علَّي صالًة واحدًة صَّلى هللا عليِه عشَر صلواٍت‪،‬‬
‫وُح َّطت عنُه َعشــُر خطيئاٍت‪ ،‬وُر ِفَعت َلُه عشـُر درجاٍت» [رواه الّنسائي]‪.‬‬
‫ولم ينس ﷺ طلبة العلم من بشاراته فقال‪« :‬إَّن المالئكَة َلتضُع أجنحَتها لطالِب العلِم رًضا بما‬
‫يطُلُب » [رواه الترمذي]‪ .‬وهذا لعظم منزلتهم عند هللا وهو احتفاء المالئكة بهم وخضوعها إجالاًل‬
‫لهم‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ أهل الذكر فقال‪« :‬اَل َيْقُعُد َقْو ٌم َيْذُكُر وَن هللا َعَّز َو َجَّل ِإاَّل َح َّفْتُه ُم الَم اَل ِئَكُة‪َ ،‬و َغِش َيْتُه ُم‬
‫الَّر ْح َم ُة‪َ ،‬و َنَز َلْت عليهِم الَّسِك يَنُة‪َ ،‬و َذَكَر ُهُم هللا ِفيَم ن ِع ْنَد ُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فكيف ال يهّش القلب‪ ،‬وتطير النفس شوًقا لمجالس الّذكر بعد هذه البشارات العظيمة‪،‬‬
‫واألجور الجسيمة التي أخبر بها!؟ وبشاراته ﷺ في أجور األعمال واألذكار كثيرة‪ ،‬قد دّو نتها‬
‫مجلدات‪ ،‬وتعّطرت بها آالف الّص فحات‪.‬‬
‫وأدخل ﷺ ببشاراته المسّر ة على أّم ته‪ ،‬ومنها ما جاء في «الّص حيحين» أّنه قال‪ :‬أتاني جبريل‬
‫فبشّر ني وقال‪َ« :‬بِّش ْر ُأَّم َتَك أَّنه َم ن َم اَت ال ُيْش ِر ُك باهلل شيًئا َد َخ َل الَج َّنَة»‪ .‬وهذه أعظم بشارة على‬
‫اإلطالق في تاريخ الّدعوة المحمدية أن ُيبّشر أّم ته أن َم ن مات على الّتوحيد واإلخالص فإّن مثواه‬
‫جّنات الّنعيم‪ ،‬فيا لها من ُبشـرى تشـرح الّص دور‪ ،‬وُتبهج األنفس‪ ،‬وُترضي األرواح‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬إَّن ُأَّم تي ُيْدَعْو َن َيوَم الِقياَم ِة ُغًّر ا ُم َحَّجِليَن ِم ن آثاِر الُو ُضوِء » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وصّح عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬نْح ُن اآلِخ ُر وَن ‪ ،‬وَنْح ُن الَّساِبُقوَن َيوَم الِقياَم ِة » [متفق عليه]‪ ،‬أي‪:‬‬
‫(اآلخرون زمًنا‪ ،‬والّسابقون قدًر ا ومنزلًة)‪ ،‬فاألّم ة الُم حّم دية أتت في آخر األمم ولكّنها أعظمها أجًر ا‪،‬‬
‫وأرفعها ِذكًر ا‪ ،‬وأجّلها منزلًة عند هللا عّز وجل‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ أّم ته كما جاء في «صحيح مسلم» أّنها لن ُتهلك بَسَنٍة عاَّم ٍة‪ ،‬وأن هللا لن ُيسّلط عليها‬
‫عدًو ا يستحل بيضتها‪ ،‬ولّم ا أّخ ر ﷺ صالة العشاء قال‪« :‬أْبِشـُر وا‪ ،‬إَّن ِم ن ِنْعَم ِة هللا عَلْيُكم؛ أَّنه ليَس‬
‫أَح ٌد ِم َن الَّناِس ُيَصِّلي هِذه الَّساَعَة َغْيرُكْم » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ َهِذِه اُأْلَّم َة‪ِ« :‬بالَّسَناِء َو الِّر ْفَعِة َو الِّديِن َو الَّنْصـِر َو الَّتْم ِك يِن ِفي اَأْلْر ِض » [رواه‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ اُألّم ة بشفاعته يوم القيامة فقال‪ِ« :‬لُكِّل َنِبٍّي َدْع َو ٌة َدعاها ُأِلَّم ِتِه ‪ ،‬وإِّني اْخ َتَبْأُت‬
‫َدْعوتَي َشفاَعًة ُأِلَّم تي َيوَم الِقياَم ِة » [متفق عليه]‪.‬‬
‫بشـُرى لنا مع اإلسالم إّن لنا‬
‫من العناية ركًنا غري منهِد ِم‬
‫ّملا دَعا هللا داعيَنا لطاعتِه‬
‫أبكرم الّرسل كَنا أكرَم األمِم‬
‫لقد كانت ُج ّل حياته ﷺ تبشيًر ا‪ ،‬وإسعاًدا للّناس‪ ،‬وإدخا للّسـرور على قلوبهم‪ ،‬وقد انقطعت‬
‫الّنبوة‪ ،‬لكن بقيت مبّشراتها كما أخبر ﷺ فقال‪َ« :‬لم َيْبَق ِم َن الُّنُبَّو ِة إاّل الُم َبِّشـراُت ‪ .‬قالوا‪ :‬وما‬
‫الُم َبِّشـراُت ؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬الُّر ْؤ يا الَّص اِلَح ُة» [رواه البخاري]‪ ،‬وكذلك من عاجل البشرى للمؤمن في الحياة‬
‫الّدنيا ثناء الّناس عليه‪ ،‬والّشهادة له بالعمل الّص الح الّنافع‪ ،‬وهذه الّشهادة وهذا الّثناء لم يحصل عليه‬
‫العبد المؤمن رياًء وال ُسمعًة‪ ،‬بل هي مكافأة من هللا تعالى‪ ،‬لعلمه سبحانه ما في قلبه من إخالص‬
‫وإخبات‪ ،‬وقد ِقيَل ِلَر ُسوِل هللا ﷺ‪َ« :‬أَر َأْيَت الَّر ُجَل َيْعَم ُل الَعَم َل ِم َن الَخ ْيِر ‪َ ،‬و َيْح َم ُدُه الَّناُس عليه؟ قاَل ‪:‬‬
‫«ِتلَك َعاِج ُل بْش َر ى الُم ْؤ ِم ِن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫لقد بّشر ﷺ األمة بالتوحيد الذي هو حّق هللا على العبيد‪ ،‬وهو إنقاذ األرواح من الّشرك‪،‬‬
‫وتطهيرها من الوثنّية‪ ،‬وتزكيتها من أدران الجاهلّية‪ ،‬وهو مفتاح الجّنة‪ ،‬ووسام الخلود في الفردوس‪،‬‬
‫وتاج القبول عند ملك الملوك سبحانه‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ بأّن الوضوء كفارة وطهارة‪ ،‬وأّن الجنة تفتح أبوابها الّثمانية للمتوضئين‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ بالّص الة‪ ،‬وأّنها الحل لألزمات‪ ،‬والّنجاة من مشكالت الحياة؛ ألّن فيها األمن‬
‫الّداخلي‪ ،‬والهدوء الّنفسي‪ ،‬والّنور الّر ّباني‪ ،‬وهي كّفارة الخطايا‪ ،‬ومذهبة الهموم والغموم‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ بالّص يام‪ ،‬وأّنه سٌر بين العبد ورّبه‪ ،‬وأّن للصائم فرحتين‪ :‬عند الفطر‪ ،‬وعند لقاء‬
‫الّر ب‪ ،‬مع ما في الّص يام من تهذيب الّر وح وصحة البدن‪ ،‬وتذّكر الجائعين‪ ،‬ورحمة المساكين‪،‬‬
‫والّتدرب على الّص بر وقهر الهوى والّنفس األّم ارة بالّسوء‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ بالّص دقة وهي زكاة المال‪ ،‬وُطْه رة الّنفس واالنتصار على الّشح‪ ،‬وإطفاء الخطايا‬
‫وعون المحتاج‪ ،‬وشكر الّنعمة وحفظ المال من العاهات‪ ،‬وإنقاذ الّر وح من اآلفات‪.‬‬
‫وبّشـر ﷺ بالحّج ‪ ،‬وفيه أعظم تكفير لكل خطيئة بحيث يعود الحاّج الّص ادق المنيب كما ولدته‬
‫أّم ه مغفوًر ا له‪ ،‬قد ُغسلت نفسه‪ ،‬وعظم أجره‪ ،‬وُقبل سعيه‪ ،‬وفاز بجائزة الغفران والّر ضوان من‬
‫الّر حمن‪.‬‬
‫لم تكن هناك قبل بعثته ﷺ بشارات تدور في أذهان الّناس‪ ،‬أو مجالسهم كالبشارة بالفردوس‬
‫األعلى لّلصادقين المنيبين‪ ،‬والبشارة بالجّنة لعموم المؤمنين الّص الحين‪ ،‬والبشارة بالمغفرة للمذنبين‬
‫التائبين‪ ،‬والبشارة بالحسنات العظيمة والّثواب الجزيل للُم صلين والُم تصّدقين والّص ائمين‪ ،‬والبشارة‬
‫بالّنجاة من الّنار‪ ،‬والفوز برضوان العزيز الغّفار للموحدين‪ ،‬والبشارة بصلوات هللا ورحمته وهداه‬
‫للمبتلين الّص ابرين‪ ،‬والبشارة ببياض الوجه‪ ،‬وتيسير الحساب ألولياء هللا البررة‪ ،‬والبشارة بالّنصر‬
‫على األعداء وكمال الّدين وتمام الّنعمة وفتح البلدان ودخول الّناس في دين هللا أفواًج ا‪ ،‬كل هذا‬
‫وغيره من البشارات إّنما بّشرنا به رسولنا ﷺ‪ .‬والعجيب أن كلمته وبسمته وخطبته ومصافحته‬
‫وهديته بشارة‪ ،‬ومواعظه وأقواله وأحواله وأفعاله كّلها بشارات لألّم ة‪ ،‬حتى أمره ونهيه ورضاه‬
‫وغضبه؛ ألّنه لمصلحتنا وإلصالحنا‪ ،‬فهي بشارة من البشارات‪.‬‬
‫وأعود لنفسي وأسألها‪ :‬ما هي أعظم بشارة تلقيتها في حياتي؟ هل البيت الذي أمتلكه؟ أم‬
‫الّسيارة التي أمتطيها؟ أو المال الذي أكسبه؟ أم الّثوب الذي ألبسه؟ أم الّشهادة العلمية التي حصلت‬
‫عليها؟ أم األصدقاء في حياتي؟ أم الكتب التي ألفتها؟ أم الّدروس التي ألقيتها؟ أم صحة البدن التي‬
‫أنعم بها؟ أم نعمة الّطعام والّشراب ؟ أم الّسفر البهيج الممتع؟‬
‫فأجيب‪ :‬كّلها ِنَعٌم ‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬ولكن وهللا إّن أعظم البشارات‪ ،‬وأجَّل األعطيات‪ ،‬وأجزل‬
‫الهبات‪ ،‬وأجمل الفتوحات‪ :‬رسالته ﷺ واالهتداء بهديه‪ ،‬والفرح باّتباعه‪ ،‬والفوز باالقتداء به‪ ،‬والعيش‬
‫في كنف شريعته‪ ،‬والّشرب من كوثر نبّو ته‪ ،‬واالستضاءة بأنوار مّلته‪ُ{ ،‬قْل ِبَفْض ِل ِهَّللا َو ِبَر ْح َم ِتِه‬
‫َفِبَذِلَك َفْلَيْفَر ُح وا ُهَو َخْيٌر ِم َّم ا َيْج َم ُعوَن } [يونس‪ :‬اآلية ‪.]58‬‬
‫إّن أعظم البشارات التي مّر ت باإلنسانية في تاريخها الّطويل هي مبعثه‪ ،‬فكان منظره‬
‫ومظهره ومخبره يبّشر بالخير والفالح والّنجاح والمغفرة والّر ضوان‪ ،‬وكان حديثه وخطبه‬
‫ومواعظه تسيل بشرى‪ ،‬فهو الذي بّشر األّم ة بالفتح والمغفرة والّنصر والّر زق‪ ،‬وبّشر الُم ذنبين‬
‫بالّتوبة‪ ،‬وبّشر العصاة إذا عادوا بالّر حمة‪ ،‬وبّشـر العاملين باألجر الجزيل‪ ،‬وبّشـر الّص ابرين بالّثواب‬
‫الكبير‪ ،‬وبشّـر الفقراء والمساكين بما اّدخر لهم رّب العالمين من أجر‪ ،‬وبّشـر الُم صاب بالّثواب‪،‬‬
‫وجبر القلوب الُم نكسرة بُلطف هللا عّز وجل‪ ،‬وبّشر الموّح دين بجنة عرضها الّسماوات واألرض‪،‬‬
‫فجزاه هللا عّنا أكرم وأجّل وأجزل ما جزى نبًيا عن ُأّم ته‪ ،‬وصّلى وسّلم عليه ما غّنى حمام‪ ،‬وما هطل‬
‫غمام‪ ،‬وما انجلى ظالم‪ ،‬وما ُسّل ُح سام‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫ِل‬
‫ِئ ِض‬
‫ُو َد اُهلدى َفالكا ناُت ياُء‬
‫ِن‬
‫َو َفُم الَزما َت َبُّس ٌم َو َثناُء‬
‫الروُح َواَملُاَل اَملالِئُك َح وَلُه‬
‫ِل‬
‫ِبِه‬
‫لّد يِن َوالُد نيا ُبَش ـراُء‬
‫ِبَك َبَّش ـَر اُهَلل الَس ماَء َف ُزِّيَنت‬
‫ِم‬
‫ِب‬
‫َو َتَض َّو َعت سًك ا َك الغَرباُء‬
‫َوَبدا َحُمّياَك اَّلذي َقَس ماُتُه‬
‫َح ٌّق َو ُغَّرُتُه ُه دًى َوَح ياُء‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ْحَمُبواًب‬
‫للمحّبة صور شّتى‪ ،‬فمنها عند عامة الناس الميل للّص ور الجميلة الجّذابة‪ ،‬والمناظر اآلسرة‬
‫الخاّل بة‪ ،‬وهذه محبة فطر هللا عليها الخليقة‪.‬‬
‫وهناك أيًض ا محّبة تدركها العقول الذكّية‪ ،‬وتستحسنها الّنفوس الّسوّية‪ ،‬وهي محبة الخصال‬
‫الجليلة والّص فات الّنبيلة‪ ،‬واألخالق الفاضلة والمكارم الُم نيفة‪.‬‬
‫وهناك أيًض ا محبة لمن َتفّضل علينا وأحسن إلينا‪ ،‬فله عندنا اعتراف بالفضل‪ ،‬وله لدينا‬
‫االمتنان والّشكر‪ ،‬ألّنه قّدم إلينا جمياًل ‪ ،‬وصنع لنا معروًفا‪ ،‬فُنقابل صنيعه بالُحّب والّثناء‪ ،‬والّشكر‬
‫والوفاء‪.‬‬
‫وكل هذه المعاني واألسباب ُج معت في نبّينا الكريم ﷺ‪ ،‬فإن هللا أعطاه المحاسن أّو لها‬
‫وآخرها‪ ،‬سّر ها وجهرها‪ ،‬فهو المحبوب ألّنه أبّر الخليقة وصًفا‪ ،‬وأطيبهم عرًفا‪ ،‬فمحاسنه أبهى من‬
‫البدر ليلة الّتمام‪ ،‬ومحامده أجمل من الّر وض البّسام‪ ،‬فهو الجميل في صورته وسريرته‪ ،‬والجميل‬
‫في خلقه وأخالقه‪ ،‬وهو بعد هللا صاحب الفضل علينا‪ ،‬واإلحسان إلينا‪ ،‬نّو ر قلوبنا باإليمان‪ ،‬وشرح‬
‫صدورنا بالقرآن‪ ،‬ودّلنا على طاعة الّر حمن‪ ،‬فال نلتفت يمنة وال يسرة إاّل وقد وجدنا آثار هديه‬
‫الُم ستقيم ﷺ‪ ،‬فليس ألحد في العالم مَّنة علينا أعظم من مّنته‪ ،‬ويكفينا أّنه هدانا لمّلته‪ ،‬ودّلنا على ُسّنته‪،‬‬
‫فهو سبب سعادتنا في الدنيا‪ ،‬ونجاتنا في اآلخرة‪.‬‬
‫أحّبه هللا‪ ،‬وشّر ف قدره وأعاله‪ ،‬فهو أحّب الخليقة إلى الخالق‪ ،‬وأقربهم زلفى من كل سابق‬
‫والحق‪ ،‬فمن ُحّب هللا له أّنه ُيذكر مع هللا في القرآن‪ ،‬وينّو ه باسمه بعد اسم رّبه في األذان‪ ،‬اختاره هللا‬
‫للّنبوة واجتباه‪ ،‬وشّر فه بالّر سالة واصطفاه‪ ،‬وصّلى عليه آناء الّليل والّنهار‪ ،‬وصّلى عليه المالئكة‬
‫األطهار‪ ،‬وصّلى عليه العباد األبرار‪ ،‬وأعظم شرف حازه عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬أّنه أحّب األنام‪ ،‬إلى‬
‫الملك العاّل م‪ ،‬فإّن هللا اتخذه خلياًل ‪ ،‬وجعله للخيرات دلياًل ‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬وَلِك ْن َص اِح ُبُكْم َخ ِليُل هللا»‬
‫[رواه ُم سلم]‪ .‬والخّلة هي أرفع مراتب المحّبة‪ ،‬وأعظم درجات الُقربة‪.‬‬
‫وقرن هللا طاعته ومحبته ُسبحانه‪ ،‬بطاعة ومحبة نبّيه ﷺ‪ ،‬فال ُيطاع هللا إاّل من طريق هذا‬
‫الّر سول الكريم‪ ،‬وال ُيعبد إاّل من باب هذا الّنبي الّر حيم‪ ،‬فمن أراد أن يتقّر ب بالُحّب إلى مواله‪ ،‬فليّتبع‬
‫نبّيه الُم صطفى ويلتمس ُهداه‪ ،‬فجميع أبواب الُحّب والُقرب موصدة إاّل بابه‪ ،‬وكل طرق الّسالمة‬
‫والّنجاة ُم غلقة إاّل طريقه‪ ،‬وهو سبب نجاة ُم حّبيه‪ ،‬يوم يفُّر المرء من أخيه‪ ،‬وأِّم ه وأبيه‪ ،‬وصاحبته‬
‫وَبِنيه‪.‬‬
‫ولو بقي اإلنس والجان على مدار الّليل والّنهار‪ ،‬يمدحون الّنبي الُم ختار ﷺ‪ ،‬لما بلغوا ذّر ة‬
‫من قول الملك الحّق الُم بين‪ ،‬في سيد الُم رسلين‪َ{ :‬فِإَّنَك ِبَأْع ُيِنَنا} [الطور‪ :‬اآلية ‪ ،]48‬ولو ُص ّفت‬
‫دواوين الّثناء‪ ،‬من األرض إلى الّسماء‪ ،‬لما بلغت قطرة من محيط‪َ{ :‬فِإَّنَك ِبَأْع ُيِنَنا}‪ ،‬ولو كانت‬
‫الُم حيطات محابر‪ ،‬والّسماوات دفاتر‪ ،‬وكتب البشر كّل مديح‪ ،‬بلسان فصيح‪ ،‬لما بلغوا حرًفا من‬
‫جمال وجالل‪َ{ :‬فِإَّنَك ِبَأْع ُيِنَنا}‪.‬‬
‫إّن محبته ﷺ هي أصل ثابت من أصول اإليمان‪ ،‬وكّلما زاد ُح به ﷺ في القلوب زاد إيمانها‪،‬‬
‫وكلما نقص ُح ّبه نقص اإليمان‪ ،‬فيجب وجوًبا أن يكون ُح ب هللا وُحّب رسوله ﷺ ُقّر ة العيون‪ ،‬وبهجة‬
‫الّنفوس‪ ،‬وانشـراح الّص دور‪ ،‬ويجب كذلك أن تكون محّبته ﷺ ُم قّدمة على محبة اآلباء واألوالد‪،‬‬
‫واألمهات واألحفاد‪ ،‬وعلى محّبة المال والّتجارة‪ ،‬والمساكن واإلمارة‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬ال ُيْؤ ِم ُن أَح ُدُكْم‬
‫حّتى أُكوَن أَح َّب إَلْيِه ِم ن واِلِدِه وَو َلِدِه والّناِس أْج َم ِع يَن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫بل ال يقبل ُهللا إيمان مؤمن حتى ُيقّدم هذه المحّبة على نفسه التي بين جنبيه‪ ،‬ويؤثرها على‬
‫كل ما لديه‪ ،‬فتكون هذه المحّبة نصب عينيه‪ ،‬وإاّل فلينتظر العواقب الوخيمة‪ ،‬على أفعاله األثيمة؛ ألّن‬
‫من قّدم ُح ب األبناء والّنساء‪ ،‬واألحباب واألصدقاء‪ ،‬على ُحّب رّب األرض والّسماء‪ ،‬وُحّب صاحب‬
‫الّشـريعة العصماء‪ ،‬دّل ذلك على خواء في الّضمير‪ ،‬وسوء ظن بالّسميع البصير‪ ،‬وانحراف عن‬
‫منهج البشير الّنذير‪ ،‬كما قال الحكيم الخبير‪ُ{ :‬قْل ِإْن َكاَن آَباُؤ ُكْم َو َأْبَناُؤ ُكْم َو ِإْخ َو اُنُكْم َو َأْز َو اُج ُكْم‬
‫َو َعِشيَر ُتُكْم َو َأْم َو اٌل اْقَتَر ْفُتُم وَها َو ِتَج اَر ٌة َتْخ َشْو َن َكَساَدَها َو َم َساِك ُن َتْر َضْو َنَه ا َأَح َّب ِإَلْيُكْم ِم َن ِهَّللا‬
‫َو َر ُسوِلِه َو ِج َه اٍد ِفي َسِبيِلِه َفَتَر َّبُص وا َح َّتى َيْأِتَي ُهَّللا ِبَأْم ِر ِه َو ُهَّللا َال َيْه ِدي اْلَقْو َم اْلَفاِسِقيَن } [التوبة‪ :‬اآلية‬
‫‪.]24‬‬
‫وَم ن يطالع سيرة الّص حابة الكرام يجد ذلك الحَّب الّص ادق الفّياض لشخص الّر سول الكريم‬
‫ﷺ‪ُ ،‬ح ًّبا يستولي على الّنفس ويملك المشاعر‪ ،‬حًبا ال يعدله حّب الولد والوالد‪ ،‬واالبنة والّز وجة‪ُ ،‬ح ًّبا‬
‫يصل شغاف القلب‪ ،‬ويمازج قرار الّر وح‪.‬‬
‫ولكن لماذا أحّبوه هذا الحّب ؟ إذ ال يوجد في الّتاريخ كّله قوم أحّبوا إمامهم أو زعيمهم أو‬
‫شيخهم أو قائدهم أو أستاذهم كما أحّب أصحاُب محّم ٍد محمًدا ﷺ‪ ،‬فقد افتدوه بالُم هج‪ ،‬وعّر ضوا‬
‫أجسامهم للسيوف دون جسمه‪ ،‬وضّح وا بدمائهم لحمايته‪ ،‬وبذلوا أعراضهم دون عرضه‪.‬‬
‫فكان بعضهم ال يمأل عينيه من الّنظر إليه ﷺ إجالاًل له‪.‬‬
‫ومنهم من ذهب إلى الموت طائًعا ويعلم أّنها الّنهاية وكأّنه يذهب إلى ُعرس‪.‬‬
‫ومنهم من احتسى الّشهادة في سبيل هللا كالماء الّز الل‪ ،‬ألّنه أحّب محمًدا ﷺ ودعوته‪.‬‬
‫بل كانوا يؤثرون رضاه على رضاهم‪ ،‬وراحته ولو تعبوا‪ ،‬وشبعه ولو جاعوا‪ ،‬فما كانوا‬
‫يرفعون أصواتهم على صوته‪ ،‬وال ُيقّدمون أمرهم على أمره‪ ،‬وال يقطعون أمًر ا دونه ﷺ‪ ،‬فهو‬
‫المطاع المحبوب‪ ،‬واألسوة الحسنة‪ ،‬والقدوة المباركة‪.‬‬
‫لقد أحّب الّص حابة رسول هللا ﷺ؛ ألّنه وصلهم باهلل‪ ،‬ود ّلهم على رضوانه‪ ،‬وهداهم إلى‬
‫صراطه المستقيم‪ ،‬وإّنهم لمشكرون مغبطون على هذا الُحّب ؛ فهم يرون أن ما قدموه أقل ما يجب‬
‫عليهم نحو هذا الّر سول المعصوم‪ ،‬فاهلل أنقذهم به من الّنار‪ ،‬وبّص رهم به من العمى‪ ،‬وعّلمهم به من‬
‫الجهل‪ ،‬وأصلحهم به بعد الفساد‪ ،‬وهداهم به بعد الّضاللة‪.‬‬
‫كانت قلوبهم قبل دعوته ﷺ أقسى من الحجارة‪ ،‬ونفوسهم قبل رسالته أظلم من الليل‪ ،‬وبؤسهم‬
‫قبل بعثته أشد بشاعة من الموت‪ ،‬فال عقل محفوظ‪ ،‬وال دم معصوم‪ ،‬وال مال حالل‪ ،‬وال عرض‬
‫مصون‪ ،‬وال نفوس راضية‪ ،‬وال أخالق قويمة‪ ،‬وال مجتمع يحترم الفضيلة‪ ،‬وال شعب يحمي‬
‫المبادئ‪ ،‬فلما أراد هللا إنقاذ هذه البشرّية وإسعادها وصالحها وفالحها بعث محّم ًدا ﷺ‪ ،‬فكأن الّناس‬
‫ولدوا من جديد‪ ،‬وكأّن وجه الّدنيا تغّير وكأن األرض لبست ثوًبا جمياًل في عالم الحياة‪.‬‬
‫أحّبوه ﷺ ألّنه رسول الّر حمن‪ ،‬وصفوة اإلنس والجان‪ ،‬أرسله هللا ليخرجهم من الّظلمات إلى‬
‫الّنور‪ ،‬ويقودهم إلى جنة عرضها الّسماوات واألرض‪.‬‬
‫وجدوا فيه ﷺ اإلمام الذي كُم لت فضائله وتّم ت محاسنه‪ ،‬فقد أسرهم بهذا الخلق العظيم‬
‫والمذهب الكريم‪.‬‬
‫ووجدوا في قربه واّتباعه جّنة وارفة من اإليمان‪ ،‬بعد نار تلّظى من الكفر والجاهلّية‪ ،‬فهو‬
‫الذي غّسل أرواحهم بإذن هللا من أوضار الوثنية‪ ،‬وزّكى نفوسهم من آثام الّشرك‪ ،‬وطّه ر ضمائرهم‬
‫من لوثة األصنام‪ ،‬وعّلمهم الحياة الكريمة‪ ،‬فمأل صدورهم سعادة بعد عمر من القلق واالضطراب‬
‫والغموم والهموم‪ ،‬وبنى في قلوبهم صروح اليقين بعد خراب الّشك والّر يبة واالنحراف‪.‬‬
‫لقد سّج ل الّص حابة الكرام أعظم المالحم في ُح ّبه ﷺ‪ ،‬وأجمل المواقف في تقديره وإعزازه‬
‫وتوقيره‪ ،‬لقد ملك حّبه مشاعرهم وأحاسيسهم‪ ،‬وجرى في دمائهم‪ ،‬وسافر في شرايين قلوبهم‪،‬‬
‫والنماذج والّص ور الخالدة من ُحّب الصحابة للّنبي ﷺ كثيرة‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫أبو بكر (رضي هللا عنه) لّم ا انطلَق مَع رسوِل هللا ﷺ إلى الغار كان َيْم ِشـي َساَعًة َبْيَن َيَدْيِه‬
‫َو َساَعًة َخ ْلَفُه‪َ ،‬ح َّتى َفِط َن َلُه َر ُسوُل هللا ﷺ َفَقاَل ‪َ« :‬يا َأَبا َبْك ٍر ‪َ ،‬م ا َلَك َتْم ِشي َساَعًة َبْيَن َيَد ْي َو َساَعًة‬
‫َخ ْلِفي؟» َفَقاَل ‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬أَذُكُر الَّطَلَب َفَأْم ِشي َخْلَفَك ‪ُ ،‬ثَّم َأَذُكُر الَّر ْصَد َفَأْم ِشي َبْيَن َيَد ْيَك ‪َ ،‬فَقاَل ‪:‬‬
‫«َيا َأَبا َبْك ٍر ‪َ ،‬لْو َكاَن َشْي ٌء َأْح َبْبَت َأْن َيُكوَن ِبَك ُدوِني؟» َقاَل ‪َ« :‬نَعْم ‪َ ،‬و اَّلِذي َبَعَثَك ِباْلَح ِّق ‪َ ،‬م ا َكاَنْت‬
‫ِلَتُكوَن ِم ْن ُم ِلَّم ٍة ِإاَّل َأْن َتُكوَن ِبي ُدوَنَك ‪َ ،‬فَلَّم ا اْنَتَهَيا ِإَلى اْلَغاِر ‪َ ،‬قاَل َأُبو َبْك ٍر (رضي هللا عنه)‪َ :‬م َكاَنَك َيا‬
‫َر ُسوَل هللا‪َ ،‬ح َّتى َأْس َتْبِر َئ َلَك اْلَغاَر ‪َ ،‬فَد َخ َل َو اْس َتْبَر َأُه‪َ ،‬ح َّتى ِإَذا َكاَن ِفي َأْع اَل ُه َذَكَر َأَّنُه َلم َيْس َتْبر‬
‫اْلُجْح َر َة‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬م َكاَنَك َيا َر ُسوَل هللا َح َّتى أْس َتْبِر َئ اْلُجْح َر َة‪َ ،‬فَد َخ َل َفاْس َتْبَر َأ» [رواه الحاكم‪ ،‬والبيهقي‬
‫في «دالئل النبوة»] ‪.‬‬
‫وُعمر بن الخطاب (رضي هللا عنه) ُيلّخ ص هذا الُحّب فيقول للّنبي ﷺ‪َ« :‬أَلْنَت أَح ُّب إَلَّي ِم ن‬
‫ُكِّل َشْي ٍء إاَّل ِم ن َنْفِسي‪َ ،‬فقاَل ﷺ‪ :‬اَل ‪ ،‬واَّلذي َنْفِسي بَيِدِه ‪ ،‬حَّتى أُكوَن أَح َّب إَلْيَك ِم ن َنْفِس َك ‪َ ،‬فقاَل له‬
‫ُعَم ُر ‪ :‬فإَّنه اآلَن ‪ ،‬وهللا‪َ ،‬أَلْنَت أَح ُّب إَلَّي ِم ن َنْفِسي‪َ ،‬فقاَل ﷺ‪ :‬اآلَن يا ُعَمُر » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وُعثمان بن عفان (رضي هللا عنه) حين دعا الّنبي ﷺ لشراء بئر ُر ومة قام بشـرائها وحده‪،‬‬
‫ُح ًّبا وُقرًبا‪ ،‬وحين َدَعا ﷺ‪ .‬لتجهيز جيش الُعْسرة بادر وجّه ز الجيش جَّله من ُحّر ماله‪.‬‬
‫وهذا علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) ينام في فراش الّنبي ليلة الهجرة فداًء له‪ ،‬ويكون‬
‫أّو ل الُم بارزين في كّل معركة مع الّنبي يذّب عنه وعن رسالته‪ ،‬وُيقّدم نحره دون نحره ﷺ‪ ،‬ويفديه‬
‫بدمه وروحه‪.‬‬
‫وانظر إلى عمرو بن العاص (رضي هللا عنه) الذي مأل ُحّب الّنبي كّل جوانحه‪ ،‬واستولى‬
‫على مشاعره‪ ،‬يقول ُم عّبًر ا عن هذا الُح ب الّر اسخ الّدفين‪ ،‬للنبي األمين‪« :‬ما كاَن أَح ٌد أَح َّب إَلَّي ِم ن‬
‫َر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬وال أَجَّل في َعْيِني منه‪ ،‬وما ُكْنُت ُأِط يُق أْن أْم َأل َعْيَنَّي منه إْج الاًل له‪ ،‬ولو ُسِئْلُت أْن‬
‫أِص َفُه ما أَطْقُت ؛ َألِّني َلْم أُكْن أْم ُأل َعْيَنَّي منه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وهذا أبو طلحة األنصارُّي (رضي هللا عنه) يتلقى الّسهام عن الّنبي ﷺ في أحد ويقول‪« :‬يا‬
‫َنِبَّي هللا‪ ،‬بَأِبي أْنَت وُأِّم ي‪ ،‬ال ُتْش ِر ْف ُيِص يُبَك َسْه ٌم ِم ن ِس هاِم الَقْو ِم ‪َ ،‬نْح ِر ي ُدوَن َنْح رك» [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وهذا عروة بن مسعود الّثقفي وقد أرسلته قريٌش سفيًر ا إلى الّنبي ﷺ في ُص لح الحديبية‪ ،‬لّم ا‬
‫رأى طاعة الّص حابة‪ ،‬وُح ّبهم‪ ،‬وتعّلقهم بالّنبي‪ ،‬وُم سابقتهم لخدمته‪ُ ،‬أصيب بالدهشة‪ ،‬وعاد مذهواًل إلى‬
‫قريش يقول لهم‪َ« :‬و هللا َلَقْد َو َفْدُت َعَلى الُم ُلوِك ‪َ ،‬و َو َفْدُت َعَلى َقْيَص َر َو ِكْس َر ى‪َ ،‬و الَّنَج اِش َّي ‪َ ،‬و هللا ِإْن‬
‫َر َأْيُت َم ِلًكا َقُّط ُيَعِّظ ُم ُه َأْصَح اُبُه َم ا ُيعِّظ ُم أْصَح اُب ُم َح َّم ٍد ﷺ ُم َح َّم ًدا‪َ ،‬و هللا ِإْن َتَنَّخ َم ُنَخ اَم ًة إاّل َو َقَعْت ِفي‬
‫َكِّف َر ُج ٍل ِم ْنُه ْم ‪َ ،‬فَد َلَك ِبَه ا َو ْج َه ُه َو ِج ْلَد ُه‪َ ،‬و ِإَذا َأَمَر ُهْم اْبَتَد ُر وا َأْم َر ُه‪َ ،‬و ِإَذا َتَو َّض َأ َكاُدوا َيْقَتِتُلوَن َعَلى‬
‫َو ُضوِئِه ‪َ ،‬و ِإَذا َتَكَّلَم َخَفُضوا َأْص َو اَتُه ْم ِع ْنَد ُه‪َ ،‬و َم ا ُيِح ُّدوَن ِإَلْيِه الَّنَظَر َتْعِظ يًم ا َلُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫إّن هذه القصة يرويها رجل كان ُم شرًكا آنذاك قبل أن ُيسلم‪ ،‬في مشهد أبصـره بعينه‪ ،‬ولم‬
‫يكن رجاًل عادًيا بل كان سفيًر ا‪ُ ،‬م حّنًكا‪ ،‬داهية‪ ،‬وفد على الملوك‪ ،‬ثم عرض هذه الُم قارنة‪ ،‬وخرج‬
‫بنتيجة أّنه ليس في العالم أحد أحّبه أصحابه وأتباعه كما أحّب أصحاب وأتباع محّم ٍد محمًدا ﷺ‪.‬‬
‫وهذا الّص حابي الجليل َر ِبيعة بن كعب األسلمي (رضي هللا عنه) يخاف أاّل يرى الّنبي ﷺ بعد‬
‫أن ُيغادر الحياة‪ ،‬وأن ال يتنّعم برؤيته في الجّنة‪ ،‬فيقول‪ُ« :‬كْنُت أِبيُت مع َر سوِل هللا ﷺ فأَتْيُتُه‬
‫بَو ُضوِئِه وحاَجِتِه ‪َ ،‬فقاَل ِلي‪َ :‬سْل‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬أْس َأُلَك ُم راَفَقَتَك في الَج َّنِة ‪ .‬قاَل ‪ :‬أْو غيَر ذلَك ؟ ُقلُت ‪ :‬هو ذاَك ‪.‬‬
‫قاَل ‪ :‬فأِعِّني على َنْفِس َك بَكْثَر ِة الُّسُج وِد» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫حّتى الّص بيان تشّر فوا بُح ّبه‪ ،‬ونعموا بُقربه ﷺ‪ ،‬يقول عبد الّر حمن بن عوف(رضي هللا عنه)‪:‬‬
‫«بْينا َأنا واِقٌف في الَّصِّف َيوَم َبْد ٍر ‪َ ،‬نَظْر ُت عن َيِم يِني َو ِش ماِليِ‪َ ،‬فإِذا َأنا بْيَن ُغالَم ْيِن ِم َن األْنصاِر‬
‫َح ِديَثٍة َأْس نا ُنُه ما‪َ ،‬تَم َّنْيُت لو ُكْنُت بْيَن َأْض َلَع منهما‪َ ،‬فَغَم زِني َأَح ُدُهما‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬يا َعِّم ‪ ،‬هْل َتْعِر ُف َأبا‬
‫َجْه ٍل ؟ قاَل ‪ُ :‬قلُت ‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬و ما حاَج ُتَك إَلْيِه يا اْبَن َأِخ ي؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬أُْخ ِبْر ُت أَّنُه َيُسُّب َر سوَل هللا ﷺ‪ ،‬واَّلِذي‬
‫َنْفِسي بَيِدِه ‪َ ،‬لِئْن َر َأْيُتُه ال ُيفاِر ُق َسواِدي َسواَد ُه حّتى َيُم وَت األْع َجُل ِم ّنا‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَتَعَّجْبُت لذلَك ‪،‬‬
‫َفَغَم زِني اآلَخ ُر ‪َ ،‬فقاَل ‪ِ :‬م ْثَلها‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَلْم َأْنَشْب َأْن َنَظْر ُت إلى َأِبي َجْه ٍل َيُز وُل في الّناِس ‪َ ،‬فُقلُت ‪َ :‬أال‬
‫َتَر ياِن ؟ هذا صاِح ُبُكما الذي َتْس َأالِن عنْه‪ ،‬قاَل ‪ :‬فاْبَتَدراُه َفَض ـَر باُه بَسْيَفْيِه ما حّتى َقَتالُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫واألمثلة لحُّب الصحابة الكرام (رضي هللا عنهم) للّنبي الُم صطفى ﷺ وفيرة وكثيرة‪ ،‬فوهللا لم‬
‫نسمع ولم نقرأ عن قوم أحّبوا إمامهم وقائدهم ونبّيهم كما أحّب الّص حابة إمامهم ونبّيهم ﷺ‪ ،‬يعيشون‬
‫ُح ّبه ﷺ في حياتهم‪ ،‬معهم في ليلهم ونهارهم‪ ،‬كأّنهم يتذّو قون ُح ّبه مع الّطعام‪ ،‬ويحتسونه مع الّشراب‪،‬‬
‫ويكتحلون به مع المنام‪ ،‬حتى صار يجري في دمائهم‪ ،‬ويسيل مع دموعهم‪( ،‬رضي هللا عنهم)‬
‫وأرضاهم جزاء هذا الحّب وهذا الفداء‪ ،‬وهذه الّتضحية وهذا الوفاء‪ ،‬فلهم علينا الّدعاء‪ ،‬ولهم مّنا‬
‫الّثناء‪.‬‬
‫وكيف ال يحُّبونه ﷺ وهم ال يزاولون طاعة إاّل وهو نصب أعينهم‪ ،‬في طهارتهم‪ ،‬وصالتهم‪،‬‬
‫وصيامهم‪ ،‬وزكاتهم‪ ،‬وحّج هم‪ ،‬وذكرهم‪ ،‬وعقيدتهم‪ ،‬وآدابهم‪ ،‬وسلوكهم‪ ،‬كيف ال ُيحبه كل مسلم وكّلما‬
‫فعل خيًر ا فإّنما إمامه محّم د ﷺ‪ ،‬أو قام بقربة فقدوته محّم د ﷺ‪ ،‬أو أحسن في حياته فأسوته محمد ﷺ‪،‬‬
‫أو أسدى جمياًل أو قّدم معروًفا فمثله األعلى محمد ﷺ!؟‬
‫كيف ال ُيحّبه اإلنسان وحديثه ﷺ يرّن في اآلذان‪ ،‬ويعبر إلى القلوب بكل فضيلة‪ ،‬وكل ُخ لق‬
‫شريف‪ ،‬داعًيا إلى الّص دق والعدل‪ ،‬والّسالم والّر حمة‪ ،‬والتآخي واإلحسان‪ُ ،‬م حّذًر ا من الفجور‬
‫والفسوق والعصيان‪ ،‬والُظلم واالعتداء والبهتان‪ ،‬فميالد اإلنسان الّثاني يوم اّتبع هذا الّر سول‪،‬‬
‫واقتدى بهذا الّنبي األمي ﷺ!؟‬
‫كيف ال ُنحّبه بأبي هو وأّم ي ﷺ وهو يحرص ﷺ على ما ُيسعدنا‪ ،‬ويشق عليه ما يشق علينا!؟‬
‫وقد شهد هللا له برأفته ورحمته بنا‪ ،‬فقال ُسبحانه‪َ{ :‬لَقْد َج اَء ُكْم َر ُسوٌل ِم ْن َأْنُفِس ُكْم َعِز يٌز َعَلْيِه‬
‫َم ا َعِنُّتْم َحِر يٌص َعَلْيُكْم ِباْلُم ْؤ ِم ِنيَن َر ُؤوٌف َر ِح يٌم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]128‬‬
‫كيف ال ُنحّبه ﷺ وقد بذل حياته كلها ثمًنا لهدايتنا وداللتنا على الخير‪ ،‬وإخراجنا من الّظلمات‬
‫إلى النّو ر‪ ،‬وعّلمنا كّل شيء في الحياة‪ ،‬عّلمنا أكبر المسائل وأعالها‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬وأصغرها‪:‬‬
‫«إماطة األذى عن الّطريق»‪ ،‬وشرح لنا أبواب العلم باًبا باًبا!؟‬
‫كيف ال ُنحّبه ﷺ وقد أحّل لنا الطّيبات‪ ،‬وحّر م علينا الخبائث‪ ،‬وي لنا الّشريعة‪ ،‬وفتح لنا باب‬
‫الّر حمة‪ ،‬ودّلنا على طريق الّتوبة‪ ،‬وأخبرنا بأسباب رضوان هللا تعالى‪ ،‬وحّذرنا من كل ما يؤذينا‪،‬‬
‫وأنذرنا طريق الغواية‪ ،‬وبّص ـرنا طريق الهداية!؟‬
‫كيف ال ُنحّبه ﷺ وإنما أحبنا هللا بسبب ُح بنا له واتباعنا له ﷺ‪ ،‬قال تعالى عن أوليائه‪ُ{ :‬قْل ِإْن‬
‫ُكْنُتْم ُتِح ُّبوَن َهَّللا َفاَّتِبُعوِني ُيْح ِبْبُكُم ُهَّللا َو َيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ ،]31‬وإّنما أحب هللا‬
‫أولياءه ألنهم آمنوا بنبّيه‪ ،‬وصّدقوه‪ ،‬واّتبعوه‪ ،‬واقتدوا به‪ ،‬وأحبوه!؟‬
‫كيف ال ُنحبه ﷺ وقد قال هللا تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا ُيِح ُّب الَّتَّو اِبيَن َو ُيِح ُّب اْلُم َتَطِّهِر يَن } [البقرة‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]222‬وأّو ل الّتوابين والُم تطهرين‪ ،‬هو رسول رّب العالمين‪ ،‬وإمام الُم تقين‪ ،‬والذي دّل الُم تّطهرين‬
‫على تقوى إله األّو لين واآلخرين هو خاتم المرسلين ﷺ‪ ،‬والذي أرشد الّتوابين لمرضاة الّر حمن‬
‫الّر حيم هو الّنبي العظيم ﷺ!؟‬
‫كيف ال نحّبه ﷺ وكل خصال الخير مجموعة فيه‪ ،‬وكل خالل البّر كُم لت فيه‪ ،‬زّكاه رّب‬
‫العالمين فقال عنه‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى ُخ ُلٍق َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪ ،]4‬فله من الفضائل أبهاها وأرقاها‬
‫وأعالها‪ ،‬وهو الذي تآلفت على ُح ّبه القلوب‪ ،‬واجتمعت على موّدته األرواح‪ ،‬بّر أه هللا من العيب‪،‬‬
‫ونفى عنه اإلثم‪ ،‬وطّه ره من الخطايا‪ ،‬وزّكاه من الّدنايا‪ ،‬فهو الّطاهر نفًسا وجسًم ا‪ ،‬والطّيب روًح ا‬
‫وذاًتا!؟‬
‫ومن اّدعى محبة رسول هللا الُم صطفى‪ ،‬ونبّيه الُم قتفى‪ ،‬فلُيقّدم على دعواه البّينة‪ ،‬وُيخرج عند‬
‫الفحص العّينة‪ ،‬فإن لم يدعم دعواه بالّدليل‪ ،‬كان ضااًل عن الّسبيل‪ ،‬وإّنما ُح به نوع من الّلعب‪:‬‬
‫{َو َج اُء وا َعَلى َقِم يِص ِه ِبَدٍم َكِذ ٍب} [يوسف‪ :‬اآلية ‪:]18‬‬
‫إذا اْش َت َك ْت ُدموٌع يف ُخ دوٍد‬
‫َب‬
‫َت َبَنّي َمْن َبَك ى ّمِمْن َتباَك ى‬
‫ومن البراهين‪ ،‬على ُحّب سّيد األّو لين واآلخرين‪ ،‬تصديقه ﷺ فيما أخبر‪ ،‬كأّنك شاهدته‬
‫بالّنظر‪ ،‬بال شك وال ارتياب‪ ،‬وال حيرة وال اضطراب‪ ،‬بل تسليم لما أتى به وإذعان‪ ،‬وانقياد وإيمان‪،‬‬
‫ولسان حال كل جارحة في جسمك يقول‪ ،‬عند خبر الّر سول‪ ،‬صدق‪ ،‬وبالحق نطق‪ ،‬فهو أبّر من‬
‫سبق‪ ،‬وأكرم من لحق‪ ،‬فال تتقّدم على شرعه‪ ،‬وال تورد رأًيا عند قوله‪ ،‬وال ُتعارض ُسّنته باألقوال‪،‬‬
‫وال تضـرب لها األمثال‪ ،‬وال ُتكثر عند ورودها من الجدال‪ ،‬بل تتلقى ما أتى عنه على أّنه نبي‬
‫معصوم‪ ،‬ورسول من الحّي القيوم‪ ،‬فتكون مع نبّيك الكريم‪ ،‬ورسولك العظيم‪ ،‬في منزلة الّتابع‪ ،‬وفي‬
‫درجة الُم طيع الّسامع‪ ،‬وفي ُر تبة الجندي من القائد‪ ،‬واالبن من الوالد‪ ،‬والطالب من الُم عّلم‪ ،‬والُم ستفيد‬
‫من اإلمام الملهم‪ ،‬ليس لك معه اختيار في القبول والّر د‪ ،‬واإلقبال والّص د‪ ،‬بل انقياد وإذعان‪ ،‬وتسليم‬
‫وإيمان‪ ،‬تتلّقى خطاب ُسّنته الُم عّظم‪ ،‬ومرسوم شريعته الُم كّر م‪ ،‬تلقي الُم حّب لرسائل من اختصه‬
‫بالُحّب ‪ ،‬واصطفاه بالوّد من بين األنام‪:‬‬
‫ولو قيل طأ يف الّنار أعلم أّنه‬
‫رًض ا لك أو ُمدٍن لنا من وصالَك ا‬
‫لقّد مُت رجلي حنوها فوطئُتها‬
‫سروًرا أليّن قد خطرُت ببالَك ا‬
‫وَم ن اّدعى ُحّب هللا فعليه أن ُيقّدم البّينة والبرهان على دعواه‪ ،‬باّتباع نبّيه ورسوله‬
‫وُم صطفاه‪ ،‬محمد بن عبدهللا ﷺ‪ ،‬قال تعالى‪ُ{ :‬قْل ِإْن ُكْنُتْم ُتِح ُّبوَن َهَّللا َفاَّتِبُعوِني ُيْح ِبْبُكُم ُهَّللا} [آل‬
‫عمران‪ :‬اآلية ‪ ،]31‬فيكون ُح ّبه واّتباعه سّر بهجتك‪ ،‬ونور ُم هجتك‪ ،‬تتحّلى بهداه‪ ،‬وتتسّنن بكل‬
‫وصف يرضاه‪ ،‬فتجعل ُسّنته شعارك‪ ،‬وطريقته دثارك‪ ،‬فهو إمامك لياًل ونهاًر ا‪ ،‬سًّر ا وجهاًر ا‪ ،‬فكأّن‬
‫شخصه العظيم ﷺ بين ناظريك‪ ،‬وطيفه بين عينيك‪ ،‬وتجعل مقامه الكريم في سويداء العيون‪ ،‬وأقواله‬
‫وأحكامه فوق الّشكوك والّظنون‪ ،‬فيملك عليك ُح ّبه بعد ُح ب هللا الّسمع والبصر‪ ،‬والفكر والّنظر‪،‬‬
‫فكأنك تذوق ُح ّبه مع الّطعام‪ ،‬وتكتحل به عند المنام‪ ،‬فالّشرب من معين سّنته العذب الّز الل الفرات‪،‬‬
‫ألّذ من الماء البارد على كبد العطشان المشرف على األموات‪.‬‬
‫ومنها ُم طالعة سيرته‪ ،‬والتعّر ف على دقائق حياته وتفاصيل ُسّنته‪ ،‬فَم ن أحّب شخًص ا حرص‬
‫على تتبع آثاره‪ ،‬وسماع أخباره‪ ،‬فكيف إذا كان هذا الّشخص هو دليلك إلى الّسعادة‪ ،‬وإمامك إلى‬
‫الّنجاة؟! فإّن المعرفة داعية الُحّب ‪ ،‬والعلم بالشيء داعية التعّلق به‪ ،‬ومن قرأ أوصافه الجليلة وصل‬
‫بعقله الّسليم وفطرته الّسوّية إلى ُح ب هذا اإلمام العظيم ﷺ‪.‬‬
‫ومن براهين الُحّب اإلجالل لمقامه الّشـريف والّتقدير واالحترام والتوقير‪ ،‬فتستقبل كالمه‬
‫وسّنته ﷺ بالخضوع والخشوع‪ ،‬واالنقياد الّتام‪ ،‬واالتباع لما أرشد عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فال ُتقابل‬
‫ذلك بتسّخ ط أو كراهية‪ ،‬أو تذّم ر أو اعتراض‪ ،‬وال تتعّر ض للجناب الّشـريف‪ ،‬والمجد الُم نيف‪،‬‬
‫بسخرية أو استهزاء‪ ،‬أو انتقاص أو ازدراء‪ ،‬فإّنه ُم خرج من المّلة‪ ،‬وُم ورث للخزي والذّلة‪ ،‬بل ُكّلما‬
‫سمعت له أمًر ا أو أتاك منه نهي‪ ،‬أحضرت قلبك وكيانك‪ ،‬وقلت‪ :‬سمًعا وطاعة‪ ،‬لصاحب الّشفاعة ﷺ‪.‬‬
‫ومنها الّذب عن ُسّنته‪ ،‬والّدفاع عن مّلته‪ ،‬والّنضال عن شريعته‪ ،‬فتجّند نفسك في خدمة هداه‪،‬‬
‫جندًّيا على ثغور المّلة‪ُ ،‬م رابًطا على أبواب الّشريعة‪ُ ،‬م حتسًبا نفسك وأنفاسك‪ ،‬وحالك ومالك‪ُ ،‬قربة‬
‫إلى هللا لُنصـرة هذا الّنبي الكريم‪ ،‬واإلمام العظيم‪ ،‬عليه أجّل صالة‪ ،‬وأفضل تسليم‪ ،‬فيكون عملك‬
‫نشر ُسّنته في الّنوادي‪ ،‬ووظيفتك بّث هديه في الحواضر والبوادي‪ ،‬بحالك وقولك وفعلك‪ ،‬لتكون‬
‫صادًقا في االّتباع‪ُ ،‬م حقًقا الّدعوة في طاعة الّر سول الكريم ﷺ‪ ،‬لتنال شفاعته‪ ،‬وتظفر بُقربه‪ ،‬وتحظى‬
‫بمرافقته‪ ،‬وُتحشر تحت لوائه‪ ،‬فليكن عملك الُم بارك تعليَم الّناس شرَعه الُم طّه ر‪ ،‬بالّلسان والقلم‪،‬‬
‫والّدرس والُم حاضرة‪ ،‬والُخ طبة والّندوة‪ ،‬على حسب الُقدرة‪.‬‬
‫ومن عالمات محّبته كثرة الّص الة عليه ﷺ‪ ،‬وجعلها عند الحديث على طرف لسانك‪ ،‬وعند‬
‫الكتابة على طرف بنانك‪ُ ،‬تعّم ر بها جنانك‪ ،‬وُتطّه ر بها أركانك‪ ،‬وأاّل ُتحب أحًدا من البشر‪ ،‬من أهل‬
‫المدر والوبر‪ ،‬أاّل بقدر ُح ّبه واّتباعه لرسول الُه دى‪ ،‬وإمام الّتقى ﷺ‪ ،‬فتوالي وُتعادي‪ ،‬وُتحب وُتبغض‬
‫فيه ومن أجله‪ُ ،‬نصـرًة وُح ًّبا‪ ،‬ووالًء وُقرًبا‪ ،‬فال عبرة باألحساب واألنساب‪ ،‬واألسماء واأللقاب‪ ،‬عند‬
‫ورود الُسّنة والكتاب‪.‬‬
‫ومنها أن ُتحّكمه ﷺ في حياتك بأسرها‪ ،‬في صالتك وصيامك‪ ،‬ويقظتك ومنامك‪ ،‬وجلوسك‬
‫وقيامك‪ ،‬ولباسك وهندامك‪ ،‬فهو اإلمام الُم رتضى‪ ،‬واألسوة الُم قتفى‪َ{ :‬لَقْد َكاَن َلُكْم ِفي َر ُسوِل ِهَّللا‬
‫ُأْس َو ٌة َحَسَنٌة ِلَم ْن َكاَن َيْر ُج و َهَّللا َو اْلَيْو َم اآلِخ َر َو َذَكَر َهَّللا َكِثيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪ ،]21‬فُتقّدم ُح كمه ﷺ‬
‫عند الخالف‪ ،‬على أقوال اآلباء واألسالف‪ ،‬فإذا ورد حكمه فال التفات لمرادات الّنفوس‪ ،‬ووساوس‬
‫الّر ؤوس‪ ،‬فقوله وفعله وحاله هي شوكة الميزان‪ ،‬وهي الحاكمة على قول وفعل وحال كّل إنسان‪ ،‬فال‬
‫عبرة لفالن وفالن‪ ،‬كائًنا من كان‪.‬‬
‫ومن آيات ُح ّبه ﷺ‪ :‬تمّني رؤيته‪ ،‬وعظيم الّشوق لمقابلته‪ ،‬وتحديث الّنفس بالجلوس معه‬
‫وُم صافحته في دار الكرامة والّر ضوان‪ ،‬بجوار الّر حمن‪ ،‬كما قال ﷺ‪ِ« :‬م ْن أَشِّد ُأَّم تي لي ُحًّبا‪ ،‬ناٌس‬
‫َيكوُنوَن َبْعِدي‪َ ،‬يَو ُّد أَح ُدُهْم لو َر آِني بَأْه ِلِه وماِلِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومنها عدم الغلو فيه كما قال ﷺ‪« :‬ال ُتْط ُر وِني كما َأْط َر ِت الَّنصارى اْبَن َمْر َيَم ‪ ،‬فإَّنما َأنا‬
‫َعْبُدُه‪َ ،‬فُقولوا‪ :‬عبُد هللا‪َ ،‬و َر ُسوُلُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وامتثال أمره واجتناب نهيه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا آَتاُكُم الَّر ُسوُل َفُخ ُذوُه َو َم ا َنَه اُكْم َعْنُه‬
‫َفاْنَتُه وا َو اَّتُقوا َهَّللا ِإَّن َهَّللا َشِديُد اْلِع َقاِب} [الحشر‪ :‬اآلية ‪.]7‬‬
‫وهجر البدع وأهلها‪ ،‬ألنها ُتخالف ُسّنته‪ ،‬وُتعارض شريعته‪ ،‬لقوله ﷺ‪َ« :‬م ن َر ِغ َب عن ُسَّنتي‬
‫فليَس ِم ِّني» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فالجامع بينه ﷺ وبين أحبابه هو سّنته الُم طّه رة‪ ،‬أّم ا البدعة فهي سبب الفراق بينه ﷺ وبين‬
‫أتباعه‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أَّن َر سوَل هللا ﷺ أتى الَم ْقُبرَة‪ ،‬فقاَل ‪« :‬الَّسالُم عَلْيُكم داَر‬
‫َقْو ٍم ُم ْؤ ِم ِنيَن ‪ ،‬وإّنا إْن شاَء هللا بُكْم الِح ُقوَن ‪ ،‬وِدْدُت أّنا قْد َر َأْينا إْخ واَننا قالوا‪ :‬أَو َلْس نا إْخ واَنَك يا‬
‫َر سوَل هللا؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬أنُتْم أْصحاِبي‪ ،‬وإْخ واُننا اَّلِذيَن َلْم َيْأُتوا َبْعُد‪ ،‬فقالوا‪ :‬كيَف َتْعِر ُف َم ن َلْم َيْأِت َبْعُد ِم ن‬
‫ُأَّم ِتَك يا َر سوَل هللا؟‪ ،‬فقاَل ‪ :‬أَر َأْيَت لو أَّن َر جاًل له َخ ْيٌل ُغٌّر ُم َحَّج َلٌة بْيَن َظْه َر ْي َخ ْيٍل ؟ ُدْه ٍم ُبْه ٍم أال‬
‫َيْعِر ُف َخ ْيَلُه؟ قالوا‪َ :‬بَلى يا َر سوَل هللا‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإَّنُه ْم َيْأُتوَن ُغًّر ا ُم َحَّجِليَن ِم َن الُو ُضوِء ‪ ،‬وأنا َفَر ُطُه ْم‬
‫عَلى الَحْو ِض أال َلُيذاَد َّن ِر جاٌل عن َحْو ِض ي كما ُيذاُد الَبِع يُر الَّض اُّل ُأناِديِه ْم أال َهُلَّم فُيقاُل ‪ :‬إَّنُه ْم قْد‬
‫َبَّد ُلوا َبْعَدَك فأُقوُل ُسْح ًقا ُسْح ًقا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن عالمات ُح ّبه ﷺ ُح ب من أحّب من الناس‪ ،‬والمكان‪ ،‬والّز مان‪ ،‬فإن هذا يدل على صدق‬
‫المحّبة‪ ،‬فُنحب أهل بيته عليهم الّسالم‪ ،‬كما قال ﷺ‪ُ« :‬أَذِّك ُر ُكُم هللا في َأْه ِل َبْيِتي» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وُنحّب أصحابه الكرام رضوان هللا عليهم كما قال ﷺ‪َ« :‬خ يُر الَّناِس َقْر ني‪ ،‬ثَّم اَّلذين َيُلونهم‪،‬‬
‫ثَّم اَّلذين َيُلوَنهم» [متفق عليه]‪ ،‬وقوله ﷺ‪« :‬ال َتُسُّبوا أْصحابي؛ فلو أَّن أَح َدكم أنَفَق ِم ثَل ُأُح ٍد َذَهًبا ما‬
‫بَلَغ ُم َّد أَح ِدهم‪ ،‬وال َنصيَفه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وُنحب األنصار رضوان هللا عليهم‪ ،‬لقوله ﷺ‪ُ« :‬حُّب األْنصاِر آَيُة اإليماِن ‪ ،‬وُبْغُض ُه ْم آَيُة‬
‫الِّنفاِق » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وهللا لو كرهت يدي أسالفنا‬
‫لقطعتها ولقلت ُس حًق ا اي يدي‬
‫أو أّن قليب ال حيّب حممًد ا‬
‫أحرقته ابلّنار مل أَترّدِد‬
‫فأان مع األسالف أقفو هنجهم‬
‫وعلى الكتاب عقيديت وتعّبدي‬
‫فعلى الرسول وآله وصحابه‬
‫م ال ال بك حٍّب مسعِد‬
‫يّن ّس ُم ّل‬
‫وُأبّشر الُم حّبين أّن لمحبتهم واّتباعهم للرسول الكريم ﷺ أجوًر ا عظيمًة‪ ،‬وجوائز ُم ضاعفة‪،‬‬
‫وثماًر ا طّيبة دانية‪ ،‬ينعمون بها في الّدنيا واآلخرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أّنها سبب محبة هللا لك؛ ألّن أحّب العباد إليه ُسبحانه هو رسوله المصطفى ﷺ‪ ،‬فمن أحّب‬
‫خليل هللا أحّبه هللا‪ ،‬وهذه وحدها خير من الّدنيا وما فيها‪ ،‬وأفضل من الكنوز الّثمينة والقناطير‬
‫المقنطرة‪.‬‬
‫وإذا أحّبك هللا فلن ُيعّذبك لقوله تعالى‪َ{ :‬و َقاَلِت اْلَيُه وُد َو الَّنَص اَر ى َنْح ُن َأْبَناُء ِهَّللا َو َأِح َّباُؤ ُه ُقْل‬
‫َفِلَم ُيَعِّذُبُكْم ِبُذُنوِبُكْم َبْل َأْنُتْم َبَشٌر ِم َم ْن َخ َلَق } [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]18‬‬
‫فالحبيب ال ُيعّذب حبيبه‪ ،‬ومن أحّبه هللا غفر ذنبه‪ ،‬وُيستشهد على ذلك بقول رسول هللا ﷺ‬
‫لعمر‪َ« :‬و ما ُيْد ِر يَك َلَعَّل هللا اَّطَلَع عَلى َأْه ِل َبْد ٍر َفقاَل ‪ :‬اْع َم ُلوا ما ِش ْئُتْم ‪ ،‬فَقْد َغَفْر ُت َلُكْم » [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫فالمحبوب سعيه مشكور‪ ،‬وعمله مبرور‪ ،‬وذنبه مغفور‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ{ :‬قْل ِإْن ُكْنُتْم ُتِح ُّبوَن‬
‫َهَّللا َفاَّتِبُعوِني ُيْح ِبْبُكُم ُهَّللا َو َيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم َو ُهَّللا َغُفوٌر َر ِح يٌم } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ ،]31‬وقوله ُسبحانه‬
‫في الحديث الُقدسي‪« :‬فإذا أْح َبْبُتُه ُكْنُت َسْم َعُه الذي َيْسَمُع به‪ ،‬وَبَص َر ُه الذي ُيْبِص ُر به‪ ،‬وَيَد ُه اَّلتي‬
‫َيْبِط ُش بها‪ ،‬وِر ْج َلُه اَّلتي َيْم ِشي بها‪ ،‬وإْن َسَأَلِني ُأَلْع ِط َيَّنُه‪ ،‬وَلِئِن اْس َتعاذ ُأَلِع يَذَّنُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فالمحبوب عند خاتم األنبياء‪ ،‬محبوب عند رّب األرض والسماء‪ ،‬محفوظ في الّدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫دعاؤه ُم ستجاب‪ ،‬وعمله مقبول‪ ،‬وعاقبته إلى خير‪.‬‬
‫ومن ثمار ُح بك للّنبي ﷺ أّنه ُيبادلك ُح ًّبا بُح ب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬هْل َج َز اُء اِإل ْح َساِن ِإَّال‬
‫اِإل ْح َساُن } [الرحمن‪ :‬اآلية ‪.]60‬‬
‫وأوفى الّناس هو رسولنا ﷺ فهنيًئا لك هذا الحّب منه إذا أحببته ﷺ‪ ،‬وقد بادل رسولنا الحّب‬
‫بالحب حتى مع الجماد‪ ،‬كما َقاَل َر ُسوُل هللا ﷺ عن جبل أحد‪َ« :‬هَذا َجَبٌل ُيِح ُّبَنا َو ُنِح ُّبُه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومنها أّن محبته ﷺ مع كثرة الصالة والسالم عليه سبب لكشف الكروب‪ ،‬وغفران الذنوب‪،‬‬
‫وصالح الحال‪ ،‬وانشـراح البال‪ ،‬وإزالة الهموم والغموم واألحزان‪ ،‬فعن ُأبي بن كعب (رضي هللا‬
‫عنه) أّنه قال للّنبي ﷺ‪« :‬أجعُل لَك صالتي كَّلها» ‪-‬أي‪ :‬أجعل الدعاء كله صالة عليك‪ ،-‬فقال له النبُّي‬
‫ﷺ‪« :‬إًذا ُتكفى هَّم ك‪ ،‬وُيغفُر لك ذنُبك» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫ومن ثمار ُح ّبك له ﷺ أّن هذا الُحّب بعد ُح ب هللا يملك عليك حياتك‪ ،‬ويمأل جوانح قلبك‪،‬‬
‫ونواحي نفسك‪ ،‬فُيسليك عن كّل محبوب‪ ،‬وُيعزيك عن كل غائب‪ ،‬وُيعّو ضك عن كل فائت‪ ،‬فال تشعر‬
‫بعدها بالُغربة لفقد ألحد‪ ،‬والوحشة لمخلوق‪ ،‬فهنيًئا لمن ُم ِلئ قلبه بُح ب هللا وُح ب نبيه ﷺ‪.‬‬
‫ومنها أّنك تتذّو ق بهذا الحّب حالوة اإليمان كما جاء َعْن َأَنٍس (رضي هللا عنه) َعن الَّنِبِّي ﷺ‬
‫َقاَل ‪َ« :‬ثالٌث َم ن ُكَّن فيه وَج َد حالوة اإليماِن (وذكر منها)‪َ :‬م ن كاَن هللا وَر سوُلُه أَح َّب إَلْيِه ِم مّا‬
‫ِس واُهما» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وهذه الحالوة ُتسّه ل عليك الّطاعات‪ ،‬وتحجبك عن الُم نكرات‪ ،‬وُتحّبب لك لقاء هللا‪ ،‬وتجعلك‬
‫راضًيا بقضائه وقدره‪ ،‬فرًح ا بعبوديته‪ ،‬مسروًر ا بطاعته‪.‬‬
‫ومن ثمار ُحّب الّر سول الكريم ُص حبته يوم القيامة‪ ،‬ورفقته في مقعد صدق عند مليك ُم قتدر‪،‬‬
‫فعن َأَنِس ْبِن َم اِلٍك (رضي هللا عنه) أّن رجاًل قال للّنبي ﷺ‪« :‬يا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬م َتى الَّساَعُة؟ قاَل َر ُسوُل‬
‫هللا ﷺ‪ :‬ما َأْعَدْدَت َلَه ا؟ قاَل ‪ :‬يا َر ُسوَل هللا‪ ،‬ما َأْعَدْدُت َلَه ا َكِبيَر َص اَل ٍة َو اَل ِص َياٍم َو اَل َص َد َقٍة‪َ ،‬و َلِكِّني‬
‫ُأِح ُّب هللا َو َر ُسوَلُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْنَت مع َم ن َأْح َبْبَت » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن مسعود (رضي هللا عنه) قال‪« :‬جاَء َر ُجٌل إلى َر سوِل هللا ﷺ َفقاَل ‪ :‬يا َر سوَل‬
‫هللا‪ ،‬كيَف َتُقوُل في َر ُج ٍل أَح َّب َقْو ًم ا وَلْم َيْلَحْق بِه ْم ؟‪َ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪« :‬الَمْر ُء مع َم ن أَح َّب »‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫فإن ُكنت تريد أن تكون من جاّل سه ورفقائه في الفردوس األعلى‪ ،‬فاصدق في ُح ّبه واّتباعه‪،‬‬
‫وقد بّشرنا رّبنا عّز وجّل ببشارة عظيمة‪ ،‬وعطّية كريمة‪ ،‬أن من أطاع رسوله ﷺ ظفر برفقته‪،‬‬
‫ورفقة إخوانه األنبياء الكرام‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬و َم ْن ُيِط ِع َهَّللا َو الَّر ُسوَل َفُأوَلِئَك َمَع اَّلِذيَن َأْنَعَم ُهَّللا َعَلْيِه ْم‬
‫ِم َن الَّنِبِّييَن َو الِّص ِّديِقيَن َو الُّشَه َداِء َو الَّص اِلِح يَن َو َح ُسَن ُأوَلِئَك َر ِفيًقا} [النساء‪ :‬اآلية ‪.]69‬‬
‫فُسبحان من جعل ُحّب هذا الّنبي الكريم ﷺ حنيًنا بين الّضلوع‪ ،‬وشوًقا صادًقا يجري مع‬
‫الّدموع‪ ،‬فما شهد ُم وحد بالوحدانية إلى الواحد األحد‪ ،‬إاّل شهد بالّر سالة ألحمد‪ ،‬ولن تكون األرواح‬
‫ُم طّه رة‪ ،‬حتى تكون بالّص الة عليه ﷺ ُم عّطرة‪ ،‬جعل ُهللا ُح ّبه يجري في شرايين قلوبنا مجرى الّدماء‪،‬‬
‫ليكون أحّب إلينا من زالل الماء‪ ،‬على أكباد ظماء‪ ،‬في شدة حرارة الّر مضاء‪.‬‬
‫نسأل هللا باسمه األجل األكرم أن ُيلبسنا بُح به تاج الّشـرف‪ ،‬وُيسكننا به الُغرف‪ ،‬مع الّص فوة‬
‫الُم جتباة من أبرار الّسلف‪ ،‬وأن يجعله ﷺ أحّب إلينا من وأرواحنا وجوارحنا‪ ،‬أسماعنا وأبصارنا‪،‬‬
‫وأحّب إلينا من آبائنا وأمهاتنا‪ ،‬وأبنائنا وبناتنا‪ ،‬ويجعل محّبته ﷺ تجري في قطرات دمائنا‪ ،‬وشرايين‬
‫قلوبنا‪ ،‬وذّر ات أجسامنا‪ ،‬وأن يحشرنا في زمرته‪ ،‬ويجعلنا من رفقته‪ ،‬وُيشّر فنا باّتباع ُسّنته‪ ،‬وُيثّبتنا‬
‫على مّلته‪.‬‬
‫اللهم صِّل وسِّلم على نبيك‪ ،‬ورسولك‪ ،‬وخليلك‪ ،‬محمد بن عبدهللا‪ ،‬صالًة تجلو بها همومنا‪،‬‬
‫وُتزيح بها غمومنا‪ ،‬وتشرح بها صدورنا‪ ،‬وُتيّسر بها أمورنا‪ ،‬وتغفر بها ذنوبنا‪ ،‬وُتصلح بها عيوبنا‪،‬‬
‫وُتشافي بها قلوبنا‪ ،‬وُتعّطر بها أنفاسنا‪ ،‬وتطّيب بها أفواهنا‪ ،‬صالًة وسالًم ا دائمين‪ ،‬زكّيين‪ ،‬طّيبين‪،‬‬
‫طاهرين‪:‬‬
‫اي قلُب بّلْغ صاليت أشرف الّرسِل‬
‫واكتْب بدمعَي ما سطرَت من أملي‬
‫عّطْر بذكراه أنفاِس ي وحمربيت‬
‫واغسْل بشوقي له ما كان من زلِل‬
‫اركْب سفينَته واسعد بُس ّنته‬
‫فإّن مّلته من أكرِم امللِل‬
‫يف مقليِت وسويَد ا القلب مسكنُه‬
‫أفديه ابلّروح واألجفاِن واُملقِل‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَباَرًك ا‬
‫ماذا أقول عّم ن مأل الّدنيا بركًة‪ ،‬وفاض على البشرّية رحمًة‪ ،‬وغمر الحياة نوًر ا‪ ،‬وسروًر ا‪،‬‬
‫وحبوًر ا؟!‬
‫ماذا أقول عن الذي لم تحصل بركة ألحد من العالمين بعد مبعثه إاّل وهي قطرة من بحر‬
‫كراماته‪ ،‬وومضة من شمس فتوحاته؟!‬
‫ماذا أقول عن الذي عّم ر ببركته الّز مان‪ ،‬والمكان‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬ووصلت بركته مشارق‬
‫األرض ومغاربها‪ ،‬يتوارثها األحفاد عن اآلباء واألجداد مع مرور األيام‪ ،‬وترادف األعوام إلى ُكل‬
‫األقطار واألمصار‪ ،‬على تعاقب الّليل والّنهار؟!‬
‫ماذا أقول عّم ن يقول الكلمة الواحدة فيكتب هللا لها البركة فتمتلئ بها الّدفاتر‪ ،‬وُتضّو ع بها‬
‫المحابر‪ ،‬وُتشرق بها المنابر؟!‬
‫ماذا أقول عن الُم بارك رسول هللا بأبي هو وأمي ﷺ؟!‬
‫هو الُم بارك في أّي زمان ومكان‪ ،‬جعل ُهللا فيه من البركة ما لم يجعله في أحد من العالمين‪،‬‬
‫ال من األّو لين‪ ،‬وال من اآلخرين‪ ،‬جعل البركة فيه ومعه‪ ،‬ومنه وإليه‪ ،‬وكأّن البركة ُو لدت مع ميالده‪،‬‬
‫وانتشرت ببعثته‪.‬‬
‫هو الُم بارك الذي هدى اإلنسان إلى عبادة الّر حمن‪ ،‬نادى الّنفوس فأشرقت على نور ُهداه‪،‬‬
‫وخاطب األرواح فاستفاقت على نور ُم حّياه‪ ،‬وهتف في الجيل فهّب إلى مراقي المجد‪ ،‬وُبعث في‬
‫األمة فتسابقت في درجات الّسعد‪.‬‬
‫هو الُم بارك الذي أمر بعمارة المساجد فامتألت بالُم صّلين‪ ،‬وأرشد إلى العلم فامتألت رياض‬
‫المدارس بالُعلماء‪ ،‬وبنى صرح العدل فسقطت أوكار الّظلم‪ ،‬وتهّدمت صروح الجبروت والّطغيان‪.‬‬
‫هو الُم بارك الذي حّو ل جزيرة العرب من مالعب وثنّية‪ ،‬ومراتع جاهلّية‪ ،‬وأوكار ُم نكر‪،‬‬
‫وغابات توّح ش؛ إلى محراب عبادة‪ ،‬ومسجد قداسة‪ ،‬وجامعة إيمان‪ ،‬ومصنع رجال‪ ،‬وميدان أبطال‪،‬‬
‫ومولد حضارة‪ ،‬ومهد رسالة‪ ،‬ومشرق نور‪ ،‬وقبلة ُأّم ة‪ ،‬ومنبر مّلة‪.‬‬
‫هو الُم بارك الذي يضع يده على المريض فيبرأ بإذن هللا‪ ،‬وعلى الماء فينهمر زال فراًتا‬
‫بفضل هللا‪ ،‬وعلى الّطعام فيزيد ويكثر بنعمة هللا‪ ،‬وعلى العين الّر مدة فُتبصـر بنور هللا‪ ،‬ويرفعها إلى‬
‫الّسماء فإذا الغيث المدرار‪ ،‬وغزير األمطار‪ ،‬ويضع كفيه على صدر الُم بتلى فيمتلئ راحة‬
‫وطمأنينة‪ ،‬وانشراًح ا وسكينة‪.‬‬
‫كالمه ُم بارك‪ ،‬قاله بوحي من ربه ولم يقرأه من كتاب‪ ،‬ولم ُيخرجه من مؤّلف‪ ،‬ولم يخّطه‬
‫بيمينه‪ ،‬هذا الحديث الّنبوي الُم بارك والّسنة الُم طّه رة التي مألت الّدواوين‪ ،‬وعّبأت الُم جّلدات‪ ،‬من‬
‫الّص حاح‪ ،‬والُّسنن‪ ،‬والمسانيد‪ ،‬والمعاجم‪ ،‬التي أنارت للبشرّية أفكارها‪ ،‬وحّددت مسارها‪ ،‬وبّينت‬
‫للعالم تدبير الحياة الّر شيدة الّسديدة‪.‬‬
‫جعل هللا في كالمه وحديثه من األسرار والبركات ما ال يدور بالخيال وال يخطر بالبال‪ ،‬فإّن‬
‫سطًر ا واحًدا أو جملة يقولها ﷺ ُتعادل آالف الُم جّلدات من كالم غيره‪.‬‬
‫يقول ﷺ الكلمة الُم وجزة فتحمل في طّياتها العبر والعظات ما ُيدهش لروعتها العقل ُح سًنا‬
‫وبالغًة‪ ،‬وُيلقي الُخ طبة فيجعل هللا فيها من الّنفع والّتأثير والبركة ما يبقى صداه في األجيال جياًل بعد‬
‫جيل‪.‬‬
‫إّن كلماته ﷺ الموجزة هي قواعد عامة في كل باب من أبواب الحياة‪ ،‬بل إّن الحديث الواحد‬
‫ُيشرح في مجلد كامل‪ ،‬كما حصل في حديث‪« :‬كلمتان خفيفتان على الّلسان»‪ ،‬أو «سّيد االستغفار»‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من أحاديثه ﷺ‪.‬‬
‫ورسالته ﷺ ُم باركة‪ ،‬اهتدى بها آالف الماليين من البشـر‪ ،‬أي بلغة العصـر‪« :‬مليارات»‬
‫الّناس‪ ،‬منهم الُعلماء‪ ،‬والقضاة‪ ،‬والُفقهاء‪ ،‬والُم فّسرون‪ ،‬والُح كماء‪ ،‬والّدعاة‪ ،‬والُم فتون‪ ،‬جياًل بعد جيل‪،‬‬
‫وقرًنا بعد قرن‪.‬‬
‫رسالة ُم باركة أحيا بها ُهللا قلوًبا ميتة‪ ،‬وبّص ر بها عيوًنا عمياء‪ ،‬وأسمع بها آذاًنا صّم اء‪.‬‬
‫الّر سالة الُم باركة التي طّه رت الّضمائر‪ ،‬وغسلت الّنفوس‪ ،‬وأصلحت القلوب‪ ،‬وجمعت‬
‫الّشمل‪ ،‬ووّح دت الكلمة‪ ،‬وأرست معالم العدل‪ ،‬ونشـرت الفضيلة‪ ،‬وزرعت القيم الُم ثلى‪.‬‬
‫الّر سالة الُم باركة التي حفظ ُهللا بها الّدماء واألموال واألعراض‪ ،‬ووصل بها األرحام وكفل‬
‫بها األيتام‪ ،‬ولطف ببركتها بالمساكين والفقراء والُم ضطهدين‪.‬‬
‫الّر سالة الُم باركة التي حّو لت اُألمة من الوثنّية إلى الّتوحيد‪ ،‬ومن الّر جس إلى الّطهارة‪ ،‬ومن‬
‫الّظلم إلى العدل‪ ،‬ومن الطبقية إلى المساواة‪ ،‬ومن الفقر إلى الغنى‪ ،‬ومن الوهم إلى الحقيقة‪.‬‬
‫الّر سالة الُم حمدية الُم باركة التي ُتصاحبك في المسجد خشوًعا وإخباًتا‪ ،‬وفي الجامعة علًم ا‬
‫وفهًم ا‪ ،‬وعلى المنبر خطابًة وتأثيًر ا‪ ،‬وعلى المنائر ُحّج ة وإعالًنا‪ ،‬وفي الميدان عماًل وإتقاًنا‪ ،‬وفي‬
‫الّز راعة تحصياًل وزكاًة‪ ،‬وفي الّتجارة نماًء وبركًة‪ ،‬وفي القلب اطمئناًنا وسكينًة‪ ،‬وفي العقل بصيرًة‬
‫وُر شًدا‪ ،‬وفي اُألسرة اجتماًعا وألفًة‪.‬‬
‫رسالة ُم باركة خالدة إلى يوم الّدين‪ ،‬نقلت األمة من الجهل إلى العلم‪ ،‬وقام عليها علم الُعلماء‪،‬‬
‫وحكمة الُح كماء‪ ،‬والقضاء عند القضاة‪ ،‬وقامت عليها الجوامع والجامعات والمدارس‪ ،‬فاستنارت بها‬
‫العقول‪ ،‬وال زالت أجيال األمة جياًل بعد جيل ينهلون من هذا العلم الُم بارك الذي تركه ﷺ والذي قال‬
‫عنه‪« :‬إَّن الُعَلماَء وَر ثُة األنبياِء ‪ ،‬وإَّن األنبياَء لم ُيوِّر ثوا ديناًر ا وال درًهما‪ ،‬وإّنما وَّر ثوا الِع ْلَم ‪ ،‬فَم ن‬
‫أَخ ذه أَخ ذ بحٍّظ وافٍر » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فأّي رسالة وأي دعوة بلغت بركتها هذا المبلغ؟!‬
‫وكتابه ﷺ ُم بارك‪ ،‬فقد نّص هللا تعالى على بركة هذا الكتاب العظيم الذي أنزله على نبّيه‬
‫الكريم‪ ،‬فقال ُسبحانه‪ِ{ :‬ك َتاٌب َأْنَز ْلَناُه ِإَلْيَك ُمَباَر ٌك ِلَيَّدَّبُر وا آَياِتِه َو ِلَيَتَذَّكَر ُأوُلو األْلَباِب} [ص‪ :‬اآلية‬
‫‪.]29‬‬
‫فهو ُم بارك في تالوته‪ُ ،‬م بارك في تدّبره‪ُ ،‬م بارك في العمل به‪ُ ،‬م بارك في الّدعوة إليه‪.‬‬
‫تالوة الحرف منه بعشر حسنات إلى أضعاف ال يعلمها إاّل هللا‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬من قرأ حرًفا‬
‫من كتاِب هللا فله به حسنٌة‪ ،‬والحسنُة بعشِر أمثاِلها‪ ،‬ال أقول‪( :‬ألم) حرٌف ‪ ،‬ولكن ألٌف حرٌف ‪ ،‬والٌم‬
‫َح رٌف ‪ ،‬وميٌم َح رٌف » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫ومن بركته أن من يتلوه بتدّبر ينعم بسداد في الّر أي‪ ،‬ونور في البصيرة‪ ،‬واطمئنان في‬
‫القلب‪ ،‬وانشراح في الّص در‪ ،‬وبركة في الحال والمآل‪ ،‬واستقامة في كل األمور الّدينية والّدنيوية كما‬
‫قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَذا اْلُقْر آَن َيْه ِدي ِلَّلِتي ِه َي َأْقَو ُم } [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫فُم تدّبره على نهج قويم وصراط مستقيم‪ُ ،‬م عان ُم سّدد‪ ،‬محفوظ ببركة هذا الكتاب العظيم الذي‬
‫أنزله عالم الّسر وأخفى‪ ،‬فال يضل صاحبه في الّدنيا‪ ،‬وال يشقى في اآلخرة‪ ،‬كما قال ُسبحانه‪َ{ :‬فَمِن‬
‫اَّتَبَع ُهَداَي َفَال َيِض ُّل َو َال َيْشَقى} [طه‪ :‬اآلية ‪.]123‬‬
‫ومن بركة كتابه ﷺ أّنه يشفع لصاحبه يوم القيامة كما قال ﷺ‪« :‬اْقَر ُؤوا اْلُقْر آَن َفِإَّنُه َيْأِتي َيْو َم‬
‫اْلِقَياَم ِة َشِفيًعا َأِلْصَح اِبِه » [واه مسلم]‪.‬‬
‫والقرآن سبب في ارتقاء صاحبه ألعلى الّدرجات في الجّنة فُيقال له‪« :‬اقرأ وارتِق ورِّتْل كما‬
‫كنت ُترِّتُل في الّدنيا فإَّن منزَلك عند آخِر آيٍة تقرُؤها» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬الماِه ُر بالُقْر آِن مع الَّسَفَر ِة الِك راِم البَر َر ِة‪ ،‬والذي َيْقَر ُأ الُقْر آَن وَيَتَتْعَتُع ِفيِه ‪ ،‬وهو‬
‫عليه شاٌّق ‪ ،‬له أْج راِن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومن بركة القرآن أّنه حفظ ألهل البيت‪ ،‬وإسعاد لهم‪ ،‬وطرٌد للشياطين عنهم‪ ،‬كما وصف ﷺ‬
‫سورة البقرة فقال‪ « :‬إَّن الَّشْيطاَن َيْنِفُر ِم َن الَبْيِت َاَّلِذي ُتْقَر ُأ ِفيِه ُسوَر ُة الَبَقَر ِة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكذلك ُتطرد به الهموم‪ ،‬وُتكشف به الغموم‪ ،‬وُتحفظ به األنفس بإذن هللا من الحسد والعين‬
‫والمّس ‪ ،‬وفيه شفاء لألمراض كما قال تعالى‪َ{ :‬و ُنَنِّز ُل ِم َن اْلُقْر آِن َم ا ُهَو ِش َفاٌء َو َر ْح َم ٌة ِلْلُم ْؤ ِم ِنيَن }‬
‫[اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]82‬‬
‫وهو بركة ألهل المجلس‪ ،‬وأي محفل أو اجتماع ُيتلى فيه كما قال ﷺ‪« :‬ما اْج َتمع َقْو ٌم في‬
‫َبْيٍت ِم ن ُبُيوِت هللا‪َ ،‬يْتُلوَن ِك تاَب هللا‪َ ،‬و َيَتداَر ُسوَنُه بْيَنُه ْم ‪ِ ،‬إاّل َنَز َلْت عليهم الَّسِك يَنُة‪َ ،‬و َغِش َيْتُه ُم‬
‫الَّر ْح َم ة َو َح َّفْتُه ُم الَم الِئَكُة‪َ ،‬و َذَكَر ُهُم هللا ِفيَم ن ِع ْنَد ُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن أجّل بركات هذا القرآن العظيم أن أسراره وأنواره ال تنتهي وال تنطفئ أبًدا‪ ،‬فعلى مّر‬
‫العصور‪ ،‬ومدى الّدهور‪ ،‬ال يزال العلماء يغوصون على آللئه‪ ،‬ودرره وجواهره‪ ،‬عبر أربعة عشر‬
‫قرًنا من الّز مان‪ ،‬ومع هذا كّله ال يزال جديًدا غًّضا طرًّيا‪ُ ،‬يمطر العالم بإعجازه وعجائبه‪ ،‬وُيبهر‬
‫العقول بفتوحاته وعلومه‪ ،‬وعلى رغم كثرة الّتفاسير في كل باب من أبواب العلم فإّن القرآن يتجّدد‬
‫مع كل جيل‪ ،‬ويحضر مع كل عصر‪ ،‬وُيواكب كل تطور‪ ،‬ألّنه ُم بارك من عند هللا‪ ،‬وهذا سّر عظمة‬
‫القرآن‪ ،‬وبقائه‪ ،‬وهيمنته‪.‬‬
‫وُم بارك ﷺ في أصحابه‪ ،‬فال ُيعلم إمام أو زعيم أو قائد ترك من األثر الطّيب والبركة في‬
‫أصحابه كما ترك ﷺ‪ ،‬فقد تحّو لوا ببركته من رعاة غنم إلى قادة أمم‪ ،‬ومن عبدة أصنام إلى حملة‬
‫أعالم‪ ،‬ومن أتباع للوثنّية إلى هداة للبشـرّية‪ ،‬كانوا نكرات فسّيرهم شموًسا ُم شـرقات‪ ،‬ونجوًم ا‬
‫المعات‪.‬‬
‫كانوا قبل مبعثه في جاهلية جهالء‪ ،‬وفي دياجير ظلماء‪ ،‬فتحّو لوا ببركة رسالته وُيمن نبّو ته‬
‫إلى ُعلماء ُح كماء‪ ،‬وأئمة ُح لماء‪ ،‬وفاتحين ُم جددين‪ ،‬وصالحين ُم وّح دين‪.‬‬
‫كانوا قبل أن ُيطّل عليهم بنوره وبركته تائهين في أودية الّضالل‪ ،‬حائرين في مسارب‬
‫الّضياع‪ ،‬أيتاًم ا على موائد الّلئام‪ ،‬حيارى في صحراء الوهم‪ ،‬فلّم ا تجّلى بنوره العظيم إذا هم ينطلقون‬
‫على بركة هللا يجوبون القفار‪ ،‬ويمتطون البحار‪ ،‬وُيسابقون الّليل والّنهار‪ ،‬في نشر دين الواحد‬
‫القّه ار‪.‬‬
‫ولو لم يبعث هللا هذا الّنبي العظيم لما كان لهم اسم في الّتاريخ‪ ،‬وال مكان في المجد‪ ،‬وال منبر‬
‫في الّسيادة‪ ،‬وال كرسي في القيادة‪ ،‬فإّنهم صاروا أئّم ة في كل أبواب الخير إلى قيام الّساعة‪ ،‬فتجد أبا‬
‫بكر الصديق إماًم ا في الصدق‪ ،‬وعمر في العدل‪ ،‬وعثمان في الحياء‪ ،‬وعلًّيا في القضاء‪ ،‬وُأبًّيا في‬
‫القراءة‪ ،‬وابن عباس في الّتفسير‪ ،‬وحّسان في الّشعر‪ ،‬وزيًدا في الفرائض‪ ،‬فصاروا رضوان هللا‬
‫عليهم أئمًة لكل من يأتي بعدهم ببركته ﷺ‪ ،‬فأّي بركة أعظم من بركته ﷺ على أصحابه (رضي هللا‬
‫عنهم)؟!‬
‫وُعمره ﷺ ُم بارك‪ ،‬فقد وضع هللا البركة في ُعمره ﷺ وأيامه ولياليه‪ ،‬فمكث ثالًثا وعشرين‬
‫سنة في إبالغ رسالته ليس إاّل ‪ ،‬وكان في هذه الفترة الوجيزة من الفتح والّنصر‪ ،‬والّنفع والعلم‪،‬‬
‫واإليمان واإلصالح‪ ،‬ما ال يقوم به غيره في قرون وال دهور‪.‬‬
‫في ثالث وعشرين سنة فحسب‪ ،‬بّلغ الّر سالة‪ ،‬وأّدى األمانة‪ ،‬وعّلم القرآن‪ ،‬ونشر الّسّنة‪،‬‬
‫وقضى على الُكفر‪ ،‬وأّسس دولة العدل‪ ،‬وأقام أعظم حضارة راشدة عرفتها اإلنسانّية‪ ،‬ومأل الّدنيا‬
‫علًم ا‪ ،‬وهدى هللا به األمم‪ ،‬وأخرجهم به من الّظلمات إلى الّنور‪.‬‬
‫فلو وزنت هذا العمر المحدود في الّز من لوجدته أكثر بركة من آالف السنوات ألقوام‬
‫آخرين‪ ،‬فُسبحان من جعل الّساعة من ساعاته ُتعادل العام‪ ،‬بل مئة عام من عمر غيره‪.‬‬
‫وانظر إلى بركة يوم واحد من أيامه عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وهو يوم الّنحر‪ ،‬اليوم العاشر من‬
‫حّج ه ﷺ على سبيل المثال‪ ،‬ففي هذا اليوم الواحد صّلى عليه الّص الة والّسالم الفجر بمزدلفة‪ ،‬ودفع‬
‫إلى منى وهو ُيلّبي ويذكر هللا ويدعوه‪ ،‬وُيعّلم الّناس المناسك‪ ،‬ويفتي الحّج اج‪ ،‬ثم رمى جمرة العقبة‪،‬‬
‫ثم حلق‪ ،‬ثم نحر‪ ،‬ثم ذهب إلى المسجد الحرام فطاف‪ ،‬ثم صّلى الّظهر‪ ،‬وهو مع ذلك ُيرشد الّناس‬
‫وُيوّج ههم‪ ،‬ووسيلة الّنقل ناقته ﷺ‪ ،‬مع ُبعد المسافة‪ ،‬وكثرة الّز حام‪ ،‬وحرارة الجو‪ ،‬ووقوفه للّناس‬
‫يسألونه‪ ،‬فُسبحان من بارك في لحظات عمره ودقائق حياته‪.‬‬
‫ودعاؤه ﷺ ُم بارك‪ ،‬فالسماء ُتفّتح له حينما يرفع يديه‪ ،‬وكلماته تصعد إلى العرش ُم باشرة‬
‫ليس بينها وبين هللا حجاب‪ ،‬يرفع يديه إلى إلهه وخالقه‪ ،‬ويدعو خليله ومواله‪ ،‬فتنهمر اإلجابة كلمح‬
‫البصـر‪ ،‬وأسرع من زّخ ات المطر‪ ،‬ففي «الّص حيحين» وقف ﷺ على المنبر في شّدة الحر والّسماء‬
‫ليس بها سحاب‪ ،‬ودعا هللا أن يغيث العباد‪ ،‬فانهمر الغيث ُم باشرة حتى انسكب الماء من سقف‬
‫المسجد‪ ،‬وبقي المطر أسبوًعا كاماًل حتى سأل ﷺ رّبه أن يجعله على رؤوس الجبال وبطون األودية‬
‫ومنابت الّشجر‪ ،‬وقد شهد هذه القصة جمع من أصحابه ﷺ ورواها الّثقات‪.‬‬
‫وُيرسل ﷺ دعوته الُم باركة في ليلة من الليالي لعبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‪ -‬وهو‬
‫غالم ‪ -‬ويقول‪« :‬اللهَّم َفِّقْه ُه في الِّديِن » [متفق عليه]‪ ،‬فيتحّو ل هذا الغالم إلى ترجمان للقرآن‪ ،‬وبحر‬
‫لألّم ة‪ ،‬وحبر لها‪.‬‬
‫وُيكافئ ﷺ خادمه أنس بن مالك (رضي هللا عنه) بدعوة ُم باركة فيقول‪« :‬اللهَّم أْك ِثْر ماَلُه‪،‬‬
‫وَو َلَد ُه‪ ،‬وباِر ْك له ِفيما أْع َطْيَتُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فُيغدق ُهللا عليه من الخيرات‪ ،‬وُيبارك له في الّذرّية‪ ،‬وُيطيل عمره حتى يزيد عن المئة‪ ،‬يقول‬
‫أنس(رضي هللا عنه)‪َ« :‬فوهللا إَّن ماِلي َلَكِثيٌر ‪ ،‬وإَّن َو َلِدي َو َو َلَد َو َلِدي َلَيَتعاُّدوَن على َنْح ِو الِم َئِة‬
‫الَيوَم » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعندما زار ﷺ سعد بن أبي وقاص (رضي هللا عنه) في مرضه‪ ،‬فدعا له‪ ،‬فعاش بعد هذه‬
‫الّدعوة خمسة وأربعين عاًم ا‪ ،‬وُر زق تسعة وعشـرون ولًدا وبنًتا‪.‬‬
‫ومن أعظم المقامات في بركة دعائه ﷺ يوم وقف خاشًعا ُم تبّتاًل باكًيا «ليلة معركة بدر»‬
‫يدعو رّبه ومواله‪ ،‬ويقول في ُم ناجاة حارة ُم ؤّثرة‪ ،‬وفي نشيج نبوي صادق‪« :‬اللهَّم َأْنِج ْز لي ما‬
‫َو َعْد َتِني‪ ،‬اللهَّم آِت ما َو َعْد َتِني‪ ،‬اللهَّم إْن ُتْهِلْك هِذه الِعَص اَبَة ِم ن َأْه ِل اإلْس اَل ِم ال ُتْعَبْد في األْر ِض »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫فأنزل هللا نصره‪ ،‬وأعّز جنده‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم األحزاب وحده‪ ،‬ببركة دعائه ﷺ‪ ،‬ويقول‬
‫ﷺ‪ِ« :‬لُكِّل َنِبٍّي َدْع َو ٌة َدعاها ُأِلَّم ِتِه ‪ ،‬وإِّني اْخ َتَبْأُت َدْعوتَي َشفاَعًة ُأِلَّم تي َيوَم الِقياَم ِة » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فمن بركته ﷺ على أّم ته أّنه لم يدع بالهالك على عصاتها‪ ،‬ولم يتعّج ل الّدعوة في الّدنيا؛ ألّن‬
‫الّدنيا منقضية‪ُ ،‬م نتهية‪ ،‬قصيرة‪ ،‬وإّنما جعل دعوته ذخًر ا ألّم ته يوم العرض األكبر‪ ،‬شفقًة منه‪،‬‬
‫ورحمة بهم‪ ،‬وحناًنا عليهم‪ ،‬فجزاه هللا عّنا خير ما جزى نبًّيا عن أّم ته‪ ،‬وأحاديث وقصص بركة‬
‫دعائه ﷺ كثيرة حفلت بها كتب الُسّنة والّسيرة‪ ،‬ولكن نكتفي باألصح منها لعدم اإلطالة‪.‬‬
‫وريقه ﷺ ُم بارك‪ ،‬فلّم ا أصابه الجوع ﷺ وأصحابه يوم حفر الخندق‪ ،‬صنع جابر (رضي هللا‬
‫عنه) طعاًم ا قلياًل ‪ ،‬ودعا الّنبي إلى بيته‪ ،‬فدعا ﷺ أهل الخندق‪ ،‬وكانوا ألف رجل‪ ،‬وقال لجابر‪« :‬ال‬
‫ُتْنِز ُلَّن ُبْر َم َتُكْم ‪ ،‬وال َتْخ ِبُز َّن َعِج يَنُكْم حّتى أِج يَء »‪ ،‬قال جابر‪( :‬رضي هللا عنه) «َفِج ْئُت وجاَء َر سوُل‬
‫هللا ﷺ َيْقُدُم الّناَس حّتى ِج ْئُت اْم َر َأت‪َ ،‬فقاَلْت ‪ :‬بَك وِبَك ‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬قْد َفَعْلُت الذي ُقْلِت‪ ،‬فأْخ َر َج ْت له َعِج يًنا‬
‫َفَبَصَق فيه وباَر َك ‪ُ ،‬ثَّم َعَم َد إلى ُبْر َم ِتنا َفَبَصَق وباَر َك ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬اْد ُع خاِبَز ًة َفْلَتْخ ِبْز َم َعِك ‪ ،‬واْقَد ِح ي ِم ن‬
‫ُّط‬
‫ُبْر َم ِتُكْم وال ُتْنِز ُلوها وُهْم أْلٌف ‪َ ،‬فُأْقِس ُم باهلل لَقْد أَكُلوا حّتى َتَر ُكوُه واْنَح َر ُفوا‪ ،‬وإَّن ُبْر َم َتنا َلَتِغ ُّط كما‬
‫هي‪ ،‬وإَّن َعِج يَننا َلُيْخ َبُز كما ُهَو » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومن بركة ريقه ﷺ أّنه شفا عين علي بن أبي طالب بإذن هللا بعدما أصيب (رضي هللا عنه)‬
‫بالّر مد يوم خيبر‪ ،‬فعن سهل بن سعد (رضي هللا عنه) أّنه سمع الّنبي ﷺ يقول يوم خيبر‪« :‬أْيَن َعِلٌّي‬
‫؟ فِقيَل ‪َ :‬يْش َتِك ي َعْيَنْيِه ‪ ،‬فأَمَر ‪َ ،‬فُدِع َي له‪َ ،‬فَبَصَق في َعْيَنْيِه ‪َ ،‬فَبَر َأ َم َكاَنُه حَّتى َكأَّنُه َلْم َيُكْن به شيٌء »‬
‫[متفق عليه]‪ .‬وأخذ الّر اية ومضى ألمر رسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫وعن البراء بن عازب (رضي هللا عنهما) قال‪ُ« :‬كّنا َيوَم الُح َد ْيِبَيِة أْر َبَع َعْش َر َة ِم َئًة‬
‫والُح َد ْيِبَيُة بْئٌر ‪َ ،‬فَنَز ْح ناها‪ ،‬حّتى َلْم َنْتُر ْك ِفيها َقْط َر ًة‪َ ،‬فَج َلَس الّنبُّي ﷺ على َشِفيِر الِبْئِر َفَدعا بماٍء‬
‫َفَم ْض َم َض وَم َّج في الِبْئِر ‪َ ،‬فَم َكْثنا غيَر َبِع يٍد‪ُ ،‬ثَّم اْس َتَقْينا حّتى َر ِو ينا‪ ،‬وَر َو ْت ‪ ،‬أْو َص َد َر ْت َر كاِئُبنا»‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫فهذه ُم عجزة له ﷺ‪ ،‬وكرامة إلهية‪ ،‬وبركة رّبانية‪ ،‬شهدها العدد الكثير من أصحابه‪ ،‬وكانوا‬
‫قرابة ألف وأربعمئة‪.‬‬
‫وآثاره ﷺ ُم باركة‪ ،‬فعن عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‪ ،‬قال‪َ :‬م َّر َر سوُل هللا ﷺ على‬
‫َقْبَر ْيِن فقاَل ‪« :‬إَّنُه ما َلُيَعَّذباِن وما ُيَعَّذباِن في َكِبيٍر ‪ ،‬أَّم ا أَح ُدُهما َفكاَن َيْم ِشـي بالَّنِم يَم ِة ‪ ،‬وَأَّم ا اآلَخ ُر‬
‫َفكاَن ال َيْس َتِتُر ِم ن َبْو ِلِه ‪ ،‬قاَل َفَدعا بَعِسيٍب َر ْط ٍب َفَشَّقُه باْثَنْيِن ُثَّم َغَر َس عَلى هذا واِح ًدا وعَلى هذا‬
‫واِح ًدا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ :‬لَعَّلُه أْن ُيَخَّفُف عْنهما ما َلْم َيْيَبسا‪ .‬وفي رواية‪ :‬وكاَن اآلَخ ُر ال َيْس َتْنِز ُه َعِن الَبْو ِل ‪ ،‬أْو‬
‫ِم َن الَبْو ِل »‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫وهذا خاص به‪ ،‬وال يكون إاّل له ﷺ‪ ،‬لما جعل هللا فيه من البركة‪ ،‬وكان يحرص أصحابه‬
‫غاية الحرص على أخذ شيء من آثاره الُم باركة ﷺ‪ ،‬فعن سهل بن سعد الّساعدي قال(رضي هللا‬
‫عنه)‪َ« :‬ج اَء ِت اْم َر َأٌة بُبْر َدٍة‪ ،‬قاَلْت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إِّني َنَسْج ُت هِذه بَيِدي أْك ُسوَكَه ا‪ ،‬فأَخ َذَها َر سوُل هللا‬
‫ﷺ ُم ْح َتاًج ا إَلْيَه ا‪َ ،‬فَخ َر َج إَلْيَنا وإَّنَه ا ِإَل َز اُر ُه‪َ ،‬فَج َّسَه ا َر ُج ٌل ِم َن الَقْو ِم ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬اْك ُسِنيَه ا‪،‬‬
‫قاَل ‪َ :‬نَعْم ‪َ .‬فَج َلَس ما َشاَء‬
‫أْح َسْنَت ‪َ ،‬سَأْلَتَه ا إَّياُه‪ ،‬وقْد‬
‫ُهللا في الَم ْج ِلِس ‪ُ ،‬ثَّم َر َج َع َفَطَو اَها‪ُ ،‬ثَّم أْر َسَل بَه ا إَلْيِه ‪َ ،‬فقاَل له الَقْو ُم ‪ :‬ما‬
‫َعَر ْفَت أَّنه ال َيُر ُّد َساِئاًل ‪َ ،‬فقاَل الَّر ُجُل ‪ :‬وهللا ما َسَأْلُتَه ا إاَّل ِلَتُكوَن َكَفِني َيوَم‬
‫أُم وُت ‪.‬قاَل َسْهٌل ‪َ :‬فَكاَنْت َكَفَنُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ومن هذا أيًض ا ما صّح عنه ﷺ أّنه أعطى إزاره للّنساء الغاسالت الاّل تي غّسلّن ابنته بعدما‬
‫توفيت وقال‪« :‬أشعرنها إيّاه» [متفق عليه]‪ .‬ومعنى أشعرنها إّياه‪( :‬أي اجعلَن هذا الّثوب يلي جسدها‬
‫تبرًكا بثوبه ﷺ )‪ ،‬وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ُ :‬قلُت ‪« :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إِّني َسِم ْعُت ِم ْنَك‬
‫َح ِديًثا َكِثيًر ا فأْنساُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬اْبُسْط ِر داَء َك َفَبَسْط ُت ‪َ ،‬فَغَر َف بَيِدِه ِفيِه ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ُ :‬ض َّم ُه َفَض َمْم ُتُه‪َ ،‬فما َنِسيُت‬
‫َح ِديًثا َبْعُد» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فصار أبو هريرة (رضي هللا عنه) أحفظ اُألّم ة لحديثه ﷺ إلى قيام الّساعة ببركة دعائه ﷺ‪.‬‬
‫ومن التبّر ك بلباسه ﷺ ما صّح عن أسماء بنت أبي بكر (رضي هللا عنهما) أّنها قالت‪« :‬هِذه‬
‫ُجَّبُة َر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬فأْخ َر َج ْت إَلَّي ُجَّبَة َطياِلَسٍة ِكْس َر واِنَّيٍة َلها ِلْبَنُة ِديباٍج‪َ ،‬و َفْر َجْيها َم ْك ُفوف‬
‫بالِّديباِج‪َ ،‬فقاَلْت ‪ :‬هِذه كاَنْت ِع ْنَد عاِئَشَة حّتى ُقِبَضْت ‪َ ،‬فل ُقِبَضْت َقَبْضُتها‪َ ،‬و كاَن الّنبُّي ﷺ َيْلَبُسها‪،‬‬
‫َفَنْح ُن َنْغِس ُلها ِلْلَمْر ضى ُيْس َتْشفى بها» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكّفه ﷺ مبارك‪ ،‬فعن جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما) قال‪َ« :‬د َخ َل َعَلَّي َر سوُل هللا ﷺ‬
‫َو َأنا َمِر يٌض ال َأْع ِقُل ‪َ ،‬فَتَو َّض َأ‪َ ،‬فَصُّبوا َعَلَّي ِم ن َو ُضوِئِه ‪َ ،‬فَعَقْلُت » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فببركة الماء الّطاهر الذي كان في جسده الّشريف ﷺ‪ُ ،‬شفي جابر (رضي هللا عنه) بإذن هللا‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪ُ« :‬أِتَي الّنبُّي ﷺ بإَناٍء ‪ ،‬وهو بالَّز ْو َر اِء ‪َ ،‬فَو َض َع َيَد ُه‬
‫في اإلَناِء ‪َ ،‬فَجَعَل الَم اُء َيْنُبُع ِم ن َبْيَن أَص اِبِعِه ‪َ ،‬فَتَو َّض َأ الَقْو ُم ‪ .‬قاَل َقَتاَد ُة‪ُ :‬قلُت ألَنٍس ‪َ :‬كْم ُكْنُتْم ؟ قاَل ‪:‬‬
‫َثاَل َث ِم َئٍة‪ ،‬أْو ُز َهاَء َثاَل ِث ِم َئٍة» متفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول عبدهللا بن مسعود(رضي هللا عنه)‪ُ« :‬كَّنا َنُعُّد اآلَياِت َبَر َكًة‪ ،‬وَأْنُتْم َتُعُّدوَنَه ا َتْخ ِو يًفا‪ُ ،‬كَّنا‬
‫مع َر سوِل هللا ﷺ في َسَفٍر ‪َ ،‬فَقَّل الَم اُء ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬اْط ُلُبوا َفْض َلًة ِم ن َم اٍء ‪َ .‬فَج اُؤوا بإَناٍء فيه َم اٌء َقِليٌل ‪،‬‬
‫فأْد َخ َل َيَد ُه في اإلَناِء ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ :‬ح َّي عَلى الَّطُه وِر الُم َباَر ِك ‪ ،‬والَبَر َكُة ِم َن هللا‪َ .‬فلَقْد َر َأْيُت الَم اَء َيْنُبُع ِم ن‬
‫َبْيِن أَص اِبِع َر سوِل هللا ﷺ ولَقْد ُكَّنا َنْسَمُع َتْس ِبيَح الَّطَعاِم وهو ُيْؤ َكُل » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وعن جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما) قال‪َ« :‬عِط َش الَّناُس َيوَم الُح َد ْيِبَيِة والَّنبُّي ﷺ بْيَن‬
‫َيَد ْيِه ِر ْك َو ٌة َفَتَو َّض َأ‪َ ،‬فَج ِه َش الَّناُس َنْح َو ُه‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬ما َلُكْم ؟ قالوا‪ :‬ليَس ِع ْنَد َنا َم اٌء َنَتَو َّض ُأ واَل َنْش َر ُب إاَّل‬
‫ما بْيَن َيَد ْيَك ‪َ ،‬فَو َض َع َيَد ُه في الِّر ْك َو ِة‪َ ،‬فَجَعَل الَم اُء َيُثوُر بْيَن أَص اِبِعِه َكَأْم َثاِل الُعُيوِن ‪َ ،‬فَشِر ْبَنا‬
‫وَتَو َّض ْأَنا‪ُ .‬قلُت ‪َ :‬كْم ُكْنُتْم ؟ قاَل ‪ :‬لو ُكَّنا ِم َئَة أْلٍف َلَكَفاَنا‪ُ ،‬كَّنا َخ ْم َس َعْش َر َة ِم َئًة» [رواه البخاري‪،‬‬
‫ورواه ُم سلم ُم ختصًر ا]‪.‬‬
‫وكاَن َر سوُل هللا ﷺ إذا َص ّلى الَغداَة جاَء َخ َدُم الَم ِديَنِة بآِنَيِتِه ْم ِفيها الماُء ‪َ ،‬فما ُيْؤ تى بإناٍء إاّل‬
‫َغَمَس َيَدُه ِفيها‪َ ،‬فُر َّبما جاُؤوُه في الَغداِة الباِر َدِة‪َ ،‬فَيْغِم ُس َيَدُه ِفيها‪[ .‬رواه ُم سلم]‪ ،‬فحَّيا هللا ذاك الكّف‬
‫الّطاهر الُم بارك الذي ما خان‪ ،‬وال غّش ‪ ،‬وال غدر‪ ،‬وال نهب‪ ،‬وال سلب‪ ،‬وال سرق‪ ،‬وال سفك‪.‬‬
‫وانظر لحرص أصحابه ﷺ على الّتبرك بآثاره‪ ،‬بعد أن اّتبعوا الّنور الذي جاء به واهتدوا‬
‫بهداه‪ ،‬فإّن أعظم بركة ُيتبّر ك فيها بالّنبي ﷺ هي‪ :‬اّتباع تعاليمه من كتاب هللا وُسّنة رسوله ﷺ‪ ،‬وليس‬
‫فقط الّص ور واآلثار الّظاهرة‪ ،‬فإّن بعض الّناس قد يترك االقتداء بُسّنته ﷺ وامتثال أمره واجتناب‬
‫نهيه‪ ،‬ثم يتعّلق بآثار من الّلباس والّشعر التي كانت له ﷺ‪ ،‬فكيف يكون هذا؟!‬
‫وقصص بركته ﷺ ال تنتهي‪ ،‬وأحاديث ُم عجزاته ال تنقضي‪ ،‬فهو الُم بارك أينما حّل وأينما‬
‫ارتحل‪ ،‬وهو الموّفق أينما سار وأقام‪ ،‬وليست هذه البركة ألحد من الّناس إاّل له‪ ،‬وال يجوز ألحد من‬
‫الناس أن يّدعي البركة في آثاره‪ ،‬بل هذا وقف على سّيد الّناس أجمعين؛ ألّن هللا اصطفاه وهّذبه‪،‬‬
‫وطّه ره وزّكاه‪ ،‬ثم سكب في روحه الّشريفة البركة ففاضت على من حوله‪ ،‬وأشرقت على الحياة كّلها‬
‫فحّو لتها إلى بهجة ونعيم‪ ،‬فهو الوحيد ﷺ الذي ُيَتبرك به‪ ،‬ومن فاته التبّر ك بآثاره ﷺ من ثوٍب أو‬
‫وضوٍء أو شعٍر أو نحوه فليتبّر ك بما هو أعظم‪ ،‬بهذا الّنور اإللهي‪ ،‬والفتح الّر باني‪ِ ،‬م ن‪« :‬قال هللا‬
‫تعالى»‪ ،‬و«قال رسوله ﷺ»‪ ،‬فإّن الوحي أعظم بركة‪ ،‬وأجّل رحمة‪ ،‬ففيه الّنجاة والفوز العظيم‪،‬‬
‫والمقام الكريم في اآلخرة بجوار رٍّب رحيم‪.‬‬
‫إّن األجيال التي أتت بعده ﷺ عبر القرون الُم تتالية على مدى الّتاريخ اإلسالمي وإن لم ُتدرك‬
‫الماء الذي نبع من بين أصابعه إاّل أّنها أدركت ماء الّر سالة العذب الّز الل من الكتاب والُسّنة‪ ،‬فتروي‬
‫عطشها في ظمأ هواجر المسيرة‪ ،‬فتجد الّر ي الُم بارك‪.‬‬
‫وإّن أتباع الّنبي ﷺ يهتمون بالمصاحف ال بالمتاحف‪ ،‬وباألثر ال باآلثار‪ ،‬فإّن بركة ميراثه ﷺ‬
‫من العلم الّشرعي هي التي ُتنجي صاحبها متى ما اّتبعها واستنار بنورها واستضاء بضيائها‪.‬‬
‫فتركته ﷺ التي تركها للّناس ليست في قدح‪ ،‬وال جفنة‪ ،‬وال كساء‪ ،‬وال عصا‪ ،‬وإّنما في‬
‫شريعة ُم طّه رة‪ ،‬وُسّنة ُم يّسرة‪ ،‬ومّلة سمحة‪ ،‬ولذلك عّلق هللا عّز وجل اّتباع الّنبي ﷺ باالهتداء بهديه‪،‬‬
‫واالستنان بسّنته‪ ،‬فقال‪َ{ :‬لَقْد َكاَن َلُكْم ِفي َر ُسوِل ِهَّللا ُأْس َو ٌة َحَسَنٌة ِلَم ْن َكاَن َيْر ُج و َهَّللا َو اْلَيْو َم اآلِخ َر‬
‫َو َذَكَر َهَّللا َكِثيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪ .]21‬وقال تعالى‪َ{ :‬فاَّلِذيَن آَم ُنوا ِبِه َو َعَّز ُر وُه َو َنَص ُر وُه َو اَّتَبُعوا‬
‫الُّنوَر اَّلِذي ُأْنِز َل َمَعُه ُأوَلِئَك ُهُم اْلُم ْفِلُح وَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]157‬‬
‫فليست المسألة فقط الوقوف مع الّص ور‪ ،‬بل مع الّسور‪ ،‬وليس التمّسك بهديه ﷺ الّتمّسح بآثار‬
‫الّديار‪ ،‬بل بما تركه من أخبار‪ ،‬وما نشره من أنوار‪ ،‬عليه الّص الة والّسالم ما َعْس َعَس ليٌل وما تنّفس‬
‫نهار‪:‬‬
‫أهديتنا منرَب الّد نيا وغاَر ِح َرا‬
‫وليلَة القدِر واإلسراَء للقمِم‬
‫واحلوض والكوثر ال قراَق جئَت بِه‬
‫ّر‬
‫أنَت املزمُل يف ثوِب اهلدَى فُقِم‬
‫الكوُن يسأُل واألفالُك ذاهلٌة‬
‫واجلُّن واإلن بني الاَّل ِء والِّنعِم‬
‫ُس‬
‫والّد هُر حمتفٌل واجلُّو مبتهٌج‬
‫والبدُر ينّش ُّق واألايُم يف ُح ُلِم‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَعِلًم ا‬
‫ميراث الّنبيين‪ ،‬وتركة المرسلين‪ ،‬هو الِع لم‪ ،‬به ُعِبَد الّدّيان‪ ،‬وقام الميزان‪ ،‬وبه نزل جبريل‪،‬‬
‫على صاحب الغّر ة والّتحجيل‪ ،‬وبه ُعرَفت شرائع اإلسالم‪ ،‬وُم ِّيَز بين الحالل والحرام‪.‬‬
‫وبالعلم قام صرح اإليمان‪ ،‬وارتفع حصن اإلحسان‪ ،‬وُبّينت العبادات‪ ،‬وُشِر َح ت الُم عامالت‪،‬‬
‫وُدَّل به على الجّنة‪ ،‬وُدِع َي به إلى الّسنة‪ ،‬وهو من العلل دواء‪ ،‬ومن الّشكوك شفاء‪ ،‬ينسف الُّشُبهات‪،‬‬
‫ويحجب الّشهوات‪ ،‬وُيصلح القلوب‪ ،‬وُيرضي عاّل م الغيوب‪.‬‬
‫به ُتقام الُح جة‪ ،‬وُتعَر ف الَم َح َّج ة‪ ،‬ويكفي العلم شرًفا أّن أّو ل كلمة نزلت من الّسماء على نبّي‬
‫الهدى ﷺ كلمة‪{ :‬اْقَر ْأ} ‪ ،‬وهي من أعظم أدلة فضل العلم وقيمة المعرفة‪ .‬وأمره هللا أن يقول‪َ{ :‬ر ِّب‬
‫ِز ْدِني ِع ْلًم ا} [طه‪ :‬اآلية ‪ ،]114‬ولم يأمره بطلب زيادة إاّل من العلم؛ ألّنه طريق الّر ضوان‪ ،‬وباب‬
‫الّتوفيق‪ ،‬وسبيل الفالح‪ ،‬وامتّن عليه رّبه بأن عّلمه ما لم يكن يعلم‪ ،‬من المعارف اإليمانية‪،‬‬
‫والفتوحات الّر ّبانية‪ ،‬والمواهب اإللهية‪.‬‬
‫وقال له ربه‪َ{ :‬فاْع َلْم َأَّنُه َال ِإَلَه ِإَّال ُهَّللا} [محمد‪ :‬اآلية ‪ ،]19‬فبدأ بالعلم قبل القول والعمل‪،‬‬
‫وكان ﷺ أسوة العلماء وقدوة طلبة العلم في االستزادة من العلم الّنافع والعمل الّص الح‪ .‬وقال ﷺ‪:‬‬
‫«َم َثُل ما َبَعَثِني هللا به ِم َن الُه َدى والِع ْلِم ‪َ ،‬كَم َثِل الَغْيِث الَكِثيِر أصاَب أْر ًضا‪[ »...‬متفق عليه]‪.‬‬
‫بعث ُهللا نبّيه ُم عّلًم ا ُيعّلم الناس مكارم األخالق‪ ،‬ومعالي األمور‪ ،‬وأشرف الخصال‪ ،‬وأنبل‬
‫الّسجايا‪ ،‬فكانت ُم همته الكبرى تعليم الكتاب والحكمة كما قال تعالى‪َ{ :‬لَقْد َم َّن ُهَّللا َعَلى اْلُم ْؤ ِم ِنيَن ِإْذ‬
‫َبَعَث ِفيِه ْم َر ُسوًال ِم ْن َأْنُفِس ِه ْم َيْتُلو َعَلْيِه ْم آَياِتِه َو ُيَز ِّك يِه ْم َو ُيَعِّلُمُه ُم اْلِك َتاَب َو اْلِح ْك َم َة َو ِإْن َكاُنوا ِم ْن َقْبُل‬
‫َلِفي َض َالٍل ُم ِبيٍن } [آل عمران‪.]164 :‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬إَّن هللا َلْم َيْبَعْثِني ُم َعِّنًتا‪ ،‬وال ُم َتَعِّنًتا‪َ ،‬و َلِك ْن َبَعَثِني ُم َعِّلًم ا ُم َيِّسـًر ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ولقد ألهمَنا ﷺ أّن العلم إيمان وإيقان‪ ،‬وإحسان وعرفان‪ ،‬وإذعان وإتقان‪ ،‬فهو إيمان بما جاء‬
‫به الّر سول‪ ،‬وإيقان بالمنقول والمعقول‪ ،‬وإحسان ُيَجَّو د به العمل‪ ،‬ويحَذر به من الّز لل‪ ،‬وعرفان‬
‫يحمل على الّشكر‪ ،‬ويدعو لدوام الّذكر‪ ،‬وإذعان يحمل على العمل بالمأمور‪ ،‬واجتناب المحذور‪،‬‬
‫والِّر ضا بالمقدور‪ ،‬وإتقان تصلح به العبادة وُتطلب به الزيادة‪.‬‬
‫وحّث ﷺ الّناس على طلب العلم ونشره‪ ،‬فقال ‪ -‬كما جاء في حّج ة الوداع ‪َ« :-‬فْلُيَبِّلِغ الّشاِه ُد‬
‫الغاِئَب ‪َ ،‬فُر َّب ُم َبَّلٍغ أْو عى ِم ن ساِم ٍع» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬نَّض َر هللا امرًأ سمَع مّنا حديًثا فحفَظُه حّتى يبِّلَغُه غيَر ُه‪ ،‬فرَّب حامِل فْقٍه إلى من‬
‫هَو أفَقُه ِم ْنُه‪ ،‬ورَّب حامِل فْقٍه ليَس بفقيٍه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬بِّلُغوا َعِّني ولو آَيًة» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبّين ﷺ فضل العلم والُعلماء فقال‪َ« :‬م ن ُيِر ِد هللا به َخ ْيًر ا ُيَفِّقْه ُه في الِّديِن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أبي أمامة الباهلي (رضي هللا عنه) قال‪ُ« :‬ذِك َر لَر سوِل هللا ﷺ رُج الِن ؛ أحدهما عابٌد‪،‬‬
‫واآلَخ ُر عاِلٌم »‪ ،‬فقال رسوُل هللا ﷺ‪« :‬فضُل العالِم على العابِد كفضلي على أدناكم»‪ ،‬ثَّم قاَل رسوُل‬
‫هللا ﷺ‪« :‬إَّن هللا ومالِئكَتُه وَأهَل الَّسماواِت واألرِض حَّتى الَّنملَة في ُج حِر ها وحَّتى الحوَت ليصُّلوَن‬
‫على معِّلِم الَّناِس الخيَر » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬خ ْيُر ُكْم َم ْن َتَعَّلَم الُقْر آَن َو َعَّلَم ُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وقد رفع هللا العلماء فقال تعالى‪َ{ :‬يْر َفِع ُهَّللا اَّلِذيَن آَم ُنوا ِم ْنُكْم َو اَّلِذيَن ُأوُتوا اْلِع ْلَم َدَر َج اٍت}‬
‫[المجادلة‪ :‬اآلية ‪.]11‬‬
‫ومّيزهم فقال ُسبحانه‪َ{ :‬هْل َيْس َتِو ي اَّلِذيَن َيْعَلُم وَن َو اَّلِذيَن َال َيْعَلُم وَن } [الزمر‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫وذكرهم بالخشية فقال‪ِ{ :‬إَّنَم ا َيْخ َشى َهَّللا ِم ْن ِع َباِدِه اْلُعَلَم اُء } [فاطر‪ :‬اآلية ‪.]28‬‬
‫واستشهدهم على ألوهيته فقال‪َ{ :‬شِه َد ُهَّللا َأَّنُه َال ِإَلَه ِإَّال ُهَو َو اْلَم َالِئَكُة َو ُأوُلوا اْلِع ْلِم } [آل‬
‫عمران‪ :‬اآلية ‪.]18‬‬
‫واستحفظهم على كتابه فقال‪َ{ :‬بْل ُهَو آَياٌت َبِّيَناٌت ِفي ُص ُدوِر اَّلِذيَن ُأوُتوا اْلِع ْلَم } [العنكبوت‪:‬‬
‫اآلية ‪.]49‬‬
‫فالعلماء هم َو َر َثة األنبياء‪ ،‬وسادة األولياء‪ ،‬وحَم لة الوثيقة‪ ،‬والّشهداء على الخليقة‪ ،‬بهم تصلح‬
‫الّديار‪ ،‬وتعمر األمصار‪.‬‬
‫إّن صيد الكلب الُم عَّلم حالل‪ ،‬وصيد الكلب الجاهل حرام ووبال‪ ،‬فعن عدي ابن حاتم الطائي‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬سَأْلُت رسول هللا ﷺ ُقلُت ‪ :‬إَّنا َقْو ٌم َنِص يُد بهِذه الِك اَل ِب ؟ َفقاَل ‪ :‬إَذا َأْر َسْلت‬
‫ِك اَل َبَك الُم َعَّلَم َة‪َ ،‬و َذَكْر َت اْس َم هللا َعَلْيَه ا‪َ ،‬فُكْل مَّم ا َأْم َسْكَن َعَلْيَك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫قال حافظ الحكمي‪:‬‬
‫َيكِف يَك يف ذاَك ُأوىَل ُس وَرٍة َنَزَلْت‬
‫َعلى َنِبِّيَك أْع ين سوَرة الَق َلِم‬
‫ِع ِة ِء‬
‫كذاَك يِف َّد اآلال قَّد َمُه‬
‫ِذْك ًرا وَقَّد َمُه يِف ُس وَرِة الَّن َعِم‬
‫وميَز ُهللا َح ىت يف اجلواِرِح َما‬
‫ِم ْنها ُيعّلُم عْن ابٍغ وُمْغَتِش ِم‬
‫وذَّم ريِّب تعاىَل اجلاِهِلَني ِبه‬
‫أَش َّد ذٍّم َف ُه ْم أْد ىن ِم َن الُبهِم‬
‫ولْيَس ُيغبُط إاّل يف اْث َنَت ِنْي مُه ا اْل‬
‫إْح ساُن يف املاِل أو يف الِعْلِم واحلكِم‬
‫وما ذاك إاّل لشرف العلم حتى في البهائم‪ ،‬ومكانة المعرفة حتى في الّسوائم‪ ،‬والُه دهد حمل‬
‫علًم ا إلى سليمان عليه السالم‪ ،‬فسّطر هللا اسمه في القرآن‪ ،‬فهو بالحّج ة دمغ بلقيس‪ ،‬وأنكر عليهم‬
‫عبادة إبليس‪ ،‬وحمل من سليمان رسالة‪ ،‬وأظهر بالعلم شجاعة وبسالة‪.‬‬
‫وقد حّث ﷺ أصحابه على تعّلم بعض الّلغات غير العربية ومنهم الّص حابي الجليل زيد بن‬
‫ثابت (رضي هللا عنه) يقول‪« :‬أمَر ني رسوُل هللا ﷺ أن أتعَّلَم َلُه كلمات من كتاِب َيهوَد‪ ،‬قاَل ‪ :‬فما مَّر‬
‫بي ِنصُف َشْه ٍر حَّتى تعَّلمُتُه َلُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬فلَّم ا َتعَّلمُتُه كاَن إذا كتَب إلى َيهوَد كتبُت إليِه م‪ ،‬وإذا كَتبوا إليِه‬
‫قرأُت َلُه كتاَبُه م» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ودعا ﷺ إلى حضور مجالس العلم واإلنصات للعلماء‪ ،‬فعن أبي واقد الَّليثي (رضي هللا عنه)‬
‫قال‪« :‬بْيَنما َر سوُل هللا ﷺ في الَم ْس ِج ِد فأْقَبل َثاَل َثُة َنَفٍر ‪ ،‬فأْقَبَل اْثَناِن إلى َر سوِل هللا ﷺ وَذَهَب واِح ٌد‪،‬‬
‫فأَّم ا أَح ُدُهَم ا‪َ ،‬فَر َأى ُفْر َج ًة في الَح ْلَقِة َفَج َلَس ‪ ،‬وَأَّم ا اآلَخ ُر َفَج َلَس َخْلَفُه ْم ‪ ،‬فأما الثالث فأدبر ذاهًبا‪.‬‬
‫َفَلَّم ا َفَر َغ َر سوُل هللا ﷺ قاَل ‪ :‬أاَل ُأْخ ِبُر ُكْم َعِن الَّنَفِر الَّثاَل َثِة ؟ أَّم ا أَح ُدُهْم فأَو ى إلى هللا َفآَو اُه ُهللا‪ ،‬وَأَّم ا‬
‫اآلَخ ُر َفاْس َتْح َيا َفاْس َتْح َيا ُهللا منه‪ ،‬وَأَّم ا اآلَخ ُر فأْع َر َض فأْع َر َض ُهللا عْنه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ طلبة العلم فقال‪َ« :‬م ن َسَلَك َطِر يًقا َيْلَتِم ُس فيه ِع ْلًم ا‪َ ،‬سَّهَل هللا له به َطِر يًقا إلى‬
‫الَج َّنِة » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ أّن من األعمال الباقية لإلنسان حتى بعد وفاته هي العلم النافع فقال‪ِ« :‬إَذا َم اَت‬
‫اإلْنَساُن اْنَقَطَع َعْنُه َعَم ُلُه إاَّل ِم ن َثاَل َثٍة‪ :‬إاَّل ِم ن َص َد َقٍة َج اِر َيٍة‪َ ،‬أْو ِع ْلٍم ُيْنَتَفُع ِبِه ‪َ ،‬أْو َو َلٍد َص اِلٍح َيْدُعو‬
‫له» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فإذا كان هذا أجر العالم‪ ،‬فكيف بأجر من عّلم األمة بأسرها‪ ،‬وأرشدها إلى هللا من أّو لها إلى‬
‫آخرها‪ ،‬ودّلها على الجّنة وأبعدها عن الّنار؟!‬
‫وهو سيد ولد آدم ﷺ‪ ،‬أعظم األمة أجًر ا‪ ،‬وأرفع الّناس ذكًر ا‪ ،‬وأشرح الخلق صدًر ا‪ ،‬وأعلى‬
‫البشر ذكًر ا‪.‬‬
‫كان ﷺ في تعليمه رحيًم ا رفيًقا‪ ،‬يصل إلى قلوب الناس بألين الّسبل‪ ،‬وإلى عقولهم بألطف‬
‫العبارات‪ ،‬كما قال فيه رب العالمين‪َ{ :‬فِبَم ا َر ْح َم ٍة ِم َن ِهَّللا ِلْنَت َلُهْم َو َلْو ُكْنَت َفًّظا َغِليَظ اْلَقْلِب َالْنَفُّضوا‬
‫ِم ْن َحْو ِلَك } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]159‬‬
‫يأتيه أعرابّي فيقول‪ :‬الّلهم ارحمني ومحمًدا وال ترحم معنا أحًدا‪ ،‬فيرد ﷺ بكل رفق‪« :‬لَقْد‬
‫َحَّج ْر َت واِسًعا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫أي‪ :‬أّنه ضّيق رحمة هللا التي وسعت كل شيء‪.‬‬
‫ويقوم أعرابي فيبول في طرف المسجد‪ ،‬ويهّم الّص حابة يريدون زجره‪ ،‬فيمنعهم ﷺ ويقول‪:‬‬
‫«ال ُتْز ِر ُم وه‪َ ،‬دُعوه» [متفق عليه]‪.‬‬
‫ويدعو بدلو من ماء لُيصّب على بول األعرابي‪ ،‬ثم يدعوه وُيعّلمه بكل رفق ولين وُح سن‬
‫خلق‪ ،‬ويقول له‪« :‬إَّن هِذه الَم ساِج َد ال َتْص ُلُح ِلشيٍء ِم ن هذا الَبْو ِل ‪ ،‬وال الَقَذِر ‪ ،‬إَّنما هي ِلِذ ْك ِر هللا عَّز‬
‫وجَّل ‪ ،‬والَّص الِة وِقراَءِة الُقْر آِن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وهذا معاوية بن الحكم الّسلمي (رضي هللا عنه) يصف لنا رفق الُم عّلم األعظم ورحمته‬
‫فيقول‪« :‬بْينا أنا ُأَصِّلي مع َر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬إْذ َعَطَس َر ُجٌل ِم َن الَقْو ِم ‪َ ،‬فُقلُت ‪َ :‬يْر َح ُم َك ُهللا َفَر َم اِني‬
‫الَقْو ُم بَأْبَص اِر ِه ْم ‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬واُثْك َل ُأِّم َياْه ‪ ،‬ما َشْأُنُكْم ؟ َتْنُظُر وَن إَلَّي ‪َ ،‬فَجَعُلوا َيْض ِر ُبوَن بَأْيِديِه ْم عَلى‬
‫أْفَخ اِذِه ْم ‪َ ،‬فَلَّم ا َر َأْيُتُه ْم ُيَصِّم ُتوَنِني َلِكِّني َسَكُّت ‪َ ،‬فَلَّم ا َص َّلى َر سوُل هللا ﷺ‪َ ،‬فِبَأِبي هو وُأِّم ي‪ ،‬ما َر َأْيُت‬
‫ُم َعِّلًم ا َقْبَلُه واَل َبْعَد ُه أْح َسَن َتْعِليًم ا منه‪َ ،‬فَو هللا‪ ،‬ما َكَه َر ِني واَل َض َر َبِني واَل َشَتَم ِني‪ ،‬قاَل ‪ :‬إَّن هِذه‬
‫الَّص اَل َة ال َيْص ُلُح ِفيَه ا شيٌء ِم ن َكاَل ِم الَّناِس ‪ ،‬إَّنما هو الَّتْس ِبيُح والَّتْك ِبيُر وِقَر اَء ُة الُقْر آِن » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫فلم ُيعّكر تعليمه ﷺ عنف أو زجر أو فظاظة أو غلظة‪ ،‬بل فاض تعليمه ُطهًر ا ونقاًء ‪ ،‬ورفًقا‬
‫وصفاًء ‪ ،‬وليًنا وسماحًة‪ ،‬وكان إذا تكّلم أو عّلم تبّسم بخالف بعض الّناس تجده إذا وعظ أو عّلم تجّه م‪،‬‬
‫ألّنه ﷺ رحمٌة ُم هداة‪ ،‬ونعمٌة ُم سداة‪ ،‬وخيٌر ُم تصل‪ ،‬وبركٌة ُم ستمّر ة‪.‬‬
‫وقد عّلم ﷺ أصحابه تعليًم ا عملًّيا ميدانًّيا‪ ،‬بفعله قبل قوله؛ ألّن الّتعليم بالعمل الميداني أسهل‬
‫على الفهم‪ ،‬وأقوى على الّثبات في األنفس والعقول‪ ،‬كالوضوء أمام الّناس ليأخذوا عنه‪.‬‬
‫ويصلي ويقول‪َ« :‬ص ُّلوا كما َر َأْيُتُم وِني ُأَصِّلي» [راوه البخاري]‪.‬‬
‫وُيعّلم بسيرته فيقول‪َ« :‬م ن رِغ َب عن ُسَّنتي فليَس ِم ِّني» [متفق عليه]‪.‬‬
‫ويعّلم بُنسكه فيحج بهم ويقول‪ِ« :‬لَتْأُخ ُذوا َم َناِس َكُكْم » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فهو القدوة في الّتعليم بالّلفظ والّلحظ‪ ،‬والهدي والُخ لق‪ ،‬والقول والفعل‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬لَقْد َكاَن‬
‫َلُكْم ِفي َر ُسوِل ِهَّللا ُأْس َو ٌة َحَسَنٌة ِلَم ْن َكاَن َيْر ُج و َهَّللا َو اْلَيْو َم اآلِخ َر َو َذَكَر َهَّللا َكِثيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية‬
‫‪.]21‬‬
‫وكان يكثر ﷺ من قول‪« :‬اللهَّم إِّني َأُعوُذ بَك ِم ن ِع ْلٍم ال َيْنَفُع » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فكانت حياته كلها تعليًم ا ُألّم ته بأقواله وأفعاله‪ ،‬وسيرته وأحواله‪ ،‬وجلوسه ومقامه‪ ،‬وصالته‬
‫وصيامه‪ ،‬وصدقته وحجه‪ ،‬وأكله وشربه‪.‬‬
‫كان ﷺ ُيعّلم أصحابه بالقدوة الحّية المتمّثلة في سيرته العطرة وأخالقه السامية‪ ،‬وخصاله‬
‫الجليلة التي أجمع على حسنها العقالء‪ ،‬وأحبها األتقياء‪ ،‬واقتدى بها األولياء‪.‬‬
‫فكان يدعو إلى تقوى هللا وهو أتقاهم‪ ،‬وينهاهم عن الشّـيء فيكون أشّدهم حذًر ا منه‪ ،‬وَيعظهم‬
‫ودموعه على خّده الّشريف‪ ،‬ويوصيهم بأحسن الُخ لق فإذا هو أحسنهم خلًقا‪ ،‬ويندبهم إلى ذكر هللا وإذا‬
‫به أكثرهم ذكًر ا‪ ،‬ويناديهم إلى البذل والعطاء ويكون أسخاهم يًدا‪ ،‬وأكرمهم نفًسا‪ ،‬وينصحهم بُح سن‬
‫العشـرة مع األهل‪ ،‬وهو خير الناس ألهله رحمًة وعطًفا ورقًة ولطًفا‪.‬‬
‫وتدّر ج ﷺ في تعليم أصحابه‪ ،‬فلم ُيلق عليهم العلم ُج ملة واحدة بل شيًئا فشيًئا‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َو ُقْر آنًا َفَر ْقَناُه ِلَتْقَر َأُه َعَلى الَّناِس َعَلى ُم ْك ٍث} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]106‬وقال ُسبحانه‪َ{ :‬و َقاَل اَّلِذيَن‬
‫َكَفُر وا َلْو َال ُنِّز َل َعَلْيِه اْلُقْر آُن ُجْم َلًة َو اِح َدًة َكَذِلَك ِلُنَثِّبَت ِبِه ُفَؤ اَدَك َو َر َّتْلَناُه َتْر ِتيًال} [الفرقان‪ :‬اآلية ‪.]32‬‬
‫فكان ﷺ يمتثل هذا المنهج في الّتعليم‪ ،‬ويبدأ بكبار المسائل واألهم فالمهم‪ ،‬وُيعّلم الّناس مسألة‬
‫مسألة لترسخ في عقولهم‪ ،‬وتثبت في قلوبهم؛ ألّن المقصود الفهم والتدّبر‪ ،‬ثم الّدعوة والعمل‬
‫واالنطالق في الحياة بهذا الّدين العظيم؛ ولذلك بقي ﷺ ثالثة عشر عاًم ا يدعو الّناس في مكة‬
‫وُيعّلمهم‪« :‬ال إله إاّل هللا»‬
‫يقول عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‪ :‬قاَل َر سوُل هللا ﷺ ِلُم َعاِذ بِن َجَبٍل ِح يَن َبَعَثُه إلى‬
‫الَيَمِن ‪« :‬إَّنَك َسَتْأتي َقْو ًم ا أْه َل ِك َتاٍب‪َ ،‬فِإَذا ِج ْئَتُه ْم ‪َ ،‬فاْدُعُه ْم إلى أْن َيْش َه ُدوا أْن ال إَلَه إاَّل ُهللا‪ ،‬وأَّن‬
‫ُم َح َّم ًدا َر سوُل هللا‪ ،‬فإْن ُهْم أَطاُعوا لَك بذلَك ‪ ،‬فأْخ ِبْر ُهْم أَّن َهللا قْد َفَر َض عليهم َخ ْم َس َص َلَو اٍت في ُكِّل‬
‫َيوٍم وَلْيَلٍة‪ ،‬فإْن ُهْم أَطاُعوا لَك بذلَك ‪ ،‬فأْخ ِبْر ُهْم أَّن َهللا قْد َفَر َض عليهم َص َد َقًة ُتْؤ َخ ُذ ِم ن أْغ ِنَياِئِه ْم‬
‫َفُتَر ُّد عَلى ُفَقَر اِئِه ْم ‪ ،‬فإْن ُهْم أَطاُعوا لَك بذلَك ‪َ ،‬فِإَّياَك وَكَر اِئَم أْم َو اِلِه ْم ‪ ،‬واَّتِق َدْع َو َة الَم ْظ ُلوِم ؛ فإَّنه‬
‫ليَس بْيَنُه وبْيَن هللا ِح َج اٌب » [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫ولهذا كان الّص حابة رضوان هللا عليهم أطهر األّم ة ُقلوًبا‪ ،‬وأكثر الناس علًم ا‪ ،‬وأَقلهم تَكُّلًفا‬
‫وتشّدًدا؛ ألّن ُم عّلمهم وقدوتهم وأسوتهم سيد ولد آدم ﷺ‪.‬‬
‫ومّم ا تفّر د به رسول هللا ﷺ في تعليمه عن كل ُم علمي األرض أّنه كان نبًّيا رّبانًيا‪ ،‬ورسو‬
‫معصوًم ا ينقل عن جبريل‪ ،‬عن رّبه‪ ،‬حكمة راشدة‪ ،‬ومّلة هادية‪ ،‬وديًنا قيًم ا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا‬
‫َيْنِط ُق َعِن اْلَهَو ى * ِإْن ُهَو ِإَّال َو ْح ٌي ُيوَح ى * َعَّلَم ُه َشِديُد اْلُقَو ى } [النجم‪ :‬اآلية ‪.]5 -3‬‬
‫فال ينطق إاّل بالحق‪ ،‬وال يقول إاّل الّص دق‪ ،‬ينهى عن التكّلف والّتعّم ق والّتفيهق والّتشّدق‪،‬‬
‫ويتكلم بالعبارة الّسهلة اليسيرة الواضحة التي يفهمها الجميع‪.‬‬
‫َم ّن عليه رّب العالمين بالبركة في حديثه‪ ،‬فكان إذا تكّلم أوجز‪ ،‬ويقول ﷺ‪ُ« :‬أْع ِط يُت َج واِم َع‬
‫الَكِلِم » [متفق عليه]‪.‬‬
‫بل إّن حديثه ُم عجز يختلف عن حديث الّناس مهما بلغت فصاحتهم وبالغتهم‪ ،‬كما قالت أّم‬
‫المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬إَّن َر ُسوَل هللا ﷺ َلْم َيُكْن َيْس ـُر ُد الَح ِديَث َكَسْر ِدُكْم » [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫كان ينطق بالكلمة الواحدة فُيحيي بها هللا القلوب واألرواح‪ ،‬وقد ُكتب في الكلمة الواحدة من‬
‫كالمه ﷺ ُم جّلدات‪ ،‬وُأّلف فيها مؤلفات‪.‬‬
‫وانظر مثاًل إلى إعجازه ﷺ في قوله‪« :‬إَّنما األْعماُل بالِّنّياِت‪ ،‬وإَّنما ِلُكِّل اْم ِر ٍئ ما َنَو ى»‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫أّنها قاعدة ُكلّية رأى بعض العلماء أن ُيبدأ بها كل باب من أبواب العلم‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬اَّتِق هللا‬
‫حيُثما كنَت ‪ ،‬وأتبِع الَّسِّيئَة الحسنَة تمُح ها‪ ،‬وخاِلِق الَّناَس بخلٍق حسٍن » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فُقل لي بربك‪ :‬ماذا أبقى هذا الحديث من خير إاّل ودّل عليه؟ ومن شر إاّل وحّذر منه؟‬
‫فإّنه جمع حق الخالق وحق المخلوق‪ ،‬ومقام المؤمن في الّطاعة‪ ،‬وموقفه من المعصية‪ ،‬وقوله‬
‫ﷺ لّم ا سأله ُعقبة بن عامر (رضي هللا عنه)‪ :‬ما الّنجاة؟ فقال له‪« :‬أمِس ْك عليَك لساَنَك ‪ ،‬وليسْعَك‬
‫بيُتك‪ ،‬وابِك على خطيئِتَك » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫هل رأيت أوضح‪ ،‬وأشرح‪ ،‬وأبين‪ ،‬وأنفع من هذا الحديث الُم بارك الُم ختصـر الُم شرق؟!‬
‫ويسأله الّنواس بن سمعان األنصاري (رضي هللا عنه)‪َ ،‬عِن الِبِّر َو اِإل ْثِم ‪َ ،‬فقاَل ﷺ‪« :‬الِبُّر ُحْس ُن‬
‫الُخ ُلِق ‪َ ،‬و اِإل ْثُم ما َح اَك في َنْفِس َك ‪َ ،‬و َكِر ْه َت َأْن َيَّطِلَع عليه الَّناُس » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ويقول ﷺ‪« :‬الِّد يُن الَّنِص يَح ُة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ويقول‪« :‬الحالُل َبِّيٌن والحراُم َبِّيٌن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول ﷺ‪َ« :‬دع ما َيريُبَك إلى ما ال َيريُبَك » [راوه أحمد]‪.‬‬
‫ويسأله سفيان بن عبدهللا الّثقفي (رضي هللا عنه) ويقول‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ُ ،‬قْل لي في اإلْسالِم‬
‫َقْو اًل ال أْس َأُل عْنه أَح ًدا َبْعَدَك ‪ ،‬قاَل ﷺ‪ُ« :‬قْل‪ :‬آَم ْنُت باهلل‪ ،‬ثم اْس َتِقْم » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من األحاديث الكثيرة التي اختصـر فيها ﷺ المعاني العظيمة الُم تعّددة‪ ،‬بأبسط‬
‫عبارة‪ ،‬وألطف ُج ملة‪.‬‬
‫وتمّيز ﷺ بجوابه الحاضر‪ ،‬الُم باشر‪ ،‬الواضح‪ ،‬الُم عجز‪ُ ،‬يفتي الّناس دون تردد أو تأخر أو‬
‫تلعثم‪ ،‬يقول رافع بن خديج (رضي هللا عنه) ُقلُت للّنبِّي ﷺ‪ :‬إَّنَنا َنْلَقى الَعُدَّو َغًدا وليَس معَنا ُم ًدى‪،‬‬
‫َفقاَل ‪« :‬ما أْنَه َر الَّد َم وُذِك َر اْس ُم هللا َفُكُلوُه‪ ،‬ما َلْم َيُكْن ِس ٌّن واَل ُظُفٌر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ويأتيه أْعراِبي فيأُخَذ بِخ طاِم ناَقِتِه ويقول له‪ :‬يا َر سوَل هللا أخِبرِني بما ُيَقِّر ُبِني ِم َن الَج َّنِة ‪ ،‬وما‬
‫ُيباعُدني ِم َن الَّناِر ‪ ،‬فيقول ﷺ‪َ« :‬تْعُبُد هللا ال ُتْشـِر ُك به شيًئا‪ ،‬وُتِقيُم الَّص الَة‪ ،‬وُتْؤ تي الَّز كاَة‪ ،‬وَتِص ُل‬
‫الَّر ِح َم ‪َ ،‬د ِع الَّناَقَة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ويسأله أبو ذر الغفاري (رضي هللا عنه) فيقول‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬أُّي األْعماِل أْفَض ُل؟ قاَل ‪:‬‬
‫ُقْلُت ‪َ :‬يا َر ُسوَل ِهّللا‪َ ،‬أّي اَألْع َم اِل َأْفَض ُل؟ َقاَل ‪« :‬اِإل يَم اُن ِباهلل َو اْلِج َه اُد ِفي َسِبيِلِه ‪َ .‬قاَل ‪ُ :‬قْلُت ‪َ :‬أّي‬
‫الّر َقاِب َأْفَض ُل ؟ َقاَل ‪َ :‬أْنَفُسَه ا ِع ْنَد َأْه ِلَه ا‪َ ،‬و َأْك َثُر َها َثَم نا‪َ .‬قاَل ُقْلُت ‪َ :‬فِإْن َلْم َأْفَعْل؟ َقاَل ‪ُ :‬تِع يُن َص اِنعا َأْو‬
‫َتْص َنُع َألْخ َر َق ‪َ .‬قاَل ‪ُ :‬قْلُت ‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا َأَر َأْيَت ِإْن َض ُعْفُت َعْن َبْعِض اْلَعَم ِل ؟ َقاَل ‪َ :‬تُكّف َشّر َك َعِن‬
‫الّناِس ‪َ ،‬فِإّنَه ا َص َد َقٌة ِم ْنَك َعَلى َنْفِس َك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ومن تأييد رّبه له ﷺ في علم الُفتيا وبراعته في الّتعليم‪ ،‬وبركته في الّتفهيم‪ ،‬كان ُيجيب الّسائل‬
‫بأكثر مّم ا سأل‪ ،‬إذا علم حاجته لزيادة في الجواب‪ ،‬وبسط في الخطاب‪ ،‬فَعِن اْبِن َعَّباٍس (رضي هللا‬
‫عنهما)‪ ،‬قاَل ‪َ :‬ر َفَعِت اْم َر َأٌة َص ِبًّيا َلَه ا‪َ ،‬فقاَلْت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬أِلهذا َح ٌّج؟‪ ،‬قاَل ‪َ« :‬نَعْم ‪َ ،‬و َلِك َأْج ٌر » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫فما دامت قد جهلت أن للّص بي أجًر ا إذا حج فمن باب أولى أّنها تجهل أجرها إذا حّج ت‬
‫بالّص بي‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنهما)‪ ،‬أَّن َر ُج اًل قاَل ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما َيْلَبُس الُم ْح ِر ُم ِم َن‬
‫الِّثياِب؟ َفقاَل النبُّي ﷺ‪« :‬ال َيْلَبُس الُم ْح ِر ُم الَقِم يَص ‪ ،‬واَل الَّسَر اِو يَل ‪ ،‬واَل الُبْر ُنَس ‪ ،‬واَل الُخ َّفْيِن ‪ ،‬إاَّل أْن‬
‫ال َيِج َد الَّنْعَلْيِن ‪َ ،‬فْلَيْلَبْس ما هو أْس َفُل ِم َن الَكْعَبْيِن » [متفق عليه]‪ .‬وهنا سأل السائل ما الذي يلبس‬
‫المحرم؟ ولكن الّنبي بّين له المحظورات في اإلحرام؛ ألّنها محصورة‪ ،‬وقد يجهلها الحاج‪.‬‬
‫وجاء رجل فقاَل ‪ :‬يا رسوَل هللا إَّنا َنركُب الَبحَر ‪ ،‬ونحمُل مَعنا القليَل مَن الماِء ‪ ،‬فإن توَّضأنا ِبِه‬
‫عِط ْش نا‪ ،‬أفَنتوَّض ُأ من ماِء البحر؟ فقاَل ﷺ‪« :‬هَو الَّطهوُر ماُؤ ُه‪ ،‬الحُّل ميتُتُه» [رواه الخمسة وهو‬
‫حديث صحيح]‪.‬‬
‫فإّن الّسائل هنا سأل عن حكم الوضوء من ماء البحر‪ ،‬ولكنه ﷺ أجابه بأكثر مّم ا سأل‪ ،‬وزاده‬
‫بُح كم أكل ميتة البحر‪.‬‬
‫ومن إعجاز نبّو ته ﷺ أّنه كان ُيبادر الّناس بالجواب على األسئلة الُم حتملة لعلمه أّن هذا‬
‫سوف يقع‪ ،‬مثلما قال ألصحابه‪َ « :‬يْأتي الَّشْيَطاُن أَح َدُكْم فَيقوُل ‪َ :‬م ن َخ َلَق َكَذا؟ َم ن َخ َلَق َكَذا؟ حَّتى‬
‫َيُقوَل ‪َ :‬م ن َخ َلَق َر َّبَك ؟ َفِإَذا َبَلَغُه َفْلَيْس َتِع ْذ باهلل وْلَيْنَتِه » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فكان ﷺ أفقه الّناس‪ ،‬وأعظمهم إجابة‪ ،‬وأكثرهم إصابة‪ ،‬وأعرفهم بما يصلح للسائل‪.‬‬
‫ومن هديه ﷺ في الّتعليم مراعاته لألعمار والفروق بين الّناس‪ ،‬فكان ُيعطي كل واحد ما‬
‫ُيناسبه من الّتعليم والُنصح واإلرشاد‪ ،‬وهذه خاصية له وحده ﷺ لما أعطاه هللا من أنوار النبّو ة‪ ،‬وفتح‬
‫عليه من أبواب المعرفة‪ ،‬فكان عنده جواب لكل سائل على حسب حاله‪ ،‬وما يصلح له‪ ،‬وما ينفعه في‬
‫دنياه وأخراه‪ ،‬وكأّن الجواب ثوٌب ُم فّص ٌل على الّسائل‪ ،‬مع جمال األداء وبهاء اإللقاء‪ ،‬فكأنه قرأ حياة‬
‫الّسائل قبل أن يأتيه‪ ،‬وأَلَّم بدخائله ومذاهبه قبل أن يستفتيه‪ .‬يسأله شيخ كبير أدركه الهرم وأضناه‬
‫الكبر عن عمل يداوم عليه‪ ،‬فأفتاه بأفضل عمل ُيناسب حاله‪ ،‬وأسهل عبادة‪ ،‬وأيسر طاعة‪ ،‬في لفظ‬
‫وجيز‪ ،‬ولو كان الُم عّلم غيره ﷺ لرّبما أوصى الّر جل باالجتهاد في الّطاعة‪ ،‬واغتنام آخر العمر بالجّد‬
‫في العبادة مع إغفال ضعفه وإهمال شيخوخته‪ ،‬بينما نبّي الهدى ورسول الّر حمة ﷺ قال له‪« :‬ال يزاُل‬
‫لساُنَك َر ْط ًبا ِم ن ِذ ْك ِر هللا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وتأّم ل في جمال هذه الكلمة‪ ،‬وما فيها من ُح سن تصوير‪ ،‬وبراعة عرض‪ ،‬وطالوة عبارة‬
‫ُتشّج ع الّسامع على هذا العمل الجليل‪.‬‬
‫وسأله رجل أن يوصيه وكان غضوًبا فقال له ﷺ‪« :‬ال تغضب ‪ ...‬ثالًثا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فكان هذا دواءه وبلسم حاله الذي ال ُيصرف إاّل من صيدلية الّنبّو ة الُم باركة‪.‬‬
‫ويرى ﷺ أبا موسى األشعري يصعد جباًل فيقول له‪« :‬أاَل أُدُّلَك عَلى َكِلَم ٍة ِه َي َكْنٌز ِم ْن ُكنوِز‬
‫الجنِة ؟ اَل حوَل واَل ُقَّو َة إاَّل باهلل» [متفق عليه]‪.‬‬
‫فهذه الكلمة ُتناسب صعود الجبال‪ ،‬وحمل األثقال؛ ألّن فيها البراءة من قوة العبد وحوله‪،‬‬
‫وطلب المعونة والمدد من هللا‪ ،‬فما أحسن االختيار في هذا اإلرشاد مع مراعاة ُم قتضى المقام‪.‬‬
‫وأوصى ﷺ معاذ بن جبل (رضي هللا عنه) لّم ا بعثه إلى اليمن‪« :‬إَّنك تأتي قوًم ا أهَل كتاٍب»‬
‫[متفق عليه]‪ ،‬وذلك لُينّبه ُم عاًذا إلى معرفة أقدار الُم خاطبين‪ ،‬واالطالع على أحوالهم ليقول لهم ما‬
‫ُيناسبهم‪.‬‬
‫وأرشد ﷺ علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه)إلى أن يقول‪« :‬الَّلُه َّم اْه ِدِني َو َسِّد ْد ِني» [رواه‬
‫مسلم]‪ .‬وهذا ُيناسب حال علًّي ‪ ،‬فإّنه عاش حتى أدرك اختالف األمور‪ ،‬وظهور الفتن والتباس الحال‬
‫التي تتطلب الهداية من هللا في هذا الجّو الُم ظلم‪ ،‬وطلب الّسداد من الحّي القيوم عند هذه الواردات‬
‫واآلراء واألهواء‪.‬‬
‫ويقول عبدهللا بن عمرو بن العاص (رضي هللا عنهما)‪ُ :‬كَّنا عنَد النبِّي ﷺ فجاَء شاٌّب فقاَل ‪ :‬يا‬
‫رسوَل هللا‪ُ :‬أَقِّبُل وأنا صائٌم ؟ قاَل ‪ :‬ال‪َ .‬فَج اَء شيٌخ فقاَل ‪ُ :‬أَقِّبُل وأنا صائٌم ؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فنظر بعُض َنا‬
‫إلى بعٍض ‪ ،‬فقاَل رسوُل هللا ﷺ‪« :‬قْد َعِلمُت َنَظَر بعُضُكْم إلى بعٍض إَّن الّشيَخ َيْم ِلُك نفَسُه» [رواه‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫فُسبحان من ألهم رسوله‪ ،‬وفتح على نبّيه‪ ،‬وأفاض عليه من مكنون الفهم‪ ،‬ومخزون الفقه‪ ،‬ما‬
‫فاق الوصف وجّل عن المدح!‪.‬‬
‫ومن جمال تعليمه ﷺ للّناس‪ ،‬وكريم تربيته ألصحابه‪ ،‬كان ُيعطي كل جليس من جلسائه حقه‬
‫من العناية‪ ،‬والحفاوة‪ ،‬وااللتفات‪ ،‬واالهتمام‪ ،‬وكأّنه يخّص ه بالحديث‪ ،‬فمّم ا ُيروى عن هند بن أبي‬
‫هالة (رضي هللا عنه) قال‪« :‬كان ﷺ ُيعطي كل جلسائه نصيبه‪ ،‬ال يحسب جليسه أن أحًدا أكرم عليه‬
‫منه» [رواه البيهقي في دالئل الّنبّو ة]‪.‬‬
‫فكان كل من جلس في حضرته يشعر أّن له حظوة وتكريًم ا خاًص ا منه ﷺ‪ ،‬ويقول أبو رفاعة‬
‫العدوي (رضي هللا عنه)‪« :‬اْنَتَهْيُت إلى النبِّي ﷺ َو هو َيْخ ُطُب ‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬ر ُجٌل َغِر يٌب ‪،‬‬
‫َج اَء َيْس َأُل عن ِديِنِه ‪ ،‬ال َيْد ِر ي ما ِديُنُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْقَبَل َعَلَّي َر سوُل هللا ﷺ‪َ ،‬و َتَر َك ُخ ْط َبَتُه حَّتى اْنَتَه ى‬
‫إَلَّي ‪َ ،‬فُأِتَي بُكْر ِس ٍّي‪َ-‬حِسْبُت َقَو اِئَم ُه َح ِديًدا‪ -‬قاَل ‪َ :‬فَقَعَد عليه َر سوُل هللا ﷺ‪َ ،‬و َجَعَل ُيَعِّلُم ِني مَّم ا َعَّلَم ُه‬
‫ُهللا‪ُ ،‬ثَّم َأَتى ُخ ْط َبَتُه‪ ،‬فأَتَّم آِخ َر َها» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فما أروعها من حفاوة! وما أجمله من اهتمام! وما أعظمه من حرص على تعليم الّناس‬
‫دينهم! خاصة الجدد الذين دخلوا اإلسالم حديًثا‪ ،‬وليس عندهم علم أو فقه في الّدين‪ ،‬فلم يؤّج ل ﷺ هذا‬
‫الّطلب‪ ،‬ولم يتأّخ ر عنه‪ ،‬بل نزل مباشرة من على المنبر وهو يخطب في الّناس‪ ،‬وتوّج ه بكل تواضع‬
‫ورفق واهتمام إلى هذا الوافد الّسائل ليحتفي به وُيعّلمه‪.‬‬
‫ومن هديه ﷺ في تعليم الّنساء اختياره أجمل الكلمات وأرق العبارات بعيًدا عن كسر قلوبهّن‬
‫أو خدش حيائهن‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري (رضي هللا عنه) قال‪َ :‬ج اَء ِت اْم َر َأٌة إلى َر ُسوِل هللا ﷺ‬
‫َفقاَلْت ‪ :‬يا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬ذَهَب الِّر َج اُل بَح ديِثَك ‪َ ،‬فاْج َعْل َلَنا ِم ن َنْفِس َك َيْو ًم ا َنْأِتيَك ِفيِه ‪ُ ،‬تَعِّلُم َنا مَّم ا َعَّلَم َك‬
‫ُهللا‪ ،‬فقاَل ‪« :‬اْج َتِم ْعَن في َيوَم َكَذا َو َكَذا في َم َكاِن َكَذا َو َكَذا» َفاْج َتَم ْعَن ‪ ،‬فأَتاُهَّن َر ُسوُل هللا ﷺ َفَعَّلَم ُه َّن‬
‫مَّم ا َعَّلَم ُه ُهللا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪« :‬ما ِم ْنُكَّن ِم ِن اْم َر َأٍة ُتَقِّد ُم بْيَن َيَد ْيَه ا‪ِ ،‬م ن َو َلِد َها َثاَل َثًة‪ ،‬إاَّل َكاُنوا َلَه ا ِح َج اًبا ِم َن‬
‫الَّناِر » َفقالِت اْم َر َأٌة منهَّن ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬أِو اْثَنْيِن ؟ قاَل ‪ :‬فأَعاَد ْتَه ا َمَّر َتْيِن ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ« :‬و اْثَنْيِن ‪َ ،‬و اْثَنْيِن ‪،‬‬
‫َو اْثَنْيِن »[متفق عليه]‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما) قال‪َ« :‬أْش َه ُد عَلى َر ُسوِل هللا ﷺ َلَص َّلى َقْبَل‬
‫الُخ ْط َبِة ‪ُ ،‬ثَّم َخ َطَب ‪َ ،‬فَر َأى َأَّنُه َلْم ُيْسِم ِع الِّنَساَء ‪َ ،‬فَأَتاُهَّن ‪َ ،‬فَذَّكَر ُهَّن ‪َ ،‬و َو َعَظُه َّن ‪َ ،‬و َأَمَر ُهَّن ِبالَّص َد َقِة ‪،‬‬
‫َو ِباَل ٌل َقاِئٌل ِبَثْو ِبِه ‪َ ،‬فَجَعَلِت الَمْر َأُة ُتْلِقي الَخ اَتَم ‪َ ،‬و اْلُخ ْر َص ‪َ ،‬و الَّشْي َء » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وتقول أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬إَّن أْس ماَء َسَأَلِت النبَّي ﷺ عن ُغْس ِل‬
‫الَم ِح يِض ؟‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬تْأُخ ُذ إْح داُكَّن ماَء ها وِس ْد َر َتها‪َ ،‬فَتَطَّه ُر َفُتْح ِس ُن الُّطُه وَر ‪ُ ،‬ثَّم َتُص ُّب على َر ْأِس ها‬
‫َفَتْد ُلُكُه َد ْلًكا َشِديًدا حّتى َتْبُلَغ ُشُؤوَن َر ْأِس ها‪ُ ،‬ثَّم َتُص ُّب َعَلْيها الماَء ‪ُ ،‬ثَّم َتْأُخ ُذ ِفْر َص ًة ُم َمَّسَكًة َفَتَطَّه ُر‬
‫بها‪َ .‬فقاَلْت أْسماُء ‪ :‬وكيَف َتَطَّه ُر بها؟ َفقاَل ‪ُ :‬سْبحاَن هللا! َتَطَّه ِر يَن بها‪َ ،‬فقاَلْت عاِئَشُة‪َ - :‬كأّنها ُتْخ ِفي‬
‫ذلَك ‪َ -‬تَتَّبِع يَن أَثَر الَّد ِم ‪ .‬وَسَأَلْتُه عن ُغْس ِل الَج ناَبِة ؟ َفقاَل ‪َ :‬تْأُخ ُذ ماًء َفَتَطَّه ُر َفُتْح ِس ُن الُّطُه وَر ‪ ،‬أْو ُتْبِلُغ‬
‫الُّطُه وَر ‪ُ ،‬ثَّم َتُص ُّب على َر ْأِس ها َفَتْد ُلُكُه حّتى َتْبُلَغ ُشُؤوَن َر ْأِس ها‪ُ ،‬ثَّم ُتِفيُض َعَلْيها الماَء ‪َ ،‬فقاَلْت‬
‫عاِئَشُة‪ِ :‬نْعَم الِّنساُء ِنساُء األْنصاِر َلْم َيُكْن َيْم َنُعُه َّن الَح ياُء أْن َيَتَفَّقْه َن في الِّديِن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فما ألطفه من ُم عّلم! وما أكرمه من ُم رٍّب! وما أجّله من رسول كريم! أعطى كل ذي حق‬
‫حّقه‪ ،‬فاجتمعت القلوب على ُح ّبه‪ ،‬وتعّطفت األرواح على هديه‪ ،‬وانساقت الّنفوس إلى تعاليمه ﷺ‪.‬‬
‫ومن ُح سن تعليمه ﷺ وبراعة تفهيمه وُم خاطبته األطفال بما ُيناسبهم بعد أن تعّلقوا به ُح ًّبا‬
‫وشوًقا‪ ،‬ومألهم رحمة ورأفة‪ ،‬ففي الترمذي أّنه ﷺ أردف ابن عباس خلفه على الدابة ثم قال له‪ « :‬يا‬
‫ُغالُم إِّني أعِّلُم َك كِلماٍت‪ ،‬احَفِظ َهللا يحَفظَك ‪ ،‬احَفِظ َهللا َتِج ْد ُه تجاَهَك ‪ ،‬إذا سَألَت فاسأِل َهللا ‪ ،‬وإذا‬
‫استَعنَت فاسَتِع ن باهلل‪ ،‬واعَلم أَّن األَّم َة لو اجَتمعت عَلى أن ينَفعوَك بَشيٍء لم َينفعوَك إاَّل بشيٍء قد‬
‫كتَبُه ُهَللا َلَك ‪ ،‬وإن اجَتَم عوا على أن يضُّر وَك بَشيٍء لم َيضُّر وَك إاَّل بشيٍء قد كتَبُه ُهللا عليَك ‪ُ ،‬ر ِفَعِت‬
‫األقالُم وجَّفِت الُّص حُف » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فانظر كيف سلك معه ﷺ سبيل الّر فق والموعظة‪ ،‬وأهدى له نصيحة هي قاعدة من قواعد‬
‫الّتوجيه واإلرشاد على مر الدهر!؟‬
‫ومن لطفه ﷺ تعليمه لخادمه أنس بن مالك (رضي هللا عنه)‪ ،‬ورعايته له‪ ،‬وتأهيله ليكون من‬
‫رجال اإلسالم الكبار‪ ،‬ورّبما مازح ﷺ األطفال وهو ُيعّلمهم حتى يأنسوا به وتألفه أرواحهم‪ ،‬فَعْن‬
‫َم ْح ُم وِد بِن الَّر ِبيِع‪ ،‬قاَل ‪َ« :‬عَقْلُت ِم َن النبِّي ﷺ َم َّج ًة َم َّج ها في وْج ِه ي وأنا ابُن َخ ْم ِس ِسِنيَن ِم ن َد ْلٍو »‬
‫[رواه البخاري]‪ ،‬وعقد عليها باب‪« :‬متى يصّح سماع الّص غير؟» وهذه المّج ة لها أثر ولها مقصد‬
‫عنده ﷺ لما فيها من البركة واألنس‪ ،‬وإرسال الّسرور على هذا الّطفل وُم داعبته وتعليمه‪َ .‬و َعْن ُعَمَر‬
‫ْبِن َأِبي َسَلَم َة (رضي هللا عنه) َقاَل ‪ُ :‬كْنُت ُغالًم ا ِفي ِح ْج ِر َر ُسوِل هللا‪َ ،‬و َكاَنْت َيِدي َتِط يُش ِفي‬
‫الَّصْح َفِة ‪َ ،‬فَقاَل ِلي َر ُسوُل هللا‪َ« :‬يا ُغالُم ‪َ ،‬سِّم َهللا‪َ ،‬و ُكْل ِبَيِم يِنَك ‪َ ،‬و ُكْل ِم َّم ا َيِليَك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وهذه الجملة هي أصل أدب الّطعام على اإلطالق‪ ،‬وقد جمع فيها ﷺ آداب األكل بكالم بليغ‪،‬‬
‫ولفظ مختصر‪ ،‬يلقيه بكل محّبة وُلطف إلى هذا الغالم‪ ،‬فيحفظه وُيحّدث به طيلة حياته‪.‬‬
‫وعن معاوية بن الحكم الّسلمي (رضي هللا عنه) أّنه أتى الّنبي ﷺ يستفتيه عن جارية كان قد‬
‫لطمها‪ ،‬فعّظم الّنبي ﷺ فعله فقال‪« :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬أفال ُأْع ِتُقها؟ قاَل ‪ :‬اْئِتِني بها فأَتْيُتُه بها‪َ ،‬فقاَل َلها‪:‬‬
‫أْيَن هللا؟‪ ،‬قاَلْت ‪ :‬في الَّسماِء ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬م ن أنا؟‪ ،‬قاَلْت ‪ :‬أْنَت َر سوُل هللا‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْع ِتْقها‪ ،‬فأّنها ُم ْؤ ِم َنٌة»‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫فانظر كيف بدأ ُيعّلمها أصل الّدين وهو الّتوحيد‪ ،‬وَقِبل إيمانها‪ ،‬وسعى في عتقها وفك رقبتها‪،‬‬
‫فصّلى هللا وسّلم عليه ما أرحمه! وما أوصله! وما أبّر ه!‪ .‬ونشر ﷺ العلم بالحوار‪ ،‬والُم ساءلة‪،‬‬
‫والُم قارنة‪ ،‬والُم جادلة بالُح سنى‪ ،‬وجذب فهم السائل‪ ،‬ولفت انتباه الّسامع‪ ،‬واستعمل الموازنة العقلية‪،‬‬
‫والّنقاش الجميل‪ ،‬فعن أبي أمامة الباهلي(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّن فًتى شاًّبا أتى الَّنبَّي ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫رسوَل هللا ائَذْن لي في الِّز نا‪ .‬فأقَبل القوُم عليه وزَج روه‪ ،‬فقالوا‪َ :‬م ْه َم ْه‪ .‬فقال‪ :‬ادُنْه‪ .‬فدنا منه قريًبا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أُتِح ُّبه ألِّم ك؟‪ ،‬قال‪ :‬ال وهللا‪ ،‬جَعلني ُهللا فداءك‪ .‬قال‪ :‬وال الّناُس ُيحُّبوَنه ألَّم هاِتهم‪ ،‬قال‪ :‬أفُتِح ُّبه‬
‫البنِتك؟‪ .‬قال‪ :‬ال وهللا يا رسوَل هللا‪ ،‬جَعلني ُهللا فداءك‪ .‬قال‪ :‬وال الّناُس ُيِح ُّبوَنه لبناِتهم‪ .‬قال‪ :‬أفُتِح ُّبه‬
‫ألخِتك؟ قال‪ :‬ال وهللا يا رسوَل هللا‪ ،‬جَعلني ُهللا فداءك‪ .‬قال‪ :‬وال الّناُس ُيِح ُّبونه ألخواِتهم‪ .‬قال‪ :‬أُتِح ُّبه‬
‫لعَّم ِتك؟‪ .‬قال‪ :‬ال وهللا يا رسوَل هللا‪ ،‬جَعلني ُهللا فداك‪ .‬قال‪ :‬وال الّناُس ُيِح ُّبوَنه لعّم اِتهم‪ .‬قال‪ :‬أُتِح ُّبه‬
‫لخالِتك؟ قال‪ :‬ال وهللا يا رسوَل هللا‪ ،‬جَعلني ُهللا فداءك‪ .‬قال‪ :‬وال الّناُس ُيِح ُّبوَنه لخاالِتهم‪ .‬قال‪ :‬فوَض ع‬
‫يَده عليه‪ ،‬وقال‪ :‬الَّلهَّم اغِفْر ذنَبه‪ ،‬وطِّه ْر قلَبه‪ ،‬وحِّص ْن فرَج ه‪ .‬قال‪« :‬فلم يُكْن بعَد ذلك الفتى يلَتِفُت‬
‫إلى شيٍء » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وعن أبي ذر الغفاري (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬في ُبْض ِع َأَح ِدُكْم َص َد َقٌة‪ ،‬قالوا‪ :‬يا‬
‫َر سوَل هللا‪َ ،‬أَيأتي َأَح ُدَنا َشْه َو َتُه َو َيكوُن له ِفيَه ا َأْج ٌر ؟‪ ،‬قاَل ‪َ :‬أَر َأْيُتْم لو َو َض َعَه ا في َح َر اٍم َأكاَن عليه‬
‫ِفيَه ا ِو ْز ٌر ؟ َفَكذلَك إَذا َو َض َعَه ا في الَح اَل ِل كاَن له َأْج ٌر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬أَتْد ُر وَن ما الُم ْفِلُس ؟ قالوا‪ :‬الُم ْفِلُس ِفينا َم ن ال ِد ْر َهَم له وال َم تاَع‪ ،‬فقاَل ‪ :‬إَّن‬
‫الُم ْفِلَس ِم ن ُأَّم تي َيْأتي َيوَم الِقياَم ِة بَص الٍة‪ ،‬وِص ياٍم ‪ ،‬وَز كاٍة‪ ،‬وَيْأتي قْد َشَتَم هذا‪ ،‬وَقَذَف هذا‪ ،‬وَأَكَل‬
‫ماَل هذا‪ ،‬وَسَفَك َد َم هذا‪ ،‬وَض َر َب هذا‪ ،‬فُيْعَطى هذا ِم ن َحَسناِتِه ‪ ،‬وهذا ِم ن َحَسناِتِه ‪ ،‬فإْن َفِنَيْت‬
‫َحَسناُتُه َقْبَل أْن ُيْقَض ى ما عليه ُأِخ َذ ِم ن َخ طاياُهْم َفُطِر َح ْت عليه‪ُ ،‬ثَّم ُطِر َح في الَّناِر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنهما) قال حَّدَثني أِبي ُعَم ُر بُن الَخ َّطاِب قاَل ‪« :‬بْيَنما َنْح ُن‬
‫ِع ْنَد َر سوِل هللا ﷺ ذاَت َيوٍم ‪ ،‬إْذ َطَلَع علْيَنا َر ُجٌل َشِديُد َبياِض الِّثياِب‪َ ،‬شِديُد َسواِد الَّشعِر ‪ ،‬ال ُيَر ى‬
‫عليه أَثُر الَّسَفِر ‪ ،‬وال َيْعِر ُفُه ِم َّنا أَح ٌد‪ ،‬حَّتى َج َلَس إلى الّنبِّي ﷺ‪ ،‬فأْس َنَد ُر ْك َبَتْيِه إلى ُر ْك َبَتْيِه ‪ ،‬وَو َض َع‬
‫َكَّفْيِه عَلى َفِخ َذْيِه ‪َ .‬و قاَل ‪ :‬يا ُم َح َّم ُد‪ ،‬أْخ ِبْر ني َعِن اإلْس الِم ‪ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬اإلْس الُم أْن َتْش َه َد أْن ال‬
‫إَلَه إاّل هللا وأَّن ُم َح َّم ًدا َر سوُل هللا ﷺ‪ ،‬وُتِقيَم الَّص الَة‪ ،‬وُتْؤ ِتَي الَّز كاَة‪ ،‬وَتُص وَم َر َم ضاَن ‪ ،‬وَتُح َّج الَبْيَت‬
‫إِن اْس َتَطْعَت إَلْيِه سِبيل‪ .‬قاَل ‪َ :‬ص َد ْقَت ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَعِج ْبنا له َيْس َأُلُه‪ ،‬وُيَصِّد ُقُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْخ ِبْر ِني َعِن اإليماِن ‪،‬‬
‫قاَل ‪ :‬أْن ُتْؤ ِم َن باهلل‪ ،‬وَم الِئَكِتِه ‪ ،‬وُكُتِبِه ‪ ،‬وُر ُسِلِه ‪ ،‬واْلَيوِم اآلِخ ِر ‪ ،‬وُتْؤ ِم َن بالَقَد ِر خْيِر ِه وَشِّر ِه ‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫َص َد ْقَت ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْخ ِبْر ِني َعِن اإلْح ساِن ‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْن َتْعُبَد هللا َكأَّنَك َتراُه‪ ،‬فإْن َلْم َتُكْن َتراُه فإَّنه َيراَك ‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫فأْخ ِبْر ِني َعِن‬
‫أْن َتِلَد األَم ُة‬
‫الَّساَعِة ‪ ،‬قاَل ‪ :‬ما الَم ْس ُؤوُل َعْنها بَأْع َلَم‬
‫َر َّبَتها‪ ،‬وَأْن َتَر ى الُح فاَة الُعراَة العاَلَة‬
‫ِم َن الَّساِئِل ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْخ ِبْر ِني عن أماَر ِتها‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫ِر عاَء الَّشاِء َيَتطاَو ُلوَن في الُبنْياِن ‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬ثَّم‬
‫اْنَطَلَق ‪ ،‬فَلِبْثُت َم ِلًّيا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ِلي‪ :‬يا ُعَمُر أَتْد ِر ي َم ِن الَّساِئُل ؟ ُقلُت ‪ :‬هللا وَر سوُلُه أْع َلُم ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإَّنه ِج ْبِر يُل‬
‫أتاُكْم ُيَعِّلُم ُكْم ِدينُكْم » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنهما) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إَّن ِم َن الَّشَج ِر َشَج َر ًة ال‬
‫َيْس ُقُط وَر ُقها‪ ،‬وأّنها َم َثُل الُم ْسِلِم ‪َ ،‬فَحِّد ُثوِني ما هي؟ َفَو َقَع الَّناُس في َشَج ِر الَبواِدي‪ ،‬قاَل عبُدهللا‪:‬‬
‫وَو َقَع في َنْفِسي أّنها الَّنْخ َلُة‪ ،‬فاْس َتْح َيْيُت ‪ُ ،‬ثَّم قالوا‪َ :‬حِّد ْثنا ما هي يا َر سوَل هللا؟ قاَل ‪ :‬هي الَّنْخ َلُة»‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫فانظر إلى إقناعه ﷺ وهديه في تثبيت المعلومة وترسيخ الّدليل‪ ،‬وإثبات الحّج ة حتى يشعر‬
‫المتلقي ببرد اليقين‪ ،‬وعمق المعرفة‪ ،‬وذهاب الّشك‪.‬‬
‫وقّر ب ﷺ المعاني للّناس بضرب األمثال لهم مما يشاهدونه بأعينهم‪ ،‬ويلمسونه بأيديهم‪،‬‬
‫ويعيشونه في حياتهم‪ ،‬ليكون أدعى للفهم‪ ،‬وأكثر قوة إليضاح الّص ورة‪ ،‬وإبراز المقصود‪ ،‬وهذه‬
‫طريقة القرآن الكريم كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َال َيْس َتْح ِيي َأْن َيْض ِر َب َم َثًال َم ا َبُعوَض ًة َفَم ا َفْو َقَه ا}‬
‫[البقرة‪ :‬اآلية ‪.]26‬‬
‫فنهج ﷺ هذا المنهج القويم في الّتعليم‪ ،‬فكان يقول ﷺ‪َ« :‬م َثُل الُم ْؤ ِم ِن الذي َيْقَر ُأ الُقْر آَن ‪َ ،‬م َثُل‬
‫اُألْتُر َّجِة ‪ِ ،‬ر يُح ها َطِّيٌب وَطْعُم ها َطِّيٌب ‪ ،‬وَم َثُل الُم ْؤ ِم ِن الذي ال َيْقَر ُأ الُقْر آَن َم َثُل الَّتْم َر ِة‪ ،‬ال ِر يَح لها‬
‫وَطْعُم ها ُح ْلٌو ‪ ،‬وَم َثُل الُم ناِفِق الذي َيْقَر ُأ الُقْر آَن َم َثُل الَّر ْيحاَنِة ‪ِ ،‬ر يُح ها َطِّيٌب وَطْعُم ها ُمٌّر ‪ ،‬وَم َثُل‬
‫الُم ناِفِق الذي ال َيْقَر ُأ الُقْر آَن َكَم َثِل الَح ْنَظَلِة ‪ ،‬ليَس لها ِر يٌح وَطْعُم ها ُمٌّر » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬أَر َأْيُتْم لو أَّن َنْه ًر ا بَباِب َأَح ِدُكْم َيْغَتِسُل منه ُكَّل َيوٍم َخ ْم َس َمَّر اٍت‪ ،‬هْل َيْبَق ِم ن‬
‫َد َر ِنِه شيٌء ؟ قالوا‪ :‬ال َيْبَقى ِم ن َد َر ِنِه شيٌء ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فذلَك َم َثُل الَّص َلَو اِت الَخ ْم ِس ‪َ ،‬يْم ُح و هللا بِه َّن‬
‫الَخ َطاَيا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪ِ« :‬إِّنما مَثُل الَجِليِس الَّص اِلِح والجليس الَّسْو ِء ‪َ ،‬كحاِم ِل الِم ْسِك وناِفِخ الِك يِر ‪َ ،‬فحاِم ُل‬
‫الِم ْسِك ‪ :‬إَّم ا أْن ُيْح ِذ َيَك ‪ ،‬وإَّم ا أْن َتْبتاَع منه‪ ،‬وإَّم ا أْن َتِج َد منه ِر يًح ا َطِّيَبًة‪ ،‬وناِفُخ الِك يِر ‪ :‬إَّم ا أْن‬
‫ُيْح ِر َق ِثياَبَك ‪ ،‬وإَّم ا أْن َتِج َد ِر يًح ا َخ ِبيَثًة» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬إَّن َم َثَل ما َبَعَثِنَي هللا به عَّز وجَّل ِم َن اُلهَدى واْلِع ْلِم ‪َ ،‬كَم َثِل َغْيٍث أصاَب أْر ًضا‪،‬‬
‫َفكاَنْت ِم ْنها طاِئَفٌة َطِّيَبٌة‪َ ،‬قِبَلِت الماَء ‪ ،‬فأْنَبَتِت الَكَأل واْلُعْش َب الَكِثيَر ‪ ،‬وكاَن ِم ْنها أجاِد ُب أْم َسَكِت‬
‫الماَء ‪َ ،‬فَنَفَع هللا بها الَّناَس ‪َ ،‬فَشِر ُبوا ِم ْنها وَسَقْو ا وَر َعْو ا‪ ،‬وَأصاَب طاِئَفًة ِم ْنها ُأْخ َر ى‪ ،‬إَّنما هي‬
‫ِقيعاٌن ال ُتمِسُك ماًء ‪ ،‬وال ُتْنِبُت َكًأَل‪َ ،‬فذلَك َم َثُل َم ن َفُقَه في ِديِن هللا‪ ،‬وَنَفَعُه بما َبَعَثِنَي هللا به‪َ ،‬فَعِلَم‬
‫وَعَّلَم ‪ ،‬وَم َثُل َم ن َلْم َيْر َفْع بذلَك َر ْأًسا‪ ،‬وَلْم َيْقَبْل ُهَدى هللا الذي ُأْر ِس ْلُت بِه » [متفق عليه]‪.‬‬
‫واستخدم ﷺ أسلوب الَقصص الجّذاب الخاّل ب الذي يثير في الّنفوس اإلنصات واإلعجاب‪،‬‬
‫فمّيزه رّب العالمين على األّو لين واآلخرين إاّل األنبياء والُم رسلين بما أخبره من غيب عن األمم‬
‫السابقة؛ لُيعّلم الّناس على طريقة القصص المؤثر في سياق عجيب تنشرح له الّنفوس‪ ،‬وتخضع له‬
‫الّر ؤوس‪ ،‬بلسان فصيح‪ ،‬ونبأ صحيح‪ ،‬فيزداد الّناس بهذا القصص إيماًنا مع إيمانهم عماًل بقول هللا‬
‫تعالى‪َ{ :‬فاْقُصِص اْلَقَصَص َلَعَّلُهْم َيَتَفَّكُر وَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]176‬‬
‫فكان أسلوب القصص في حديثه ﷺ أسلوًبا ماتًعا‪ ،‬وطرًح ا رائًعا يأخذ منه الّسامع العظة‬
‫واالعتبار لما سلف في ماضي العصور كما قال تعالى‪َ{ :‬و ُكًّال َنُقُّص َعَلْيَك ِم ْن َأْنَباِء الُّر ُسِل َم ا ُنَثِّبُت‬
‫ِبِه ُفَؤ اَدَك َو َج اَء َك ِفي َهِذِه اْلَح ُّق َو َم ْو ِع َظٌة َو ِذ ْك َر ى ِلْلُم ْؤ ِم ِنيَن } [هود‪ :‬اآلية ‪.]120‬‬
‫وعلى سبيل ذلك قوله ﷺ‪ « :‬أَّن َر ُج اًل زاَر أًخ ا له في َقْر َيٍة ُأْخ َر ى‪ ،‬فأْر َص َد هللا له‪ ،‬عَلى‬
‫َم ْد َر َجِتِه ‪َ ،‬م َلًكا َفَلَّم ا أَتى عليه‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْيَن ُتِر يُد؟ قاَل ‪ُ :‬أِر يُد أًخ ا لي في هِذه الَقْر َيِة ‪ ،‬قاَل ‪ :‬هْل لَك عليه‬
‫ِم ن ِنْعَم ٍة َتُر ُّبها؟ قاَل ‪ :‬ال‪ ،‬غيَر أِّني أْح َبْبُتُه في هللا عَّز وجَّل ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإِّني َر سوُل هللا إَلْيَك ‪ ،‬بأَّن هللا قْد‬
‫أَحَّبَك كما أْح َبْبَتُه ِفيِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪ُ« :‬عِّذ َبِت اْم َر َأٌة في ِه َّر ٍة َسَج َنْتها حّتى ماَتْت ‪َ ،‬فَد َخ َلْت فيها الّناَر ‪ ،‬ال هي أْط َعَم ْتها وال‬
‫َسَقْتها‪ ،‬إْذ َحَبَسْتها‪ ،‬وال هي َتَر َكْتها َتْأُكُل ِم ن َخ شاِش األْر ِض » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وعّلم ﷺ باإلشارة مع الكالم ليجمع بين الّتفهيم بالّلفظ‪ ،‬والّتعليم بالحركة؛ ليكون أدعى‬
‫لالستيعاب والفهم‪ ،‬كما قال‪« :‬أنا وكاِفُل الَيِتيِم في الَج َّنِة َهَكذا» وأشار بإْص َبَعْيِه الَّسَّباَبِة والُو ْس َطى ‪[.‬‬
‫رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬الُم ْؤ ِم ُن ِلْلُم ْؤ ِم ِن كاْلُبْنياِن ‪َ ،‬يُشُّد َبْعُضُه َبْعًضا‪ُ ،‬ثَّم َشَّبَك بْيَن أصاِبِعِه »[متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وعن سفيان بن عبدهللا الثقفي (رضي هللا عنه) قال‪« :‬قلُت يا رسوَل هللا حِّد ْثني بأمٍر أعتِص ُم‬
‫ِبِه ‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬قْل رِّبَي هللا‪ ،‬ثَّم استِقم‪ .‬قلُت ‪ :‬يا رسوَل هللا‪ ،‬ما أخَو ُف ما تخاُف علَّي ؟ فأخَذ بلساِن نفِسِه ‪،‬‬
‫ثَّم قاَل ‪ :‬هذا» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وعن زينب أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) أَّن النبَّي ﷺ اْس َتْيَقَظ ِم ن َنْو ِم ِه َو هو يقوُل‪« :‬ال إَلَه‬
‫إاَّل ُهللا َو ْيٌل ِلْلَعَر ِب ِم ن َشٍّر َقِد اْقَتَر َب ! ُفِتَح اليوَم ِم ن َر ْد ِم َيْأُج وَج َو َم ْأُج وَج ِم ْثُل هِذه‪ - .‬وَح َّلَق بإْصَبِعِه‬
‫اإلْبهام واَّلتي َتِليها‪ُ -‬قلُت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬أَنْهِلُك َو ِفيَنا الَّص اِلُح وَن ؟! قاَل ‪َ :‬نَعْم ‪ ،‬إَذا َكُثَر الَخ َبُث » [متفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وعّلم ﷺ بضحكه وإقراره على ما حدث‪ ،‬كما قال عمرو بن العاص‪( :‬رضي هللا عنه)‬
‫«احتلمُت في ليلٍة باردٍة شديدِة البرِد‪ ،‬فأشفقُت إن اغتسلُت أن َأْه َلَك ‪ ،‬فتيَّم مُت ثم صَّليُت بأصحابي‬
‫صالَة الّص بِح‪ .‬قال‪ :‬فلَّم ا َقِد ْم َنا على رسوِل هللا ﷺ ذكرُت ذلَك لُه‪ ،‬فقال‪ :‬يا عمُر و صَّليَت بأصحاِبَك‬
‫وأنَت ُج ُنٌب ؟ قال‪ :‬قلُت ‪ :‬نعم يا رسوَل هللا إّني احتلمُت في ليلٍة باردٍة شديدِة البرِد فأشفقُت إن‬
‫اغتسلُت أن َأْه َلَك ‪ ،‬وذكرُت قوَل هللا عَّز وجَّل ‪َ{ :‬و َال َتْقُتُلوا َأْنُفَسُكْم ِإَّن َهَّللا َكاَن ِبُكْم َر ِح يًم ا} [النساء‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]29‬فتيَّم مُت ثم صَّليُت ‪ ،‬فضحَك رسوُل هللا ﷺ ولم َيُقْل شيًئا» [رواه أحمد وأبو داود]‪.‬‬
‫وأحياًنا يغضب ﷺ إذا استدعى األمر ذلك‪ ،‬فعن زيد بن خالد الجهني (رضي هللا عنه) أَّن‬
‫الّنبَّي ﷺ ُسِئَل عن َض اَّلِة الَغَنِم ‪َ ،‬فقاَل ‪ُ« :‬خ ْذَها‪ ،‬فإَّنما هي لَك أْو ألِخ يَك أْو ِللِّذ ْئِب» وُسِئَل عن َض اَّلِة‬
‫اإلِبِل ‪َ ،‬فَغِض َب واحمَّر ْت وْج َنَتاُه‪ ،‬وقاَل ‪« :‬ما لَك وَلها!؟ معَه ا الِح َذاُء والِّس َقاُء ‪َ ،‬تْش َر ُب الَم اَء ‪ ،‬وَتْأُكُل‬
‫الَّشَج َر ‪ ،‬حَّتى َيْلَقاَها َر ُّبَه ا» [متفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّنه قال‪« :‬خرَج عَلينا رسوُل هللا ﷺ ونحُن نَتنازُع في‬
‫الَقدِر فَغضَب حَّتى احمَّر وجُه ُه‪ ،‬حَّتى كأَّنما ُفِقئ في َو ْج َنَتْيِه الُّر َّم اُن ‪ ،‬فقاَل ‪ :‬أِبَه ذا ُأِم رُتْم !؟ أم ِبَه ذا‬
‫ُأرسلُت إليكم!؟ إَّنما هَلَك من كاَن قبَلُكم حيَن َتنازعوا في هذا األمِر ‪ ،‬عَز مُت عليكم أاَّل تَتناَز عوا فيِه »‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فكان غضبه ﷺ في هذه المواقف شريعة ولمصلحة التعّلم‪ ،‬فُسبحان من جعل رضاه وغضبه‪،‬‬
‫وضحكه وبكاءه‪ ،‬وصمته وكالمه‪ُ ،‬سّنة ُيتعّبد بها!‪.‬‬
‫وعّلم ﷺ بسكوته فُيقّر على الحالة القائمة فتصبح ُسّنة‪ ،‬وهذا الفعل ُيسمى عند الُعلماء‬
‫بالّتقرير‪.‬‬
‫فما رآه ﷺ‪ ،‬أو سمع به وسكت عنه ولم ينكره فهو من ضمن ُسّنته الّشـريفة‪ ،‬فُسبحان من‬
‫أعطاه هذه المنزلة التي ليست ألحد من الناس كائًنا من كان! حيث ُيصبح سكوته عن الّشيء شريعة‬
‫ُيتعّبد بها‪ ،‬يقول أبو ُج حيفة(رضي هللا عنه)‪« :‬آَخ ى الَّنبُّي ﷺ بْيَن َسْلَم اَن وَأِبي الَّد ْر َداِء ‪َ ،‬فَز اَر َسْلَم اُن‬
‫أَبا الَّد ْر َداِء ‪َ ،‬فَر َأى ُأَّم الَّد ْر َداِء ُم َتَبِّذ َلًة‪َ ،‬فَقاَل َلَه ا‪ :‬ما َشْأُنِك ؟ َقاَلْت ‪ :‬أُخ وَك أبو الَّد ْر َداِء ليَس له َح اَج ٌة‬
‫في الُّد ْنَيا‪َ .‬فَج اَء أبو الَّد ْر َداِء َفَص َنَع له َطَعاًم ا‪َ ،‬فَقاَل ‪ُ :‬كْل‪َ ،‬قاَل ‪ :‬فإِّني َص اِئٌم ‪َ ،‬قاَل ‪ :‬ما أَنا بآِك ٍل حَّتى‬
‫َتْأُكَل ‪َ ،‬قاَل ‪ :‬فأَكَل ‪َ ،‬فَلَّم ا كاَن الَّلْيُل َذَهَب أبو الَّد ْر َداِء َيُقوُم ‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬نْم ‪َ ،‬فَناَم ‪ُ ،‬ثَّم َذَهَب َيُقوُم ‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬نْم ‪،‬‬
‫َفَلَّم ا كاَن ِم ن آِخ ِر الَّلْيِل َقاَل َسْلَم اُن ‪ُ :‬قِم اآلَن ‪َ .‬فَص َّلَيا َفَقاَل له َسْلَم اُن ‪ :‬إَّن ِلَر ِّبَك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وِلَنْفِس َك‬
‫َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وَأِلْه ِلَك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬فأْع ِط ُكَّل ِذي َح ٍّق َح َّقُه‪ .‬فأَتى النبَّي ﷺ‪َ ،‬فَذَكَر ذلَك له‪َ ،‬فَقاَل الَّنبُّي ﷺ‪:‬‬
‫َص َد َق َسْلَم اُن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ومن أساليبه ﷺ في الّتعليم تكراره للمسألة حتى ُتفهم عنه ويعيها الّسامع‪ ،‬فعن أنس بن‬
‫مالك(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّن الّنبي ﷺ كاَن إَذا َتَكَّلَم بَكِلَم ٍة أَعاَد َها َثاَل ًثا‪ ،‬حَّتى ُتْفَه َم عْنه‪ ،‬وإَذا أَتى عَلى‬
‫َقْو ٍم َفَسَّلَم عليهم‪َ ،‬سَّلَم عليهم َثاَل ًثا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪َ« :‬ر ِغ َم أْنُفُه‪ُ ،‬ثَّم َر ِغ َم أْنُفُه‪ُ ،‬ثَّم َر ِغ َم أْنُفُه!‬
‫قيَل ‪َ :‬م ْن يا َر سوَل هللا؟ قاَل ‪َ :‬م ن أْد َر َك واِلَد ْيِه ِع ْنَد الِكَبِر ‪ ،‬أَح َد ُهما‪ ،‬أْو ِك َلْيِه ما‪ُ ،‬ثَّم َلْم َيْد ُخ ِل الَج َّنَة»‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأحياًنا أخرى ُيقسم ﷺ ليؤّكد قوله‪ ،‬ورّبما كّر ر القسم تثبيًتا للمعلومة في قلب المتلقي فعن‬
‫أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن النبي ﷺ قال‪« :‬واَّلذي َنْفسي بيِده‪ ،‬ال َتدخُلوَن الجَّنَة حَّتى ُتؤِم ُنوا‪،‬‬
‫وال ُتؤِم ُنوا حَّتى تحاُّبوا‪َ ،‬أَو اَل أدُّلُكم على َشيٍء إذا فعلتُم وه تحاَببُتم؟ أفُشوا الَّسالَم بيَنُكم» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وعنه أيًض ا أّن النبي ﷺ قال‪« :‬وهللا ال ُيْؤ ِم ُن ‪ ،‬وهللا ال ُيْؤ ِم ُن ‪ ،‬وهللا ال ُيْؤ ِم ُن ‪ ،‬قيَل ‪َ :‬م ن يا‬
‫َر سوَل هللا؟ قاَل ‪ :‬الذي ال َيْأَم ُن جاُر ُه َبوائَقُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وإّنما أقسم ﷺ وهو الّص ادق المصدوق لكي ال يدع في نفس الُم تلقي ريبة‪ ،‬وال يبقى في قلبه‬
‫شك‪ ،‬ويكون على يقين تام بما ُيخبر به نبي الُه دى الّص ادق األمين ﷺ‪.‬‬
‫وأحياًنا كان ﷺ ُيمسك بيد َم ن ُيعّلمه‪ ،‬أو منكبه أو أذنه؛ إلثارة انتباهه وجلب استماعه‪ ،‬وهذا‬
‫من ُح سن الّتعليم وجميل الّتفهيم‪ ،‬فعن عبدهللا بن مسعود (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬عَّلَم ِني َر سوُل هللا ﷺ‬
‫– وَكِّفي بْيَن َكَّفْيِه ‪ -‬الَّتَشُّه َد‪ ،‬كما ُيَعِّلُم ِني الُّسوَر َة ِم َن الُقْر آِن » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فانظر إلى حنان هذا الُم عّلم كيف ضّم كف ابن مسعود بكفيه الطاهرتين الطيبتين!؟ فكان له‬
‫من الوقع الجميل‪ ،‬واألثر الجليل على نفس ابن مسعود‪ ،‬فسّه ل عليه الحفظ والتعّلم‪.‬‬
‫ويقول عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنها) ‪« :‬أَخ َذ َر سوُل هللا ﷺ بَم ْنِك ِبي‪َ ،‬فَقاَل ‪ُ« :‬كْن في الُّد ْنَيا‬
‫َكأَّنَك َغِر يٌب أْو َعاِبُر َسِبيٍل » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ومع مرور األعوام لم ينس ابن عمر مشهد أخذ رسول هللا منكبه‪ ،‬ورسوخ ما أوصاه وعّلمه‬
‫في قلبه مدى حياته‪ .‬وهذا ابن عباس (رضي هللا عنه) لّم ا قام ُيصّلي مع الّنبي ﷺ صالة الّليل وقف‬
‫على يساره‪ ،‬قال‪« :‬فأَخ َذ بَيِدي فأَداَر ِني عن َيِم يِنِه » [متفق عليه]‪.‬‬
‫بلمسة حانية‪ ،‬ولفتة مباركة‪ ،‬يجذب الُم عّلم األعظم انتباه تلميذه‪ ،‬وإصغاءه لهذه الوصّية‬
‫الّنافعة‪ ،‬وهذا الّدرس الُم فيد‪ ،‬فيظل عالًقا في ذهنه (رضي هللا عنه) ويلتزم بتطبيقه‪ ،‬وُيعّلمه الّناس‪.‬‬
‫ونهج ﷺ في تعليمه أسلوب إجمال الكالم‪ ،‬ثم تفصيله ليكون أسهل على الُم خاطب اإلحاطة‬
‫بأطرافه‪ ،‬وأمكن على ثباته في الّذهن‪ ،‬فعن أبي قتادة (رضي هللا عنه) أَّن َر سوَل هللا ﷺ ُم َّر عليه‬
‫بِج َناَز ٍة‪َ ،‬فقاَل ‪ُ :‬م ْس َتِر يٌح وُم ْس َتَر اٌح منه‪ .‬قالوا‪« :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما الُم ْس َتِر يُح والُم ْس َتَر اُح منه؟ قاَل ‪:‬‬
‫الَعْبُد الُم ْؤ ِم َن َيْس َتِر يُح ِم ن َنَص ِب الُّد ْنَيا وَأَذاَها إلى َر ْح َم ِة هللا‪ ،‬والَعْبُد الَفاِج ُر َيْس َتِر يُح منه الِعَباُد‬
‫والِباَل ُد‪ ،‬والَّشَج ُر والَّد َو اُّب » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن النبي ﷺ قال‪ُ« :‬تنَكُح الَم رأُة ألربٍع‪ :‬لماِلها‪ ،‬وِلَحَسِبها‪،‬‬
‫وَج ماِلها‪ ،‬وِلِديِنها؛ فاظَفْر بذاِت الِّديِن َتِر َبْت َيداَك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن أشياء في الّتعليم منها‪:‬‬
‫الجدل‪ :‬فنهى عن الجدل العقيم‪ ،‬والخالف الّسقيم‪ ،‬الذي ُيبنى على الُم كابرة‪ ،‬وُيقصد منه‬
‫الُم فاخرة والُم كاثرة‪ ،‬عماًل بقول الباري‪َ{ :‬م ا َض َر ُبوُه َلَك ِإَّال َج َدًال َبْل ُهْم َقْو ٌم َخ ِص ُم وَن } [الزخرف‪:‬‬
‫اآلية ‪.]58‬‬
‫أّم ا الجدل بالُح سنى فهو منهجه ﷺ مؤتمًر ا بقوله تعالى‪َ{ :‬و َج اِد ْلُهْم ِباَّلِتي ِه َي َأْح َسُن } [النحل‪:‬‬
‫اآلية ‪ .]125‬وعن أبي أمامة الباهلي (رضي هللا عنه) أّن النبي ﷺ قال‪« :‬ما َض َّل قوٌم بعَد ُهًدى َكاُنوا‬
‫عليِه ِإاَّل ُأوُتوا الَج َد َل ‪ُ ،‬ثَّم َتال رسوُل هللا ﷺ هذه اآلَيَة‪َ{ :‬م ا َض َر ُبوُه َلَك ِإَّال َج َدًال َبْل ُهْم َقْو ٌم‬
‫َخ ِص ُم وَن } ‪[ .‬رواه الّترمذي]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن كتم العلم‪ :‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن اَّلِذيَن َيْك ُتُم وَن َم ا َأْنَز ْلَنا ِم َن اْلَبِّيَناِت َو اْلُه َدى ِم ْن‬
‫َبْعِد َم ا َبَّيَّناُه ِللَّناِس ِفي اْلِك َتاِب ُأْو َلِئَك َيْلَعُنُه ُم ُهَّللا َو َيْلَعُنُه ُم الََّّالِع ُنوَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]159‬وقال ﷺ‪:‬‬
‫«من ُسئل عن علم َفَكتمه‪ ،‬ألجمه ُهللا بلجام من نار يوم القيامة» [رواه أبو داود والّترمذي]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن طلب العلم رياًء وسمعًة‪ :‬فقال ﷺ‪« :‬من تعَّلم ِع لًم ا لغيِر هللا‪ ،‬أو أراد به غيَر‬
‫هللا؛ فليتبَّو ْأ مقعَده من الّنار» [رواه الترمذي]‪ .‬وَعْن َج اِبِر ْبِن َعْبِد هللا‪َ ،‬أَّن الَّنِبَّي ﷺ َقاَل ‪« :‬ال َتَعَّلُم وا‬
‫اْلِع ْلَم ِلُتَباُهوا ِبِه العلماَء ‪ ،‬وال ُتماروا ِبِه الُّسَفهاَء ‪ ،‬وال تخَّيروا ِبِه المجالَس ‪َ ،‬فَم ْن َفَعَل َذِلَك َفالَّناُر‬
‫الَّناُر » [رواه ابن ماجه]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن كثرة القيل والقال والّسؤال عَّم ا لم يقع‪ :‬فعن المغيرة بن شعبة (رضي هللا عنه)‬
‫أن النبي ﷺ كاَن َيْنَه ى عن قيَل وقاَل ‪ ،‬وَكْثَر ِة الُّسَؤاِل ‪[ .‬متفق عليه]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن سؤال الجهلة‪ :‬فقال‪« :‬إَّن َهللا ال َيْقِبُض الِع ْلَم اْنِتزاًعا َيْنَتِز ُعُه ِم َن الَّناِس ‪ ،‬وَلِك ْن‬
‫َيْقِبُض الِع ْلَم بَقْبِض الُعَلماِء ‪ ،‬حَّتى إذا َلْم َيْتُر ْك عاِلًم ا‪ ،‬اَّتَخ َذ الَّناُس ُر ُؤوًسا ُجّه ااًل ‪َ ،‬فُسِئُلوا فأْفَتْو ا بغيِر‬
‫ِع ْلٍم ‪َ ،‬فَض ُّلوا وَأَض ُّلوا» [متفق عليه]‪ ،‬وأمر ﷺ بسؤال أهل العلم عماًل بقول الباري ُسبحانه‪َ{ :‬فاْس َأُلوا‬
‫َأْه َل الِّذ ْك ِر ِإْن ُكْنُتْم َال َتْعَلُم وَن } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]43‬‬
‫وروى أبو داود وغيره من حديث َج اِبٍر (رضي هللا عنه) َقاَل ‪َ« :‬خ َر ْج َنا ِفي َسَفٍر ‪َ ،‬فَأَص اَب‬
‫َر ُج اًل ِم َّنا َحَج ٌر ‪َ ،‬فَشَّج ُه ِفي َر ْأِسِه ‪ُ ،‬ثَّم اْح َتَلَم ‪َ ،‬فَسَأَل َأْص َح اَبُه‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬هْل تِج دوَن ِلي ُر ْخ َص ًة ِفي الَّتَيُّمِم ؟‬
‫َفَقاُلوا‪َ :‬م ا َنِج ُد َلَك ُر ْخ َص ًة َو َأْنَت َتْقِد ُر َعَلى اْلماِء ‪َ ،‬فاْغ َتَسَل ‪َ ،‬فَم اَت ‪َ .‬فَلَّم ا َقِد ْم َنا َعَلى الَّنِبِّي ﷺ ُأخِبَر‬
‫بذِلَك ‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬قَتُلوُه َقَتَلُه ْم هللا! أاَل َسَأُلوا ِإْذ َلْم َيْعَلُم وا؛ َفِإن ِش َفاُء اْلِع ِّي الُّسَؤاُل ‪ِ ،‬إن َكاَن َيْك ِفيِه َأْن‬
‫َيَتَيَّم َم ‪َ ،‬و َيْعِص َب َعَلى ُج ْر ِح ِه ِخ ْر َقًة‪ُ ،‬ثَّم َيْم َسَح َعَلْيَه ا‪َ ،‬و َيْغِسَل َساِئَر َجَسِدِه »‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الُفتيا بغير علم‪ :‬فقال‪« :‬من َتَقَّو ل عَلَّي ما لم أُقْل‪َ ،‬فْلَيَتَبَّو ْأ مقعَده ِم َن الَّناِر ‪ ،‬وَم ِن‬
‫استشارُه أخوُه المسِلُم ‪ ،‬فأشاَر عليه بغيِر ُر ْشٍد‪ ،‬فقد خاَنُه‪ ،‬وَم ْن ُأْفتَي ِبُفْتيا غيِر َثَبٍت‪ ،‬فإَّنما إْثُم ه‬
‫َعَلى َم ْن أفتاُه» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وأّنها لُم عجزة ُكبرى‪ ،‬وآية ُعظمى‪ ،‬أّن الُم عّلم األعظم والّنبي األكرم قد عّلم ُأّم ته إلى يوم‬
‫الّدين وهو ما قرأ كتاًبا‪ ،‬وما سّطر بيده خطاًبا‪ ،‬وما خّط جواًبا‪ ،‬فيمأل علمه الّص دور‪ ،‬وُتزّين أقواله‬
‫الّسطور‪ ،‬وُينشر ميراثه من على المنابر‪ ،‬وُيعلن من فوق المنائر‪ ،‬وتمتلئ به الدفاتر‪ ،‬وتنفد في‬
‫تسطيره المحابر‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َعَّلَم َك َم ا َلْم َتُكْن َتْعَلُم } [النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]113‬فكل الُعلماء‪،‬‬
‫والُح كماء‪ ،‬واألدباء‪ ،‬والُخ طباء‪ ،‬والُفقهاء‪ ،‬واألولياء‪ ،‬الذين ملؤوا الّدنيا علًم ا‪ ،‬وحكمًة‪ ،‬ورشًدا‪،‬‬
‫واستفاقًة‪ ،‬كما قيل عنهم‪:‬‬
‫فكّلهم من رسول هللا ملتمٌس‬
‫غرًفا من البحر أو رشًف ا من الّد ِمي‬
‫لقد عّلم ﷺ ُأّم ته كيف يعيشون‪ ،‬وكيف يسعدون‪ ،‬وكيف يتعاملون‪ ،‬كما قال ﷺ‪ِ« :‬إَّنُه َلْم َيُكن‬
‫َنِبي قْبِلي ِإاَّل َكان َح ًّقا عليه َأْن َيُدَّل ُأَّم َته َعَلى َخ يِر َم ا َيْعَلُم ُه َلُه م‪ ،‬وُينِذ َر ُهم َشَّر ما َيْعَلُم ُه لهْم » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫فعّلمهم الّطهارة‪ ،‬بقوله وفعله‪ ،‬وعّلمهم الّص الة‪ ،‬وأخذوا عنه مناسك الحّج ‪ ،‬وبّين لهم آداب‬
‫الّلباس والجائز والُم حّر م منه‪ ،‬وما ُيقال عند لبس الّثوب‪ ،‬وما ُيقال عند خلعه‪ ،‬وكيف ُيلبس الحذاء‪،‬‬
‫وكيف ُيخلع‪.‬‬
‫وأخبرهم بآداب الكالم‪ ،‬وما ُيستحسن من الحديث وما ُيجتنب منه‪ ،‬وما هو الُم حبب من‬
‫القول‪ ،‬وما هو الُم حّر م‪.‬‬
‫وعّلم األمراء والوالة آداب الوالية‪ ،‬والعدل واإلنصاف بين الّر عية‪.‬‬
‫وعّلم القضاة أحكام القضاء والفصل بين الخصومات‪ ،‬وحّذرهم من الّظلم واإلجحاف‪ ،‬ودّلهم‬
‫على أحكام المواريث بكل دقة ووضوح في عشـرات األحاديث الّص حيحة الثابتة‪.‬‬
‫وبّين للّدعاة منهج الّدعوة الُم ستقيم وطريق الهداية القويم‪ ،‬ودعاهم للّر فق والحكمة ونبذ‬
‫العنف والغلو والغلظة‪ ،‬وعّلم الفقهاء الفتيا واالستدالل والتفقه في الّدين‪.‬‬
‫وعّلم الُتّج ار أسباب الّتجارة‪ ،‬وُسبل الكسب الحالل والّر زق الطّيب‪ ،‬وأنواع البيوع‪ ،‬وأصناف‬
‫الّتعامل الّشرعي‪.‬‬
‫وعّلم الُم زارعين فضل الّز راعة وما ينبغي فيها‪ ،‬وما يحذر منها‪.‬‬
‫وقد ُكتبت في ذلك مؤلفات‪ ،‬وعقدت فيها أبواب‪ ،‬وإّنما أشرنا ُم جّر د إشارات‪ ،‬هي أشبه‬
‫بالّتنبيهات؛ ألّن تعليمه ﷺ لألمة بحر ال ساحل له‪ ،‬وحسبنا أن نقف على الّساحل ونسأل‪ :‬هل في‬
‫العالم من ُم عّلم تخّر ج على يديه أعلم وأكرم وأتقى وأنقى من أصحاب الّنبي ﷺ ومن أتباعه إلى يوم‬
‫الّدين؟ إّن كل صحابّي وكل تابع إلى يوم القيامة إّنما هو دليل قائم بنفسه على ُم عجزة هذا الّنبي‬
‫الُم عّلم‪.‬‬
‫وتخّيل حال الّص حابة قبل بعثته وحالهم بعدها؟ وكيف نقلهم من الخرافة؛ والجهل‪ ،‬والّشرك؛‬
‫إلى نور العلم‪ ،‬وضياء البصيرة‪ ،‬وفضاء التوحيد؟‬
‫والُم عجز في تعليمه أيًض ا ﷺ توّص له إلى غرس هذا العلم في نفوس أصحابه غرًسا بقي بقاء‬
‫حياتهم‪ ،‬ودام دوام أعمارهم‪ ،‬ونقله األتباع عنهم‪ ،‬وأتباع األتباع عن األتباع إلى يوم الّدين‪ ،‬فكان إذا‬
‫لقيه الّر جل يوًم ا من الّدهر أو ساعة من الّز من وآمن به‪ ،‬ترك فيه من األثر ما يبقى ُم الزًم ا له حّتى‬
‫الموت‪ ،‬وكأّنه ليس في حياة هذا الّر جل إاّل ذلك اليوم‪ ،‬أو تلك الّساعة التي لقي فيها رسول هللا ﷺ‪،‬‬
‫وما ذاك إاّل لصدق نبّو ته‪ ،‬وبركة دعوته‪ ،‬وجالل إخالصه‪ ،‬وعظيم ُخ لقه‪ ،‬وُنبل فضائله‪،‬‬
‫فالّلهم صِّل وسِّلم على من أغثت به القلوب‪ ،‬وأنرت به الّدروب‪ ،‬وبّص رت به عيوًنا ُعمًيا‪،‬‬
‫وأسمعت به آذاًنا ُصًّم ا‪ ،‬وهديت به من الّضاللة‪ ،‬وعّلمت به من الجهالة‪ ،‬وأخرجتنا به من الُّظلمات‬
‫إلى الّنور‪ ،‬ومن الحزن إلى الّسرور‪ ،‬وال يسعني هنا اآلن إاّل أن أضع القلم وأقول‪:‬‬
‫«أشهد أّن حمّم ًد ا رسول هللا‪ ،‬عليه صالة هللا‪ ،‬وسالم هللا»‪.‬‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمْص ِلًح ا‬
‫اإلصالح هو منهج األنبياء وطريق الّر ُسل عليهم الّسالم‪ ،‬وأّو ل اإلصالح هو الّدعوة إلى‬
‫توحيد الباري‪ ،‬والّتبشير واإلنذار‪ ،‬وإقامة الحّج ة وبيان المحّج ة‪ ،‬لكي تستقيم حياة األفراد‬
‫والمجتمعات‪ ،‬ويتم الحفاظ على األخالق الفاضلة‪ ،‬والقيم اإلنسانية الّنبيلة‪.‬‬
‫إّن منهجه ﷺ في اإلصالح قام من ُم نطلق العصمة والوحي الُم قّدس‪ ،‬وهو منهج واقعي شامل‬
‫واضح‪ ،‬ولذلك كان يكثر ﷺ من قول‪« :‬اللهَّم َأْصِلْح لي ِديِني الذي هو ِعْص َم ُة َأْم ِر ي‪َ ،‬و َأْصِلْح لي‬
‫ُدْنَياَي اَّلتي ِفيَه ا معاِش يِ‪َ ،‬و َأْصِلْح لي آِخ رتَي اَّلتي ِفيَه ا معاِدي» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقد بّشر هللا تعالى الُم صلحين فقال‪ِ{ :‬إَّنا َال ُنِض يُع َأْج َر اْلُم ْصِلِح يَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]170‬‬
‫وقال تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السالم‪ِ{ :‬إْن ُأِر يُد ِإَّال اِإل ْص َالَح َم ا اْس َتَطْعُت } [هود‪:‬‬
‫اآلية ‪.]88‬‬
‫ولما اْس َتْخ َلَف موسى عليه السالم أخاه هاروَن في قومه أوصاه فقال له‪{ :‬اْخ ُلْفِني ِفي َقْو ِم ي‬
‫َو َأْصِلْح َو َال َتَّتِبْع َسِبيَل اْلُم ْفِسِديَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]142‬‬
‫وجاء خاتم الُم رسلين ﷺ باإلصالح الّشامل العادل في كافة الميادين‪ ،‬وجميع المجاالت‪،‬‬
‫فصار إمام الُم صلحين وسيدهم وقدوتهم إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫جاء ﷺ لُيصلح القلوب بإذن هللا‪ ،‬ويمحو منها الّشحناء والبغضاء والعداوة‪ ،‬وبدأ بالقلوب ألّنها‬
‫أساس اإلصالح ومنبعه فقال ﷺ‪« :‬إَّن في الَجَسِد ُم ْض َغًة إَذا َص َلَح ْت َص َلَح الَجَسُد ُكُّلُه‪ ،‬وإَذا َفَسَدْت‬
‫َفَسَد الَجَسُد ُكُّلُه‪ ،‬أاَل وهي الَقْلُب » [متفق عليه]‪.‬‬
‫وأصلح ﷺ العقول التي ُم لئت بفساد الّتصور‪ ،‬وضالل الُم عتقد‪ ،‬وسوء الُم عاملة‪ ،‬ودعا الّناس‬
‫إلى العودة ألصل فطرتهم التي خلقهم هللا عليها بعد أن اجتالتهم الّشياطين قال تعالى‪ِ{ :‬فْط َر َة ِهَّللا اَّلِتي‬
‫َفَطَر الَّناَس َعَلْيَه ا َال َتْبِديَل ِلَخ ْلِق ِهَّللا َذِلَك الِّديُن اْلَقِّيُم } [الروم‪ :‬اآلية ‪.]30‬‬
‫وكان أّو ل ما اعتمد عليه رسول هللا ﷺ في عملية اإلصالح الّشاملة هو إصالحه لإلنسان؛‬
‫ألّن صالح المجتمع بصالح الفرد‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َال ُيَغِّيُر َم ا ِبَقْو ٍم َح َّتى ُيَغِّيُر وا َم ا ِبَأْنُفِس ِه ْم }‬
‫[الرعد‪ :‬اآلية ‪.]11‬‬
‫فاهتم بإصالح الفرد واألسرة والمجتمع واألّم ة‪ ،‬وبدأ ﷺ اإلصالح بنفسه فهو أسوة للعالمين‪،‬‬
‫فوضع ِر َبا عّم ه العباس (رضي هللا عنه)‪ ،‬ووضع دم أحد بني عبد المطلب‪ ،‬فقال‪ِ« :‬د َم اُء الَج اِهِلَّيِة‬
‫َمْو ُضوَعٌة‪ ،‬وإَّن َأَّو َل َد ٍم َأَض ُع ِم ن ِد َم اِئَنا َد ُم اْبِن َر ِبيَعَة بِن الَح اِر ِث‪ ،‬كاَن ُم ْس َتْر َض ًعا في َبِني َسْعٍد‬
‫َفَقَتَلْتُه ُهَذْيٌل ‪َ ،‬و ِر َبا الَج اِهِلَّيِة َمْو ُضوٌع‪َ ،‬و َأَّو ُل ِر ًبا َأَض ُع ِر َباَنا ِر َبا َعَّباِس بِن عبِد الُم َّطِلِب‪ ،‬فإَّنه‬
‫َمْو ُض وٌع ُكُّلُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ في باب اإلصالح يتنازل عن حقه الّشخصـي ليتم الوفاق‪ ،‬وُتدفع الفتنة‪ ،‬فقد صّح‬
‫عند البخاري وُم سلم‪ -‬أّنه مّر بمجلس لعبدهللا بن ُأبّي ابن سلول رأس المنافقين وكان ﷺ راكًبا على‬‫حمار‪ ،‬ومعه بعض أصحابه فتضّج ر ابن ُأبّي وقال كلمة ذميمة عن حمار الّنبي‪ ،‬فقام رجل من‬
‫األنصار ورّد على عبدهللا بن ُأبّي وَقاَل ‪ :‬وهللا ِلحَم اُر َر سوِل هللا أْط َيُب ِر يًح ا ِم ْنَك ‪َ ،‬فَغِض َب ِلَعْبِد هللا‬
‫َر ُج ٌل ِم ن َقْو ِم ِه ‪َ ،‬فَشَتَم ُه‪َ ،‬فَغِض َب ِلُكِّل واِح ٍد منهما أْص َح اُبُه‪ ،‬وحصل خصام وشجار بين المؤمنين‬
‫والمنافقين‪ ،‬فنزل ﷺ وسّكن الخصومة‪ ،‬وهّدأ الخواطر‪ ،‬وسكت عّم ا ناله من أذى من هذا المنافق ُح ًبا‬
‫منه ﷺ إلضفاء الّسكينة على الُم جتمع‪ ،‬ونزع فتيل األزمة‪ ،‬وتهدئة الّنفوس‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و ِإْن َطاِئَفَتاِن‬
‫ِم َن اْلُم ْؤ ِم ِنيَن اْقَتَتُلوا َفَأْصِلُح وا َبْيَنُه َم ا} [الحجرات‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫وسعى ﷺ وضرب أروع األمثال في اإلصالح بين الّناس‪ ،‬فكان ُيصلح بين المؤمنين‪ ،‬وبين‬
‫المؤمنين والُم نافقين‪ ،‬وبين المؤمنين وأهل الكتاب‪ ،‬وبين المؤمنين والُم شركين‪ ،‬وبين الّر جل‬
‫وزوجته‪ ،‬والّص احب وصاحبه‪ ،‬والجار وجاره‪ ،‬بحكمة وعصمة نبوّية‪ ،‬ونهج رّباني‪ ،‬وكان يخرج‬
‫في كل مشـروع إصالحي بنجاح باهر وثمار يانعة‪ُ ،‬يصلح بين الخصوم‪ ،‬وُيسّكن الفتنة‪ ،‬ويزيل‬
‫الخالف‪ ،‬وُيقّدم الّص لح على الُح كم‪ ،‬والعفو والصفح على استيفاء الحّق ‪.‬‬
‫فأّلف بين القلوب الُم تنافرة‪ ،‬وجمع بين النفوس الُم تباعدة‪ ،‬وجعل باب اإلصالح بين الّناس من‬
‫أعظم أبواب البّر ‪ ،‬وأجّل ُسبل الّطاعة؛ ألن فيه جبر القلوب‪ ،‬وتطييب الخواطر‪ ،‬وجمع الّشمل‪،‬‬
‫وتأليف األرواح‪ ،‬ونزع فتيل الفتنة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬ال َخْيَر ِفي َكِثيٍر ِم ْن َنْج َو اُهْم ِإَّال َم ْن َأَمَر ِبَص َدَقٍة َأْو‬
‫َم ْعُر وٍف َأْو ِإْص َالٍح َبْيَن الَّناِس َو َم ْن َيْفَعْل َذِلَك اْبِتَغاَء َم ْر َض اِة ِهَّللا َفَسْو َف ُنْؤ ِتيِه َأْج ًر ا َعِظ يًم ا} [النساء‪:‬‬
‫اآلية ‪.]114‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬اَل ُيْؤ ِم ُن أَح ُدُكْم ‪ ،‬حَّتى ُيِح َّب ألِخ يِه ما ُيِح ُّب ِلَنْفِسِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فكان ﷺ يحّث دائًم ا وأبًدا على الوحدة والّترابط‪ ،‬فآخى بين الُم هاجرين واألنصار‪ ،‬ونبذ‬
‫الفرقة والّتخاصم‪ ،‬ليكون الُم جتمع أكثر قوة وتماسًكا؛ ألّنه إذا ُفقد اإلصالح هلكت األمم وضّلت‬
‫الّشعوب‪ ،‬وتبددت الّثروات‪ ،‬وتفّر قت األسر‪ ،‬وانُتهكت األعراض‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َال َتَناَز ُعوا َفَتْفَشُلوا‬
‫َو َتْذَهَب ِر يُح ُكْم } [األنفال‪ :‬اآلية ‪ ،]46‬وقال ﷺ‪َ« :‬تَر ى الُم ْؤ ِم ِنيَن في َتراُحِم ِه ْم وَتواِّدِه ْم وَتعاُطِفِه ْم ‪،‬‬
‫َكَم َثِل الَجَسِد‪ ،‬إذا اْش َتَكى ُعْض ًو ا َتداَعى له ساِئُر َجَسِدِه بالَّسَه ِر والُح َّم ى» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبّين ﷺ عن طريق الّتشبيه أّن الجميع في سفينة واحدة‪ ،‬وال بد بينهم من تعاون‪ ،‬وترابط‪،‬‬
‫فقال ﷺ‪« :‬مَثُل الَقاِئِم َعَلى ُح ُدوِد هللا َو الَو اِقِع ِفيَه ا‪َ ،‬كَم َثِل َقْو ٍم اْس َتَه ُم وا َعَلى َسِفيَنٍة‪َ ،‬فَأَص اَب َبْعُض ُه ْم‬
‫َأْعالَها َو َبْعُض ُه ْم َأْس َفَلَه ا‪َ ،‬فَكاَن اَّلِذيَن ِفي َأْس َفِلَه ا ِإَذا اْس َتَقْو ا ِم َن الَم اِء َمُّر وا َعَلى َم ْن َفْو َقُه ْم ‪َ ،‬فَقاُلوا‪:‬‬
‫َلْو َأَّنا َخ َر ْقَنا في َنصيِبنا َخ ْر ًقا وَلْم ُنْؤ ذ َم ْن َفْو َقَنا‪َ ،‬فِإْن َيْتُر ُكوُهْم َو َم ا َأَر اُدوا َهَلُكوا َجِم يًعا‪َ ،‬و ِإْن َأَخ ُذوا‬
‫َعَلى َأْيِديِه ْم َنَجْو ا‪َ ،‬و َنَجْو ا َجِم يًعا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فكان ﷺ دائم الّسعي في إصالح ذات البين؛ ألّن بالّص لح ُتستجلب المودات‪ ،‬وُتجتنب‬
‫الخصومات التي ُتفنى بسببها األعمار‪ ،‬وُتراق الّدماء‪ ،‬وُتثار الُم نازعات والعداوات‪ ،‬وقد أمر هللا‬
‫بإصالح ذات البين‪ ،‬وجعل ذلك من عالمات اإليمان فقال ُسبحانه‪َ{ :‬و َأْصِلُح وا َذاَت َبْيِنُكْم َو َأِط يُعوا‬
‫َهَّللا َو َر ُسوَلُه ِإْن ُكْنُتْم ُم ْؤ ِم ِنيَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]1‬‬
‫ولّم ا علم رسول هللا ﷺ أَّن أهَل «ُقباء» اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة‪ ،‬قال ألصحابه‪« :‬اْذَهُبوا‬
‫ِبَنا ُنْصِلُح َبْيَنُه ْم » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان يقول ﷺ ألصحابه‪َ« :‬أاَل ُأْخ ِبُر ُكْم ِبَأْفَض َل ِم ْن َد َر َجِة الِّص َياِم َو الَّص اَل ِة َو الَّص َد َقِة !؟» قالوا‪:‬‬
‫«بلى»‪ ،‬فقال‪َ« :‬ص اَل َح َذاِت الَبْيِن ‪َ،‬فِإَّن َفَساَد َذاِت الَبْيِن ِه َي الَح اِلَقُة» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وُر وي عنه ﷺ أّنه قال‪ِ« :‬ه َي الَح اِلَقُة‪ ،‬اَل َأُقوُل َتْح ِلُق الَّشَعَر ‪َ ،‬و َلِك ْن َتْح ِلُق الِّديَن » [رواه‬
‫الترمذي]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬ال َيِح ُّل ِلَر ُج ٍل أْن َيْهُج َر أخاُه َفْو َق َثالِث َلياٍل ‪َ ،‬يْلَتِقياِن ‪ :‬فُيْعِر ُض هذا وُيْعِر ُض هذا‪،‬‬
‫وَخ ْيُر ُهما الذي َيْبَد ُأ بالَّسالِم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪ُ « :‬تْفَتُح َأْبَو اُب اْلَج َّنِة َيْو َم اإلْثَنْيِن َو َيْو َم اْلَخ ِم يِس ‪َ ،‬فُيْغَفُر ِلُكِّل َعْبٍد اَل ُيْش ِر ُك ِباِهلل‬
‫َشْيًئا‪ِ ،‬إاَّل َر ُج اًل َكاَنْت َبْيَنُه َو َبْيَن َأِخ يِه َشْح َناُء ‪َ ،‬فُيَقاُل َأْنِظ ُر وا َهَذْيِن َح َّتى َيْص َطِلَح ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وذكر الُم فسرون إصالحه ﷺ بين األوس والخزرج وهو سبب نزول قول الباري سبحانه‪:‬‬
‫{َياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا ِإْن ُتِط يُعوا َفِر يًقا ِم َن اَّلِذيَن ُأوُتوا اْلِك َتاَب َيُر ُّدوُكْم َبْعَد ِإيَم اِنُكْم َكاِفِر يَن } [آل عمران‪:‬‬
‫اآلية ‪.]100‬‬
‫فقد نزغ الّشيطان بين األوس والخزرج‪ ،‬ونادوا بثاراتهم في الجاهلية بوشاية يهودي‪،‬‬
‫ولجؤوا لحمل الّسالح‪ ،‬والتقوا خارج المدينة‪ ،‬وجاء الخبر للّنبي ﷺ‪ ،‬فهب ُم سرًعا ومعه بعض‬
‫أصحابه‪ ،‬ووقف بين الّص فين وأخذ ُيرّدد‪« :‬يا معشر الُم سلمين! هللا‪ ،‬هللا‪ ..‬أِبَدْع َو ى الجاهلية‪ ،‬وأنا‬
‫بين َأْظ ُه ِر ُكم‪ ،‬بعد إذ هداكم هللا إلى اإلسالم‪ ،‬وأكرَم ُكم به‪ ،‬وقطع به عنكم أمر الجاهلية‪ ،‬واستنقذكم‬
‫به من الكفر‪ ،‬وأَّلف به بينكم‪ ،‬ترجعون إلى ما كنتم عليه كّفاًر ا؟»‪.‬‬
‫ثم أخذ يعظهم بنعمة هللا عليهم باإلسالم‪ ،‬فثابت لهم أرواحهم‪ ،‬وعاد لهم رشدهم‪ ،‬وقاموا‬
‫يتعانقون ويبكون فأنزل هللا‪َ{ :‬و اْع َتِص ُم وا ِبَح ْبِل ِهَّللا َج ِم يًعا َو َال َتَفَّر ُقوا َو اْذُكُر وا ِنْعَم َة ِهَّللا َعَلْيُكْم ِإْذ ُكْنُتْم‬
‫َأْع َداًء َفَأَّلَف َبْيَن ُقُلوِبُكْم َفَأْص َبْح ُتْم ِبِنْعَم ِتِه ِإْخ َو انًا َو ُكْنُتْم َعَلى َشَفا ُح ْفَر ٍة ِم َن الَّناِر َفَأْنَقَذُكْم ِم ْنَه ا َكَذِلَك ُيَبِّيُن‬
‫ُهَّللا َلُكْم آَياِتِه َلَعَّلُكْم َتْه َتُدوَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]103‬‬
‫فما هي إاّل لحظات منه ﷺ حتى عادت الّسيوف إلى أغمادها‪ ،‬وتحّو ل الغضب الّشديد إلى‬
‫رضا وسكينة‪ ،‬والّشراسة إلى دموع محبة‪ ،‬وحصل العناق‪ ،‬وعادوا إلى ديارهم إخوة ُم تحابين‪.‬‬
‫وفي الّص حيحين أّنه ﷺ لّم ا سمع بخالف وخصومة بين أناس من بني عمرو بن عوف‪ ،‬ذهب‬
‫ُم باشرة لُيصلح بينهم‪ ،‬وحانت صالة الّظهر حتى أقام بالل الّص الة في المسجد‪ ،‬وكان ﷺ غائًبا في‬
‫هذا الُص لح‪ ،‬فقّدم الّص حابة أبا بكر الصّديق لُيصّلي بهم‪ ،‬وما ذاك إاّل لعظم اإلصالح بين الّناس وما‬
‫فيه من أجر عظيم‪ ،‬ودفع شٍر جسيم‪ ،‬بل إّنه ﷺ أباح الكذب لإلصالح بين الناس؛ فقال‪َ« :‬لْيَس اْلَكَّذاُب‬
‫اَّلِذي ُيْصِلُح َبْيَن الَّناِس َفَيْنمي َخ ْيًر ا‪َ ،‬أْو َيُقوُل َخ ْيًر ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فيحل الكذب للُم صلح بين الُم تخاصمين ليزيل بينهم الّشحناء والبغضاء‪ ،‬وُيؤّلف بين قلوبهم‪،‬‬
‫وينشر المودة والمحبة في نفوسهم‪.‬‬
‫ولقد كان إصالحه ﷺ عاًّم ا وخاًّص ا يبدأ باإلصالح في المسائل الكبرى من الّدماء‬
‫واألعراض والفتن والحروب‪ ،‬وينتهي إلى اإلصالح بين المتخاصمين حتى في دراهم معدودة من‬
‫المال‪ ،‬فقد أصلح بين المتداينين كما جاء في الّص حيحين من حديث كعب بن مالك (رضي هللا عنه)‬
‫َأَّنُه َتَقاَض ى اْبَن َأِبي َح ْدَر ٍد َدْيًنا َلُه َعَلْيِه ِفي َعْه ِد َر ُسوِل هللا ِفي اْلَم ْس ِج ِد‪َ ،‬فاْر َتَفَعْت َأْص َو اُتُه ما َح َّتى‬
‫َسِم َعَه ا َر ُسوُل هللا َو ُهَو ِفي َبْيِتِه ‪َ ،‬فَخ َر َج ِإَلْيِهَم ا َر ُسوُل هللا َح َّتى َكَشَف ِسْج َف ُحْج َر ِتِه ‪َ ،‬و َناَدى َكْعَب ْبَن‬
‫َم اِلٍك ‪َ« :‬يا َكْعُب »‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬لَّبْيَك َيا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬فَأَشاَر ِبَيِدِه َأْن َض ِع الَّشْط َر ِم ْن َد ْيِنَك ‪َ ،‬قاَل َكْعٌب ‪َ :‬قْد َفَعْلُت‬
‫َيا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬قاَل َر ُسوُل هللا‪ُ« :‬قْم َفاْقِض ه»‪.‬‬
‫فأصلح ﷺ بين الجميع‪ ،‬وحّر م عليهم الدماء واألموال واألعراض‪ ،‬وحدد الّدستور الخالد‬
‫لُيصلح حياتهم‪ ،‬فقال‪ُ« :‬كُّل الُم ْسِلِم عَلى الُم ْسِلِم َح راٌم ‪َ ،‬د ُم ُه‪ ،‬وماُلُه‪ ،‬وِع ْر ُضُه» [رواه مسلم‪ ،‬وأصله‬
‫في البخاري]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬فال َتْر ِج ُعوا َبْعِدي ُكَّفاًر ا‪َ ،‬يْض ِر ُب َبْعُضُكْم ِر َقاَب َبْعٍض » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫كانوا قبل مبعثه ﷺ في حياة فقر وشظف‪ ،‬وجوع وخوف‪ ،‬فأبدلهم هللا بمبعثه حياة طّيبة‬
‫صالحة‪ ،‬ففتحوا الفتوحات‪ ،‬ومّص روا األمصار‪ ،‬واختطوا الُم دن‪ ،‬وبنوا حضارة ضربت بأطنابها في‬
‫ربوع الّص ين‪ ،‬وسهول الهند‪ ،‬وهضاب سيبيريا وأدغال إفريقيا‪ ،‬ومشارف أوروبا‪ ،‬يحكمها العدل‬
‫والّر حمة والّتسامح والّسالم‪.‬‬
‫حّتى المشركون الذين آذوه وسّبوه وأخرجوه وحاربوه أبرم معهم ﷺ صلح الحديبية‪ ،‬وتحّم ل‬
‫شروط هذا الّص لح الُم جحفة‪ ،‬حقًنا للّدماء‪ ،‬وتسكيًنا للفتنة‪ ،‬ودْر ًء ا للحرب‪.‬‬
‫وصالح ﷺ اليهود أّو ل ما دخل المدينة بما ُيسمى في ُلغة العصـر‪« :‬وثيقة الّتعايش الّسلمي‬
‫الُم شترك»‪ ،‬لكف أذاهم‪ ،‬وسّل سخيمتهم‪ ،‬ولم ُيقاتلهم حتى نقضوا العهد وغدروا بالميثاق‪ ،‬وما ُعرض‬
‫عليه ﷺ ُص لح فيه إقامة لشعائر هللا‪ ،‬وتعظيم لحرماته‪ ،‬ونشر الّسالم بين الناس‪ ،‬ونزع فتيل القتال‪،‬‬
‫إاّل وسارع إليه‪ ،‬وبادر به‪ ،‬وفّعله ُم باشرة‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫َأنَت اَّلذي َنَظَم الِرَبَّيَة ديُنُه‬
‫ماذا َيقوُل َوَينُظُم الُّش َعراُء‬
‫اُملصِلحوَن َأصاِبٌع ِمُج َعت َيًد ا‬
‫ِه‬
‫َي َأنَت َبل َأنَت الَيُد الَبيضاُء‬
‫َأنَص َف ت َأهَل الَف قِر ِم ن َأهِل الِغىن‬
‫ِة‬
‫َفالُك ُّل يف َح ِّق اَحليا َس واُء‬
‫َص ّلى َعَليَك ُهللا ما َص ِح َب الّد جى‬
‫ٍد‬
‫حا َوَح َّنت اِب لَف ال َوجناُء‬
‫ولقد أصلح ﷺ نظام األسرة بعد أن كان طابعها التفّكك والّتشتت‪ ،‬ال تحتكم إلى مبدأ‪ ،‬وال‬
‫لقانون‪ ،‬وال لدستور‪ ،‬فسّن لألسرة نظاًم ا ربانًّيا راشًدا منذ أن يحصل العقد بين الّز وجين إلى ما بعد‬
‫الوفاة‪.‬‬
‫وتجد شريعته ﷺ ترافق هذا الّطفل منذ التقاء أبويه إلى أن يشيخ وُيفارق هذه الحياة؛ ألّن بناء‬
‫األسرة الُم سلمة‪ ،‬وتحديد التزامات وواجبات كّل فرد فيها يعين على تسهيل مهماته الموكلة إليه في‬
‫بناء المجتمع‪ ،‬وتكاتف األمة‪ ،‬وإعمار األرض‪.‬‬
‫وأحاط ﷺ األسرة بسياج قوي من األمان واالستقرار‪ ،‬والمودة والرحمة‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َو ِم ْن آَياِتِه َأْن َخ َلَق َلُكْم ِم ْن َأْنُفِس ُكْم َأْز َو اًج ا ِلَتْس ُكُنوا ِإَلْيَه ا َو َج َعَل َبْيَنُكْم َمَو َّدًة َو َر ْح َم ًة} [الروم‪ :‬اآلية‬
‫‪.]21‬‬
‫وحّر م إفشاء أسرارها وخبايا أمورها كما قال ﷺ‪« :‬إَّن ِم ن َأَشِّر الّناِس ِع ْنَد هللا َم ْنِز َلًة َيوَم‬
‫الِقياَم ِة ؛؛ الَّر ُجَل ُيْفِض ي إلى اْم َر َأِتِه ‪َ ،‬و ُتْفِض ي ِإَلْيِه ‪ُ ،‬ثَّم َيْنُشُر ِس َّر ها» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وجعل ﷺ الحياة الّز وجية حياة ُم شاركٍة وتسامٍح ووئاٍم ‪ ،‬وحّث على المعاشرة بالمعروف‬
‫والّر فق بالّنساء‪ ،‬وحّث على عدم مباغتة أهل الّدار عند القدوم من الّسفر كما جاء عن أنس (رضي‬
‫هللا عنه) أّنه قال‪«:‬كاَن النبُّي ﷺ ال َيْط ُر ُق أْه َلُه‪ ،‬كاَن ال َيْد ُخ ُل إاّل ُغْد َو ًة أْو َعِش َّيًة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعن جابر (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬نهى النبُّي ﷺ أْن َيْط ُر َق أْه َلُه َلْيال» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وحاول اإلصالح ﷺ كما جاء في «صحيح البخاري» بين مغيث وبريرة‪ ،‬وهما من موالي‬
‫المدينة‪.‬‬
‫وكان يعيش قضايا اإلصالح بنفسه‪ ،‬وكأن كل قضية ُص لح هي أعظم قضية في الّدنيا لعظيم‬
‫نصحه‪ ،‬وكمال رشده‪ ،‬وشفقته ورحمته بُأّم ته ﷺ؛ وألن درء الفتنة وجمع قلبين على طاعة هللا أعظم‬
‫عند هللا من قيام الّليل وصيام الهواجر‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و ِإْن ِخ ْفُتْم ِش َقاَق َبْيِنِهَم ا َفاْبَعُثوا َح َكًم ا ِم ْن َأْه ِلِه‬
‫َو َح َكًم ا ِم ْن َأْه ِلَه ا ِإْن ُيِر يَدا ِإْص َالًح ا ُيَو ِّفِق ُهَّللا َبْيَنُه َم ا ِإَّن َهَّللا َكاَن َعِليًم ا َخ ِبيًر ا} [النساء‪ :‬اآلية ‪،]35‬‬
‫وقال ُسبحانه‪َ{ :‬و ِإِن اْم َر َأٌة َخاَفْت ِم ْن َبْعِلَه ا ُنُشوًز ا َأْو ِإْع َر اًض ا َفَال ُج َناَح َعَلْيِهَم ا َأْن ُيْصِلَح ا َبْيَنُه َم ا‬
‫ُص ْلًح ا َو الُّص ْلُح َخْيٌر } [النساء‪ :‬اآلية ‪.]128‬‬
‫وقاَل َسْه ُل بن سعد الساعدي (رضي هللا عنه)‪ :‬ما كاَن ِلَعِلٍّي اْس ٌم َأَح َّب إَلْيِه ِم ن َأِبي الُّتَر اِب‪،‬‬
‫وإْن كاَن َلَيْفَر ُح إَذا ُدِع َي بَه ا‪َ ،‬فقاَل له‪َ :‬أْخ ِبْر َنا عن ِقَّصِتِه ‪ِ ،‬لَم ُسِّم َي َأَبا ُتَر اٍب؟ قاَل ‪َ« :‬ج اَء َر سوُل هللا‬
‫ﷺ َبْيَت َفاِط َم َة‪َ ،‬فَلْم َيِج ْد َعِلًّيا في الَبْيِت‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬أْيَن ابُن َعِّم ِك ؟‪َ ،‬فقاَلْت ‪ :‬كاَن َبْيِني وبْيَنُه شيٌء ‪،‬‬
‫َفَغاَض َبِني َفَخ َر َج‪َ ،‬فَلْم َيِقْل ِع نِدي‪( ،‬أي لم ينم نومة القيلولة) َفقاَل َر سوُل هللا ﷺ ِإل ْنَساٍن ‪ :‬اْنُظْر ‪َ ،‬أْيَن‬
‫ُهَو ؟‪َ ،‬فَج اَء َفقاَل ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬هو في الَم ْس ِج ِد َر اِقٌد‪َ ،‬فَج اَء ُه َر سوُل هللا ﷺ َو هو ُم ْض َطِج ٌع ‪ ،‬قْد َسَقَط‬
‫ِر َداُؤ ُه عن ِشِّقِه ‪ ،‬فأَص اَبُه ُتَر اٌب ‪َ ،‬فَج َعَل َر سوُل هللا ﷺ َيْم َسُح ُه عْنه ويقوُل‪ُ :‬قْم َأَبا الُّتَر اِب! ُقْم َأَبا‬
‫الُّتَر اِب!» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فانظر إليه ﷺ حضر بعدله ورحمته ليصلح بين ابنته التي هي َبْضعة من قلبه‪ ،‬وبين صهره‬
‫ونسيبه أبي الحسن علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه)‪ ،‬بهذا الّدفء وهذا الحنان وهذه الرأفة‪ ،‬فيتم‬
‫الوئام واُأللفة والّتصالح والّتسامح‪.‬‬
‫وأصلح ﷺ الحياة االقتصادية‪ ،‬فقد ُو لد في أوضاع اقتصادية ُم ترّدية‪ ،‬تتكّدس فيها الّثروات‬
‫عند عدد محدود‪ ،‬وفئة معّينة من الّناس‪ ،‬حين تقبع األكثرية التي ال تملك شيًئا في قاع الفقر فيزداد‬
‫الفقير فقًر ا‪ ،‬والغنّي غًنى‪.‬‬
‫وكان الّر جل في الجاهلّية فوضوًيا عشوائًيا تحكمه نزواته‪ ،‬ويقوده هواه‪ ،‬ال يهّم ه إاّل أن‬
‫يكسب المال من أي وجه‪ ،‬سواًء كان بالّر با‪ ،‬أو الغش‪ ،‬أو الّسرقة‪ ،‬أو الّظلم‪ ،‬أو الجور‪ ،‬أو االحتكار‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من األساليب الُم حرمة‪ ،‬فجاء ﷺ بنظام ُم سّدد في كسب المال وإنفاقه بآيات ونصوص‬
‫وأحكام ُم حددة في شريعته الُم طهرة‪.‬‬
‫ولم يأمر الّناس باالنقطاع للعبادة فقط‪ ،‬بل حّثهم ﷺ على الكسب والّتجارة‪ ،‬وأعطى اإلنسان‬
‫الحرّية الكاملة في الكسب الحالل من خالل البيع والّشراء‪ ،‬واإلجارة والُم شاركة والُم ضاربة إلى‬
‫غير ذلك من صور الكسب الحالل الُم باح‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬فِإَذا ُقِض َيِت الَّص َالُة َفاْنَتِش ُر وا ِفي‬
‫اَألْر ِض َو اْبَتُغوا ِم ْن َفْض ِل ِهَّللا} [الجمعة‪ :‬اآلية ‪.]10‬‬
‫وأتى الحث في جمع المال الحالل بأسلوب ُم حّبب‪ ،‬فعن أبي سعيد (رضي هللا عنه) أّنه ﷺ‬
‫قال‪« :‬إَّن هذا الماَل َخ ِض َر ٌة ُح ْلَو ٌة‪ ،‬فَم ن أَخ َذُه بَحِّقِه ‪ ،‬وَو َض َعُه في َحِّقِه ‪َ ،‬فِنْعَم الَمُعوَنُة ُهَو ‪ ،‬وَم ن أَخ َذُه‬
‫بغيِر َحِّقِه ؛ كاَن كاَّلِذي َيْأُكُل وال َيْش َبُع » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فالمال نعم الُم ساعد على شؤون الحياة من طاعة هللا‪ ،‬وبّر الوالدين‪ ،‬وصلة الّر حم‪ ،‬وإكرام‬
‫الّضيف‪ ،‬وإغاثة المنكوب‪ ،‬وكفالة اليتيم‪ ،‬وعمارة المساجد‪ ،‬واإلنفاق في وجوه الخير‪.‬‬
‫رّبى ﷺ اإلنسان على كرامة الّنفس‪ ،‬وترّفعها عن ذلة المسألة‪ ،‬وأن خيرالّطعام والّشراب ما‬
‫يحصل عليه اإلنسان من كسبه وسعيه وجّده واجتهاده فقال‪« :‬ما أَكَل أَح ٌد َطعاًم ا َقُّط؛ َخ ْيًر ا ِم ن أْن‬
‫َيْأُكَل ِم ن َعَم ِل َيِدِه ‪ ،‬وإَّن َنِبَّي هللا داُو َد عليه الَّسالُم ؛ كاَن َيْأُكُل من َعَم ِل َيِدهِ» [رواه البخاري]‪ ،‬وَقال‬
‫ﷺ‪« :‬الَيُد الُعْلَيا َخ ْيٌر ِم َن الَيِد الُّسْفلى» [ُم تفق عليه]‪َ ،‬فالَيُد الُعْلَيا‪ :‬هي الُم ْنِفَقُة‪ ،‬والُّسْفلى‪ :‬هي الَّساِئَلُة‪.‬‬
‫ودعا ﷺ إلى الّنزول إلى ميدان العمل ليكّف اإلنسان وجهه بكسبه الحالل عن ذّل المسألة‪،‬‬
‫ويستعّف عّم ا في أيدي الّناس‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ{ :‬هَو اَّلِذي َج َعَل َلُكُم اَألْر َض َذُلوًال َفاْم ُشوا ِفي َم َناِك ِبَه ا‬
‫َو ُكُلوا ِم ْن ِر ْز ِقِه َو ِإَلْيِه الُّنُشوُر } [الملك‪ :‬اآلية ‪.]15‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬أَلْن َيْأُخ َذ أَح ُدُكْم َحْبَلُه ُثَّم َيْغُدَو َفَيْح َتِط َب ‪َ ،‬فيِبيَع ‪َ ،‬فيْأُكَل وَيَتَص َّد َق ؛ َخ ْيٌر له ِم ن َأْن‬
‫َيْس َأَل الَّناَس » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقد ُو جد من أصحابه ﷺ أغنياء وأثرياء كبار‪ ،‬رّباهم على الكسب الحالل‪ ،‬واإلنفاق الحالل‬
‫حتى صاروا من أثرياء العالم في زمانهم‪ ،‬كعثمان بن عّفان‪ ،‬وعبدالرحمن بن عوف‪ ،‬والزبير بن‬
‫العّو ام‪ ،‬وطلحة بن عبيد هللا‪ ،‬وغيرهم مّم ا يتفق مع سياسة اإلسالم المالية في صيانة المال وكسبه‬
‫وإنفاقه في الوجوه الُم باحة‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الّظلم والغش واالحتيال في كسب المال واالستيالء على أموال الّناس بالباطل‬
‫كما قال تعالى‪َ{ :‬و َال َتْأُكُلوا َأْم َو اَلُكْم َبْيَنُكْم ِباْلَباِط ِل } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]188‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ن َغَّشنا فليَس ِم ّنا» [رواه مسلم]‪ ،‬وقال ﷺ‪َ« :‬ثاَل َثٌة ال ُيَكِّلُم ُه ُم هللا َيْو َم اْلِقَياَم ِة ‪،‬‬
‫َو ال َيْنُظُر ِإَلْيِه ْم ‪ ،‬وذكر منهم‪َ :‬ر ُجٌل َح َلَف على ِس ْلَعٍة لَقْد ُأْع ِط ي بها أْك َثَر مّم ا أْعطى وهو كاِذ ٌب »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وأمر ﷺ بالّسهولة والّسماحة في الُم عامالت التجارية فقال‪َ« :‬ر ِح َم هللا َر ُج اًل َسْم ًح ا إذا باَع‪،‬‬
‫وإذا اْش َتَر ى‪ ،‬وإذا اْقَتضى» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الّنجش‪ ،‬والغرر‪ ،‬والبيعتين في بيعة‪ ،‬وتلقي الّر كبان‪ ،‬وصور البيع الّر بوي‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪َ{ :‬و َأَح َّل ُهَّللا اْلَبْيَع َو َح َّر َم الِّر َبا} [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]275‬‬
‫وحّر م االحتكار؛ ألّن فيه تحكًم ا في أقوات الّناس وإدخال الّضرر عليهم في غالء األثمان‬
‫فقال‪« :‬ال َيْح َتِك ُر إاّل خاِط ٌئ » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وحّر م ﷺ الّر شوة‪ ،‬واستغالل الّنفوذ‪ ،‬وأقام حّد الّسرقة على جميع من قارفها كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َو الَّساِر ُق َو الَّساِر َقُة َفاْقَطُعوا َأيِد َيُه َم ا َج َز اًء ِبَم ا َكَسَبا َنَكاًال ِم َن ِهَّللا َو ُهَّللا َعِز يٌز َح ِك يٌم } [المائدة‪ :‬اآلية‬
‫‪.]38‬‬
‫وأرشدنا ﷺ أّن صاحب الكسب الحرام ال ُيجاب دعاؤه‪ ،‬كما أخبر ﷺ حينما ذكر الرجل ُيِط يُل‬
‫الَّسَفَر أْش َعَث أْغ َبَر َيُم ُّد َيَد ْيِه إلى الَّسماِء ‪ :‬يا َر ِّب‪ ،‬يا َر ِّب‪ ،‬وَم ْط َعُم ُه َح راٌم ‪ ،‬وَم ْش َر ُبُه َح راٌم ‪ ،‬وَم ْلَبُسُه‬
‫َح راٌم ‪ ،‬وُغِذ َي بالَح راِم ‪ ،‬فأَّنى ُيْس َتجاُب لذلَك ؟ [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الغصب والّظلم فقال‪َ« :‬م ِن اْقَتَطع ِشْبًر ا ِم َن األْر ِض ُظْلًم ا‪َ ،‬طَّو َقُه هللا ِإّياُه َيوَم‬
‫الِقياَم ِة ِم ن َسْبِع َأَر ِض يَن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وحارب ﷺ اإلسراف والبذخ كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن اْلُم َبِّذ ِر يَن َكاُنوا ِإْخ َو اَن الَّشْياِط يِن }‬
‫[اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]27‬‬
‫ونهى ﷺ عن كنز الّذهب والفضة إاّل إذا أخرجت زكاته‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و اَّلِذيَن َيْك ِنُز وَن الَّذَهَب‬
‫َو اْلِفَّض َة َو َال ُيْنِفُقوَنَه ا ِفي َسِبيِل ِهَّللا َفَبِّش ْر ُهْم ِبَعَذاٍب َأِليٍم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]34‬‬
‫لقد أصلح ﷺ الّنظام االقتصادي إصالًح ا شاماًل ‪ ،‬وحّقق العدالة االجتماعية بين الجميع‪ ،‬وقّدم‬
‫يد العون واإلحسان إلى الفقراء والُم حتاجين‪ ،‬وفرض الّز كاة‪ ،‬وحّث على الّص دقات كما قال تعالى‪:‬‬
‫{اَّلِذيَن ُيْنِفُقوَن َأْم َو اَلُهْم ِفي َسِبيِل ِهَّللا ُثَّم َال ُيْتِبُعوَن َم ا َأْنَفُقوا َم ًّنا َو َال َأذًى َلُهْم َأْج ُر ُهْم ِع ْنَد َر ِّبِه ْم َو َال‬
‫َخ ْو ٌف َعَلْيِه ْم َو َال ُهْم َيْح َز ُنوَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]262‬‬
‫وصّح عنه ﷺ أّنه قال‪« :‬ما ِم ن َيوٍم ُيْص ِبُح الِع باُد ِفيِه ‪ ،‬إاَّل َم َلكاِن َيْنِز الِن ‪ ،‬فَيقوُل أَح ُدُهما‪:‬‬
‫اللهَّم أْع ِط ُم ْنِفًقا َخَلًفا‪ ،‬ويقوُل اآلَخ ُر ‪ :‬اللهَّم أْع ِط ُمْم ِسًكا َتَلًفا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وجعل ﷺ الّتعامالت تقوم على الكسب الحالل والّدخل الّطيب؛ ألن هللا طّيب ال يقبل إاّل طّيًبا‪.‬‬
‫وحفظ أموال الّناس‪ ،‬وأقام البيع والّشراء واألخذ والعطاء على مبدأ الّتراضي واإلنصاف بين‬
‫الجميع بحكمة إلهّية ُم قّدسة‪ ،‬وسيرة نبوّية ُم طهرة‪.‬‬
‫وأصلح ﷺ الّنظام اإلداري والمجتمعي‪ ،‬فكان قبل بعثته مجتمُع مكة ُم جتمًعا فاسًدا تديره‬
‫عصابة وثنّية مارقة ال عدل عندها‪ ،‬وال ُشورى‪ ،‬وال مساواة‪ ،‬يحكمون باألهواء واالستبداد ونزغات‬
‫الّشيطان‪ ،‬وكان العرب في الجزيرة قبائل ُم تقاتلة ُم تناحرة يديرون حياتهم بال نظام وال دستور وال‬
‫منهج‪ ،‬وتقوم معيشتهم على الّسلب والّنهب‪ ،‬يتقاتلون قتااًل قبلًّيا عصبًّيا دموًّيا جاهلًّيا ظالًم ا المقصود‬
‫منه االستيالء على حقوق اآلخرين‪ ،‬وسفك دمائهم‪ ،‬وهتك أعراضهم‪ ،‬وسلب ُم متلكاتهم‪ ،‬ونهب‬
‫أموالهم‪.‬‬
‫أّم ا العالم في عهده ﷺ فكان ُم قّسًم ا بين إمبراطوريتين‪ :‬فارسية‪ ،‬ورومانية‪ ،‬تقومان على‬
‫الّتوُّسع واالستيالء والبطش والجبروت‪ ،‬فبعث هللا نبّيه الُم صطفى على حين فترة من الّر سل‪ ،‬وغفلة‬
‫من الّناس‪ ،‬وبؤٍس في الحياة‪ ،‬وقسوة في القلوب‪ ،‬وجفاف في األرواح‪ ،‬فأعلن ﷺ من مكة للعالمين‪:‬‬
‫«يا أُّيها الّناُس ‪ُ ،‬قولوا‪ :‬ال إلَه إاّل ُهللا ُتفِلحوا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫ثم بدأ ﷺ يبني دولته بإدارة رشيدة تقوم على ُأسس العدل‪ ،‬والّشورى‪ ،‬والحرّية‪ ،‬والمساواة‪،‬‬
‫واإلنصاف‪ ،‬واحترام حقوق اإلنسان‪ ،‬وحفظ الّدماء واألموال واألعراض‪ ،‬وصيانة حياة البشر‪،‬‬
‫واستقالل القضاء‪ ،‬ومراعاة أمن الّناس وسعادتهم‪ ،‬ودفع كل ما يؤذيهم ويضر بمصالحهم‪ ،‬حتى‬
‫وصل بّر ه وخيره إلى الكبير والّص غير‪ ،‬والّر جل والمرأة‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬فنّظم شؤون ُأّم ته اإلدارية‬
‫حتى قام المجتمع على أسس ونصوص شرعّية ثابتة يهتدي بها العلماء والقضاة‪ُ ،‬م حددة في كل باب‪،‬‬
‫وفي كل مسألة‪ ،‬وفي كل شأن من شؤون الحياة‪.‬‬
‫وبعد أن كان األعراب تحكمهم شريعة الغاب ال ُسّنة وال كتاب‪ ،‬حّو لهم إمام الُم صلحين ﷺ‬
‫إلى ُبناة حضارة‪ ،‬وصّناع مدنية‪ ،‬ونجوم إبداع‪ ،‬ومشاعل علم‪ ،‬وُر سل سالم إلى كّل أنحاء العالم‪،‬‬
‫ولك أن تفتح سجالت الُّسنة‪ ،‬ودواوين الحديث الّنبوي لتجد أّنه ﷺ ما ترك شاردة وال واردة في إدارة‬
‫الدولة إاّل وقد سّن فيها ُح كًم ا‪ ،‬وفرض فريضًة‪ ،‬وشرع شريعًة من عند هللا تعالى‪ ،‬فأشرق دينه ﷺ‬
‫على األرض بالّص الح واإلصالح‪ ،‬والُيمن والفالح‪ ،‬والبركة والّنجاح‪ ،‬وانتشرت رسالته‪ ،‬ونعمت‬
‫بظاللها الوارفة الكرة األرضية‪ ،‬من الّص ين شرًقا إلى فرنسا غرًبا‪ ،‬ومن القوقاز شمااًل إلى أصقاع‬
‫أفريقيا جنوًبا‪.‬‬
‫وأصلح ﷺ البيئة فدعا بشريعته لعمارة األرض واستثمارها‪ ،‬واستصالحها وحفظها من كل‬
‫ما ُيفسدها من أذى أو إتالف أو تخريب‪ ،‬وأتى بأحكام للّطريق والمجالس العامة واألنهار واآلبار‬
‫والحدائق والمزارع والبساتين‪.‬‬
‫كل ذلك في شريعة ُم فّص لة ُم حّددة بأدلة ونصوص شرعية ثابتة واضحة‪ ،‬ولم تكن ُتعرف‬
‫هذه الحياة البيئية قبل مبعثه ﷺ في جزيرة العرب‪ ،‬بل كانوا رعاة إبل وبقر وغنم يعيشون الفوضوّية‬
‫والعشوائية دون رقابة إلله‪ ،‬وال تحاكم إلى شرٍع‪ ،‬وال اعتراف بمبدأ‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َال ُتْفِسُدوا ِفي‬
‫اَألْر ِض َبْعَد ِإْص َالِح َه ا َو اْدُعوُه َخ ْو ًفا َو َطَم ًعا ِإَّن‬
‫‪ ،]56‬وقال سبحانه‪َ{ :‬و َال َتْبَخ ُسوا الَّناَس َأْش َياَء ُهْم‬
‫َر ْح َم َة ِهَّللا َقِر يٌب ِم َن اْلُم ْح ِسِنيَن } [األعراف‪ :‬اآلية‬
‫َو َال ُتْفِسُدوا ِفي اَألْر ِض َبْعَد ِإْص َالِح َه ا َذِلُكْم َخْيٌر َلُكْم‬
‫ِإْن ُكْنُتْم ُم ْؤ ِم ِنيَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]85‬‬
‫وَعْن َأِبي ُهَر ْيَر َة (رضي هللا عنه)‪َ ،‬أَّن َر ُسوَل هللا ﷺ َقاَل ‪َ« :‬بْيَنَم ا َر ُجٌل َيْم ِشي ِبَطِر يٍق َو َج َد‬
‫ُغْص َن َشْو ٍك َعَلى الَّطِر يِق َفَأَّخ َر ُه‪َ ،‬فَشَكَر هللا َلُه َفَغَفَر َلُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وأصلح ﷺ الحياة الصحّية‪ ،‬وحّث على اهتمام اإلنسان بصّح ته فقال‪«:‬اْلُم ْؤ ِم ُن الَقِو ُّي َخ ْيٌر‬
‫َو َأَح ُّب إلى هللا ِم َن الُم ْؤ ِم ِن الَّض ِع يِف ‪ ،‬وفي ُكٍّل َخ ْيٌر ‪ .‬اْح ِر ْص على ما َيْنَفُعَك ‪ ،‬واْس َتِع ْن باهلل َو ال َتْعَج ْز »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫والّشريعة الُم حمدية مليئة باإلرشادات العاّم ة‪ ،‬والقواعد الُكّلية في الّص حة والّطب ما صار‬
‫منها مفاتيَح لألطباء وعلماء الّنفس‪ ،‬حتى أّلف ابن القيم مجلًدا كاماًل في الّطب الّنبوي‪ ،‬وكذلك‬
‫الّسيوطي وغيرهما‪ ،‬فتجده ﷺ تكّلم عن نوع الّطعام‪ ،‬وطريقة األكل‪ ،‬وما هو الغذاء الّص حي‪ ،‬وما هو‬
‫الّضار‪ ،‬بشيء لم تكن تعرفه العرب في جاهليتها‪ ،‬بل كانوا يتناولون الّضار والخبيث من الُم سكر‬
‫والميتة وغير ذلك‪ ،‬ولهذا قال رّب العالمين عنه ﷺ‪َ{ :‬و ُيِح ُّل َلُه ُم الِّط ِّيَباِت َو ُيَحِّر ُم َعَلْيِهُم اْلَخ َباِئَث }‬
‫[األعراف‪ :‬اآلية ‪ ،]157‬وقال تعالى‪ُ{ :‬كُلوا ِم َن الَّطِّيَباِت َو اْع َم ُلوا َص اِلًح ا ِإِّني ِبَم ا َتْعَم ُلوَن َعِليٌم }‬
‫[المؤمنون‪ :‬اآلية ‪ .]51‬ويقول ﷺ‪« :‬إَّن هللا َطِّيٌب ال َيْقَبُل إاّل َطِّيًبا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقّدم ﷺ وصايا صحية عديدة منها قوله‪« :‬إذا َشِر َب أَح ُدُكْم فال َيَتَنَّفْس في اإلناِء » [ُم تفق‬
‫عليه]‪ ،‬وقوله‪« :‬وِفَّر من اْلَم ْج ُذوِم كما َتِفُّر من األسد» [رواه البخاري ُم عّلًقا]‪ ،‬وقوله أيًض ا‪« :‬ال‬
‫ُيوِر َد َّن ُمْم ِر ٌض على ُمِص ٍّح» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬إَذا سِم ْعُتْم بالَّطاُعوِن ِبَأْر ٍض َفال َتْد ُخ ُلوَها‪َ ،‬و إَذا وَقَع ِبَأْر ٍض ‪َ ،‬و َأْنُتْم بَه ا‪َ ،‬فال‬
‫َتْخ ُر ُج وا ِم ْنَه ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ونجد اآلن جهابذة الّطب وُعلماءه في شتى بقاع األرض ُيطّبقون هذا الحديث الّنبوي الّشريف‬
‫فيما ُيعرف في العصر الحديث بـ «الحجر الصحي»‪ ،‬لُم واجهة الفيروسات القاتلة واألمراض‬
‫الخطيرة التي تنتشر وتتفشى بين الّناس‪.‬‬
‫لقد صلحت الحياة كلها بمبعثه ﷺ حيث أنقذ الناس‪ ،‬وخّلصهم من حياة الّشرك والوثنّية إلى‬
‫حياة التوحيد‪ ،‬وهّذب أخالقهم بعدما كانوا في غابات الُفحش‪ ،‬ومراتع الُم نكر‪ ،‬ومالعب الّسلب‬
‫والّنهب‪ ،‬وميادين االقتتال واالنتقام‪ ،‬فنقلهم نقلة نوعّية إلى حياة البّر والّص لة‪ ،‬والّر حمة والّتسامح‪،‬‬
‫واألمن والّسكينة‪ ،‬والّتآلف واإلخاء‪ ،‬وحّسن من آدابهم‪ ،‬فنقلهم من الفظاظة والغلظة والقسوة والجفاء‬
‫إلى الّلين والحلم والّر فق والّتواضع‪:‬‬
‫من وحي رّبك قد غسلت قلوَبنا‬
‫ومألهتا ابلبّينات يقيَنا‬
‫هّذ بت أنفسنا وُش دَت صُروحنا‬
‫وبعثت جياًل صادًقا وأميَنا‬
‫ّمجلت حىت األرض يف أبصاراَن‬
‫ونثرت ُدّر املكُرمات مثيَنا‬
‫يف كل ربع من صالحك قصٌة‬
‫ُنسقى اهُلدى من راحتيك معيَنا‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ِمَج ْياًل‬
‫َم ن مّنا ال يحلم أو يتمَّنى أن يلقى خير الخلق‪ ،‬رسول الهدى‪ ،‬نبي هللا المختار‪ ،‬وإمام األئمة‬
‫األبرار‪ ،‬محمد بن عبدهللا ﷺ؟!‬
‫إّن لقاءه ورؤيته أسمى أمنيات كل مؤمن ومؤمنة –بعد رؤية هللا‪ ،-‬كيف ال!؟‪ ..‬وهو الذي‬
‫عّلم ألسنتنا الّذكر‪ ،‬وقلوبنا الّشكر‪ ،‬وأجسادنا الّص بر‪.‬‬
‫جاءنا بالّر سالة‪ ،‬وعّلمنا العدالة‪ ،‬وأوضح لنا الّداللة‪ ،‬وكشف عّنا الّضاللة‪ ،‬أخرجنا ُهللا به من‬
‫الّظلمات إلى الّنور‪ ،‬ومن الَح زن إلى الّسرور‪.‬‬
‫إذا ُذكر الجمال ُذكر محمٌد‪ ،‬وإذا ُذكر البهاء ُذكر محمٌد‪ ،‬وإذا ُذكر الّص فاء ُذكر محمٌد‪ ،‬وإذا‬
‫ُذكر الّنقاء ُذكر محمٌد‪.‬‬
‫إّن الذي خلَق الجمال ُسبحانه هو الذي أرسله ﷺ وأعطاه من الجمال أوفاه‪ ،‬ومن الُح سن‬
‫أعاله‪ ،‬ومن البهاء ُم نتهاه‪ ،‬فهو الّسراج المنير كما قال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّنِبُّي ِإَّنا َأْر َسْلَناَك َشاِه ًدا‬
‫َو ُمَبِّش ًر ا َو َنِذيًر ا * َو َداِع ًيا ِإَلى ِهَّللا ِبِإْذِنِه َو ِس َر اًج ا ُم ِنيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]46 - 45‬‬
‫لقد جّم ل هللا َخلقه ﷺ‪ ،‬وأحسن تصويره‪ ،‬وكّم ل منه الّسيرة والّسريرة‪ ،‬فكان جماُله عنوان‬
‫كتاِب قَيمه الّشريفة‪ ،‬وبوابة قصر محاسنه الُم نيفة‪ ،‬يمأل العين جالاًل والّنفس محّبة‪ ،‬والقلب رحمة‪،‬‬
‫والمجلس هيبة‪ ،‬والكون ضياًء ‪ ،‬فهو أقرب الّناس إلى الّنفوس‪ ،‬وأحّبهم إلى األرواح‪ ،‬وأجملهم وجًه ا‪،‬‬
‫وأبهاهم محًّيا‪ ،‬وأزهرهم جبيًنا‪ ،‬وأنورهم طلعة‪ ،‬وأزينهم لباًسا‪ ،‬وأطيبهم عطًر ا‪ ،‬وأحسنهم مبسًم ا‪،‬‬
‫وأعظمهم هيبة‪ ،‬وأسعدهم مجلًسا‪ ،‬وأكثرهم بركة‪ ،‬وأجودهم يًدا‪ ،‬وأصدقهم قواًل ‪ ،‬وألينهم كًّفا‪ ،‬يقول‬
‫ُّط‬
‫أنس (رضي هللا عنه)‪«:‬ما َم سْس ُت َح ِر يًر ا واَل ِديَباًج ا أْلَيَن ِم ن َكِّف النبِّي ﷺ‪ ،‬وَشمْم ُت ِر يًح ا َقُّط أْو‬
‫َعْر ًفا َقُّط أْط َيَب ِم ن ِر يِح أْو َعْر ِف النبِّي ﷺ» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫َمِس ْس ُت بكِّف ي كَّف ه أْبتِغي الِغَنا‬
‫وْمل أْد ِر أّن اُجلود ِم ْن كِّف ه جَي ِري‬
‫فصـَرُت إَذا َص افحُت شخًص ا َأَص اَبُه‬
‫ِم ن الّطيِب ّمما قْد أصبُت من الِعطِر‬
‫وكان ﷺ أجّل الّناس وقاًر ا فال تراه إاّل عفيف الّنظرة‪ ،‬كريم الجناب‪ ،‬يصّد عن الّر يبة‪،‬‬
‫ويتباعد عن العيب‪ ،‬ويذّب عن نفسه كّل ما َيشين‪ ،‬ويدفع عن عرضه كّل ما ُيريب‪َ ،‬يندى جبيُنه‬
‫الطاهر‪ ،‬ويحّم ر خّده الّز اهر عندما ُتخدش القيم‪ ،‬وُتنال الُح رمات‪ ،‬وُيتعّر ض لألعراض؛ فعن أبي‬
‫سعيد الخدري (رضي هللا عنه) قال‪« :‬كاَن َر سوُل هللا ﷺ َأَشَّد َحَياًء ِم َن الَعْذَر اِء ِفي ِخ ْد ِر َها» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وكانت على وجهه ﷺ أنوار الّر سالة وأضواء الّنبوة‪ ،‬وِس مة القبول والجالل‪ ،‬والسؤدد‬
‫والكمال‪ ،‬والعظمة والجمال‪ ،‬بسيط في عظمته‪ ،‬سهل في هيبته‪ ،‬من رآه أحّبه‪ ،‬ومن خالطه ألفه‪ ،‬ومن‬
‫استمع إليه صّدقه؛ ألّنه جمع ﷺ محاسن الَخلق‪ ،‬ومكارم الُخ ُلق‪ ،‬أسر بجماله قلب كل من عامله‪،‬‬
‫وجذب بُخ ُلقه كّل من داخله‪.‬‬
‫كان رائق الِبْش ر كثير الّتبّسم في وجوه الّناس‪ ،‬كما أخبر عبدهللا بن الحارث (رضي هللا عنه)‬
‫فقال‪« :‬ما رأيُت أحًدا أكثَر َتَبُّسًم ا من رسوِل هللا ﷺ» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فإذا نظرَت إلى وجهه الّشريف ﷺ وجدَت البشاشة والّسماحة‪ ،‬والبهاء والجمال‪ ،‬والوقار‬
‫والهيبة‪ ،‬فهو أجمل من الّشمس في ُض حاَها‪ ،‬وأبهى من القمر إذا تالها‪ ،‬قد جمع ﷺ بين الّنور‬
‫والبهاء‪ ،‬واإلشراق والّص فاء‪ ،‬والجمال والّنقاء‪ ،‬فعن جابر بن سمرة (رضي هللا عنه) أّن رجاًل قال‬
‫له‪َ« :‬و ْج ُه ُه ﷺ ِم ْثُل الَّسْيِف ؟ قاَل ‪ :‬ال‪َ ،‬بْل كاَن ِم ْثَل الَّشْم ِس واْلَقَمِر ‪َ ،‬و كاَن ُم ْس َتِديًر ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن كعب بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪« :‬كاَن َر ُسوُل هللا ﷺ‪ ،‬إَذا ُسَّر اْس َتَناَر َو ْج ُه ُه‪َ ،‬كأَّن‬
‫َو ْج َه ُه ِقْط َعُة َقَمٍر » [ُم تفق عليه]‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫وضياُء وجٍه لو أتّمله اْم رٌؤ‬
‫َص اِد ي اَجلوانِح الرَت َو ى ِم ن َماِئه‬
‫ومن أجمل ما جاء في وصفه ﷺ قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(رضي هللا‬
‫عنه)‪«:‬كاَن رسوُل هللا ﷺ أبيَض اللوِن ‪ُ ،‬م ْش َر ًبا ُح ْم َر ًة‪َ ،‬أْدَعَج العيَنْيِن ‪َ ،‬سْبَط الشعِر (أْي ‪ :‬ناعٌم ال‬
‫ُج عودَة فيِه )‪َ ،‬كَّث اللحَيِة ‪ ،‬ذا َو ْفَر ٍة‪ ،‬دقيَق اْلَم ْس ُر َبِة ‪ ،‬كأَّن ُعُنَقُه إبريُق ِفَّض ٍة‪ ،‬مْن َلَّبِتِه إلى ُسَّر ِتِه َشْعٌر‬
‫َيْج ِر ي كالقضيِب‪ ،‬ليَس في َبْط ِنِه وال َص ْد ِر ِه َشْعٌر غيُر ُه‪َ ،‬شْثُن الكَّفْيِن والقَد َم ْيِن ‪ ،‬إذا َم َشى كأَّنما‬
‫َيْنَح ُّط مْن َص َبٍب‪ ،‬وإذا َم َشى كأَّنما َيْنَقِلُع مْن َص ْخ ٍر ‪ ،‬إذا اْلَتَفَت اْلَتَفَت َج ميًعا‪ ،‬كأَّن َعَر َقُه الُّلْؤ ُلُؤ‪،‬‬
‫َو َلِر يُح َعَر ِقِه َأْط َيُب مْن ريِح اْلِم ْسِك اَألْذَفِر ‪ ،‬ليَس بالطويِل وال بالقصيِر ‪ ،‬وال الفاجِر وال اللئيِم ‪ ،‬لْم َأَر‬
‫َقْبَلُه وال بعَد ُه ِم ْثَلُه» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وأّم ا لباسه فكان َيحرُص ﷺ أن يلبس ما ُيزّينه وُيجّم له أمام الناس من غير إسراف وال‬
‫مخيلة‪ ،‬فلم يكن يتكّلف في الّلباس فوق طاقته‪ ،‬مثل لباس الُم ترفين‪ ،‬وأهل البذخ الُم سرفين‪ ،‬ولم يقصد‬
‫لباس أهل الّز هد الُم ظلِم الُم تصّنعين‪ ،‬وال أهل الّتكّلف من الُم رائين‪ ،‬فجمع لباسه بين الجمال والجالل‪،‬‬
‫والّتوّسط واالعتدال‪ ،‬والّتمام والكمال‪.‬‬
‫فكان ﷺ يلبس الجميل الطّيب الساتر‪ ،‬الذي يريح النفس‪ ،‬وينفع الجسم‪ ،‬وُيبهج العين‪ ،‬وُيظهر‬
‫نعمة هللا عليه‪ ،‬كما ُعرف عنه في األعياد والمناسبات؛ فعن الَبَر اَء (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬كاَن الَّنِبُّي‬
‫ﷺ َم ْر ُبوًعا‪َ ،‬و َقْد َر َأْيُتُه ِفي ُح َّلٍة َح ْم َر اَء ‪َ ،‬م ا َر َأْيُت َشْيًئا َأْح َسَن ِم ْنُه» [متفق عليه]؛ فكان ﷺ ُيسعد نفس‬
‫من رآه‪ ،‬وَيسُّر خاطر من نظر إليه‪.‬‬
‫ومن جمال هيئته ﷺ أّنه كان يرتدي العمامة البيضاء المعتدلة على رأسه‪ ،‬وهي من تيجان‬
‫العرب‪ ،‬وكان يلبس نعاًل من جلد ِس بِتي جميل ُم نّسق‪.‬‬
‫وحّث ﷺ أصحابه على الّتجّم ل والّتزّين في المظهر والمخبر؛ ألن الّنفس تنجذب إلى الجمال‪،‬‬
‫والعين ُيبهجها الُح سن‪.‬‬
‫وفّر ق ﷺ بين الكبر والُخ يالء‪ ،‬وبين ُح سن المظهر وجمال الهيئة‪ ،‬فقال ﷺ‪«:‬اَل َيْد ُخ ُل اْلَج َّنَة‬
‫َم ْن َكاَن ِفي َقْلِبِه ِم ْثَقاُل َذَّر ٍة ِم ْن ِكْبٍر »‪َ ،‬قاَل َر ُج ٌل ‪ِ :‬إَّن الَّر ُجَل ُيِح ُّب َأْن َيُكوَن َثْو ُبُه َحَسًنا‪َ ،‬و َنْعُلُه‬
‫َحَسَنًة! َقاَل ‪ِ« :‬إَّن َهللا َجِم يٌل ُيِح ُّب اْلَج َم اَل ‪ ،‬اْلِكْبُر َبَطُر اْلَح ِّق ‪َ ،‬و َغْم ُط الَّناِس » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فُسبحان َم ن بالبهاء كّم له‪ ،‬وبالُح سن جّم له‪ ،‬وبالّنبّو ة فّضله ﷺ! قال حّسان بن ثابت (رضي هللا‬
‫عنه) في وصفه ﷺ‪:‬‬
‫وَأحسُن منَك مل تَر قُّط عييِن‬
‫ِم‬
‫ِلِد‬
‫َوأَمْجُل ْنَك ْمَل َت الّنَس اُء‬
‫خلقَت مربًأ مْن كّل عيٍب‬
‫كأّنَك قْد خلقَت َك َم ا تشاُء‬
‫وكان األنقى ﷺ في مخبره‪ ،‬واألحسَن واألعظَم في ُخ ُلقه‪ ،‬حَّسن هللا َخ ْلَقه‪ ،‬وجّم ل ُم حّياه‪،‬‬
‫وأبدع صورته‪ ،‬فجعله أفضل البرّية أخالًقا‪ ،‬وأحسنهم شمائَل ‪ ،‬وأفضلهم مناقَب ؛ ألّنه أحّب الخلق‬
‫إليه‪ ،‬وأكرمهم عليه‪ ،‬وأفضلهم لديه‪.‬‬
‫لقد أكمل ُهللا المحاسَن ِلرسوِلِه ﷺ وأتّم عليه نعمه‪ ،‬واختّص ه بالعناية حتى صار األسوة‬
‫الحسنة في كل فضيلة‪ ،‬فمنه ُيتعلم فنون المكارم‪ ،‬ومن برديه تْنبع صنوف المناقب؛ ألّن من لوازم‬
‫القدوة أن يكون مثالًّيا جامًعا لما تفّر ق في األخيار من سجايا حميدة‪.‬‬
‫فكان عليه الّص الة والّسالم ذاك اإلنسان الُم جتبى من رّبه‪ ،‬الُم صطفى من خالقه‪ ،‬ليقود الّناس‬
‫إلى أحسن األخالق‪ ،‬وأنبل األعمال‪ ،‬وأكرم المذاهِب‪.‬‬
‫جّم ل ُهللا مخبره عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فكانت روحه طاهرة زكّية‪ ،‬وقلبه سليًم ا ُم طمئًنا‪،‬‬
‫وصدره مشروًح ا عامًر ا بذكر هللا‪ ،‬فقد شرح هللا صدره‪ ،‬وأذهب عنه كل غيظ وحسد وحقد وغٍّل ‪،‬‬
‫فصار أرحم الناس قاطبة‪ ،‬وأبّر هم كافة‪ ،‬وأكرمهم جميًعا‪.‬‬
‫عّم ِح لُم ه وكرُم ه وجوُده الحاضر والبادي‪ ،‬والقريب والبعيد‪ ،‬فنفسه أزكى نفس‪ ،‬وباله أشرح‬
‫باٍل ‪ ،‬وضميره أطهر ضمير‪ ،‬وحق له أن يكون كذلك؛ ألّنه الُم رّشح لقيادة العالم‪ ،‬وإصالح الكون‪،‬‬
‫وتقويم البشرّية‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َداِع ًيا ِإَلى ِهَّللا ِبِإْذِنِه َو ِس َر اًج ا ُم ِنيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]46‬‬
‫وقد أعلن ﷺ للبشرّية أّنه أتقى البرّية‪ ،‬واألتقى هو األجمل في كّل ُخ لق وعمل‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إَّن‬
‫أْتقاُكْم وَأْع َلَم ُكْم باهلل َأَنا»[رواه البخاري]‪ ،‬وكان ُيشير ﷺ إلى صدره ويقول‪« :‬الَّتْقوى هاُهنا»‪[.‬رواه‬
‫مسلم]‪ ،‬أي أّنها في الّص در‪ ،‬وهل يظّن عاقل أّن من قال له رّبه‪َ{ :‬أَلْم َنْش َر ْح َلَك َص ْدَر َك } [الشرح‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]1‬أن يبقى بعد هذا القول في ذلك الّص در الّشريف شيء من كدٍر أو كبرياء أو ُخ يالء أو انتقام‬
‫أو ظلم أو عدوان؟! وهللا ال يكون ذلك أبًدا؛ ألّن الذي توّلى هللا شرح صدره‪ ،‬وتنقية روحه‪ ،‬وصفاء‬
‫ضميره‪ ،‬ال يكون إاّل األجمل واألكمل واألجّل ﷺ‪ ،‬فهو الّطاهر الجميل الذي ُغسل قلبه بماء الحكمة‬
‫فصار أبيَض نقًّيا ُم طهًر ا‪ ،‬أزال هللا منه كل ما ُيعّكر الّص فاء‪ ،‬وكل ما ُيفسد الجمال‪ ،‬من حقٍد وحسٍد‪،‬‬
‫وَض غناء وشحناء‪ ،‬وغٍّل وغٍّش ‪« ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) أن َر سوَل هللا ﷺ أتاُه ِج ْبِر يُل‬
‫عليه الّسالم وهو َيْلَعُب مع الِغ ْلماِن ‪ ،‬فأَخ َذُه َفَص َر َعُه‪َ ،‬فَشَّق عن َقْلِبِه ‪ ،‬فاْس َتْخ َر َج الَقْلَب ‪ ،‬فاْس َتْخ َر َج‬
‫منه َعَلَقًة‪ ،‬فقاَل ‪ :‬هذا َح ُّظ الَّشْيطاِن ِم ْنَك ‪ُ ،‬ثَّم َغَسَلُه في َطْس ٍت ِم ن َذَهٍب بماِء َز ْم َز َم ‪ُ ،‬ثَّم َألَم ُه‪ُ ،‬ثَّم‬
‫أعاَد ُه في َم كاِنِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فأجمل قلب في العالم‪ ،‬هو القلب الذي ُم لئ بالحكمة واإليمان‪ ،‬والّص فاء والوفاء‪ ،‬والمحبة‬
‫والّر حمة‪ ،‬والبّر والبركة‪ ،‬والحنان واإلحسان‪ ،‬والتي فاض بها ﷺ على العالم أجمع‪.‬‬
‫ومّم ا يدلك على جمال مخبره ﷺ هذه األخالق الّشريفة الطاهرة الّز كية التي فاضت من‬
‫روحه المباركة‪ ،‬فلو لم يكن أبّر الناس وأتقاهم‪ ،‬وأصفاهم سريرة‪ ،‬وأنقاهم نّية‪ ،‬لما جمع هذه الّسجايا‬
‫المباركة التي أجمع عقالء العالم أّنها لم ُتجمع في غيره عليه الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫وإذا كان هللا قد زّكاه بقوله ُسبحانه‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى ُخ ُلٍق َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪ ،]4‬فمعنى ذلك أّن‬
‫روحه أجمل األرواح‪ ،‬وأّن قلبه أنقى القلوب‪ ،‬وهل الجمال الّر وحي إاّل ما يحمله بأبي هو وأّم ي في‬
‫روحه؟!‬
‫أليس من الجمال عفوه ﷺ عن أعدائه وقد تآمروا على قتله والفتك به‪ ،‬وتفننوا في إيذائه؟!‬
‫أليس من الجمال كرمه ﷺ الذي فاض على الّناس أجمعين‪ ،‬القريب والبعيد والّص ديق‬
‫والعدّو ؟‬
‫أليس من الجمال عدله ﷺ الذي أقامه ميزاًنا في الحياة؟!‬
‫أليس من الجمال رحمته ﷺ التي عّم ت حّتى وصلت إلى البهائم والعجماوات؟!‬
‫إّن األخالق واألفعال تدل على ما ينطوي عليه القلب‪ ،‬إْن خيًر ا فخير‪ ،‬وإْن شًّر ا فشر‪ ،‬فقل لي‬
‫باهلل‪ :‬أليست هذه الّص فات الّنبيلة والمعاني الجميلة التي اجتمعت فيه ﷺ أعظم برهان على جمال‬
‫مخبره‪ ،‬ودليل ساطع أّن روحه ﷺ أنقى من قطر الّسماء‪ ،‬وأصفى من شعاع الّشمس في الظهيرة؟!‬
‫اَي َمْن أانرْت بنوِر هللا سريُته‬
‫ِم ِط‬
‫َفَطاَب ن يِب َذاَك القاُع واألكُم‬
‫ِم‬
‫َقلٌب ن الّرب ْلو َفاَض ت َمَساحُتُه‬
‫ِّش‬
‫ِب‬
‫َعَلى الربّية َعَّم ال شـُر وال يُم‬
‫ِم ِغ ِم‬
‫زّك اَك رُّبك ن ٍل و ْن َح‬
‫سٍد‬
‫فأنَت أْطهُر َمْن َس ارْت ِبه َقدُم‬
‫َنْف سِـي الِف َد اُء ِلوجٍه زاَنه ألٌق‬
‫ِم‬
‫ِه‬
‫ِة‬
‫ن رمح هللا في اَملْج ُد والَّش مُم‬
‫وأّم ا جمال َطهارته ﷺ فإَّنه الُّطهر كّله‪ ،‬أوله وآخره‪ ،‬ألّن نبّو ته ُبنيت على الّطهر في المعنى‬
‫والمبنى‪ ،‬والحياة والموت‪ ،‬والدنيا واآلخرة‪ ،‬وهو الّطاهر الُم َّطهر‪ ،‬والطّيب الُم طَّيب‪ ،‬الذي قال‪:‬‬
‫«الَّطُه وُر َشْط ُر اِإْل يَم اِن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ألّن اإليمان اعتقاد في القلب‪ ،‬وطهارة في الظاهر‪ ،‬فصارت الطهارة كالغسل‪ ،‬والوضوء‬
‫نصف الّدين‪ ،‬وهو ﷺ الذي عّلمنا كيف نتوضأ‪ ،‬وكيف نغتسل‪ ،‬وكيف نستبرئ من الّنجاسات‪ ،‬وكيف‬
‫نتخلص من القاذورات‪ ،‬وكيف نبتعد عن القبائح‪ ،‬وكيف ننتهي عن الفواحش‪ ،‬وكيف ُنزّكي أرواحنا‪،‬‬
‫وكيف ُنطّه ر أجسادنا‪ ،‬وكيف ُنقبل على هللا طّيبين‪ ،‬متوضئين‪ ،‬طاهرين‪ُ ،‬م َطّه رين‪.‬‬
‫وإمام الّطيبين والُم تطّه رين هو رسول رّب العالمين وخاتم الّنبيين ﷺ‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا‬
‫ُيِح ُّب الَّتَّو اِبيَن َو ُيِح ُّب اْلُم َتَطِّهِر يَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]222‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ن َتَو َّض َأ فأْح َسَن الُو ُضوَء َخ َر َج ْت َخ طاياُه ِم ن َجَسِدِه ‪ ،‬حّتى َتْخ ُر َج ِم ن َتْح ِت‬
‫َأْظ فاِر ِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬ال َيْقَبُل هللا َص الَة أَح ِدُكْم إذا أْح َد َث حّتى َيَتَو َّض َأ» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وحرصه ﷺ على الّطهارة وتقديس الوحي الُم نّز ل يؤيده قول هللا تعالى‪ِ{ :‬إَّنُه َلُقْر آٌن َكِر يٌم *‬
‫ِفي ِك َتاٍب َم ْك ُنوٍن * َال َيَم ُّسُه ِإَّال اْلُم َطَّهُر وَن } [الواقعة‪ :‬اآلية ‪.]79 - 77‬‬
‫وَتَو َّض َأ عثمان بن عفان (رضي هللا عنه) فأْفَر َغ على َيَدْيِه َثالًثا‪ُ ،‬ثَّم َتَم ْض َم َض واْس َتْنَثَر ‪،‬‬
‫َغَسَل وْج َه ُه َثالًثا‪ُ ،‬ثَّم َغَسَل َيَدُه الُيْم نى إلى الَم ْر ِفِق َثالًثا‪ُ ،‬ثَّم َغَسَل َيَدُه الُيْسرى إلى الَم ْر ِفِق َثالًثا‪،‬‬
‫َم َسَح بَر ْأِسِه ‪ُ ،‬ثَّم َغَسَل ِر ْج َلُه الُيْم نى َثالًثا‪ُ ،‬ثَّم الُيْسرى َثالًثا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ« :‬ر َأْيُت َر سوَل هللا ﷺ َتَو َّض َأ َنْح َو‬
‫ُثَّم‬
‫ُثَّم‬
‫وُضوئِي هذا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ :‬م ن َتَو َّض َأ ُو ُضوئِي هذا‪ُ ،‬ثَّم ُيَصِّلي َر ْك َعَتْيِن ال ُيَحِّد ُث َنْفَسُه ِفيِه ما بشيٍء ؛ إاّل‬
‫ُغِفَر له ما َتَقَّد َم ِم ن َذْنبِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعن عمر بن الخطاب (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪«:‬ما ِم نُكم ِم ن أَح ٍد َيَتَو َّض ُأ فُيْبِلُغ ‪ ،‬أْو‬
‫فُيْس ِبُغ الَو ُضوَء ُثَّم يقوُل ‪ :‬أْش َه ُد أْن ال إَلَه إاّل هللا وأَّن ُم َح َّم ًدا عبُدهللا وَر سوُلُه؛ إاّل ُفِتَح ْت له أْبواُب‬
‫الَج َّنِة الَّثماِنَيُة َيْد ُخ ُل ِم ن أِّيها شاَء » [رواه مسلم]‪ ،‬وزاد الترمذي‪« :‬الَّلهَّم اجَعلني مَن التّو ابيَن ‪،‬‬
‫واجَعلني مَن المتطِّه ريَن »‪.‬‬
‫وعن عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬كاَن َر سوُل هللا ﷺ إذا اْغ َتَسَل َبَد َأ بَيِم يِنِه ‪َ ،‬فَص َّب‬
‫َعَلْيها ِم َن الماِء ‪َ ،‬فَغَسَلها‪ُ ،‬ثَّم َص َّب الماَء على األذى الذي به بَيِم يِنِه ‪ ،‬وَغَسَل عْنه بِشماِلِه ‪ ،‬حّتى إذا‬
‫َفَر َغ ِم ن ذلَك َص َّب على َر ْأِسِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأّم ا نظافته ﷺ فكان إماَم البشرّية في الّنظافة والّنقاء‪ ،‬وُم علم اإلنسانّية في الّر قي والّص فاء‪،‬‬
‫فكان بأبي هو وأمي ﷺ إذا ذهب إلى الخالء يبعد في الّص حراء‪ ،‬وكان يستتر‪ ،‬وينصح أصحابه‬
‫بذلك‪ ،‬وُيعلّم هم طريقة إزالة الّنجاسات‪ ،‬والّتخلص من القاذورات‪ ،‬واالستنجاء واالستجمار‪،‬‬
‫والوضوء والغسل وآداب ذلك‪ ،‬كما جاء عن أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) أّن الّنبي ﷺ‬
‫قال‪َ«:‬عْش ٌر ِم َن الِفْط َر ِة‪َ :‬قُّص الّشاِر ِب‪ ،‬وإْعفاُء الِّلْح َيِة ‪ ،‬والِّسواُك ‪ ،‬واْسِتْنشاُق الماِء ‪ ،‬وَقُّص‬
‫األْظ فاِر ‪ ،‬وَغْسُل الَبراِج ِم ‪ ،‬وَنْتُف اإلِبِط ‪ ،‬وَح ْلُق العاَنِة ‪ ،‬واْنِتقاُص الماِء ‪ .‬قاَل أحد رواة الحديث‪:‬‬
‫وَنِسيُت العاِش َر َة‪ ،‬إاّل أْن َتُكوَن الَم ْض َم َض َة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فهذه العشر نظافة وطهارة‪ ،‬وكّلها ُم سّطرة في ُكتب الُسّنة بتفاصيل موّثقة ألطيب الّطيبين‪،‬‬
‫وأطهر الُم طّه رين‪.‬‬
‫إّن العلماء من بعده ﷺ جعلوا أبواًبا للطهارة‪ ،‬والنظافة‪ ،‬واالستنجاء‪ ،‬واالستجمار‪،‬‬
‫والوضوء‪ ،‬والغسل‪ ،‬والتطّيب‪ ،‬وجميعها قد سّنها وشّر عها ﷺ وعمل بها‪ ،‬ودعا إليها‪ ،‬وقد تفّضل هللا‬
‫على نبّيه ﷺ وعلى أمته بأن طّه ر لهم األرض كما قال ﷺ‪« :‬وُجِع َلْت لي األْر ُض َم ْس ِج ًدا وَطُه وًر ا»‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ُيحّذر ﷺ من كل ما ُيخالف الطيب والّطهر‪ ،‬وينهى عن التلّبس بالّنجاسات‪ ،‬والُقرب من‬
‫القاذورات‪ ،‬والتغّو ط في طريق الّناس أو في ظّلهم أو تحت الّشجر الُم ثمر‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬اَّتُقوا‬
‫الَّلعاَنْين»‪َ ،‬قاُلوا‪ :‬وَم ا الَّلَّعاَناِن يا رسول هللا؟ َقاَل ‪« :‬اَّلِذي َيَتَخ َّلى في َطريِق الَّناِس َأْو في ِظ ِّلِه ْم »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ينهى ﷺ أن يكون اإلنسان أشعث غير ُم نّظم وال ُم رتب وال نظيف‪ ،‬فَعْن َج اِبِر ْبِن َعْبِد‬
‫هللا (رضي هللا عنهما)‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬أَتاَنا َر ُسوُل هللا ﷺ َفَر َأى َر ُج اًل َشِع ًثا َقْد َتَفَّر َق َشْعُر ُه‪َ ،‬فَقاَل ‪َ« :‬أَم ا َكاَن‬
‫َيِج ُد َهَذا َم ا ُيَسِّك ُن ِبِه َشْعَر ُه»‪َ ،‬و َر َأى َر ُج اًل آَخ َر َو َعْلِيِه ِثَياٌب َو ِس َخ ٌة‪َ ،‬فَقاَل ‪َ« :‬أَم ا َكاَن َهَذا َيِج ُد َم اًء‬
‫َيْغِسُل ِبِه َثْو َبُه» [رواه أبو داود]‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫َّرٍأ ِم ُك ِّل ُغِرَّب َض ٍة‬
‫َحْي‬
‫َوُمَب ْن‬
‫ِس ِة‬
‫َو ِإَذا َنَظْر َت ِإىَل َأ َّر َوْج‬
‫ِه ِه‬
‫َو َفَس اِد ُمْر ِض َعٍة َو َداٍء ُمْغِيِل‬
‫َبَرَقْت َك َبْر ِق اْلَعاِرِض اْلُم َتَه ِّلِل‬
‫وماذا يقول القائلون؟ وماذا يصف الواصفون؟ في أطيب الّناس‪ ،‬وأطهرهم‪ ،‬وأجملهم‪،‬‬
‫وأعطرهم‪ ،‬وأنقاهم‪ ،‬وأنظفهم؟! ماذا يقول المادحون فيمن اصطفاه هللا فجعله طّيًبا ُم طّيًبا‪ ،‬حًّيا ومّيًتا‪،‬‬
‫طّيب الّسيرة والّسريرة‪ ،‬جميل الّذات والمعنى‪ُ ،‬م عّطر األنفاس واألغراس؟! أشهد أّن ُكل ما سمعَته‬
‫من مدح لطيٍب أو عطٍر أو ُطهٍر أو مسٍك فإّنما ُيعّد نفحة مّم ا اختص هللا به نبّيه الُم ختار عليه الّص الة‬
‫والّسالم‪.‬‬
‫كان ﷺ طّيب الّر ائحة‪ ،‬زكّي الّشذا‪َ ،‬عرُقه كالجمان‪ ،‬وأنفاسه كالمسك‪ ،‬إذا مّر من طريق‬
‫ُعرف أّنه مّر منها بطيبه ورائحة مسكه‪ ،‬كما روى أبو َيعَلى والبّز ار بَسَنٍد صحيح عن أَنس (رضي‬
‫هللا عنه) قال‪َ« :‬كاَن النبي ﷺ ِإَذا َمَّر ِفي الَّطِر يِق ِم ْن ُطُر ِق اْلَم ِديَنِة ُو ِج َد ِم ْنُه َر اِئَح ُة اْلِم ْسِك ‪َ ،‬قاُلوا‪:‬‬
‫َمَّر َر ُسوُل هللا ﷺ ِفي َهَذا الَّطِر يِق اْلَيْو َم »‪.‬‬
‫ولم تمّس يده الّشريفة يد أحد إاّل وبقي آثار المسك في يد من صافحه ﷺ‪ ،‬كما جاء في حديِث‬
‫وائِل بِن ُحْج ٍر عنَد الطبراِنّي والبيهقّي ‪ ،‬قال‪َ« :‬لَقْد ُكْنُت ُأَصاِفُح َالَّنِبّي ﷺ‪َ ،‬أْو َيَمُّس ِج ْلِدي ِج ْلَد ُه‪،‬‬
‫َفَأَتَعَّر ُقُه ِفي َيَد َّي َبْعَد َثاِلَثٍة َأْط َيَب ِر يًح ا ِم َن اْلِم ْسِك »‪ ،‬وِفي حديِثِه عنَد أحمد‪ ،‬قال‪ُ« :‬أِتي الَّنِبُّي ﷺ ِبَد ْلٍو‬
‫ِم ْن َم اٍء َفَشِر َب ِم ْنُه‪ُ ،‬ثَّم َم َّج ِفي الَّد ْلِو ‪ُ ،‬ثَّم َص َّب ِفي اْلِبْئِر ‪َ ،‬أْو َشِر َب ِم َن الَّد ْلِو ‪ُ ،‬ثَّم َم َّج ِفي اْلِبْئِر ‪َ ،‬فَفاَح‬
‫ِم ْنُه ِم ْثُل ِر يِح اْلِم ْسِك »‪.‬‬
‫وقد كان له ﷺ وعاء للمسك يتطّيب منه‪ ،‬ويتعاهد به جسمه الّشريف وثيابه ﷺ‪ ،‬فعن أنس بن‬
‫مالك (رضي هللا عنه) قال‪« :‬كانت للَّنبِّي ﷺ ُسَّكٌة يتطَّيُب مْنها» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكاَن عرُقُه إذا َر َشَح من جَسِده الّشريف كاللؤلِؤ ِفي البياِض والّنقاء‪ ،‬وكان ريُح عرِقِه أطيُب‬
‫ِم َن المسك‪ ،‬فكانت أم ُسَليم (رضي هللا عنها) َتجمُعُه في قارورٍة وتجعُلُه في ِط يِبها‪ ،‬كما [رواُه مسلٌم‬
‫وغيُر ه]‪ .‬كان عرقه ﷺ ُم بارًكا‪ ،‬وطّيًبا يفوح وُينعش األرواح‪ ،‬وُيفّر ح الّنفوس الّص حاح‪ ،‬قال أنس‬
‫(رضي هللا عنه)‪«:‬ما َشِم ْم ُت ِر يًح ا َقُّط أْو َعْر ًفا َقُّط أْط َيَب ِم ن ِر يِح أْو َعْر ِف الّنبِّي ﷺ» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعن جابر بن سمرة (رضي هللا عنه) قال‪َ«:‬ص َّلْيُت مع َر سوِل هللا ﷺ َص الَة اُألولى‪ُ ،‬ثَّم َخ َر َج‬
‫إلى َأْه ِلِه َو َخ َر ْج ُت معُه‪ ،‬فاْس َتْقَبَلُه ِو ْلداٌن ‪َ ،‬فَجَعَل َيْم َسُح َخ َّدي َأَحِدِه ْم واِح ًدا واِح ًدا‪ ،‬قاَل ‪َ :‬و َأّم ا َأنا‬
‫َفَمَسَح َخ ِّدي‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَو َجْدُت ِلَيِدِه َبْر ًدا‪َ ،‬أْو ِر يًح ا َكأَّنما َأْخ َر َج ها ِم ن ُج ْؤ َنِة َعّطاٍر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن ُح ّبه ﷺ للّطيب كان ال يرّده إذا ُأهدي إليه‪ ،‬فعن أنس (رضي هللا عنه) قال‪« :‬كاَن النبُّي‬
‫ﷺ ال َيُر ُّد الِّط يَب » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫أّم ا فُم ه ﷺ فهو الفُم الّشريف الّنظيف الّطاهر الّطيب‪ ،‬فتجده ﷺ يتعاهده بالّسواك والمضمضة‬
‫واالستنشاق حتى ُشّبهت أسنانه بالَبرِد‪ ،‬وُو صفت بأّنها اللؤلؤ والُج مان في شّدة الّص فاء والبياض‬
‫والجمال‪ ،‬وكان ال يأكل الّثوم والبصل‪ ،‬ويقول ﷺ ألحد أصحابه‪« :‬إِّني ُأناِج ي َم ن ال ُتناِج ي» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحث الّناس على الّسواك واالهتمام برائحة الفم‪ ،‬فَعن َعاِئَشة (رضي هللا عنها) أَّن‬
‫َر ُسول هللا ﷺ َقاَل‪«:‬الِّس َو اُك مطهرٌة ِلْلَفم َمْر َض اٌة ِللَّر ِّب»‪َ[.‬ر َو اُه الَّنَساِئّي ]‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن النبي ﷺ قال‪َ« :‬لْو ال أْن أُشَّق على ُأَّم تي أْو على الّناِس‬
‫َأَلَمْر ُتُه ْم بالِّسواِك مع ُكِّل َص الٍة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬إَّن النبَّي ﷺ كاَن إذا َد َخ َل َبْيَتُه َبَد َأ‬
‫بالِّسواِك »‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫فلم ُتوجد منه ﷺ قُّط رائحة غير طّيبة‪ ،‬بل يِص ُف أصحابه وزوجاته من طيب َنَفِسه الكريم‪،‬‬
‫وجمال رواِئحه ما يفوق الوصف في هذا الباب‪.‬‬
‫وكان ﷺ يستخدم الكافور وأنواع الّطيب في سائر شؤونه‪ ،‬وحّث على الّنظافة والّتطّيب فقال‬
‫ﷺ‪َ« :‬م ِن اْغ َتَسَل َيوَم اْلُج ُم َعِة ‪ ،‬وَتَطَّه َر بما اْس َتطاَع ِم ن ُطْه ٍر ‪ُ ،‬ثَّم اَّد َهَن أْو َمَّس ِم ن ِط يٍب‪ُ ،‬ثَّم راَح َفَلْم‬
‫ُيَفِّر ْق بْيَن اْثَنْيِن ‪َ ،‬فَص ّلى ما ُكِتَب له‪ُ ،‬ثَّم إذا َخ َر َج اإلماُم أْنَص َت ‪ُ ،‬غِفَر له ما بْيَنُه وبْيَن اْلُج ُم َعِة‬
‫اُألْخ رى» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وفي [صحيح مسلم] عن ابن عمر (رضي هللا عنهما)أن رسول هللا ﷺ كان يتطّيب ِباَأْلُلَّو ِة‬
‫وهي أغلى أنواع الّطيب ويخلطها بالكافور فيزداد َعبُقها وطيب رائحتها‪ ،‬فصّلى هللا وسلم دائًم ا وأبًدا‬
‫على الّنبي الّطاهر الُم طّه ر‪ ،‬والُّدر الفاخر‪ ،‬والّسراج المنير‪ ،‬والبشير الّنذير‪ ،‬جميل الخصال‪ ،‬وبدر‬
‫التمام‪ ،‬شفيع الخلق يوم الّز حام‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫سبحان من َمَجَع احملاسَن كّلها‬
‫فيه فتّم هباؤه وفخاُرُه‬
‫ُج بلت على الّتشـريف طينته فما‬
‫نشَأت على غري العلى أطوارُه‬
‫وصَف ت خالئقه‪ ،‬وُطّه ر صدرُه‬
‫فزَك ا وطاَب أدميه وجِن اُرُه‬
‫وإذا تكلل ابجلمان جبينه‬
‫عرًقا ألمر ُعّظمت أسراُرُه‬
‫فَلُر حيه أزكى وأطيب خمًربا‬
‫من ريح مسك فّضه عّطاُرُه‬
‫إذا قرأت سيرة الّنبي ﷺ بُحٍب وتعّم ق ظهر لك ثالث عالمات بارزات واضحات شامخات‪:‬‬
‫العالمة األولى‪ :‬الجالل في حياته ﷺ‪ ،‬وهو ما منحه هللا له من عظمة‪ ،‬ومكانة مرموقة‪،‬‬
‫وسؤدد‪ ،‬وهيبة‪ ،‬فمع تواضعه ﷺ وبساطته وُقربه من الناس‪ ،‬يجدون له في القلوب من اإلعزاز‪،‬‬
‫واإلجالل‪ ،‬والهيبة‪ ،‬ما يفوق الوصف‪ ،‬فهو يدلُف ﷺ على الجموع وفيهم الّر ؤساء‪ ،‬والّز عماء‪،‬‬
‫واألغنياء‪ ،‬وشيوخ القبائل‪ ،‬والّشعراء‪ ،‬والخطباء‪ ،‬فيطرقون‪ ،‬وينصتون‪ ،‬وال يتكّلم أحد‪ ،‬وال يعترض‬
‫أحد‪ ،‬بل شأنهم االستماع له‪ ،‬والّتلّطف معه‪ ،‬واإلجالل لشخصه الكريم ﷺ‪.‬‬
‫أّم ا العالمة الّثانية‪ :‬فهي الجمال‪ ،‬فتعال إلى كّل جزئية من شخصيته ﷺ في ذاته ومعناه‪ ،‬فقد‬
‫جّم ل هللا َخ ْلقه‪ ،‬وجّم ل ُخ ُلقه‪ ،‬جّم ل وجهه فكان أجمل من الّشمس والقمر‪ ،‬وجّم ل شعره‪ ،‬وأنفه‪ ،‬وفمه‪،‬‬
‫وعينيه‪ ،‬وأذنيه‪ ،‬وجميع أعضائه‪ ،‬وظاهره وباطنه‪ ،‬حتى ُعقدت فصول عند العلماء في التكّلم عن‬
‫كل جزء من هذه الّشخصية العظيمة الُم باركة‪ ،‬وعقدوا باًبا في عطره ﷺ وطيبه؛ فكان أحسن الّطيب‬
‫وأزكى العطر‪.‬‬
‫وعقدوا باًبا للباسه ﷺ فإذا به أجمل لباس‪ ،‬وأطهر لباس‪ ،‬وأوفق لباس مع بساطته‪ .‬وعقدوا‬
‫باًبا عن نعله ﷺ وأشيائه التي يستعملها‪.‬‬
‫ثم يأتي الجمال في معناه ﷺ وأخالقه الّشريفة‪ ،‬جماُله في كرمه‪ ،‬وفي تواضعه‪ ،‬وفي حلمه‪،‬‬
‫وفي ُز هده‪ ،‬وفي شجاعته‪ ،‬وفي عدله‪ ،‬وفي رحمته‪ ،‬إلى آخر تلك القائمة‪ ،‬وقد ُعقدت في ذلك‬
‫الفصول واألبواب‪.‬‬
‫وأّم ا العالمة الثالثة‪ :‬فهي الكمال‪ ،‬وأعني بالكمال هنا الكمال البشرّي ‪ ،‬فلم ُيوجد على ظهر‬
‫البسيطة‪ ،‬ولم َيطرق باب العالم‪ ،‬ولم يحصل في تاريخ البشرّية لشخص من الكمال اإلنسانّي مثُلما‬
‫حصل له ﷺ‪.‬‬
‫وتعاَل أنت بنفسك إلى أعظم قائٍد عرفه الّناس‪ ،‬وادرْس حياته‪ ،‬ثم قارنها بحياة الّنبي ﷺ في‬
‫عالم القيادة؛ تجده ﷺ أرفع شأًنا‪ ،‬وأعظم ميزاًنا‪.‬‬
‫وتعال إلى أعدل العدول الذين حكموا الّدنيا واقرأ وادرس عدَلهم وسير َتهم‪ ،‬ثم قارنها‬
‫بسيرته ﷺ في العدل؛ تجدهم يتالشون أمام هذه القّم ة والهامة في شخصه الكريم ﷺ؛ ألّنه نبّي مؤّيد‬
‫من عند هللا‪.‬‬
‫وتعال إلى الفصاحة واقرأ صفات الُفصحاء‪ ،‬وسيَر الُبلغاء‪ ،‬ثم قارنها ببالغته وفصاحته ﷺ‪،‬‬
‫تجدها ال شيء مع هذا الفتح الّر باني الذي فتحه هللا على نبّيه ﷺ في عالم الكلمة البليغة‪ ،‬الفصيحة‪،‬‬
‫اآلسرة‪.‬‬
‫واذهب إلى عالم الّتواضع‪ ،‬وادرس حياة األولياء والُعّباد والصالحين‪ ،‬ثم قارنها بتواضعه ﷺ‬
‫ولينه ورفقه؛ تجد الفرق الّشاسع كما بين الّثرى والثرّيا‪.‬‬
‫إّن هذا الكمال البشرّي هبة نورانّية‪ ،‬ونبّو ة رّبانية من عند هللا‪ ،‬ووحي ُيوحى ليصوغ هللا هذا‬
‫اإلنسان الّطاهر المبارك صياغة خاصة؛ ليكون األسوة لكل من اهتدى‪ ،‬والقدوة لكل من استقام‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪َ{ :‬لَقْد َكاَن َلُكْم ِفي َر ُسوِل ِهَّللا ُأْس َو ٌة َحَسَنٌة ِلَم ْن َكاَن َيْر ُج و َهَّللا َو اْلَيْو َم اآلِخ َر َو َذَكَر َهَّللا َكِثيًر ا}‬
‫[األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]21‬‬
‫ولقد مرت بي حقبة من الِح َقب كنت أقرأ سيرته ﷺ في الموسوعات العالمية‪ ،‬وفي الدراسات‬
‫الّشرقية والغربّية‪ ،‬وماذا قال عنه الفالسفة‪ ،‬والّز عماء‪ ،‬واألدباء‪ ،‬من كّل القارات‪ ،‬وكّل األجناس‪،‬‬
‫واأللوان‪ ،‬واألعراق‪ ،‬فإذا هي شهادة قاضية بليغة بأّن له الّذروة في كل كماٍل إنسانّي ‪.‬‬
‫فصَلى هللا على ذاك القدوة ما أزكاه! وسّلم هللا على ذاك الوجه ما أبهاه! وبارك هللا على ذاك‬
‫اُألسوة ما أجمله وأعاله! إّنه محمد بن عبدهللا‪ ،‬رسول هللا وُم صطفاه‪ ،‬خاتم النبّيين‪ ،‬وإمام الُم رسلين‪،‬‬
‫وخير قدوة للعالمين‪ .‬فإن لم نهنأ في هذه الّدنيا برؤية نور وجهه‪ ،‬ولم نْش ُر ف بسماع صوته‪ ،‬ولم‬
‫نسعد بلمس يده؛ فإّننا ُنشهد هللا على ُح ّبه‪ ،‬وندعوه سبحانه أن يرزقنا جواره في الجّنة وُقرَبه‪.‬‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َفاًحِتا‬
‫فتح رسولنا ﷺ األسماع بجميل الخطاب‪ ،‬وفتح النفوس بفيض الّر حمة‪ ،‬وفتح البصائر بنور‬
‫الحق‪ ،‬وفتح البيوت بضياء الّنبوة‪ ،‬وفتح العالم بالعدل والّسالم‪ ،‬وفتح بكالم هللا قلوًبا هامدة‪ ،‬وأرواًح ا‬
‫خامدة‪ ،‬وعقواًل جامدة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َلْو َأَّن ُقْر آنًا ُسِّيَر ْت ِبِه اْلِج َباُل َأْو ُقِّط َعْت ِبِه اَألْر ُض َأْو ُكِّلَم ِبِه‬
‫اْلَم ْو َتى} [الرعد‪ :‬اآلية ‪ ،]31‬أي لكان هذا القرآن‪.‬‬
‫والذي نفسي بيده! إّن تسييره لألجيال‪ ،‬أعظم من تسيير الجبال‪ ،‬وإّن تقطيعه للمعتقدات‬
‫الجاهلية الوثنّية‪ ،‬أعظم من تقطيع األرض‪ ،‬وإّن تكليمه للّنفوس‪ ،‬وُم خاطبته لألرواح‪ ،‬أعظم من تكليم‬
‫الموتى‪.‬‬
‫لقد جاء ﷺ فاتًح ا بالتوحيد‪ ،‬فأبطل الّشرك‪ ،‬ودمغ األصنام‪ ،‬وحّطم األوثان‪ ،‬وأزال آثار‬
‫الجاهلّية‪ ،‬ونسف غبار الوثنّية‪.‬‬
‫وجاء فاتًح ا بالعلم فغسل القلوب من أدران الجهل‪ ،‬ومن غبار الّتخلف‪ ،‬ومن ُر كام الخرافة‬
‫والّتبعية والعبودّية لغير هللا‪.‬‬
‫وجاء فاتًح ا بالعدل فأنقذ الّناس من عبادة بعضهم بعًض ا‪ ،‬ومن ُح كم الّطاغوت‪ ،‬واستبداد‬
‫الجبروت إلى ُح كم هللا‪ ،‬وعدل اإلسالم‪ ،‬وميزان الحق‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َيْأُمُر ِباْلَعْدِل َو اِإل ْح َساِن َو ِإيَتاِء ِذي‬
‫اْلُقْر َبى َو َيْنَه ى َعِن اْلَفْح َشاِء َو اْلُم ْنَكِر َو اْلَبْغِي َيِع ُظُكْم َلَعَّلُكْم َتَذَّكُر وَن } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]90‬‬
‫وأتى فاتًح ا بالُحّر ية ونادى بها‪ ،‬وحّكمها بين البشـر‪ ،‬فأعتق الّر قاب‪ ،‬وأنقذ األرواح‪ ،‬ونصـر‬
‫الُم ستضعفين والمساكين والُم عذبين في األرض‪ ،‬وأوى األيتام والمشردين والالجئين‪ ،‬وأطعم‬
‫الجائعين‪ ،‬وفك األسرى‪ ،‬ونشـر الّر حمة في العالم كافة‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن }‬
‫[األنبياء‪ :‬اآلية ‪.]107‬‬
‫وأتى فاتًح ا بالمساواة‪ ،‬فكل الّناس أمامه سواسية‪ ،‬القرشي‪ ،‬والحبشي‪ ،‬والّر ومي‪ ،‬والفارسي‪،‬‬
‫واألمازيغي‪ ،‬والّتركي‪ ،‬والكردي‪ ،‬كلهم كأسنان المشط‪ ،‬ال فضل لعربي على أعجمي‪ ،‬وال أبيض‬
‫على أسود إاّل بالتقوى‪ِ{ :‬إَّن َأْك َر َم ُكْم ِع ْنَد ِهَّللا َأْتَقاُكْم } [الحجرات‪ :‬اآلية ‪.]13‬‬
‫وأتى فاتًح ا بالّطهر فكل دينه طهارة‪ ،‬طهارة للّضمير‪ ،‬وطهارة للّنفس‪ ،‬وطهارة لألعضاء‪،‬‬
‫وطهارة للمخبر والمظهر‪ ،‬وطهارة للبيت والّطريق‪ ،‬وطهارة للّز مان والمكان‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا‬
‫ُيِح ُّب الَّتَّو اِبيَن َو ُيِح ُّب اْلُم َتَطِّهِر يَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ .]222‬وقال ﷺ‪« :‬الُّطُه وُر َشْط ُر اِإل يَم اِن » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫ولك أن ُتقارن بين فتوحاته ﷺ وفتوحات أتباعه من بعده‪ ،‬وبين فتوحات مشاهير وزعماء‬
‫االحتالل في العالم‪ ،‬كجنكيز خان‪ ،‬وهوالكو‪ ،‬وُتّبع‪ ،‬ونابليون‪ ،‬وهتلر الّنازي‪ ،‬وبختنصر‪،‬‬
‫وحمورابي‪ ،‬وغيرهم الكثير ممن دخلوا البلدان فأهلكوا الحرث والّنسل‪.‬‬
‫وانظر لفتوحاته ﷺ كيف حملت وحدانية هللا‪ ،‬وعدالة األحكام‪ ،‬وُح سن الّشمائل‪ ،‬وكرم‬
‫األخالق‪ ،‬والّر حمة بالّناس‪ ،‬وجمال الُم ُثل الُعليا‪ ،‬والمساواة بين الجميع!؟ فكل األوطان التي دخلها‬
‫الُم ستعمرون دخلوها ُم حتّلين‪ ،‬ثم خرجوا منها ولم يستطيعوا صبغ تلك الّشعوب بصبغاتهم الّدينية أو‬
‫األخالقّية‪.‬‬
‫لقد دخل المستعمرون عبر التاريخ دول إفريقية وآسيوية بجيوٍش جّر ارة واحتّلوا بلداًنا‪،‬‬
‫وحكموا شعوًبا‪ ،‬فغّيروا أخالقهم وآدابهم إلى األسوأ في الغالب‪.‬‬
‫ودخل المسلمون كثيًر ا من البلدان كإندونيسيا وماليزيا وغيرها تّج اًر ا بال جيوش وال طائرات‬
‫وال دبابات فاعتنق أهلها اإلسالم بواسطة الُتّج ار لصالحهم وعدلهم وُح سن تعاملهم‪.‬‬
‫فكّلما دخل المسلمون بلًدا تركوا فيه معالم حضارتهم‪ ،‬وأنوار رسالتهم‪ ،‬ومكارم أخالقهم‪،‬‬
‫ببركة دعوة الّنبّي ﷺ‪.‬‬
‫فكل فتح فتحه المسلمون أو سوف يفتحونه إلى يوم الّدين سواء في العقول أو البلدان هو من‬
‫بركات وفتوحات الفاتح األّو ل‪ ،‬رسول هللا ﷺ الذي بدأ الّر حلة‪ ،‬وقاد القافلة‪ ،‬وأعلن االنطالقة‬
‫الكبرى‪ ،‬فمنذ بعثته ونحن نعيش فرحة الفتح الكبرى‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫ِء‬
‫َف ْتٌح تَف َّتُح َأْب َو اُب الَّس َم ا َلُه‬
‫وَت رْب ُز اَألْرُض يِف َأْث َو اَهِبا الُقُش ِب‬
‫َتْد بُري ُمْعَتِص ٍم اِب ِهلل ُمْن َتِق ٍم‬
‫ِهلل ُمْر َتِق ٍب يِف ِهللا ُمْر َتِغِب‬
‫إن كان َبَنْي ُصُروِف الَّد ْه ِر ِم ن َرِح ٍم‬
‫َمْوُصوَلٍة َأْو ِذ َماٍم غِرْي ُمْن َق ِض ِب‬
‫فَبَنْي أاَّي ِم َك الَّاليت ُنِص ـْر َت َهِبا‬
‫وَبَنْي أاَّي ِم َبْد ٍر َأْق َرُب الَّنَس ِب‬
‫لقد زرُت دواًل كثيرة في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا‪ ،‬فوجدت ماليين المسلمين على‬
‫اختالف مذاهبهم قد ملؤوا الدنيا تسبيًح ا‪ ،‬وتحميًدا‪ ،‬وتكبيًر ا‪ ،‬وتهلياًل ‪ ،‬وتالوًة‪ ،‬فأقول في نفسـي‪ :‬يا‬
‫هللا! َم ن أقنع هؤالء الماليين بهذا الدين العظيم؟!‬
‫ثم أجيب‪ :‬صدق الباري ُسبحانه‪ِ{ :‬إَّنا َفَتْح َنا َلَك َفْتًح ا ُم ِبينًا} [الفتح‪ :‬اآلية ‪.]1‬‬
‫وانظر إلى الّدول اإلسالمية في آسيا وإفريقيا وأهلها يعتنقون اإلسالم منذ أكثر من ألف عام‬
‫لم ُيرغموا على هذا الّدين‪ ،‬ولم ُيحمل في وجههم سالح‪ ،‬ولم ُيهددوا بقتل أو إبادة‪ ،‬وإّنما هو اقتناع‬
‫بهذا الفتح العظيم‪ ،‬فتجد الشيوخ واألطفال والعجائز يلفظون اسم «محّم ٍد ﷺ» بحنان‪ ،‬ورقة‪ ،‬وُحّب ‪،‬‬
‫ودموع‪ ،‬من الذي جعل أطفال ُم سلمي اليابان وشيوخ نيجريا‪ ،‬وعجائز باكستان‪ ،‬وشباب إثيوبيا‬
‫يذرفون الّدموع الّسخّية إذا ُذكر رسول الُه دى ﷺ؟! أي ُحّب هذا؟! أّي والء؟! أّي حنين؟! أّي أثر؟!‬
‫أّي صلة رّبانية؟! أّي قربة إلهية؟! أي فتح أعظم من هذا الفتح؟! أن تسكن في القلوب‪ ،‬وأن تحّل في‬
‫األرواح‪ ،‬وأن تبقى سيرتك عطرة في األجيال قرًنا بعد قرن‪ ،‬وتبقى أخالقك ماثلة للعيان أبد الّدهر‪.‬‬
‫إّن الذي فتح مشارق الّدنيا ومغاربها مات ودرعه مرهونة في ثالثين صاًعا من شعير ﷺ‪،‬‬
‫وهذا دليل على أن فتحه ﷺ وفتح أتباعه للبالد لم يكن استعماًر ا عسكرًيا أو طمًعا دنيوًيا‪ ،‬بل كان‬
‫فتًح ا ربانًيا حيث العلم الّنافع‪ ،‬والعمل الّص الح‪ ،‬واألخالق الحسنة‪ ،‬والّسلوك الجميل‪ ،‬والحكم القائم‬
‫على العدل‪.‬‬
‫وقد لخص ذلك ِر ْبِع ي بن عامر (رضي هللا عنه) قبل معركة القادسية لّم ا أرسله سعد بن أبي‬
‫وّقاص (رضي هللا عنه) إلى رستم‪ ،‬فقال له رستم‪« :‬ما الذي جاء بكم»؟‪ ،‬فقال ِر ْبِع ي‪« :‬إّن هللا ابتعثنا‬
‫لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رِّب العباد‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى سعتها‪ ،‬ومن جور‬
‫األديان إلى عدل اإلسالم‪ ،‬فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه‪ ،‬فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه»‬
‫[ذكره ابن كثير في البداية والنهاية]‪.‬‬
‫لقد كانت الّر حمة والّر فق مالزمة لفتوحاته ﷺ‪ ،‬فقد صح عنه أّنه قال‪« :‬يا أيها الناس‪ ،‬إّنما‬
‫أنا َر ْح َم ٌة ُم ْهَداٌة» [رواه الحاكم]‪.‬‬
‫وبّين هللا مقصد رسالته فقال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن } [األنبياء‪ :‬اآلية‬
‫‪.]107‬‬
‫ولقد كان ﷺ ُيوصي قادة جيوشه فيقول‪« :‬اْغ ُز وا َو اَل َتُغُّلوا‪َ ،‬و اَل َتْغِد ُر وا‪َ ،‬و اَل َتْم ُثُلوا‪َ ،‬و اَل‬
‫َتْقُتُلوا َو ِليًدا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فلم تكن حروبه وفتوحاته ﷺ لإلتالف أو اإلفساد في األرض أو إزهاق األنفس وإسالة‬
‫الّدماء‪ ،‬بل كانت حروًبا مقصود منها البناء‪ ،‬وحفظ الّنوع البشري‪ ،‬وإحالل العدل مكان الظلم‪،‬‬
‫والّر حمة مكان الجور‪ ،‬والّسالم مكان الحرب؛ ألّنه ﷺ جاء إلصالح الحياة‪ ،‬وعمارة األرض‪،‬‬
‫وتأليف قلوب الّناس‪ ،‬وبناء مجتمع كريم متراحم متآٍخ‪ ،‬ولهذا كان يعمل بمدلول كتاب هللا حيث يقول‬
‫سبحاّنه‪َ{ :‬و َقاِتُلوا ِفي َسِبيِل ِهَّللا اَّلِذيَن ُيَقاِتُلوَنُكْم َو َال َتْعَتُدوا ِإَّن َهَّللا َال ُيِح ُّب اْلُم ْعَتِديَن } [البقرة‪ :‬اآلية‬
‫‪.]190‬‬
‫ولهذا حّذر هللا من منهج الظلوم الفاجر في حروبه‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬و ِإَذا َتَو َّلى َسَعى ِفي‬
‫اَألْر ِض ِلُيْفِسَد ِفيَه ا َو ُيْه ِلَك اْلَح ْر َث َو الَّنْسَل َو ُهَّللا َال ُيِح ُّب اْلَفَساَد} [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]205‬‬
‫وفي «الّص حيحين» لّم ا أرسل ﷺ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) لفتح‬
‫خيبر قال له‪« :‬اْدُعُه ْم إلى اإلْس اَل ِم ‪َ ،‬فَو هللا َأَلْن َيْهِد َي هللا بَك َر ُج اًل واِح ًدا‪َ ،‬خ ْيٌر لَك ِم ن أْن َيكوَن لَك‬
‫ُح ْم ُر الَّنَعِم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وفي حديث آخر‪« :‬أّنه قيل للّنبي ﷺ‪ :‬هذا وحشـي قاتل حمزة‪ ،‬فقال‪َ « :‬دُعوُه فإلسالُم َر ُج ل‬
‫واحد أحب إلي من قتل ألف كافر» [ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح]‪.‬‬
‫إّن هداية النفوس وإنقاذها من عذاب هللا وإخراجها من الّظلمات إلى الّنور من أعظم مقاصد‬
‫رسالته ﷺ‪ ،‬وفتحه ﷺ لمكة خير دليل على ذلك‪ ،‬بل من أجمل الّص ور وأمجد المثل لكل فتح إسالمي‬
‫إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫لم يدخل معتدًيا‪ ،‬ولم يسَع إلى ثأٍر أو حرٍب‪ ،‬بل فتح كل أبواب الّسالم واألمان للجميع فقال‬
‫ﷺ‪َ« :‬م ْن َد َخ َل َداَر َأِبي ُسْفَياَن َفُه َو آِم ٌن ‪َ ،‬و َم ْن َأْلَقى الِّس اَل َح َفُه َو آِم ٌن ‪َ ،‬و َم ْن َأْغَلَق َبابُه َفُه َو آِم ٌن »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫ولّم ا دخل ﷺ مكة فاتًح ا ُم نتصًر ا‪ ،‬والح له الحرم‪ ،‬نّكس رأسه ودمعت عيناه‪ ،‬فما أعظم تلك‬
‫الّلحظة! وما أجّلها! لحظة الّنصـر الذي ُر ّج ت له األرض رًّج ا‪ ،‬وُفّتحت له الّسماء‪ ،‬ووقف الّتاريخ‬
‫يسجلها‪ ،‬والّدهر يشهد عليها‪ ،‬والمالئكة ُتشيعه‪ ،‬والمؤمنون يحّفون به‪.‬‬
‫ومع ذلك كّله لم يدخل ﷺ سَّفاًكا‪ ،‬وال بَّطاًشا‪ ،‬وال سَّفاًح ا‪ ،‬وال منتقًم ا‪ ،‬بل دخل فاتًح ا حليًم ا‬
‫كريًم ا متواضًعا‪ ،‬فلّم ا رأى الكعبة خّفض رأسه ولحيته حتى المست لحيته قربوس ناقته (مقدمة‬
‫رحله) تواضًعا للواحد األحد‪.‬‬
‫ودمعت عيناه‪ ،‬وهو ُيشاهد مكة التي ُأبعد عنها‪ ،‬وُأخرج منها طريًدا شريًدا وحيًدا قبل عشر‬
‫سنوات يوم وقف يوّدع مكة عند حمراء األسد ويلتفت إليها‪ ،‬ودموعه تسيل على خديه‪.‬‬
‫وكذلك الكعبة التي تمنى أن يطوف بها وُيصّلي فيها‪ ،‬وكان محروًم ا من دخولها عشر‬
‫سنوات‪ ،‬ومع ذلك ينصـره هللا‪ ،‬وتتهاوى أمامه األصنام‪ ،‬ويقترب ﷺ ليدخلها فيكّبر وُيهّلل ويحمد رّبه‬
‫الذي أنجز له وعده‪ ،‬يقول عبدهللا بن ُم َغَّفل‪( :‬رضي هللا عنه) «َر َأْيُت َر سوَل هللا ﷺ َيوَم َفْت َم َّكَة‬
‫ِح‬
‫عَلى ناَقِتِه ‪ ،‬وهو َيْقَر ُأ ُسوَر َة الَفْتِح ُيَر ِّج ُع ‪ .‬وقاَل ‪َ :‬لْو ال أْن َيْج َتِم َع الَّناُس َحْو ِلي َلَر َّجْعُت كما َر َّجَع »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكانت قريش قد مألت المسجد تنتظر؛ ماذا يصنع بها الّنبّي ﷺ؟! فوقف فيهم‪ ،‬وكان ممّا قاله‬
‫ﷺ ‪ -‬كما روي عنه‪« :-‬ال إلَه إاَّل هللا َو حَده‪ ،‬صَد َق َو عَده‪ ،‬وَنصَر عبَده‪ ،‬وهَز َم األحزاَب َو حَده‪ ،‬أاَل إَّن‬
‫كَّل َم أُثرٍة ُتَعُّد وُتْدعى‪ ،‬وَد ٍم وماٍل تحت َقَد َم َّي َهاَتْيِن ‪ ،‬غيَر ِس دانِة الَبْيِت‪ ،‬وِس قايِة الحاِّج‪ ،‬يا معشر‬
‫قريش! إّن هللا قد أذهب عنكم نخوة الجاهلّية وتعّظمها باآلباء‪ ،‬الّناس من آدم‪ ،‬وآدم من تراب»‪ ،‬ثم‬
‫تال‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّناُس ِإَّنا َخ َلْقَناُكْم ِم ْن َذَكٍر َو ُأْنَثى َو َج َعْلَناُكْم ُشُعوًبا َو َقَباِئَل ِلَتَعاَر ُفوا ِإَّن َأْك َر َم ُكْم ِع ْنَد ِهَّللا‬
‫َأْتَقاُكْم ِإَّن َهَّللا َعِليٌم َخ ِبيٌر } [الحجرات‪ :‬اآلية ‪ .]13‬ثم قال‪« :‬يا َم عشَر قريٍش ‪ ،‬ما َتَر ْو َن أِّني فاِعٌل‬
‫بكم؟!» قالوا‪ :‬خيًر ا‪ ،‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ ،‬قال‪« :‬ال َتْثِر يَب َعَلْيُكُم اْلَيْو َم ‪ ،‬اذهبوا فأنتم الّطلقاء»‪.‬‬
‫فأسقط ﷺ دماء الجاهلية وثاراتها‪ ،‬ولم ينتقم من أعداء الماضي‪ ،‬بل أعلن الّسالم والعفو العام‬
‫والتراحم‪ ،‬فحّيته القلوب‪ ،‬وكان يوًم ا بهيًج ا ال ينساه الّز مان‪ ،‬وهو ُيطلق هذه الكلمة الجميلة األّخ اذة‬
‫اآلسرة في وجه الدهر‪ ،‬ويقول لخصومه الذين قاتلوه‪ ،‬وسّبوه‪ ،‬وخاصموه‪ ،‬وآذوه‪« :‬اذهبوا فأنتم‬
‫الّطلقاء»!‪.‬‬
‫فهل مّر عبر التاريخ فاتح دخل ُم نتصًر ا على أعدائه الذين تفننوا في إيذائه‪ ،‬والوقيعة به‪،‬‬
‫وُم حاربته‪ ،‬وحصاره‪ ،‬وطرده‪ ،‬ثم يعفو عنهم‪ ،‬وُيسامحهم‪ ،‬وُيكرمهم‪ ،‬ويمسح ماضيهم بكلمة العفو‬
‫والغفران إاّل محّم د رسول هللا ﷺ؟!‬
‫وفي فتح الّنبّي ﷺ لمكة صور ُم شّر فة لها داللتها‪ ،‬منها أمره ﷺ لبالل الحبشـي (رضي هللا‬
‫عنه) ذي البشرة السوداء أن يؤّذن على الكعبة‪ ،‬وهي وحدها تحمل رسائل اإلخاء البشري‪ ،‬وكرامة‬
‫اإلنسان‪ ،‬وحقوق الُم ستضعفين‪ ،‬وإنقاذ البائسين والمحرومين‪ ،‬وخير تطبيق عملي لقول الباري‬
‫سبحانه‪ِ{ :‬إَّن َأْك َر َم ُكْم ِع ْنَد ِهَّللا َأْتَقاُكْم } [الحجرات‪ :‬اآلية ‪.]13‬‬
‫فيصعد بالل إلى الكعبة‪ ،‬ويصدح من فوقها باألذان لينصت الدهر‪ ،‬ويقف التاريخ شاهًدا على‬
‫هذا الفتح العظيم‪ ،‬والعدالة البيضاء‪ ،‬والّر حمة الوارفة‪ ،‬وتدّو ي في أرجاء مكة كلمة الحق‪ ،‬وكلمة‬
‫الّتوحيد‪ ،‬والكلمة الخالدة أبد الدهر‪( :‬ال إله إال هللا محمد رسول هللا ﷺ)‪.‬‬
‫وانتصر الحق وزهق الباطل‪ ،‬وأذعن أهل مكة لرسول الهدى ﷺ واجتمعوا للبيعة‪ ،‬وجلس‬
‫رسول هللا ﷺ على الّص فا‪ ،‬وقدم الناس رجااًل ونساًء ُيبايعونه على الّسمع والّطاعة بكل حب وسالم‪،‬‬
‫وسماحة ووئام‪:‬‬
‫ويكاد القلب من فرط اجلوى‬
‫وهليب الّش وق تقبيل الّثَرى‬
‫وكأّن الّرمل أضحى جوهًرا‬
‫واحلصـى أصبح مسًك ا أذفَرا‬
‫لقد شهد برحمة وعدل فتوحاته ﷺ أساطين الّشرق والغرب حتى غيُر المسلمين منهم‪ ،‬يقول‬
‫الفيلسوف الفرنسي (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب)‪« :‬كان ُم حمد ُيقابل ضروب األذى‬
‫والّتعذيب بالّص بر وسعة الّص در‪ ،‬عامل محمد قريًشا الذين ظّلوا أعداًء له عشرين سنة بلطف وحلم‪،‬‬
‫وأنقذهم من ثورة أصحابه بمشقة‪ ،‬مكتفًيا بمسح صور الكعبة وتطهيرها من األصنام‪ ،‬وكانت ثالث‬
‫مئة وستين صنًم ا التي أمر بكبها على وجوهها وظهورها‪ ،‬وبجعل الكعبة معبًدا إسالمًّيا‪ ،‬وما انفك‬
‫هذا المعبد يكون بيت اإلسالم‪ ،‬وإذا ما قيست قيمة الّر جال بجليل أعمالهم كان محّم د من أعظم من‬
‫عرفهم الّتاريخ‪ِ .‬إَّن اْلَعاَلَم ُكَّلُه َلْم َيْش َه ْد َفاِتًح ا َأْر َح َم ِم َن اْلَعَر ِب»؛ َيْعِني‪َ :‬أْر َح َم ِم َن الُم ْسِلِم يَن َأْتَباِع الّنبّي‬
‫محّم د ﷺ‪.‬‬
‫ويكفي عن كل الّشهادات شهادة الباري جّل في ُعاله‪ِ{ :‬إَّنا َفَتْح َنا َلَك َفْتًح ا ُم ِبينًا} [الفتح ‪:‬اآلية‬
‫‪.]1‬‬
‫لقد فتحنا لك يا محمد فتًح ا بّيًنا طاهًر ا ُم بارًكا‪ ،‬فتحنا لك القلوب فغرست بها اإليمان‪ ،‬وفتحنا‬
‫لك الّضمائر فبنيت فيها الفضيلة‪ ،‬وفتحنا لك الّص دور فرفعت فيها الحّق ‪ ،‬وفتحنا لك البلدان فنشرت‬
‫بها الهدى‪ ،‬وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع الّتوفيق‪ ،‬وفتحنا بدعوتك القلوب الُغلف‪،‬‬
‫والعيون الُعمي‪ ،‬واآلذان الُّص م‪ ،‬وأسمعنا رسالتك الثقلين‪.‬‬
‫فتحنا لك فتدّفق العلم الّنافع من لسانك‪ ،‬وفاض الُه دى الُم بارك من قلبك‪ ،‬وسّح الجود من‬
‫يمينك‪.‬‬
‫وفتحنا لك فحزت الغنائم وقّسمتها‪ ،‬وجمعت األرزاق ووّز عتها‪ ،‬وحصلت على األموال‬
‫وأنفقتها‪.‬‬
‫وفتحنا لك باب العلم وأنت األمُّي الذي لم يقرأ ولم يكتب‪ ،‬فصار العلماء ينهلون من بحار‬
‫علمك‪.‬‬
‫وفتحنا لك أبواب الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد‪ ،‬وأشبعت الجائع وكسوت العاري‪،‬‬
‫وواسيت المسكين‪ ،‬وأغنيت الفقير‪ ،‬بفضلنا ورزقنا وكرمنا‪.‬‬
‫وفتحنا لك القالع والُم دن والُقرى‪ ،‬فهيمن دينك‪ ،‬وارتفعت رايتك‪ ،‬وانتصرت دولتك‪ ،‬فأنت‬
‫مفتوح عليك في كل خير وبٍّر ‪ ،‬وإحسان ونصر وتوفيق‪.‬‬
‫ُنصـرَت ابل عِب شه ا قب موقعٍة‬
‫ّر‬
‫ًر َل‬
‫كأَّن َخْص َم ك قبَل احلرِب يف صمِم‬
‫إذا رأوا ابرًقا يف اجلِّو أذهلهم‬
‫َظُّنوك بني بنوِد اجليِش واحلَش ِم‬
‫بك استفقَنا على صبٍح َحُيِّم ُلُه‬
‫بالُل يف َنَغٍم ُيشفي من الَّسَق ِم‬
‫عليك مين سالُم هللا ما َمَهَلْت‬
‫مو خلِق ك عن البيِت يف احلرِم‬
‫َد‬
‫ُد ُع‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ اَن ِج ًح ا‬
‫ُو لدت هّم ته معه ﷺ يوم ُو لد‪ ،‬فمنذ طفولته ونفسه مهاجرة إلى الّنجاح ومعالي األمور‪،‬‬
‫ومكارم األخالق‪ ،‬ال يرضى بالّدون وال يهوى الّسفاسف‪ ،‬بل هو السّباق والمقدام المتفّر د‪.‬‬
‫وتمّيز ﷺ قبل الّنبوة بسمات الّر يادة والتفّو ق والّنجاح ما جعل قريًشا ُيسمونه الّص ادق األمين‪،‬‬
‫ويرضون حكمه ويعودون إليه في أمورهم‪ ،‬فلّم ا مَّن هللا عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة‪ ،‬وهي‬
‫أعلى درجة في الجَّنة‪ ،‬فسأل هللا إّياها‪ ،‬وعّلمنا أن نسألها له من رّبه‪ ،‬وبلغ سدرة المنتهى‪ ،‬وحاز‬
‫الكمال البشرّي الُم طلق‪ ،‬والفضيلة اإلنسانّية‪.‬‬
‫أركان الّنجاح أربعة‪ :‬أولها‪ :‬أن يكون هللا راضًيا عنك‪ ،‬وثانيها‪ :‬أن تكون مطمئًنا لعملك‪،‬‬
‫وثالثها‪ :‬أن تقّدم نفًعا للناس وأثًر ا طيًبا يبقى بعدك‪ ،‬أّم ا رابعها‪ :‬فأن يكون من حولك راضين عنك‬
‫فتكون عالقاتك صالحة مع من يتعامل معك‪.‬‬
‫وقد اجتمعت كّلها في رسولنا ﷺ بأعلى درجاتها‪ ،‬وأبهى صورها‪ ،‬وأجمل ُح للها‪ ،‬فهو أعظم‬
‫الّناس منزلة عند هللا‪ ،‬وأحّب الخليقة إلى مواله‪ ،‬وهو الُم طمئّن لرسالته‪ ،‬الواثق من مبدئه‪ ،‬وهو الذي‬
‫نجح في تقديم أعظم نفع للبشـرية‪ ،‬وال نعلم أحًدا في الّدنيا على مّر التاريخ سواًء من رأوه‬
‫وصاحبوه‪ ،‬أو الذين جاؤوا من بعده وما رأوه‪ ،‬إاّل وكانوا شاهدين له بالّنجاح والّتفّر د والّتمّيز‪.‬‬
‫أّم ا نجاحه عليه الّص الة والّسالم فإّن هذا هو المتوقع والمنتظر أن يكون‪ ،‬وقد كان والحمد هلل؛‬
‫ألن من أرسله هللا‪ ،‬وأّيده بالوحي‪ ،‬وعصمه بالنبّو ة‪ ،‬لن يكون إاّل ناجًح ا‪ ،‬بل في أعلى مقامات الّنجاح‪.‬‬
‫يف مهٍة عصفْت كالَّدهر واتقدْت‬
‫كَم دّك من وثٍن منها ومن صنِم‬
‫وأشرق الكون من أنوار طلعته‬
‫ومن أىَب عاش يف الّد نيا أصّم عِم ي‬
‫انداك رُّبّك واألكوان منِص تٌة‬
‫(كما ُأمرت بوحي هللا فاستقِم )‬
‫حىّت الّزماُن أعاد هللا دورَته‬
‫من أجله جلالل الفخر والِعَظِم‬
‫لقد نجح ﷺ في دعوته إلى الّتوحيد في مكة حيث وقف وكّثف جهده على كلمة واحدة فقط‪:‬‬
‫«ال إله إال هللا»‪ ،‬وأعادها وأبداها ثالثة عشر عاًم ا‪ ،‬لياًل ونهاًر ا‪ ،‬وسًّر ا وجهاًر ا‪ُ ،‬يكّر ر على الكبير‬
‫والّص غير‪ ،‬والفرد والجماعة‪« ،‬قولوا‪ :‬ال إله إال هللا تفلحوا»‪.‬‬
‫ولم يقم بقتال الكفار وال مجابهتهم‪ ،‬بل صبر واحتسب وتحّم ل األذى حتى غرس هذه الكلمة‬
‫في قلوب كثير من أصحابه الذين صاروا ُح ماة للّر سالة‪ ،‬وُحّر اًسا للعقيدة‪.‬‬
‫ونجح ﷺ يوم انتقل إلى المدينة؛ ألّنها مأرز اإلسالم‪ ،‬ودار الّنصـرة‪ ،‬ومالذ المؤمنين‪ ،‬فكان‬
‫هذا االختيار من أنجح القرارات‪ ،‬وأصوب اآلراء‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في المؤاخاة بين المهاجرين واألنصار‪ ،‬فكان يؤاخي بينهم حتى صاروا على قلب‬
‫رجل واحد؛ إخاًء ‪ ،‬وُلحمًة‪ ،‬وُنصرًة‪ ،‬ومحبًة‪ ،‬وألفة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َأَّلَف َبْيَن ُقُلوِبِه ْم َلْو َم ا ِفي اَألْر ِض‬
‫َج ِم يًعا َم ا َأَّلْفَت َبْيَن ُقُلوِبِه ْم َو َلِك َّن َهَّللا َأَّلَف َبْيَنُهْم ِإَّنُه َعِز يٌز َح ِك يٌم } [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]63‬‬
‫ونجح ﷺ لّم ا بنى مسجده بالمدينة المنورة‪ ،‬وهو أّو ل مشـروع معماري قام به‪ ،‬فصار هذا‬
‫المسجد ُم نطلًقا للّص الة‪ ،‬وإقامة المواعظ والّدروس والفتاوى‪ ،‬وعقد الّندوات‪ ،‬واستقبال الوفود‪،‬‬
‫وتعليم الجاهل‪ ،‬ومداواة المريض‪ ،‬وإلقاء الخطب واألشعار في نصرة الّدعوة‪ ،‬واستضافة الفقراء‬
‫والمساكين‪ ،‬وتجهيز الجيوش‪ ،‬إلى غير ذلك من المهام التي قام بها هذا المسجد الُم بارك‪ ،‬ففاقت‬
‫بركته كل جامعات الّدنيا ومدارس العالم إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫ونجح ﷺ بكتابة عهود إخاٍء بينه وبين اليهود‪ ،‬فكسـر شوكتهم فحقبًة من الّز من‪ ،‬وهّدأ‬
‫خصومتهم مرحلة من مراحل تاريخه‪ ،‬حتى استقام له األمر‪ ،‬واجتمع له الّشمل‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في الّتعامل مع المنافقين‪ ،‬فعفا وأعرض عنهم‪ ،‬ولم يقم بعقابهم؛ لئاّل تثور ثائرة‬
‫أتباعهم‪ ،‬بل صفح‪ ،‬وسّكن‪ ،‬وأخذهم على ظواهرهم‪ ،‬ليحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه‪ ،‬وليقرر‬
‫أن التعامل مع الناس يكون حسب ظواهرهم وهللا يتولى سرائرهم‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في أّو ل معركة خاضها ضد المشـركين؛ ألّنها كانت الفاصلة في تاريخ دعوته ﷺ‪،‬‬
‫وهي غزوة بدر الكبرى المجيدة‪ ،‬التي نصره هللا فيها‪ ،‬وتوالت بعدها الفتوحات واالنتصارات‪ ،‬فبها‬
‫قامت قائمة الّدين‪ ،‬وأذل هللا المشـركين‪ ،‬وكسر راية الكافرين‪ ،‬وأعّز المؤمنين‪.‬‬
‫ونجح ﷺ وهو ُيرسل الّر سائل إلى الملوك؛ ليقيم الُحّج ة عليهم ويدعوهم‪ ،‬فمن استجاب نجا‬
‫ومن معه‪ ،‬ومن أعرض فقد قامت عليه الُحّج ة‪ ،‬وبّر أ ﷺ الّذمة‪ ،‬وأوصل له الّر سالة‪.‬‬
‫ونجح ﷺ وهو ُيوّلي األمراء على الواليات والسـرايا‪ ،‬فيختار األقوى على األتقى‪ ،‬إذا كان‬
‫في ذلك مصلحة‪ ،‬فإن مصلحة األقوى في رأيه ودهائه وشجاعته تعود بالّنفع للمسلمين‪ ،‬وأما التقي‬
‫الّضعيف فضعفه على المسلمين وتقواه لنفسه‪.‬‬
‫ونجح ﷺ وهو يوّج ه الّتخصصات ألصحابه‪ ،‬ويوّز ع الوظائف عليهم بفتح رّباني‪ ،‬وبفهم‬
‫نبوي‪ ،‬فأبو بكر الّص ديق للخالفة بعده‪ ،‬إشارة وتلميًح ا‪ ،‬وعمر بن الخطاب فاروق عبقري للمواقف‬
‫الفاصلة‪ ،‬وعثمان للحياء والجود‪ ،‬وعلي للقضاء والّشجاعة‪ ،‬ومعاذ بن جبل للفتوى في الحالل‬
‫والحرام‪ ،‬وزيد بن ثابت عالم األمة في الفرائض‪ ،‬وُأبي بن كعب سّيد القّر اء في تالوة كتاب هللا‬
‫وضبطه‪ ،‬وابن عباس في فهم القرآن ومعرفة الّتأويل والفقه في الّدين‪ ،‬وحّسان شاعر الدعوة‪ ،‬وبطل‬
‫القافية‪ ،‬والمنافح بالحرف عن المّلة‪ ،‬وثابت بن قيس بن َشَّم اس للخطابة ودحض شبهات أهل الباطل‬
‫بالّلسان الفصيح‪ ،‬وخالد بن الوليد سيف هللا المسلول؛ لكسر لواء الباطل‪ ،‬وسحق بيارق الخيانة‬
‫والغدر‪ ،‬وقس على ذلك كافة المشارب والّتوجهات واالستعدادات من الصحب الكريم‪َ{ :‬قْد َعِلَم ُكُّل‬
‫ُأَناٍس َم ْش َر َبُهْم } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]60‬‬
‫ونجح ﷺ في الّتعامل مع المرأة؛ زوًج ا‪ ،‬وأًبا‪ ،‬وُم عّلًم ا‪ ،‬وُم ربًيا‪ ،‬وقدوًة‪ ،‬فأخرج منهّن‬
‫العالمات المؤمنات الّص ادقات‪ ،‬القانتات الُم ربيات‪ ،‬وأعطى كل واحدة منهن حقها وقدرها‪ ،‬سواء كّن‬
‫من بناته أو زوجاته أو الُم سلمات جميًعا‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في عالم الّطفولة‪ ،‬فوضع آداًبا وأخالًقا لألطفال‪ ،‬ووجههم بنفسه ﷺ‪ ،‬واقترب منهم‪،‬‬
‫وداعبهم‪ ،‬ومازحهم‪ ،‬واحتضنهم‪ ،‬وألقى لهم كلمات مباركات‪ ،‬بقيت معالم في حياتهم ال ينسونها‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في عالم المال‪ ،‬فأخذه من الحالل‪ ،‬وأنفقه في الحالل‪ ،‬وقّسمه بالعدل والخوف من‬
‫ذي الجالل‪ ،‬باتزان وحكمة ونظام عجيب‪ ،‬وأتى الوحي بقسمة الّص دقات على ثمانية أصناف‪ِ{ :‬إَّنَم ا‬
‫الَّصَدَقاُت ِلْلُفَقَر اِء َو اْلَم َساِك يِن َو اْلَعاِم ِليَن َعَلْيَه ا َو اْلُمَؤ َّلَفِة ُقُلوُبُهْم َو ِفي الِّر َقاِب َو اْلَغاِر ِم يَن َو ِفي َسِبيِل ِهَّللا‬
‫َو اْبِن الَّسِبيِل َفِر يَض ًة ِم َن ِهَّللا َو ُهَّللا َعِليٌم َح ِك يٌم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]60‬‬
‫فجعل كل قسم في مكانه‪ ،‬وكل حق في موضعه‪ ،‬وقد ُصِّنف في ذلك المصّنفات؛ ككتاب‬
‫الخراج ألبي يوسف‪ ،‬وكتاب األموال ألبي عبيد‪ ،‬وكل من كتب في الُسّنة عقد أبواًبا لهذا‪ ،‬وذكر هديه‬
‫ﷺ ونجاحه في المال العام من حيث الّز كاة والّص دقة والغنيمة والهدية وتوزيعها على مستحقيها بعدٍل‬
‫وإنصاٍف وأمانة‪ ،‬كّلها يضعها ﷺ في مواضعها‪ ،‬فسبحان من أعطاه هذا الفتح الّنبوي‪ ،‬والهداية‬
‫الّر ّبانية‪ ،‬في كل معلم من معالم الحياة‪ ،‬حتى صار ﷺ آية للّسائلين‪ ،‬ومعيًنا للمستفيدين‪ ،‬وإماًم ا‬
‫للعابدين‪ ،‬وأسوة للّناجحين إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في تحّم ل مشاق الحياة ومصاعبها‪ ،‬فمّر بالفقر‪ ،‬وصارع الجوع والحاجة‬
‫والمسكنة‪ ،‬فصبر‪ ،‬وتحّم ل‪ ،‬وواصل‪ ،‬واستمر‪.‬‬
‫ونجح ﷺ أيًض ا في االنتصار على فتن الّدنيا وزينتها عندما ُفتحت له‪ ،‬وهطلت عليه الغنائم‪،‬‬
‫وجمعت له األموال‪ ،‬من الغزوات والفتوحات‪ ،‬واالنتصارات‪ ،‬فكان األمين على مال األمة‪ ،‬مثل‬
‫أمانته على رسالتها‪ ،‬وكان يوزع الغنائم أمام الّناس من إبلها‪ ،‬وبقرها‪ ،‬وغنمها‪ ،‬ودراهمها‪ ،‬وذهبها‪،‬‬
‫وفضتها‪ ،‬وجميع متاعها‪ ،‬ثم يعود إلى بيته خالي الوفاض‪ ،‬طاهر اليد وهو يقول‪َ« :‬أْع ُطوني ِر َداِئي‪،‬‬
‫َفَلْو َكاَن ِلي َعَدُد هِذِه الِع َض اِه َنَعمًا‪َ ،‬لَقَسْم ُتُه َبْيَنُكْم ‪ُ ،‬ثَّم ال َتِج ُدوني َبِخ يًال َو ال َكَّذابًا َو ال َجَبانًا» [رواه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في إقامة الّدولة‪ ،‬فهو قائدها ومؤسسها وبانيها‪ ،‬حيث إّنها ضربت في عهده إلى‬
‫أطراف الجزيرة العربّية‪ ،‬ثم واصلت بعده إلى أن اقتحمت جيوشها مستعمرات الباطل‪ ،‬وثكنات‬
‫الوثنّية‪ ،‬شرًقا وغرًبا‪ ،‬وشمااًل وجنوًبا‪ ،‬إلى أن أتى خلفاء بعده‪ ،‬فوصلوا إلى الّسند شرًقا‪ ،‬بل إلى‬
‫الّص ين‪ ،‬وواصلوا غرًبا إلى نهر الّر اين‪ ،‬وتعمقوا في شمال آسيا‪ ،‬وفي أدغال أفريقيا‪ ،‬فإذا الّدنيا كلها‬
‫ترتج باألذان‪ ،‬والّسجدات الخاشعة في كل مكان‪ ،‬وأجواء البلدان تعّطرت بالقرآن‪ ،‬وإذا الجبال منائر‬
‫ُترفع فيها‪« :‬ال إله إال هللا‪ ،‬محمد رسول هللا»‪ ،‬وإذا الّساحات والباحات مجالس علم وفقه‪ ،‬ووعظ‬
‫ودعوة‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في الّتعامل مع أصناف البشـر‪ ،‬مؤمنهم وكافرهم‪ُ ،‬م خلصهم ومنافقهم‪ ،‬وتعامل ﷺ‬
‫مع الّشيخ الكبير‪ ،‬والّطفل الّص غير‪ ،‬والّشاب الواعد‪ ،‬والّر جل والمرأة‪ ،‬والّر ئيس والمرؤوس‪ ،‬والغنّي‬
‫والفقير‪ ،‬والعالم والجاهل‪ ،‬وتعامل مع أصناف الُم خالفين‪ ،‬من الكفار المشركين‪ ،‬والُم نافقين‬
‫المندسين‪ ،‬وأهل الكتاب‪ ،‬واألعراب المتذبذبين‪ ،‬والبغاة المحاربين‪ ،‬والفجرة العاصين‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في وسائل التأديب والّتربية‪ ،‬والّتعزير والحّد‪ ،‬فهذا بالّص لة والّتأليف‪ ،‬وهذا بالستر‬
‫واإلعراض‪ ،‬وهذا بالّز جر والّتهديد‪ ،‬وآخر بالهجر والّتأنيب‪ ،‬وغيره بإقامة الحّد‪ ،‬كّلها بوحي ُم قّدس‪،‬‬
‫وبنبّو ة معصومة‪ ،‬على حسب ما قّدره هللا وقضاه جّل في ُعاله‪.‬‬
‫ومن نجاحه ﷺ‪ :‬حسن إدارته لبيته‪ ،‬ورعايته ألسرته‪ ،‬فزوجاته كل واحدة منهّن تروي قصة‬
‫حياتها مع الّنبّي ﷺ بكل ُحّب وشوق‪ ،‬وبكل لهفة وحنان‪ .‬كل زوجة من زوجاته تشعر بما ُيكنه لها‬
‫من الحّب واالعتناء؛ لتمام عدله‪ ،‬وبّر ه‪ ،‬وشفقته‪ ،‬ولطفه‪ ،‬ورفقه ﷺ‪.‬‬
‫فكان ناجًح ا ﷺ في حياته الخاّص ة‪ ،‬فال تجد زوجًة أو بنًتا أو عًّم ا أو عمًة أو قريًبا أو صاحًبا‬
‫أو خادًم ا أو خازًنا أو رفيًقا إاّل وقد ملكه بالحّب ‪ ،‬وجذبه بالموّدة‪ ،‬وسكن قلبه بأنوار الّنبّو ة‪ ،‬وَعّم ر‬
‫روحه بإشراق وأشواق الّر سالة‪ ،‬فكلهم ُم حّبون‪ ،‬وكّلهم ُم غرمون‪ ،‬وكّلهم من أجله فدائيون‪ ،‬وكّلهم في‬
‫سبيل دعوته متفانون‪.‬‬
‫بل إّني أطالُع في سير كثير من الّص حابة كيف يتحّو ل الواحد منهم في يوم أو جلسة أو لحظة‬
‫من عدٍو ُم بغٍض يترّبص بالّنبّي ﷺ الّدوائر‪ ،‬ويريد الغّر ة ليقتله‪ ،‬ويريد الفرصة ليفتك به‪ ،‬ثم ما هو إاّل‬
‫أن يجلس بين يديه ﷺ‪ ،‬ويرى وجهه الوّضاء الّز اهر الباهر‪ ،‬ويسمع كالمه الُم بارك‪ ،‬فينقلب ُم سلًم ا‪،‬‬
‫ويتحّو ل مؤمًنا‪ ،‬ويعود ُم ِح ًبا‪ُ ،‬يقّدم روحه بين يدي الّنبّي ﷺ‪ ،‬ويصب دمه فداًء لدعوته‪ ،‬ويجود بكل ما‬
‫يملك إلرضاء هذا الّنبّي الكريم‪ ،‬فتكون أجمل أيامه األيام التي عاشها مع الّنبّي ﷺ‪ ،‬وأبرك نفقاته‬
‫الّنفقة التي دفعها لُنصرة دينه ﷺ‪ ،‬وأجمل خطواته هي الخطوات التي مشاها في سبيل هللا مع نبي هللا‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫ومن نجاحه ﷺ ما تركه من أثر طيب ُم بارك في قلوب أصحابه‪ ،‬فكّلهم رضوا عنه‪،‬‬
‫وجميعهم حصلوا على الغنائم الطيبة منه ﷺ‪ ،‬إّم ا بعلم خاص‪ ،‬أو دعوة مباركة‪ ،‬أو زيارة ميمونة‪ ،‬أو‬
‫هدية كريمة‪ ،‬أو حركة جميلة؛ كأن يشّبك أصابعه بأصابعه‪ ،‬أو يضرب على صدره‪ ،‬أو يمسك‬
‫بكتفه‪ ،‬أو يرقيه‪ ،‬أو يخّص ه بطعام‪ ،‬أو بشراب‪ ،‬أو بلباس‪ ،‬أو يعّينه في منصب‪ ،‬أو إمارة‪ ،‬أو قيادة‬
‫سرية‪ ،‬أو إمامة قومه‪ ،‬أو يسند إليه مهمة‪ ،‬أو يخصه بفضيلة‪ ،‬أو يثني عليه أمام الّناس‪ ،‬وهل الّنجاح‬
‫والّتفوق إاّل هذا؟!‬
‫ونجح ﷺ في إدارة الوقت‪ ،‬وتوجيه اُألّم ة‪ ،‬وتنظيم الجيش‪ ،‬وحفظ األموال‪:‬‬
‫فأّم ا إدارته ﷺ للوقت‪ :‬فقد أدار ﷺ الوقت إدارة حكيمة عظيمة‪ ،‬وقام بكل أعماله وواجباته‬
‫بترتيب وانسيابية‪ ،‬وأعطى نفسه حّقها‪ ،‬واألمة حّقها‪ ،‬وأهله حّقهم‪ ،‬وضيفه حّقه‪ .‬وأدى رسالته‬
‫الّدعوية والّتربوية‪ ،‬ووزع الواجبات على األوقات فلم يترك حقاًل من حقول الخير إاّل أعطاه وقًتا‪،‬‬
‫فصارت حياته كّلها حديقة خصبة ُم ثمرة بأشجار الفضائل والمحاسن‪.‬‬
‫بل تجد في تقسيمه ﷺ لوقته العدل واإلنصاف فلم ُينقص حٌّق حًقا‪ ،‬فللّص الة وقت‪ ،‬ولتالوة‬
‫القرآن وقت‪ ،‬ولألسرة وقت‪ ،‬وللّز يارة وقت‪ ،‬إلى غير تلك األعمال الجليلة في حياته ﷺ‪ ،‬يؤدي كل‬
‫عمل في وقته بكل هدوء وُحّب ونشاط وإقبال‪ ،‬بتناسق عجيب بحيث ال تشعر في حياته ﷺ بحالة‬
‫طوارئ أو ارتباك أو عجلة أو اضطراب‪.‬‬
‫ولم يسبق في تاريخ األّم ة أّنها عرفت مثل هذا الّنظام‪ ،‬وانظر إلى عمل اليوم والّليلة في‬
‫حياته ﷺ‪ ،‬والتي ُأِّلَف فيها مصّنفات كما أّلف فيها الحافظ النسائي‪( :‬عمل اليوم والليلة) والحافظ ابن‬
‫الُّسني والّنووي وغيرهم‪ ،‬فكان وقته ُم نّظًم ا ُم رّتًبا‪ ،‬فهو قدوة الّناجحين‪ ،‬إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫ونجح ﷺ في توجيهه األمة في كل شأن من شؤون الحياة‪ ،‬وفي كل حقل من حقول الّدين‬
‫والّدنيا؛ إمامًة وخطابًة وقيادًة وتربيًة وتعليًم ا وتزكيًة‪ ،‬فما ضعف في حقل‪ ،‬وما قَّل جهده في مجال‪،‬‬
‫بل كلها في مرتبة الكمال‪ ،‬وفي نهاية الجمال‪ ،‬والجالل‪.‬‬
‫وأّم ا تنظيمه ﷺ للجيش‪ :‬فنجح في إدارة الجيش وتنظيمه‪ ،‬من حيث القيادة وترتيب الّسـرايا‪،‬‬
‫والمقدمة والمؤخرة‪ ،‬والميمنة والميسـرة‪ ،‬والقلب والجناحين‪ ،‬وبعث البعوث‪ ،‬وإرسال سرايا‬
‫االستكشاف‪ ،‬وبث العيون‪ ،‬وَعْقد مجلس المشاورة‪ ،‬ونظام األلوية والمعاهدة‪ ،‬وأنظمة الغنائم‬
‫والّتعامل مع األسرى‪ ،‬والمبارزة وباب شهداء المعركة؛ إلى غير ذلك من حسن اإلدارة للجيش‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ال ُيعرف عبر الّتاريخ رجل استقامت عالقته مع كل َم ن حوله على أتّم نظام كما حصل‬
‫للرسول ﷺ‪ ،‬فقد أقام ﷺ عالقة الوّد والّتفاهم والّتعارف مع الّر جال والّنساء‪ ،‬والكبار والّص غار‪ ،‬وأهل‬
‫الحاضرة وأهل البادية وأغنياء الّناس وفقرائهم‪ ،‬وأقويائهم‪ ،‬وضعفائهم‪ ،‬فأنزل كّل إنسان منزلته‪.‬‬
‫وأقام نظام العالقات في حياته ﷺ بترتيب رّباني‪ ،‬فتجد عالقته أّو اًل بالخلفاء الّر اشدين‬
‫األربعة‪ ،‬ثم عالقته بعد ذلك ببقية العشرة المبشرين بالجّنة‪ ،‬ثم بأهل بدر ولهم مرتبة خاّص ة‪ ،‬ثم بأهل‬
‫بيعة الّر ضوان‪ ،‬ثم للمهاجرين منزلة‪ ،‬ولألنصار منزلة‪ ،‬وألمهات المؤمنين مرتبة‪ ،‬وألهل البيت‬
‫فضيلة‪ ،‬ثم للمسلمين أحكام‪ ،‬وألهل الّذمة أحكام‪ ،‬وللبغاة المحاربين نصوص بّينة ظاهرة‪ ،‬وللخوارج‬
‫آيات وأحاديث‪ ،‬وللمعاهدين سنن وقضايا‪ ،‬كل هذا بترتيب إلهي‪ ،‬ووحي رّباني ال يحصل إاّل لنبي‬
‫ُم رسل من عند هللا‪.‬‬
‫وقد شهد بنجاحه ﷺ أولياؤه وأتباعه وحتى أعداؤه‪ ،‬وقّل أن يحدث هذا في الّتاريخ‪.‬‬
‫وكفى باهلل جّل في عاله شاهًدا لنبّيه وُم صطفاه‪ ،‬بالّنجاح في تعليمه وتزكيته وتربيته‪ ،‬وهو‬
‫أصدق القائلين ُسبحانه‪َ{ :‬لَقْد َم َّن ُهَّللا َعَلى اْلُم ْؤ ِم ِنيَن ِإْذ َبَعَث ِفيِه ْم َر ُسوًال ِم ْن َأْنُفِس ِه ْم َيْتُلو َعَلْيِه ْم آَياِتِه‬
‫َو ُيَز ِّك يِه ْم َو ُيَعِّلُمُه ُم اْلِك َتاَب َو اْلِح ْك َم َة َو ِإْن َكاُنوا ِم ْن َقْبُل َلِفي َض َالٍل ُم ِبيٍن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]164‬‬
‫فقد زّكى هللا منهجه فقال تعالى‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَتْه ِدي ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْس َتَقيٍم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪.]52‬‬
‫وزّكى ُخ لقه فقال تعالى‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى ُخ ُلٍق َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪.]4‬‬
‫وزّكى لسانه فقال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َيْنِط ُق َعِن اْلَهَو ى} [النجم‪ :‬اآلية ‪.]3‬‬
‫وزّكى سمعه فقال تعالى‪َ{ :‬و َيُقوُلوَن ُهَو ُأُذٌن ُقْل ُأُذُن َخْيٍر َلُكْم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]61‬‬
‫وزّكى بصره فقال تعالى‪َ{ :‬م ا َز اَغ اْلَبَص ُر َو َم ا َطَغى} [النجم‪ :‬اآلية ‪.]17‬‬
‫وزّكى كتابه فقال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَذا اْلُقْر آَن َيْه ِدي ِلَّلِتي ِه َي َأْقَو ُم } [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫وزّكى شريعته وتبليغه للدين فقال تعالى‪{ :‬اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُكْم ِديَنُكْم َو َأْتَم ْم ُت َعَلْيُكْم ِنْعَم ِتي‬
‫َو َر ِض يُت َلُكُم اِإل ْس َالَم ِدينًا} [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]3‬‬
‫وزّكى ُأّم ته فقال تعالى‪ُ{ :‬كْنُتْم َخْيَر ُأَم ٍة ُأْخ ِر َج ْت ِللَّناِس } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]110‬‬
‫وأقرأ أحياًنا سيرة الّص حابي وقد خرج من الوثنّية‪ ،‬وقضى كثيًر ا من سنواته في مراتع‬
‫الجاهلّية‪ ،‬وفي مرابض الخرافة‪ ،‬وفي معاهد الّشركيات‪ ،‬وفي مغاني الُكفر باهلل‪ ،‬بين األصنام‬
‫واألوثان والفواحش والُم نكرات‪ ،‬فما هو إاّل أن يجلس بين يدي معلم الخير ﷺ ويقول‪« :‬أشهد أن ال‬
‫إله إال هللا‪ ،‬وأشهد أّن محمًدا رسول هللا»‪ ،‬فيهتّز وجدانه‪ ،‬وتتناثر كل ذّر ة من ذرات الجاهلية‪ ،‬وغبار‬
‫الشّـرك من جسمه‪ ،‬فيخرج طاهًر ا مطهًر ا‪ ،‬زاكًيا مرضًّيا‪ ،‬فينقلب جندًيا صادًقا‪ ،‬وطالًبا أميًنا‪ ،‬وتلميًذا‬
‫نجيًبا لرسول الهدى عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فيصبح عمره مع الّنبّي ﷺ بين سجدٍة خاشعة‪ ،‬وتسبيحٍة‬
‫صادقة‪ ،‬ونفقة متقّبلة‪ ،‬وقوٍل صادق‪ ،‬وسريرٍة طاهرة‪ ،‬وإيماٍن عميق‪ ،‬وعقيدٍة صافية‪ ،‬لما أدركه من‬
‫بركة الّر سالة‪ ،‬وما شمله من يمن النبّو ة‪ ،‬وفيض الحكمة‪ ،‬التي تلّقاها من سّيد المرسلين وخاتم الّنبّيين‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫ومن أعظم أدلة نجاحه ﷺ أّنه نجح في ترك جيٍل فريٍد توّلى تربيَتهم بنفسه منذ فجر الّدعوة‪،‬‬
‫ومنذ أن قال‪« :‬يا أّيها الناس قولوا‪ :‬ال إله إال هللا تفلحوا»‪ ،‬إلى أن مات ﷺ غرس في أصحابه‬
‫اإليمان العميق‪ ،‬والّتضحية الُم تناهية‪ ،‬والّص دق الّر اسخ‪ ،‬واليقين الّثابت‪ ،‬فبقوا بعده جبااًل شّم اء في‬
‫وجه أعاصير الُّشبهات‪ ،‬وأطواًدا منيعة أمام عواصف المحن والفتن‪ ،‬فما ارتّدوا‪ ،‬وما وهنوا‪ ،‬وما‬
‫ضعفوا‪ ،‬وما استكانوا‪ ،‬بل واصلوا مسيرة الّدعوة‪ ،‬ومسيرة نشر الّر سالة‪ ،‬ومسيرة العطاء‪ ،‬والبذل‪،‬‬
‫والّتضحية‪ ،‬حتى اتسعت دولة اإلسالم‪ ،‬وطوت القارات الست‪ ،‬وامتطت البحار والقفار‪ ،‬ودّو ى‬
‫تكبير جيوشها في فجاج األرض‪ ،‬وأجواء الّسماء‪.‬‬
‫فهل بعد هذا التفّر د من تفّر د؟! وهل بعد هذا الّنجاح من نجاح؟! الّلهم شّر فنا بخدمة دعوته‪،‬‬
‫واستعلمنا في نشر ُسّنته‪ ،‬واّتخذنا جنوًدا لُنصرة رسالته‪:‬‬
‫اجملد فألك والّتوفيُق والّظفُر‬
‫تسمو ودونك هذي الّش مس والقمُر‬
‫لك الوسيلة من دون الورى وكذا‬
‫شفاعة اخللق يف يوم له خطُر‬
‫كل الّنجاحات يف الّد نيا إذا ُوزنت‬
‫مبجدك الّضخم ال علٌم وال خُرب‬
‫والفائزون ولو َعادوا أبومسٍة‬
‫فتاجك الوحي واآلايت والّس وُر‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ْحُمِس ًنا‬
‫اإلحسان هو غاية اإلتقان‪ ،‬ونهاية اإليقان‪ ،‬وأعلى درجات العبودّية‪ ،‬وأرفع مقامات الّطاعة‪،‬‬
‫وهو دليل على الّنبل‪ ،‬واالعتراف بالفضل‪ ،‬وليس في البشر أحد مأل اإلحسان حياته‪ ،‬وحركاته‪،‬‬
‫وسكناته كرسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫لقد أحسن ﷺ في تضّر عه لمواله فقّر به واجتباه‪ ،‬وأحسن إلى القلوب فأسرها بُح ّبه‪ ،‬وأحسن‬
‫إلى الّنفوس فكسبها بالّشوق إليه‪ ،‬وأحسن إلى األرواح فمألها مودًة واّتباًعا‪.‬‬
‫أحسن للجميع بال حد‪ ،‬وبذل للكل بال ترّدد‪ ،‬أحسن لمن آذاه‪ ،‬وتفّضل على من منعه‪ ،‬ووصل‬
‫من قطعه‪ُ ،‬يساء إليه فُيحسن‪ُ ،‬يسّب فيكظم‪ُ ،‬ينال من عرضه فيصفح‪ ،‬يفيض بالمعروف على من‬
‫يستحق ومن ال يستحق‪ ،‬أحسن هللا إليه فأحسن ﷺ عبادته‪ ،‬وأحسن إلى عباده‪ ،‬تنفيًذا إلرشاد القرآن‬
‫العظيم‪َ{ :‬و َأْح ِس ْن َكَم ا َأْح َسَن ُهَّللا ِإَلْيَك } [القصص‪ :‬اآلية ‪.]77‬‬
‫فقد أحسن هللا منهجه‪ ،‬وأتّم عليه نعمته‪ ،‬وأكمل له الّدين‪ ،‬وعصمه من كل ذنب‪ ،‬ونّقاه من كل‬
‫عيب‪ ،‬فكل حسن جميل هو حظه ونصيبه؛ ألن إحسانه إحسان نبّو ة‪ ،‬وعلم نافع‪ ،‬وعمل صالح‪ ،‬وُسّنة‬
‫ثابتة‪ ،‬وُخ لق كريم‪ ،‬ونهج قويم‪.‬‬
‫فأحسن ﷺ بكل أوجه اإلحسان؛ أحسن ببسمته الّر ائقة اآلسرة‪ ،‬وأحسن بُخ ُلقه الّلطيف‪ ،‬وحلمه‬
‫الّشريف‪ ،‬وكرمه الُم نيف‪.‬‬
‫وأحسن بماله وما منحه هللا من عطايا‪ ،‬وأحسن بعفوه وصفحه‪ ،‬وأحسن بتربيته وتزكيته‬
‫للقلوب‪.‬‬
‫فكل أبواب اإلحسان قد جمعها وكّم لها وألهمها لألّم ة‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إَّن هللا َكَتَب اإلْح َساَن عَلى‬
‫ُكِّل شيٍء » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقد تتّبعت مسألة اإلحسان في حياته ﷺ فوجدته ما ترك أحًدا من الّناس إاّل وقد أعطاه من‬
‫اإلحسان ما يمأل قلبه سروًر ا‪ ،‬وروحه حبوًر ا‪ ،‬وضميره نوًر ا‪.‬‬
‫أحسن ﷺ عبادته لرّبه‪ ،‬فكان يعبد هللا كأّنه يراه رأي العين‪ ،‬يقيًنا‪ ،‬وُح ًّبا‪ ،‬وواليًة‪ ،‬وُقرًبا‪،‬‬
‫وعلًم ا‪ ،‬ومعرفًة‪ ،‬يؤدي العبادة كاملة ُم كّم لة في أوقاتها بأركانها‪ ،‬وُم ستحباتها‪ ،‬وواجباتها‪ ،‬وُسننها‪،‬‬
‫خالصة هلل‪ ،‬ويقول‪« :‬اإلْح َسان أن تعبد هللا كأَّنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإَّنه يراك» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وتقول أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) في «الّص حيحين»‪« :‬إّن الّنبي ﷺ صّلى في‬
‫الّليل أربَع َر َكعاٍت‪ ،‬فال َتسَأْل عن ُح سِنِه َّن وطوِلهَّن »‪.‬‬
‫ُيصلي فكأّنه واقف بين يدي هللا عّز وجل‪ ،‬يسجد فكأّن روحه تطوف حول عرش الّر حمن‪.‬‬
‫ُيرافقه ﷺ اإلحسان على أكمل وجه‪ ،‬في كل طاعة وعبادة‪ ،‬من صالة‪ ،‬وصوم‪ ،‬وحج‪،‬‬
‫وزكاة‪ ،‬وتالوة‪ ،‬وذكر‪ ،‬وصدقة‪ ،‬ويقول ‪ -‬بأبي هو وأمي‪« :-‬ال َيْد ُخ ُل أَح ٌد الَج َّنَة إاَّل ُأِر َي َم ْقَعَد ُه ِم َن‬
‫الَّناِر لو أساَء ‪ِ ،‬لَيْز داَد ُشْك ًر ا‪ ،‬وال َيْد ُخ ُل الَّناَر أَح ٌد إاَّل ُأِر َي َم ْقَعَد ُه ِم َن الَج َّنِة لو أْح َسَن ‪ِ ،‬لَيكوَن عليه‬
‫َحْس َر ًة» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فكان ﷺ األعلى درجًة‪ ،‬واألرفع كعًبا في ُح سن العبادة‪ ،‬وكيف ال؟ وهو من عّلمنا عبادة هللا‪،‬‬
‫وخشيته‪ ،‬واإلنابة إليه‪.‬‬
‫وأحسن ﷺ في أعماله وُم عامالته‪ ،‬ألن هللا يقول‪ِ{ :‬لَيْبُلَو ُكْم َأُّيُكْم َأْح َسُن َعَم ًال} [الملك‪ :‬اآلية‬
‫‪.]2‬‬
‫فأحسننا عماًل هو رسولنا ﷺ‪ ،‬وهو من دّلنا على أحسن األعمال‪ ،‬واألقوال‪ ،‬واألحوال‪.‬‬
‫وحّثنا على إتقان العمل واإلحسان فيه‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬إَّن َهللا تعالى ُيِح ُّب َم َّن العاِم ِل إذا َعِم َل أن‬
‫ُيْح سَن » [رواه الطبراني]‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا اقترض شيًئا قضى بأفضل منه‪ ،‬فكاَن ِلَر ُج ٍل عَلى َر سوِل هللا ﷺ َدْيٌن ‪ ،‬فجاء‬
‫فأغلظ القول لرسول هللا ﷺ‪َ ،‬فَه َّم به أْص َح اُبُه‪َ ،‬فقاَل ‪َ« :‬دُعوُه‪ ،‬فإَّن ِلَص اِح ِب الَح ِّق َم َقااًل ‪ ،‬وقاَل ‪ :‬اْش َتُر وا‬
‫له ِس ًّنا‪ ،‬فأْع ُطوَها إَّياُه‪َ ،‬فقالوا‪ :‬إّنا ال َنِج ُد ِس ًّنا إاّل ِس ًّنا هي أْفَض ُل ِم ن ِسِّنِه ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فاْش َتُر وها‪،‬‬
‫فأْع ُطوها إّياُه‪ ،‬فإَّن ِم ن َخ ْيِر ُكْم أْح َسَن ُكْم َقضاًء » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وأحسن ﷺ في أقواله طاعة لقول الحكيم الخبير ُسبحانه‪َ{ :‬و ُقوُلوا ِللَّناِس ُح ْسنًا} [البقرة‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]83‬فكانت كلماته أحسن الكلمات‪ ،‬وعباراته أطيب العبارات‪ ،‬تصغي لها القلوب فتمتلئ راحة‬
‫وطمأنينة‪ ،‬وتقع في الّنفوس فتغشاها بهجة وسكينة‪ ،‬ويحّث أّم ته ﷺ على الخير من األعمال‪ ،‬والطّيب‬
‫الحسن من األقوال‪ ،‬فيقول‪َ« :‬م ْن َكاَن ُيْؤ ِم ُن ِباهلل َو اْلَيْو ِم اآْل ِخ ِر ؛ َفْلَيُقْل َخ ْيًر ا َأْو ِلَيْص ُم ْت » [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وأحسن ﷺ إلى كل من نعم بُقربه‪ ،‬وشرف بصحبته‪ ،‬من أهله وأصحابه وعشيرته وأتباعه‬
‫إلى يوم الّدين‪ ،‬فكان أعظم ناصح دّلهم على طريق الهداية‪ ،‬وأعظم ُم رشد جّنبهم سبيل الغواية‪،‬‬
‫وأعظم هاٍد أخذ بأيديهم إلى الفوز العظيم‪ ،‬ونّج اهم من الخطر الجسيم‪ ،‬وبسببه يدخلون جّنات الّنعيم‪،‬‬
‫في جوار رٍّب كريم‪ ،‬وهذا غاية اإلحسان ال إحسان فوقه أبًدا‪.‬‬
‫أحسن إليهم ببره ورحمته‪ ،‬وأحسن إليهم بعطفه ورفقه‪ ،‬وأحسن إليهم بأجمل األعمال‪ ،‬وأرّق‬
‫الكلمات‪ ،‬وألطف الّلمسات‪ ،‬وأبرك الّدعوات‪ ،‬وحّثهم على مكافأة كل ُم حسن ولو بالّدعاء‪ ،‬فقال‪َ« :‬م ْن‬
‫َص َنَع ِإَلْيُكْم َم ْعُر وًفا َفَكاِفُئوُه‪َ ،‬فِإْن َلْم َتِج ُدوا َم ا ُتَكاِفُئوَنُه َفاْدُعوا َلُه َح َّتى َتَر ْو ا َأَّنُكْم َقْد َكاَفْأُتُم وُه»‬
‫[رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وعن عمرو بن أخطب األنصاري قال‪« :‬اسَتسقى رسوُل هللا ﷺ‪ ،‬فأَتيُته بإناٍء فيه ماٌء ‪،‬‬
‫وفيه َشعرٌة فَر َفعُتها‪ُ ،‬ثَّم ناَو لُته‪ ،‬فقال‪ :‬اللهَّم َجِّم ْله» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فكان ﷺ خير من امتثل قول الباري ُسبحانه‪َ{ :‬هْل َج َز اُء اِإل ْح َساِن ِإَّال اِإل ْح َساُن } [الرحمن‪:‬‬
‫اآلية ‪.]60‬‬
‫ومن ُح به ﷺ لإلحسان سّم ى ‪ -‬كما ورد ‪ -‬أبناء علي وفاطمة (رضي هللا عنهم) جميًعا؛‬
‫(َح سًنا‪ ،‬وُح سيًنا‪ ،‬وُم حسًنا)‪ ،‬فاإلحسان طريقته‪ ،‬والُح سن نهجه وسيرته ﷺ‪.‬‬
‫وقد أتى بدين كّله ُحْس ٌن في القول‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ْن َأْح َسُن َقْو ًال ِم َم ْن َدَعا ِإَلى ِهَّللا َو َعِم َل‬
‫َص اِلًح ا َو َقاَل ِإَّنِني ِم َن اْلُم ْسِلِم يَن } [فصلت‪ :‬اآلية ‪.]33‬‬
‫وُحْس ٌن في االستماع‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬اَّلِذيَن َيْس َتِم ُعوَن اْلَقْو َل َفَيَّتِبُعوَن َأْح َسَنُه ُأوَلِئَك اَّلِذيَن‬
‫َهَداُهُم ُهَّللا َو ُأوَلِئَك ُهْم ُأوُلو اَألْلَباِب} [الزمر‪ :‬اآلية ‪.]18‬‬
‫وكان يقول ﷺ‪ِ« :‬إَّن ِخ َياَر ُكْم َأَح اِس ُنُكْم َأْخ َالًقا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫َأِج ْدُكْم‬
‫َيْذَهَب‬
‫ومن إحسانه ﷺ لألنصار َلَّم ا خطب فيهم َيوَم ُح َنْيٍن ‪َ ،‬فقاَل ‪« :‬يا َم ْعَشَر األْنَص اِر ‪َ ،‬أَلْم‬
‫ُض اَّل اًل ‪َ ،‬فَه َداُكُم ُهللا بي؟ َو ُم َتَفِّر ِقيَن ‪ ،‬فأَّلَفُكم ُهللا بي؟ َو َعاَلًة‪ ،‬فأْغ َناُكُم ُهللا بي؟ َأاَل َتْر َض ْو َن َأْن‬
‫الَّناُس بالَّشاِء والَبِع يِر ‪َ ،‬و َتْذَهُبوَن بَر سوِل هللا ﷺ إلى ِر َح اِلُكْم ؟ َلْو اَل الِه ْج َر ُة َلُكْنُت اْم َر ًء ا ِم َن األْنَص اِر ‪،‬‬
‫ولو َسَلَك الَّناُس َو اِد ًيا َو ِشْعًبا‪َ ،‬لَسَلْك ُت َو اِد َي األْنَص اِر وِشْعَبَه ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن عظيم إحسانه ﷺ ألصحابه وأتباعه إلى يوم الّدين ما أفاض عليهم من بركات الوحي‬
‫الُم قّدس‪ ،‬ومن فتوحات الّر سالة الُم حّم دية‪ ،‬الُم باركة‪ ،‬الُم طّه رة‪ ،‬فجذب بذلك قلوبهم وملك نفوسهم‪،‬‬
‫كما قال الشاعر‪:‬‬
‫ِس‬
‫ِب‬
‫أح ْن إىل الّناِس َتسَتع ْد ُقلوَبُه ُم‬
‫فطاَلما استعبَد اإلنساَن إحساُن‬
‫أحِس ْن إذا كاَن إمكاٌن وَمقِد رٌة‬
‫فلْن َيدوَم َعَلى اإلحساِن إمكاُن‬
‫فإذا كان رسولنا ﷺ هو سيد الُم حسنين إلينا‪ ،‬وإمام الُم تفّضلين علينا‪ ،‬فهو أحّق الّناس أن‬
‫تنجذب إليه قلوبنا‪ ،‬وتشتاق لرؤيته عيوُننا‪ ،‬وتتلّه ف لصحبته أرواُح َنا‪.‬‬
‫وفاض إحسانه ﷺ على غير الُم سلمين‪ ،‬فقّدم لهم الّدعوة الطّيبة‪ ،‬والُم عاملة العادلة‪ ،‬والُم جادلة‬
‫الحسنة‪ ،‬وإقامة الُحّج ة‪.‬‬
‫وعندما هاجر ﷺ إلى المدينة ضرب أجمل األمثال في ُح سن الّتعامل مع أهل الكتاب من‬
‫اليهود‪ ،‬فدعاهم إلى وثيقة الّتعايش الّسلمي المشترك‪ ،‬والّدفاع عن المدينة‪ ،‬وضمن لهم حقوقهم كاملة‪،‬‬
‫ودعاهم بالتي هي أحسن‪ ،‬وكان معهم بين البّر واإلحسان والحزم وإنفاذ أمر هللا ُم متّثاًل قول الباري‪:‬‬
‫{َال َيْنَه اُكُم ُهَّللا َعِن اَّلِذيَن َلْم ُيَقاِتُلوُكْم ِفي الِّديِن َو َلْم ُيْخ ِر ُج وُكْم ِم ْن ِد َياِر ُكْم َأْن َتَبُّر وُهْم َو ُتْقِس ُطوا ِإَلْيِه ْم ِإَّن‬
‫َهَّللا ُيِح ُّب اْلُم ْقِسِط يَن } [الممتحنة‪ :‬اآلية ‪ ،]8‬وقوله تعالى‪َ{ :‬و َال ُتَج اِد ُلوا َأْه َل اْلِك َتاِب ِإَّال ِباَّلِتي ِه َي‬
‫َأْح َسُن ِإَّال اَّلِذيَن َظَلُم وا ِم ْنُهْم } [العنكبوت‪ :‬اآلية ‪.]46‬‬
‫ولّم ا قدم وفد نجران من الّنصارى إليه ﷺ فأكرمهم‪ ،‬وحّيا مقدمهم‪ ،‬وأنزلهم أحسن منزل‪،‬‬
‫وبّين لهم الُحّج ة والّدليل والبرهان‪.‬‬
‫ومن إحسانه ﷺ إلى أهل الكتاب أّنه لم ُيصادر أموال من وفى بعهده من اليهود‪ ،‬ولم يعتد‬
‫على ممتلكاتهم‪ ،‬ولم يهضم حقوقهم‪ ،‬حتى إّنه رهن درعه ﷺ في ثالثين صاًعا من شعير عند يهودي‪،‬‬
‫وكان يشتري ﷺ وأصحابه من اليهود ويبايعونهم بكل عدل وإحسان ُر غم سيطرة المسلمين الكاملة‬
‫على المدينة؛ ألّنه ﷺ ُبعث بالعدل واإلحسان‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َيْأُمُر ِباْلَعْدِل َو اِإل ْح َساِن } [النحل‪:‬‬
‫اآلية ‪.]90‬‬
‫ومن أعظم صور إحسانه ﷺ إحسانه للكافر الذي مات ُم شرًكا وكان له يد عند الّنبي فكافأه ﷺ‬
‫وأحسن إليه حتى بعد موته‪ ،‬وهو المطعم بن عدي فإّنه أجار الّنبي ﷺ حين عاد من الطائف وأدخله‬
‫مكة‪ ،‬فلّم ا وقعت غزوة بدر وَأسر المسلمون من المشركين سبعين‪ ،‬وأشار بعض الّص حابة بقتلهم‬
‫فقال ﷺ‪« :‬لو كاَن الُم ْط ِع ُم بُن َعِد ٍّي َحًّيا‪ُ ،‬ثَّم َكَّلَم ِني في َهؤاَل ِء ‪َ ،‬لَتَر ْكُتُه ْم له» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ثم أطلقهم عليه الّص الة والّسالم وعفا عنهم‪ ،‬فانظر إلى حفظه للجميل وإحسانه ﷺ لمن أسدى‬
‫إليه معروًفا ولو كان ُم شرًكا‪.‬‬
‫وأحسن ﷺ إلى الوالدين‪ ،‬وجاء بشـريعة البّر واإلحسان التي قرنت حّق الوالدين بحّق هللا‪،‬‬
‫قال تعالى‪َ{ :‬و َقَض ى َر ُّبَك َأَّال َتْعُبُدوا ِإَّال ِإَّياُه َو ِباْلَو اِلَدْيِن ِإْح َسانًا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]23‬‬
‫فكان يدعو ﷺ إلى اإلحسان للوالدين‪ ،‬وطاعتهما في غير معصية هلل‪ ،‬والُّدعاء لهما‪ ،‬وإكرام‬
‫صديقهما‪ ،‬وأوجب برهما وُشكرهما؛ ألّن هللا قرن حّق عبادته وتوحيده وشكره‪ ،‬بحّق الوالدين‪ ،‬فقال‬
‫تعالى‪َ{ :‬أِن اْشُكْر ِلي َو ِلَو اِلَدْيَك } [لقمان‪ :‬اآلية ‪ ،]14‬وقال تعالى‪ُ{ :‬قْل َتَعاَلْو ا َأْتُل َم ا َح َّر َم َر ُّبُكْم‬
‫َعَلْيُكْم َأَّال ُتْش ِر ُكوا ِبِه َشْيًئا َو ِباْلَو اِلَدْيِن ِإْح َسانًا} [األنعام‪ :‬اآلية ‪.]151‬‬
‫وقّدم ﷺ اإلحسان إلى الوالدين على الجهاد‪ ،‬فلما سأله رجل يريد أن ُيجاهد‪ ،‬قال له‪« :‬هْل ِم ن‬
‫َو اِلَد ْيَك َأَح ٌد َح ٌّي ؟ قاَل ‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬بْل ِك اَل ُهَم ا‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَتْبَتِغ ي األْج َر ِم َن هللا؟ قاَل ‪َ :‬نَعْم ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فاْر ِج ْع إلى‬
‫َو اِلَد ْيَك فأْح ِس ْن ُصْح َبَتهُم » [رواه مسلم‪ ،‬والبخاري بمعناه]‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن مسعود (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬سَأْلُت َر سوَل هللا ﷺ أُّي الَعَم ِل أفضُل ؟‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«الَّص الُة ِلوْقتِه ا‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬قلُت ‪ُ :‬ثَّم أٌّي ؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬بُّر الواِلَد ْيِن ‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬قلُت ‪ُ :‬ثَّم أٌّي ؟‪ ،‬قال‪ :‬الِج هاُد في َسبيِل‬
‫هللا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وجعل ﷺ األّم في المحل األّو ل من البّر واإلحسان‪ ،‬فقد جاء رجل يسأله عن أحّق الّناس‬
‫بحسن ُص حبته‪ ،‬فقال ﷺ‪ُ « :‬أُّم َك قاَل الرجل‪ُ :‬ثَّم َم ْن ؟ قاَل ‪ُ :‬ثَّم ُأُّم َك قاَل ‪ُ :‬ثَّم َم ْن ؟ قاَل ‪ُ :‬ثَّم ُأُّم َك قاَل ‪ُ :‬ثَّم‬
‫َم ْن ؟ قاَل ‪ُ :‬ثَّم َأُبوَك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫حتى لو كانت األّم ُم شركة فإّنه ﷺ أمر ببّر ها وصلتها واإلحسان إليها‪ ،‬فعن أسماء بنت أبي‬
‫بكر (رضي هللا عنها) أّنها جاءت إلى رسول هللا تستفتيه في أْن تصل أّم ها وهي ُم شركة‪ ،‬فأجابها‪:‬‬
‫«نعم‪ِ ،‬ص ِلي أّم ِك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فأّي إحسان فوق هذا اإلحسان؟! وأي بٍّر يفوق هذا البّر ؟! حتى في ُم خالفة األّم البنتها في‬
‫الُم عتقد ُيوصي ﷺ ببّر ها‪ ،‬وصلتها‪ ،‬وإكرامها‪ ،‬واإلحسان إليها‪ ،‬امتثااًل لقول الباري سبحانه‪:‬‬
‫{َو َص اِح ْبُه َم ا ِفي الُّدْنَيا َم ْعُر وًفا} [لقمان‪ :‬اآلية ‪.]15‬‬
‫ومنح ﷺ إحسانه للفقراء والمساكين واأليتام عماًل بقول هللا عّز وجل في ُم حكم الّتنزيل‪:‬‬
‫{َو ِباْلَو اِلَدْيِن ِإْح َسانًا َو ِبِذي اْلُقْر َبى َو اْلَيَتاَم ى َو اْلَم َساِك يِن } [النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]36‬وقوله تعالى‪َ{ :‬فَأَّم ا‬
‫اْلَيِتيَم َفَال َتْقَه ْر * َو َأَّم ا الَّساِئَل َفَال َتْنَه ْر } [الضحى‪ :‬اآلية ‪.]10 -9‬‬
‫فكان ﷺ من ألطف الّناس بهم‪ ،‬فقد أحسن إلى أبناء جعفر بن أبي طالب بعد وفاة أبيهم‪،‬‬
‫وأحسن إلى أيتام كانوا في حجره‪ ،‬وأتى بشـرع ُم نّز ل كّله إحسان للفقراء واأليتام والمساكين إلى يوم‬
‫الّدين‪ ،‬وسّن لهم ﷺ سنًنا ثابتة وحقوًقا ُم حّددة حفلت بها عشرات األحاديث الّنبوّية التي تحّث على‬
‫حفظ أموالهم‪ ،‬وصيانة حقوقهم‪ ،‬والعطف عليهم‪ ،‬والمسح على رؤوسهم‪ ،‬ومِّد يد العون لهم‪ ،‬ومنها‬
‫قوله ‪« :‬الَّساِع ي عَلى األْر َم َلِة والِم ْسِك يِن ‪ ،‬كاْلُم جاِهِد في َسبيِل هللا‪ ،‬أِو القاِئِم الَّلْيَل الَّص اِئِم الَّنهاَر »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وال يوجد قانون عالمي أو نظام أرضي فرض للفقراء والمساكين حًقا معلوًم ا لكن في الّدين‬
‫الذي ُبعث به ﷺ‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إَّنَم ا الَّصَدَقاُت ِلْلُفَقَر اِء َو اْلَم َساِك يِن } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]60‬‬
‫بل إّنه ﷺ جعل اإلحسان إلى األيتام عالًج ا ودواًء يذيب قسوة القلب‪ ،‬فعندما جاءه رجل يشكو‬
‫َقْس َو َة َقْلِبِه ‪َ ،‬قاَل َلُه ﷺ‪ِ« :‬إْن َأَر ْدَت َأْن َيِليَن َقْلُبَك َفَأْط ِع ِم اْلِم ْسِك يَن ‪َ ،‬و اْم َسْح َر ْأَس اْلَيِتيِم » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫ومّم ا ُنّز ل عليه ﷺ في كتاب هللا العظيم بالوصاية بالمسكين‪ ،‬واليتيم‪ ،‬واألسير‪ ،‬قوله تعالى‪:‬‬
‫{َو ُيْط ِع ُم وَن الَّطَعاَم َعَلى ُح ِّبِه ِم ْسِك ينًا َو َيِتيًم ا َو َأِس يًر ا} [اإلنسان‪ :‬اآلية ‪.]8‬‬
‫وأحسن ﷺ إلى الجار كما أمره رّبه‪َ{ :‬و اْلَج اِر ِذي اْلُقْر َبى َو اْلَج اِر اْلُج ُنِب َو الَّص اِح ِب ِباْلَج ْنِب}‬
‫[النساء‪ :‬اآلية ‪.]36‬‬
‫وفي الّص حيحين يقول ﷺ‪« :‬ما زاَل ِج ْبريُل ُيوِص يِني بالجاِر ‪ ،‬حَّتى َظَنْنُت أَّنه َسُيَو ِّر ُثُه» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ن كاَن ُيْؤ ِم ُن باهلل والَيوِم اآلِخ ِر َفْلُيْك ِر ْم َج اَر ُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫أي‪ُ :‬يكرم جاره باإلحسان إليه‪ ،‬ومواساته في مصائبه‪ ،‬وعيادته في مرضه‪ ،‬وُم شاركته‬
‫أفراحه‪ ،‬وستر عوراته‪ ،‬واحترام خصوصياته‪ ،‬والتبّسم في وجهه‪ ،‬وتحّم ل ما يصدر منه‪ ،‬وتقديم‬
‫العون له‪.‬‬
‫وحّذر ﷺ من ُيسيء إلى جاره فقال‪« :‬ال َيْد ُخ ُل الَج َّنَة َم ن ال َيْأَم ُن جاُر ُه َبواِئَقُه» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وكان ُيوصي ﷺ أبا ذر (رضي هللا عنه) ويقول له‪« :‬يا أبا َذٍّر إذا َطَبْخ َت َمَر َقًة فأْك ِثْر ماَء ها‪،‬‬
‫وَتعاَهْد ِج يراَنَك » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأوصى ﷺ الّنساء باإلحسان إلى جاراتهّن فقال‪« :‬يا نساء المسلمات‪ ،‬ال َتْح ِقَر َّن جارٌة‬
‫لجارتها ولو ِفْر ِس َن شاٍة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫أي ال تحتقر شيًئا من هدية جارتها ولو كانت بسيطة أو قليلة نفع‪.‬‬
‫وسألت أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) رسول هللا ﷺ فقالت‪« :‬إَّن لي َج اَر ْيِن ‪َ ،‬فِإَلى‬
‫أِّيِه ما ُأْه ِدي؟ َقاَل ‪ :‬إلى أْقرِبِه ما ِم ْنِك َباًبا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫بل إّنه ﷺ جعل اإلحسان إلى الجار‪ ،‬وشهادة الجار في جاره هي الميزان والمقياس لدرجة‬
‫إحسان الفرد أو إساءته‪ ،‬ففي حديث رواه اإلمام أحمد أّن رجاًل قال لرسوِل هللا ﷺ‪« :‬كيَف لي أن‬
‫أعلَم إذا أحسنُت وإذا أسأُت ؟ فقال النبُّي ﷺ‪ :‬إذا سمعت جيراَنك يقولوَن ‪ :‬قد أحسنَت فقد أحسنَت ‪،‬‬
‫وإذا سمعَتهم يقولوَن ‪ :‬قد أسأَت فقد أسأَت »‪.‬‬
‫ومن أجّل صور إحسانه ﷺ إحساُنه إلى كل من أساء إليه بقول أو بفعل‪ ،‬عماًل بقول الّلطيف‬
‫الخبير‪َ{ :‬و َال َتْس َتِو ي اْلَحَسَنُة َو َال الَّسِّيَئُة اْدَفْع ِباَّلِتي ِه َي َأْح َسُن َفِإَذا اَّلِذي َبْيَنَك َو َبْيَنُه َعَداَو ٌة َكَأَّنُه َو ِلٌّي‬
‫َح ِم يٌم } [فصلت‪ :‬اآلية ‪.]34‬‬
‫فكان ﷺ ُيقابل بإحسانه كل إساءة‪ ،‬يقابل الجافي القاسي بالّلين والّر فق‪ ،‬والعبوس الُم تجّه م‬
‫بالبسمة والبشاشة‪ ،‬والقاطع بالبّر والّص لة‪ ،‬والذين سّبوه وشتموه أحسن إليهم فصاروا أصحابه‬
‫الُم قربين‪ ،‬والذين أخرجوه من وطنه أحسن إليهم فواّل هم الواليات‪ ،‬وصاروا أمراءه على األقاليم‪،‬‬
‫والذين قابلوه بالقطيعة والحرمان قابلهم بالبّر ‪ ،‬وتأّلفهم باإلحسان‪ ،‬فصاروا ُكّتابه وأنصاره حتى‬
‫توّفاهم هللا‪.‬‬
‫وأحسن ﷺ إلى البشرّية جمعاء فدعا إلى اإلخاء اإلنسانّي ‪ ،‬والّتكافل االجتماعّي ‪ ،‬وحفظ الّنوع‬
‫البشرّي ‪ ،‬وُم حاربة الُعنصـرّية والعصبّية الجاهلّية‪ ،‬وتحريم سفك الّدماء‪ ،‬وإزهاق األرواح‪ ،‬وسلب‬
‫الحقوق‪ ،‬وأكل األموال بالباطل‪ ،‬وانتهاك األعراض‪ ،‬وسّن قواعد للعالم في مسألة الّتعايش الّسلمي‪،‬‬
‫والّتعارف اإلنساني‪ ،‬والّتسامح بين بني آدم عماًل رّبه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّناُس ِإَّنا َخ َلْقَناُكْم ِم ْن َذَكٍر َو ُأْنَثى‬
‫َو َج َعْلَناُكْم ُشُعوًبا َو َقَباِئَل ِلَتَعاَر ُفوا ِإَّن َأْك َر َم ُكْم ِع ْنَد ِهَّللا َأْتَقاُكْم ِإَّن َهَّللا َعِليٌم َخ ِبيٌر } [الحجرات‪ :‬اآلية‬
‫‪.]13‬‬
‫ومن إحسانه ﷺ إلى الّنفس البشرّية أًيا كانت هذه النفس؛ مسلمة أو غير مسلمة‪ ،‬ما جاء عنه‬
‫ﷺ في «الّص حيحين»‪ :‬أّنه َم َّر ْت به ِج َناَز ٌة َفَقاَم ‪ ،‬فِقيَل له‪« :‬إَّنَه ا ِج َناَز ُة َيُه وِد ٍّي‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬أليَسْت‬
‫َنْفًسا؟!»‪ ،‬إّنها إنسانيته الكريمة التي تفيض إحساًنا وبًّر ا على العالم‪ ،‬وجعل ﷺ للّشيخ الكبير إحساًنا‬
‫وحًقا ُيناسب شيخوخته‪ ،‬فعن َأبي موسى (رضي هللا عنه) َقاَل ‪ :‬قاَل رسوُل َّهللا ﷺ‪ِ« :‬إَّن ِم ْن ِإْج الِل هللا‬
‫َتَعاَلى‪ِ :‬إْك َر اَم ِذي الَّشْيبِة » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وللطفل إحسان ورعاية وحنان‪ ،‬وللبنات الّضعيفات المسكينات حّق الوالية الحسنة‪ ،‬تقول‬
‫عائشة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) ‪َ« :‬ج اَء ْتِني اْم َر َأٌة معَه ا اْبَنَتاِن َتْس َأُلِني‪َ ،‬فَلْم َتِج ْد ِع نِدي غيَر َتْم َر ٍة‬
‫واِح َدٍة‪ ،‬فأْع َطْيُتَه ا َفَقَسَم ْتَه ا بْيَن اْبَنَتْيَه ا‪ُ ،‬ثَّم َقاَم ْت َفَخ َر َج ْت ‪َ ،‬فَدَخ َل النبُّي ﷺ َفَح َّدْثُتُه‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬م ِن اْبُتِلَي ِم َن‬
‫الَبَناِت بشيٍء ‪ ،‬فأْح َسَن إَلْيِه َّن ُكَّن له ِس ْتًر ا ِم َن الَّناِر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وأحسن ﷺ إلى الّطبيعة فجعل للّطريق حًقا‪ ،‬وأمر بإماطة األذى عنه بل جعل ذلك ُشعبة من‬
‫ُشعب اإليمان‪ ،‬وقال‪َ« :‬لَقْد َر َأْيُت َر ُج اًل َيَتَقَّلُب ِفي الجَّنِة ِفي َشَج َر ٍة َقَطَعَه ا ِم ْن َظْه ِر الَّطِر يِق َكاَنْت‬
‫ُتْؤ ِذي الَّناَس » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وجعل لموارد الماء قواعد‪ ،‬منها قوله ﷺ‪« :‬اَل َيْغَتِسْل َأَح ُدُكْم ِفي الَم اِء الَّداِئِم َو ُهَو ُج ُنٌب »‪.‬‬
‫َفقيَل ألبي هريرة‪« :‬كيَف َيْفَعُل ؟ قاَل ‪َ :‬يَتَناَو ُلُه َتَناُو اًل »‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬ال َيُبوَلَّن أَح ُدُكْم في الماِء الّداِئِم ‪ -‬الذي ال َيْج ِر ي ‪ُ ،-‬ثَّم َيْغَتِسُل ِفيِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وحّث ﷺ على المحافظة على الماء وعدم اإلسراف فيه كما قال تعالى‪َ{ :‬و َال ُتْس ِر ُفوا ِإَّنُه َال‬
‫ُيِح ُّب اْلُم ْس ِر ِفيَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]31‬‬
‫وكذلك جعل للمنافع العامة حدوًدا من الُح رمة ليستفيد منها جميع الّناس‪ ،‬ونهى عن إتالف‬
‫المحترمات‪ ،‬وإفساد المرافق العاّم ة‪ ،‬وإهالك الحرث والّنسل‪.‬‬
‫وأرسى ﷺ قاعدة عاّم ة في البّر واإلحسان إلى الّطير والحيوان‪ ،‬بل لكل ذي كبد رطبة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«في ُكِّل َكِبٍد َر ْط َبٍة أْج ٌر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫حتى في «الهّر ة والكلب»‪ ،‬فأخبر ﷺ أنه دخلت امرأة النار في هّر ة‪ ،‬ودخل رجل الجنة في‬
‫كلب‪.‬‬
‫ويقول ﷺ‪« :‬ما ِم ن ُمْسِلٍم َيْغِر ُس َغْر ًسا‪َ ،‬أْو َيْز َر ُع َز ْر ًعا‪َ ،‬فَيْأُكُل منه َطْيٌر َأْو ِإْنَساٌن َأْو‬
‫َبِه يَم ٌة؛ ِإاَّل كاَن له به َص َد َقٌة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول ﷺ‪َ« :‬م ن قَتل عصفوًر ا عَبًثا عَّج إلى هللا يوَم القيامِة يقوُل ‪ :‬يا رِّب! إَّن فالًنا قَتلني‬
‫عَبًثا‪ ،‬ولم يقُتْلني منفعًة» [رواه ابن حبان]‪.‬‬
‫وحّث ﷺ على اإلحسان إلى الحيوان بإطعامه واالهتمام به‪ ،‬وعدم تكليفه ما يفوق طاقته‪،‬‬
‫حتى عند ذبحه أمر باإلحسان إليه وإراحته فقال‪ِ« :‬إَذا َذَبْح ُتْم َفَأْح ِس ُنوا الَّذْبَح‪َ ،‬و ْلُيِح َّد َأَح ُدُكْم َشْفَر َتُه‪،‬‬
‫َو ْلُيِر ْح َذِبيَح َتُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن أبي الّز بير قال‪َ :‬سِم ْعُت َج اِبَر بَن عبِدهللا‪ُ ،‬سِئَل عن ُر ُكوِب الَه ْدِي‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬سِم ْعُت النبَّي‬
‫ﷺ يقوُل‪« :‬اْر َكْبَه ا بالَم عروِف ‪ ،‬إَذا ُأْلِج َت إَلْيَه ا حَّتى َتِج َد َظْه ًر ا «أي‪ :‬مركًبا»‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫هّللف هذا الّدين من دين ما أجمله! ومن شريعة ما أتّم ها! ومن رسول ما أبّر ه وأحسنه! بإيجاز‬
‫إّنه جاء باإلحسان لألرض‪ ،‬وَم ن على األرض‪ ،‬بأبي هو وأمي ﷺ‪:‬‬
‫لقد َح سنْت بك األايُم حىّت‬
‫كأّن لبا ها يف ثوِب عيِد‬
‫َس‬
‫وطابْت يف معاليَك الّليايل‬
‫فصا الّد هر يف فرٍح سعيِد‬
‫َر‬
‫كّل الُم حسنين عبر الّتاريخ كان إحسانهم محدوًدا في المكان والّز مان وفي الّناس إاّل هو ﷺ‪،‬‬
‫فكان إحسانه عاًّم ا شاماًل في الّز مان والمكان والبشر‪ ،‬فما من ُم سلٍم أو ُم سلمة إلى يوم الّدين إاّل‬
‫وصله إحسانه ﷺ في أّي زمان ومكان‪.‬‬
‫وكّل الُم حسنين عبر أطوار الّز من أحسنوا إّم ا بعلمهم أو جاههم أو مالهم أو طعامهم إاّل هو‬
‫ﷺ فإّنه جمع اإلحسان بكل صوره‪ ،‬بطيب الكالم‪ ،‬وإفشاء الّسالم‪ ،‬وإطعام الّطعام‪ ،‬ونشر الُه دى‪،‬‬
‫وتعليم العلم‪ ،‬واإلصالح بين الّناس‪ ،‬والبّر والّص لة والُقربى‪.‬‬
‫وهنا أطرح بين يديك سؤااًل أّيها القارئ الكريم‪ :‬من هو الُم حسن الُم تفّضل عبر الّتاريخ الذي‬
‫وصل إحسانه إلى أرواحنا‪ ،‬وعقولنا‪ ،‬وأبداننا‪ ،‬إاّل محّم د ﷺ؟!‬
‫لم يصل إلينا إحسان مخلوق كائًنا من كان أعظم من إحسانه ﷺ‪ ،‬فبنبّو ته وبرسالته قّدم لنا‬
‫أعظم معروف وأجّل عطية‪.‬‬
‫أحسن إلينا بأن عّلمنا من الجهالة‪ ،‬وهدانا بإذن هللا من الّضاللة‪.‬‬
‫أحسن إلينا بأن أخرجنا بإذن هللا من الّظلمات إلى الّنور‪ ،‬وأرشدنا إلى الّص راط المستقيم‪.‬‬
‫أحسن إلى عقولنا‪ :‬بالعلم الّنافع‪ ،‬والّر أي الّسديد‪ ،‬واإلرشاد الّر باني‪.‬‬
‫وأحسن إلى أرواحنا‪ :‬بالعبادة والّطمأنينة والّسكينة واليقين‪.‬‬
‫وأحسن إلى أبداننا‪ :‬بالّطهارة والّنظافة وُح سن الّز ي وجمال الّسمت‪.‬‬
‫نشهد أّنه قد أحسن إلينا ﷺ إحساًنا لم يسبقه أحد من قبل‪ ،‬ولن يلحقه أحد من بعد‪ ،‬وأّن إحسان‬
‫آبائنا‪ ،‬وأمهاتنا‪ ،‬وأبنائنا‪ ،‬وعلمائنا‪ ،‬وأصدقائنا إلينا‪ ،‬ال يبلغ ُعشر معشار ما قّدمه ﷺ لنا من إحسان‪،‬‬
‫فجزاه هللا خير ما جزى نبًّيا عن ُأّم ته‪:‬‬
‫قاُلوا اهَلوى واحلُّب هْل تصُبو له؟‬
‫أم أنَت يف درب اهَلوى متجّلُد ؟‬
‫قلُت احملّبة للذي نشـَر اهُلدى‬
‫فحبيُب قِليب يِف احلياِة حمّم ُد‬
‫اشقْق ُفؤادي تلَق فيه معاهًد ا‬
‫مكتوبًة وَعَلى الّصحيفِة أمْح ُد‬
‫صّلى عليك هللا ما برٌق َس َرى‬
‫أو َماَس روٌض أو ترمّن ُه دهُد‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َس ِعْيًد ا‬
‫أسعُد البشر على اإلطالق‪ ،‬وأشرحهم صدًر ا‪ ،‬وأطيبهم حياة؛ هو رسول الهدى ﷺ‪ .‬ولّم ا أّلفُت‬
‫كتابي‪( :‬ال تحزن) كانت أصوله من الكتاب والُّسنة التي ُبعث بها رسولنا ﷺ‪.‬‬
‫وقد أجمع الُعقالء والُعلماء أّن للّسعادة أسباًبا َم ن َعمل بها ناَل راحة البال‪ ،‬واطمئنان الّنفس‪،‬‬
‫وطيب العيش‪ ،‬وفاز بالّسالمة والعافية‪ ،‬وكل هذه األسباب اجتمعت في رسول هللا محمد بن عبدهللا‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫وأّو ل أسباب سعادته ﷺ اإليمان باهلل وعبوديته ُسبحانه‪ ،‬واالستسالم ألمره‪ ،‬واالنقياد لشرعه‪،‬‬
‫وكّلها أتى بها ﷺ وحّققها في حياته‪ ،‬ودعا إليها‪ ،‬ففاز بأعلى درجات اإليمان‪ ،‬وأرفع مراتب‬
‫اإلحسان‪ ،‬كما قال عليه الّص الة والّسالم‪« :‬اإلْح ساُن ‪ :‬أْن َتْعُبَد هللا َكأَّنَك َتراُه‪ ،‬فإْن َلْم َتُكْن َتراُه فإَّنه‬
‫َيراَك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فكان له ﷺ من الحياة الطّيبة الّنصيب األوفر واألجر األعظم كما قال تعالى‪َ{ :‬م ْن َعِم َل‬
‫َص اِلًح ا ِم ْن َذَكٍر َأْو ُأْنَثى َو ُهَو ُم ْؤ ِم ٌن َفَلُنْح ِيَيَّنُه َحَياًة َطِّيَبًة َو َلَنْج ِز َيَّنُهْم َأْج َر ُهْم ِبَأْح َسِن َم ا َكاُنوا َيْعَم ُلوَن }‬
‫[النحل‪ :‬اآلية ‪ ،]97‬فراحة الّر وح الّسفر في فضاء الّتوحيد‪ ،‬وكّلما عظم اليقين‪ ،‬وصفت الّنفس من‬
‫أوضار الّطين؛ أشرقت وابتهجت بنور هللا‪ ،‬وتّم ت لها الّسعادة والّسرور‪ ،‬والّنور والحبور‪.‬‬
‫ومن أسباب سعادته ﷺ إيمانه بالقضاء والقدر‪ ،‬وقد جعله ﷺ الّر كن الّسادس من أركان‬
‫اإليمان‪ ،‬فقال‪« :‬اإليمان‪ :‬أْن ُتْؤ ِم َن باهلل‪ ،‬وَم الِئَكِتِه ‪ ،‬وُكُتِبِه ‪ ،‬وُر ُسِلِه ‪ ،‬واْلَيوِم اآلِخ ِر ‪ ،‬وُتْؤ ِم َن بالَقَد ِر‬
‫َخ ْيِر ه وَشِّر ِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬اْس َتِع ْن باهلل َو ال َتْعَج ْز ‪ ،‬وإْن َأصاَبَك شيٌء فال َتُقْل‪ :‬لو أِّني َفَعْلُت كاَن َكذا َو َكذا‪،‬‬
‫َو َلِك ْن ُقْل‪َ :‬قَد ُر هللا َو ما شاَء َفَعَل » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فعاش ﷺ راضًيا بما كتب هللا عماًل بقول الباري‪ُ{ :‬قْل َلْن ُيِص يَبَنا ِإَّال َم ا َكَتَب ُهَّللا َلَنا}‬
‫[التوبة‪ :‬اآلية ‪.]51‬‬
‫رضي ﷺ باختيار هللا له في كل أمر من سراء وضراء‪ ،‬وشّدة ورخاء‪ ،‬وغنى وفقر‪ ،‬وصحة‬
‫وسقم‪ ،‬وكان يقول ﷺ‪َ« :‬عَجًبا َألْم ِر الُم ْؤ ِم ِن ‪ ،‬إَّن أْم َر ُه ُكَّلُه َخ ْيٌر وليَس ذاَك َألَح ٍد إاّل ِلْلُم ْؤ ِم ِن ‪ ،‬إن‬
‫أصاَبْتُه َسَّر اُء َشَكَر َفكاَن َخ ْيًر ا له‪ ،‬وإْن أصاَبْتُه َض ّر اُء َصَبَر َفكاَن َخ ْيًر ا له» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فهو مع هللا‪ ،‬وباهلل‪ ،‬وعلى هللا‪ ،‬وإلى هللا‪ ،‬ومع اختيار هللا ممتثاًل أمره سبحانه‪َ{ :‬و َعَسى َأْن‬
‫َتْك َر ُهوا َشْيًئا َو ُهَو َخْيٌر َلُكْم َو َعَسى َأْن ُتِح ُّبوا َشْيًئا َو ُهَو َشٌر َلُكْم َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم َال َتْعَلُم وَن } [البقرة‪:‬‬
‫اآلية ‪.]216‬‬
‫فمن أراد الّسرور فليرَض بالمقدور‪ ،‬ومن تقّلب مع القدر أِم ن من الكدر‪ ،‬ومن رضي بقضاء‬
‫هللا أرضاه‪ ،‬وأزاح عن قلبه كل هٍم أضناه‪ ،‬فادخْل جّنة الّر ضا تسَلْم وتسَعْد‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا ألّنه قنع بما أعطاه هللا‪ ،‬ورضي بما قسم له‪ ،‬ويقول ﷺ‪« :‬ارَض بما قسَم هللا‬
‫َلَك َتكن أغنى الّناِس » [رواه الّترمذي]‪.‬‬
‫فكان ﷺ ال يطمع إلى زخرف الّدنيا ومالذها‪ ،‬وال ُيرسل نفسه وراء رغباتها وشهواتها‪ ،‬بل‬
‫يكتفي بالقليل‪ ،‬ويرضى بالموجود‪ ،‬ولهذا تجد أهل القناعة أهل حياة طّيبة وسعادة‪ ،‬وأمن وسكينة‪،‬‬
‫يقول عليه الّص الة والّسالم‪َ« :‬قْد َأْفَلَح َم ن َأْس َلَم ‪َ ،‬و ُر ِز َق َكفاًفا‪َ ،‬و َقَّنَعُه هللا بما آتاُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ويقول ﷺ‪َ« :‬م ْن َأْصَبَح ِم ْنُكْم آِم ًنا ِفي ِس ْر ِبِه ‪ُ ،‬م َعاًفى ِفي َجَسِدِه ‪ِ ،‬ع ْنَد ُه ُقوُت َيْو ِم ِه ‪َ ،‬فَكَأَّنَم ا‬
‫ِح يَز ْت َلُه الُّد ْنَيا»[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا ألّنه توّكل على رّبه‪ ،‬واعتمد على خالقه‪ ،‬وفّو ض أمره إلى مواله جّل في‬
‫ُعاله‪ ،‬عماًل بقوله تعالى‪َ{ :‬و َعَلى ِهَّللا َفْلَيَتَو َّكِل اْلُم ْؤ ِم ُنوَن } [التوبة‪ :‬اآلية ‪ ،]51‬وقوله تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫الَّنِبُّي َح ْسُبَك ُهَّللا اَّتَبَعَك ِم َن اْلُم ْؤ ِم ِنيَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪ ]64‬أي كافيك‪ ،‬وقوله تعالى‪َ{ :‬أَلْيَس ُهَّللا ِبَكاٍف‬
‫َعْبَدُه} [الزمر‪ :‬اآلية ‪ ،]36‬فكان ﷺ يكل األمور إلى هللا مع فعل األسباب‪ ،‬فأدركته كفاية هللا‪ ،‬ورعاية‬
‫هللا‪ ،‬وحماية هللا‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا بصالته الخاشعة الُم طمئنة التي كانت مدده في حياته‪ ،‬وزاده في مسيرته‪،‬‬
‫وطاقته في رحلته إلى مرضاة رّبه‪ ،‬فكلما تزاحمت عليه األهوال‪ ،‬وترادفت عليه األعمال الّثقال‪ ،‬قال‬
‫ﷺ‪« :‬يا بالُل ‪ ،‬أِقِم الَّص الَة‪ ،‬أِر ْح نا بها» [رواه أبو داود]‪ ،‬وكان يقول ﷺ‪« :‬وُجِع َلْت ُقَّر ُة َعيني في‬
‫الَّص الِة» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فكانت الّص الة عزاءه وسلوته‪ ،‬وراحته وسكينته‪ ،‬وأمنه وسّر سعادته‪ ،‬فالّص الة جنة الخلود‪،‬‬
‫في عالم الوجود‪ ،‬وهي بارقة األمل‪ ،‬وومضة اإللهام‪ ،‬ومفتاح الّسعادة‪ ،‬ووثيقة الّتفاؤل‪ ،‬وديوان األمن‬
‫واألمان‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا بصبره العظيم الذي هّو ن عليه كل صعب‪ ،‬وقّر ب إليه كل بعيد‪ ،‬كما قال له‬
‫رّبه‪َ{ :‬و اْص ِبْر َو َم ا َص ْبُر َك ِإَّال ِباِهَّلل} [النحل‪ :‬اآلية ‪ ،]127‬وكان يرى ﷺ أّن الّص بر أعظم هدّية‬
‫إلهية‪ ،‬وأجّل عطّية رّبانّية‪ ،‬يقول‪« :‬ما ُأْع ِط َي َأَح ٌد ِم ن َعطاٍء َخ ْيًر ا َو َأْو َسُع ِم ن الَّصْبِر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فهو ﷺ صاحب الّص بر الجميل الذي ال شكوى فيه‪ ،‬وصاحب الهجر الجميل الذي ال أذى فيه‪،‬‬
‫وصاحب الّص فح الجميل الذي ال عتاب فيه‪.‬‬
‫وعاش سعيًدا ﷺ بتذكره لنعم رّبه‪ ،‬وشكره عليها‪ ،‬وتحّدثه بها‪ ،‬ولهجه بحمد هللا دائًم ا وأبًدا‬
‫عماًل بقوله تعالى‪َ{ :‬فاْذُكُر وا آَالَء ِهَّللا َلَعَّلُكْم ُتْفِلُح وَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪ ،]69‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫{َو َسَنْج ِز ي الَّشاِك ِر يَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ ،]145‬وقوله جّل اسمه‪َ{ :‬و َم ْن َشَكَر َفِإَّنَم ا َيْشُكُر ِلَنْفِسِه }‬
‫[النمل‪ :‬اآلية ‪.]40‬‬
‫وكان يقول عليه الّص الة والّسالم‪« :‬الَح مُد ِهلل اَّلذي بِنعمِته َتتُّم الّصالحاُت » [رواه ابن ماجه]‪.‬‬
‫فهو ينّو ع ﷺ الحمد والّشكر بأذكار وأدعية تمأل القلب رًض ا‪ ،‬وسكينة‪ ،‬وطمأنينة‪ ،‬ففّكْر واشكْر ‪،‬‬
‫واحسب قائمة الّنعم وتذّكر‪ ،‬واجعل الّشكر عادة‪ ،‬وتقّر ب به إلى رّبك عبادة‪ ،‬فإّنه طريق الّز يادة‪،‬‬
‫فقدوتك إمام الّشاكرين‪ ،‬وأسوتك خير الّذاكرين ﷺ‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا؛ ألّنه لم يقف على أطالل الماضي باكًيا متأسًفا يكتوي بمآسيه‪ ،‬ويتحّسر‬
‫على مواجعه‪ ،‬بل انطلق على بركة هللا يبني يومه‪ ،‬وُيعّم ر حاضره‪ ،‬ويستعد لُم ستقبله‪ ،‬عماًل بقول‬
‫الباري تقّدس اسمه‪ِ{ :‬تْلَك ُأَّم ٌة َقْد َخ َلْت َلَه ا َم ا َكَسَبْت َو َلُكْم َم ا َكَسْبُتْم َو َال ُتْس َأُلوَن َعَّم ا َكاُنوا َيْعَم ُلوَن }‬
‫[البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]134‬وقوله تعالى‪َ{ :‬عَفا ُهَّللا َعَّم ا َسَلَف } [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]95‬‬
‫فليس في سجّله ﷺ ترداد األحزان على ما سلف وكان‪ ،‬بل إعمار الوقت‪ ،‬واستثمار الّلحظة‬
‫الّر اهنة‪ ،‬والعيش في الّساعة الحاصلة‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا ألّنه عاش في حدود يومه‪ ،‬فمأله بًّر ا وإحساًنا وطاعًة ومعروًفا‪ ،‬وكان‬
‫يقول‪ُ« :‬كْن في الُّد ْنيا َكأَّنَك َغِر يٌب أْو عاِبُر َسِبيل» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فهو يعيش ﷺ حاضره‪ ،‬وينجز أعمال يومه‪ ،‬فهو كالمسافر الحازم اليقظ الّنبيه الذي أخذ‬
‫عّدته‪ ،‬واستعد لرحلته‪ ،‬فليس رهيًنا للماضي بمآسيه‪ ،‬وال ُم عّطاًل نشاطه وعمله ينتظر الُم ستقبل وما‬
‫يحصل فيه‪ ،‬بل اليوم الّنازل الحاضر البهيج بإنجازاته‪ ،‬الجميل بهيئاته وإبداعاته‪« ،‬يوَم ك‪ ،‬يوَم ك»!‬
‫أروع كلمة في سجل الّسعادة‪ ،‬وأجمل ُج ملة في ديوان الحياة‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا؛ ألّنه لم يستسلم لنقد اآلثمين‪ ،‬ولم ينصت لشتم الناقمين‪ ،‬بل أعرض عنهم‪،‬‬
‫ولم يلتفت لهم‪ ،‬عماًل بقول الباري ُسبحانه‪َ{ :‬و اْص ِبْر َعَلى َم ا َيُقوُلوَن َو اْه ُجْر ُهْم َهْج ًر ا َج ِم يًال}‬
‫[المزمل‪ :‬اآلية ‪ ،]10‬وقوله تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َنْعَلُم َأَّنَك َيِض يُق َص ْدُر َك ِبَم ا َيُقوُلوَن * َفَسِّبْح ِبَح ْم ِد َر ِّبَك‬
‫َو ُكْن ِم َن الَّساِج ِديَن } [الحجر‪ :‬اآلية ‪.]98 -97‬‬
‫ولّم ا بّلغه ابن مسعود (رضي هللا عنه) كالًم ا فيه نقد من بعض أهل الغواية قال ﷺ‪َ« :‬ر ِح َم‬
‫هللا ُم وسى‪ ،‬لَقْد ُأوِذ َي بَأْك َثَر ِم ن هذا َفَصَبَر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فكان ﷺ يعفو ويصفح‪ ،‬ولم يتشاغل بسخرية ساخر‪ ،‬وال بلوم فاجر؛ ألّن وقته ﷺ أثمن من أن‬
‫ُيصرف في الّر د على الّتافهين‪ ،‬وأغلى من أن يذهب في مخاصمة العابثين‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا؛ ألّنه قصد وجه هللا بعمله‪ ،‬وأخلص لمواله سعيه‪ ،‬فلم ينتظر شكًر ا من أحد‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّنَم ا ُنْط ِع ُم ُكْم ِلَو ْج ِه ِهَّللا َال ُنِر يُد ِم ْنُكْم َج َز اًء َو َال ُشُكوًر ا} [اإلنسان‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫ولهذا عاش ﷺ ُم طمئن القلب‪ُ ،‬م نشـرح الّص در‪ ،‬شكر معروفه من شكر‪ ،‬وكفره من كفر‪ ،‬فهو‬
‫يطلب الّثواب من العزيز الوّهاب‪ ،‬بخالف من يعمل من أجل الّناس وينتظر شكرهم ومكافأتهم‪ ،‬فإّنه‬
‫يبقى ممّز ق القلب‪ُ ،‬م تحّسـًر ا لكثرة جحودهم‪ ،‬ونكرانهم الجميل‪ ،‬ونسيانهم المعروف‪ ،‬فمن راقب‬
‫الّناس مات هًّم ا‪ ،‬ومن قصدهم بعمله امتأل غًم ا‪ ،‬ومن عرف الّناس استراح‪ ،‬فإّنهم ال ينفعون وال‬
‫يضـّر ون‪ ،‬وال يرفعون وال يضعون‪ ،‬وال ُيحُيون وال ُيِم يتون‪ ،‬وال يعّز ون وال يّذلون‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َأْم َو اٌت َغْيُر َأْح َياٍء َو َم ا َيْش ُعُر وَن َأَّياَن ُيْبَعُثوَن } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]21‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا؛ ألّنه أحسن للّناس بكل أنواع اإلحسان‪ ،‬بالهداية والعلم والجاه‪ ،‬والّطعام‬
‫والمال‪ ،‬والُخ ُلق الحسن‪ ،‬فعّو ضه رّبه انشراًح ا في الّص در‪ ،‬وراحة في البال جزاًء وفاًقا؛ ألّن الجزاء‬
‫من جنس العمل‪ ،‬فمن أراد سعادة الّر وح‪ ،‬وراحة البال‪ ،‬واألمن واالطمئنان‪ ،‬فلُيحسن إلى عباد هللا‬
‫بكل أنواع اإلحسان‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا؛ ألّنه صاحب رسالة وعمل‪ ،‬واجتهاد وتضحية‪ ،‬ليس في حياته فراغ‪ ،‬فهو‬
‫دائم الّنشاط في سبيل الخيرات وأنواع الّطاعات‪ ،‬وهذا من أعظم أسباب سعادته ﷺ‪ ،‬فإّن العمل‬
‫الُم ثمر الجاد الّنافع‪ ،‬دواء ناجع‪ ،‬وعالج نافع‪ ،‬لكل هّم وحزن‪ ،‬بخالف الفراغ‪ ،‬فإّنه طريق الكدر‬
‫والغموم واألوهام‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا؛ ألّنه قوّي القلب‪ ،‬شجاع الّنفس‪ ،‬ال يقلق من المزعجات‪ ،‬وال يخاف من‬
‫األهوال‪ ،‬بخالف الجبان الّر عديد‪ ،‬الذي يرعبه الوعيد‪ ،‬ويرهبه الّتهديد‪ ،‬كما قال هللا تعالى عن‬
‫المنافقين‪َ{ :‬يْح َسُبوَن ُكَّل َص ْيَح ٍة َعَلْيِه ْم } [المنافقون‪ :‬اآلية ‪ ،]4‬فالّشجاع ُم نشرح الصدر‪ ،‬هادئ‬
‫الّنفس‪ ،‬ينام قرير العين‪ ،‬فكيف برسولنا ﷺ أشجع الّشجعان‪ ،‬وإمام األبطال؟! ولهذا كان يدعو ﷺ رّبه‬
‫فيقول‪« :‬اللهَّم ِإِّني أُعوُذ بَك ِم َن الُبْخ ِل ‪ ،‬وَأُعوُذ بَك ِم َن الُجْبِن » [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫فاثبت ُأُح د! وال تخف إاّل من الواحد األحد‪.‬‬
‫وعاش سعيًدا ﷺ؛ ألّنه أحسن ظّنه برّبه‪ ،‬فمن ظّن باهلل الخير‪ ،‬وأّنه جواد كريم‪ ،‬رحمان‬
‫رحيم‪ ،‬وأّنه سوف يرزقه وينصره ويتواله‪ ،‬ويحفظه ويرعاه‪ ،‬أعطاه هللا ما تمنى‪ ،‬وفوق أمنيته كرًم ا‬
‫وجوًدا وفضاًل وإحساًنا‪ ،‬قال تعالى ‪ -‬كما في الحديث الّص حيح‪« :-‬أنا ِع ْنَد َظِّن َعْبِدي بي» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وبالمقابل من ظّن باهلل الّسوء‪ ،‬فعليه دائرة الّسوء‪ ،‬كما قال هللا عن أعدائه‪{ :‬الَّظآِّنيَن ِباِهَّلل َظَّن‬
‫الَّسْو ِء َعَلْيِه ْم َداِئَر ُة الَّسْو ِء } [الفتح‪ :‬اآلية ‪.]6‬‬
‫فرسولنا ﷺ أحسن الناس ظًنا برّبه‪ ،‬وأعرفهم بكرمه وفضله وبّر ه ُسبحانه؛ ولهذا وقع له ما‬
‫ظّن ‪ ،‬وحّقق هللا له ما أراد‪ ،‬فُظّن بالجليِل الجميَل ‪ ،‬وانتظر من الكريم العطاء الجزيل‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا؛ ألّنه كان ينتظر دائًم ا اليسر بعد العسر‪ ،‬والفرج بعد الكرب‪ ،‬ويقول ﷺ‪:‬‬
‫«واعَلْم أَّن في الَّص بِر على ما َتكَر ُه َخ يًر ا َكثيًر ا‪ ،‬وأَّن الَّنصَر مع الَّص بِر ‪ ،‬وأَّن الَفَر َج مع الَكْر ِب‪ ،‬وأَّن‬
‫مع الُعسِر ُيسـًر ا» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فهو ﷺ أوثق الّناس صلة بقول الباري سبحانه‪َ{ :‬فِإَّن َمَع اْلُعْس ِر ُيْس ًر ا * ِإَّن َمَع اْلُعْس ِر ُيْس ًر ا}‬
‫[الشرح‪ :‬اآلية ‪.]6 -5‬‬
‫وكان ﷺ ُيبّشر أصحابه بالّنصر والّتمكين‪ ،‬والفتح والّتيسير‪ ،‬فحياته ُبشرى في ُبشرى‪ ،‬بهذه‬
‫الّنفس الجميلة يسكب الّسعادة في قلوب أصحابه وأتباعه إلى يوم الّدين؛ ألّنه الُم تفائل الذي ينظر إلى‬
‫العاقبة الحميدة‪ ،‬والغد المشـرق نظر من يرى الغيب من ستر رقيق‪ ،‬فالّليل الغاسق يعقبه فجٌر‬
‫صادق‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا ؛ ألّنه اجتنب كافة أنواع الغضب‪ ،‬إاّل الغضب الّشـرعي عندما ُتنتهك‬
‫محارم هللا‪ ،‬أو ُيعصى هللا جّل في عاله‪ ،‬أّم ا غالب أوقاته ﷺ فسـرور وانشراح صدر‪ ،‬باسم الّثغر‪،‬‬
‫ُم شرق الّطلعة‪ ،‬سمح الُخ ُلق‪ ،‬طّيب العشـرة‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيحّذر من الغضب‪ ،‬كما جاء في «صحيح البخاري»‪« :‬أَّن َر ُج اًل قاَل للّنبِّي ﷺ‪:‬‬
‫أْو ِص ِني‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال َتْغَض ْب َفَر َّدَد ِم راًر ا‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال َتْغَض ْب »‪.‬‬
‫ألّن الغضب ُيضّيق الّص در‪ ،‬وُيعّذب الّر وح‪ ،‬وُيدّم ر الّسعادة‪ ،‬وُيفسد المزاج‪ ،‬وُيذهب‬
‫االستقرار الّنفسي‪ ،‬وُيعّكر صفو الحياة‪ ،‬ويمّز ق العالقات األسرّية واالجتماعية‪ ،‬ويهدم جسور‬
‫الّتواصل والّتراحم‪ ،‬ويقضي على الموّدة والمحّبة‪.‬‬
‫ومن أعظم أسباب سعادته ﷺ ما أفاض هللا عليه من العلم الّنافع‪ ،‬وهو الوحي الُم قّدس كتاًبا‬
‫وُسَّنة‪.‬‬
‫فإّن العلم الُم بارك يشرح صدر حامله حتى يكون أوسع من األفق‪ ،‬ويوّسع نظرته للّناس‬
‫والحياة‪ ،‬ويمأل قلبه رًض ا وأمًنا ويقيًنا وسكينة‪ ،‬فكيف بسّيد ولد آدم عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬الذي نهل‬
‫من علمه علماء األّم ة؟! وكل علم نافع تعّلموه هو ذرة من علمه ﷺ‪ ،‬وقطرة من بحر معرفته‪.‬‬
‫فمن أراد سعة البال‪ ،‬وراحة الخاطر‪ ،‬وسعادة الّر وح؛ فليطلب العلم الّنافع من ميراثه المبارك‬
‫ﷺ؛ ولهذا أمر هللا نبّيه ﷺ بطلب الّز يادة من العلم فقال تعالى‪َ{ :‬و ُقْل َر ِّب ِز ْدِني ِع ْلًم ا} [طه‪ :‬اآلية‬
‫‪.]114‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا ؛ ألّنه كان دائم االستغفار‪ ،‬كثير الّلجأ إلى هللا‪ ،‬مع االستغاثة برّبه وخالقه‪،‬‬
‫واالستعانة واالستعاذة به من كّل شٍر وسوء‪ ،‬فكان ﷺ يفزع إلى رّبه في الُم لمات‪ ،‬ويستغيث به في‬
‫الُكربات‪ُ .‬تسافر روحه الّطاهرة في فضاء الّتوحيد‪ ،‬وترحل في عالم الُم ناجاة لملك الملوك‪ ،‬وهو ﷺ‬
‫الذي عّلمنا كلمات األمن والَفَر ج والغوث‪ ،‬مثل‪« :‬حسبنا هللا ونعم الوكيل»‪ ،‬و«ال حول وال قوة إاّل‬
‫باهلل»‪ ،‬و«ال إله إاّل أنت سبحانك إّني كنت من الّظالمين»‪ ،‬و«أستغفر هللا العظيم الذي ال إله إاّل هو‬
‫الحّي القيوم وأتوب إليه»‪ ،‬وغيرها من األدعية الّنبوية‪ ،‬واألدوية الّر بانية‪ ،‬فال تجده ﷺ إاّل ُم ستغيًثا‬
‫ُم ستعيًنا ُم ستعيًذا برّبه‪ ،‬وهو ﷺ األّو اه الُم نيب‪ ،‬الذي يدعو الّسميع المجيب‪ُ ،‬يناجيه ويناديه‪ ،‬ويهتف‬
‫باسمه المبارك الُم قّدس في كل شأن من شؤونه‪.‬‬
‫ومن أهم أسباب سعادته ﷺ أنسه بالقرآن‪ ،‬فعاش معه وتاله آناء الليل وأطراف الّنهار؛ ألّن‬
‫القرآن رفيقه وجليسه وأنيسه‪ ،‬وهو الكتاب المبارك الذي سعد به ﷺ تالوًة وتدبًر ا وعماًل واستشفاًء ‪،‬‬
‫وهو الذي أتى به من عند رّبه‪.‬‬
‫ومْن ُيصاحب القرآن بإعزاز واحتفاء وتقدير وتكريم ُيِفض ُهللا عليه من الفتوحات ما ال‬
‫يخطر بالبال‪ ،‬وال يدور في الخيال‪ ،‬ومن أعظمها انشراح الّص در‪ ،‬وطمأنينة القلب‪ ،‬وذهاب الهموم‬
‫والغموم واألحزان‪ ،‬ولرسولنا ﷺ الحّظ العظيم والّنصيب األعلى‪ ،‬بل هو األّو ل في ذلك ﷺ‪.‬‬
‫ومن أعظم أسباب سعادته عليه الّص الة والّسالم‪ :‬أن هللا طّه ر قلبه من الحقد والحسد‬
‫والبغضاء والّشحناء‪ ،‬وجعله سليًم ا زكًّيا قد فاض بّر ه على الّناس‪ ،‬ووصل عفوه وكرمه وإحسانه إلى‬
‫القريب والبعيد‪ ،‬فهو صاحب القلب الطّيب النّير الّص افي‪ ،‬الّطاهر الّنقي‪ ،‬فقد جاء في «صحيح‬
‫ُم سلم»‪ :‬أّنه لما ُشّق صدره ﷺ ُأزيلت من قلبه َعَلقة‪ ،‬ثم ُغسل بماء زمزم‪ ،‬وُم لئ حكمًة وإيماًنا‪ ،‬فذهب‬
‫كل مرض ُخ لقي من قلبه الّطاهر الزكّي ﷺ؛ ألّن هذه األدواء من الكبر والعجب والحسد والحقد‬
‫والبغضاء إذا تمّكنت من القلب أتلفته‪ ،‬وأذهبت صفوه ونوره وسكينته وسعادته‪ ،‬والُم عافى من عافاه‬
‫ُهللا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َنَز ْعَنا َم ا ِفي ُص ُدوِر ِه ْم ِم ْن ِغ ٍّل ِإْخ َو انًا َعَلى ُسُر ٍر ُم َتَقاِبِليَن } [الحجر‪ :‬اآلية‬
‫‪.]47‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا ؛ ألّن هللا عصمه من المعاصي‪ ،‬وصانه من الّذنوب والخطايا‪ ،‬وهي أكبر‬
‫ما ُيكّدر الّنفس‪ ،‬وُيزعج الّر وح‪ ،‬وبسببها ُيظلم القلب‪ ،‬ويضيق الّص در‪ ،‬ولكن رسولنا ﷺ وهو الّطاهر‬
‫المطّه ر المحفوظ بالعناية الرّبانّية من العصيان‪ ،‬المعصوم بالّر عاية اإللهية من مخالفة الواحد الدّيان‪،‬‬
‫فكل حياته طاعة‪ ،‬وكل أوقاته عبادة‪ ،‬فأنفاسه طهر وزكاء‪ ،‬وألفاظه وألحاظه عفاف وصفاء‪ ،‬فمن‬
‫أراد الحياة الّطيبة الّر ضّية فلُيقلْع عن المعاصي‪ ،‬ويهجِر الذنوب والخطايا‪ ،‬وليجدِد الّتوبة دائًم ا‪،‬‬
‫وُيكثْر من االستغفار‪.‬‬
‫ومن أعظم أسباب سعادته عليه الّص الة والّسالم سرعة تعافيه من الّص دمات‪ ،‬وقّو ة نهوضه‬
‫من األزمات‪ ،‬فهو ﷺ قوي اإلرادة‪ ،‬عظيم الهّم ة‪ ،‬ثابت الجأش‪ ،‬قوي اإلصرار‪ ،‬ماضي العزيمة‪ ،‬ال‬
‫يعترف بالهزيمة‪ ،‬وال باالنكسار‪ ،‬بل يواصل المسيرة في صبر واستمرار‪.‬‬
‫لّم ا ُأخرج من مكة لم يذهب متأسًفا ينزوي في غرفة‪ ،‬أو يتباكى على ما حصل في زاوية‪ ،‬بل‬
‫ذهب إلى المدينة فبنى ُم جتمًعا رّبانًيا‪ ،‬وأقام دولة إسالمية عادلة‪.‬‬
‫ولما ُقوبل باإلساءة واألذى من أهل الطائف‪ ،‬وأدموا عقبيه لم يستكن ولم يضعف ولم يحبط‪،‬‬
‫بل واصل تحّديه‪ ،‬وازداد قّو ة ومضاًء وثباًتا حتى أظهره هللا‪.‬‬
‫ولّم ا ُغلب جيشه ﷺ في معركة أحد‪ ،‬وُقتل سبعون من أصحابه‪ ،‬وانخذل المنافقون بثلث‬
‫جيشه‪ ،‬لم تتحطم عزيمته‪ ،‬ولم تفتر هّم ته‪ ،‬بل قام وجّدد مسيرته‪ ،‬وشّج ع أصحابه‪ ،‬واستمّر في ُص نع‬
‫نجاحه حتى فتح هللا له فتًح ا مبيًنا‪ ،‬ونصـره نصًر ا عزيًز ا‪ ،‬إلى غير ذلك من الكوارث والّنوازل‬
‫واألهوال التي اجتازها ﷺ بحول هللا وقّو ته‪ ،‬وصار بعد ُكربته وأزمته أجّل وأغلى وأعز‪.‬‬
‫ومن أسباب سعادته عليه الّص الة والّسالم نظامه العظيم‪ ،‬وجدوله الجميل المتناسق في حفظ‬
‫وقته‪ ،‬فهو يسير على «برنامج» حكيم منّظم مبارك في عمله‪ ،‬حتى إّن بعض العلماء أّلف فيه كتاًبا‬
‫تحت عنوان‪« :‬عمل اليوم والّليلة» كالّنسائي‪ ،‬وابن الّسني‪ ،‬فيومه وليله مملوآن بالّطاعات‪ ،‬ومختلف‬
‫الخيرات‪ ،‬وأنواع العبادات‪ ،‬فالّص لوات الخمس محّطات مدد وطاقة في حياته ﷺ‪ ،‬فهي مرتبة مؤقتة‪،‬‬
‫قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن الَّص َالَة َكاَنْت َعَلى اْلُم ْؤ ِم ِنيَن ِك َتاًبا َم ْو ُقوًتا} [النساء‪ :‬اآلية ‪.]103‬‬
‫وهذا األمر من أعظم أسباب سعادته ﷺ‪ ،‬وانشراح صدره‪ ،‬وبهجة خاطره‪ ،‬بخالف من عاش‬
‫ُم بعثر الجهود‪ُ ،‬ز مّم ق األوقات‪ ،‬فوضوي العمل‪ ،‬مضطرب األداء‪ ،‬قلق الجهد‪ ،‬مشتت العزيمة‪.‬‬
‫فرسولنا ﷺ كان ينساب في حياته انسياب الهواء العليل في الّر وض البهيج الباسم‪ ،‬وكان يمضي في‬
‫يومه وليله كما يمضـي الّنهر العذب الّز الل بين الحدائق والتالل‪ ،‬بال انقطاع وال اندفاع‪.‬‬
‫ومن أسباب سعادته عليه الّص الة والّسالم تعامله مع القريب والبعيد برؤية المحاسن‪ ،‬وغض‬
‫الّطرف عن المعايب‪ ،‬فال تقع عينه إاّل على الجميل‪ ،‬وال يذكر إاّل الحسن؛ ألّن روحه الّطاهرة‬
‫الّشريفة الّز كّية ﷺ مفطورة على الّطهر والفضل والبّر واإلحسان‪ ،‬بريئة من الكدر وتتّبع الّز الت‪،‬‬
‫واصطياد العثرات‪ ،‬بل سامية ُم شرقة بنور الوحي‪ُ ،‬تبصر الخير وُتهيب به وُتشّج ع عليه‪ ،‬وُتعرض‬
‫عن اإلثم والّنقص والّتقصير‪ .‬انظر له مثاًل كما في الحديث الّص حيح لما أتوا برجل شرب الخمر‪،‬‬
‫وأقام عليه الحّد‪ ،‬فسّبه أحدهم أو لعنه‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ال َتْلَعُنوُه! فوهللا ما َعِلْم ُت إَّنه ُيِح ُّب َهللا وَر سوَلُه»‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫فذكر ﷺ الجانب الُم شرق اإليجابي وأشاد به‪.‬‬
‫ولّم ا أراد تنبيه عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنه) على قيام الليل قال‪ِ« :‬نْعَم الَّر ُجُل عبُدهللا لو‬
‫كاَن ُيَصِّلي ِم َن الَّلْيِل » [ُم تفق عليه]‪ .‬فمدحه أواًل ‪ ،‬ثم نّبهه ثانًيا‪.‬‬
‫فمن أراد حياة الّسالم واألمن والّر احة والّسكينة فلينظر إلى الُح سن والجمال والفضل‪،‬‬
‫وْليغَّض الّطرف عن الّنقص والّتقصير‪َ ،‬يسَعْد وُيسِع ْد من حوله‪.‬‬
‫وعاش ﷺ سعيًدا لم يأكل إاّل طيًبا‪ ،‬ولم يشـرب إاّل طّيًبا عماًل بقول الباري سبحانه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫الُّر ُسُل ُكُلوا ِم َن الَّطِّيَباِت َو اْع َم ُلوا َص اِلًح ا} [المؤمنون‪ :‬اآلية ‪.]51‬‬
‫فكان ﷺ أبعد الّناس عن الُم حّر م والّضار‪ ،‬وكان بعيًدا عن كل ما يؤذي روحه أو جسمه من‬
‫طعام أو شراب أو أقوال أو أفعال‪ ،‬فكان يجتنب الّشبع إلى حد الّتخمة‪ ،‬والجوع المتلف الذي يسلكه‬
‫أهل الّر هبانية‪ ،‬ويجتنب الّسهر الُم نهك للجسم‪ ،‬فكان معتداًل في كّل أموره‪ ،‬وسًطا في كل شؤونه‪،‬‬
‫وهو الذي ُبعث ﷺ بالّر سالة الوسط‪ .‬وإّن مداراة الجسم وإصالح المزاج واالعتدال في ذلك هو‬
‫األوفق واألجمل للحياة الطّيبة‪ ،‬ال حياة أهل البذخ المترفين‪ ،‬وال حياة أهل الّر هبانّية والمتصّو فين‪،‬‬
‫فكانت حياته ﷺ تقوم على الوسطّية واالعتدال‪ ،‬وعبادته على الُح سن والكمال‪ ،‬وزّيه ولباسه ومظهره‬
‫على الُطهِر والّطيب والجمال‪.‬‬
‫ومن أسباب سعادته ﷺ أّنه كان أبعد الّناس عن العادات الّسيئة؛ ككثرة الكالم والّلغو الذي‬
‫ُيذهب الحسنات‪ ،‬وكثرة الّضحك التي ُتقّسي القلب‪ ،‬والغفلة عن ذكر هللا أو استماع الّز ور واإلنصات‬
‫له‪ ،‬أو كل ما يخدش الحياء ويهدم المروءة‪ ،‬فكان ﷺ العفيف الّنزيه‪ ،‬الّطاهر الّشـريف‪ ،‬يحرص على‬
‫كل ما يبهج الّنفس وُينعش الّر وح‪ ،‬من رائحة جميلة زكّية وُطهر ونظافة‪ ،‬فكان ﷺ كاماًل مكّم اًل ‪،‬‬
‫طاهًر ا مطّه را‪ ،‬حسًنا محسًنا ﷺ جميل الّظاهر والباطن‪ ،‬والّر وح والبدن‪ ،‬والّسـر والعالنّية‪ ،‬فهو إمام‬
‫الطّيبين‪ ،‬وقدوة الّطاهرين‪ ،‬إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫طابت بك األايُم اي خري الورى‬
‫والّد هُر أصبح يف وجودك عيَد ا‬
‫أورثتنا عًّزا وجمًد ا خالًد ا‬
‫اترخينا هبداك صار جميَد ا‬
‫وسكبت يف أرواحنا نور اهُلدى‬
‫ووعدتنا عند اإلله خلوَدا‬
‫وكشفت عن أبصاران ُح جب الُّدجى‬
‫حىت لبسَنا يف احلياة َج ديَد ا‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َقاِئًد ا‬
‫هو أعظم قائد في تاريخ البشرية على مر الدهر‪ ،‬ألّنه الّنبّي المعصوم من عند هللا‪ ،‬ال ينطق‬
‫عن الهوى‪ ،‬وال يزيغ‪ ،‬وال يضل‪ ،‬وطاعته واجبة شرًعا‪ ،‬وهي من طاعة هللا كما قال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫اَّلِذيَن آَم ُنوا َأِط يُعوا َهَّللا َو َأِط يُعوا الَّر ُسوَل } [النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]59‬وقوله سبحانه‪َ{ :‬م ْن ُيِط ِع الَّر ُسوَل َفَقْد‬
‫َأَطاَع َهَّللا} [النساء‪ :‬اآلية ‪.]80‬‬
‫إّن قيادته ﷺ ُتدّر س أّنها قيادة رسول كريم قد أّيده هللا بالحكمة‪ ،‬وحفظه بالعصمة‪ ،‬قائد ُيرّبي‬
‫القادة‪ ،‬وإمام يصنع الرّو اد‪.‬‬
‫لقد أسس ﷺ قواعد الّدولة في ُأّم ة عربية لم يكن لديها علم إقامة الّدول أو صنع الحضارات‬
‫كفارس والّر وم واليونان والّص ين وغيرها‪ .‬فهداه هللا إلى كل ما ُيصلح أمر الّدولة من العدل‪،‬‬
‫والّشورى‪ ،‬والمساواة‪ ،‬وتنظيم الجيش‪ ،‬واستعمال الّسفراء‪ ،‬والّتدريب‪ ،‬والُم سابقة‪ ،‬والُم بارزة‪،‬‬
‫والُم ناضلة‪ ،‬وركوب الخيل‪ ،‬وفنون الفروسية‪ ،‬وتقسيم الغنائم‪ ،‬وفنون االستطالع‪ ،‬والّسيطرة‪،‬‬
‫والحراسة‪ ،‬والمناوبة‪ ،‬والحماية‪ ،‬والّر ايات‪ ،‬وأحكام األسرى‪ ،‬والّشهداء‪ ،‬والجوائز‪ ،‬كل ذلك بأحكام‬
‫ُم فّص لة‪ ،‬وحّص ن ﷺ جبهة دولته الداخلية‪ ،‬ولبس لكل حالة لبوسها‪ ،‬وأعطى لكل أمر عّدته‪ ،‬ومن‬
‫حكمة هللا أّنه ُو ِج د في مجتمعه ﷺ كّل ألوان الّطيف من المؤمنين‪ ،‬والمشركين‪ ،‬والمنافقين‪ ،‬وأهل‬
‫الكتاب‪ ،‬والبادية والحاضرة‪ ،‬فعاش كل مقامات الّسياسة الّشرعية باقتدار؛ ليكون قدوة لكل من أتى‬
‫بعده‪.‬‬
‫وكان ﷺ خير أسوة للمؤمنين‪ ،‬يعمل بما يقول‪ ،‬وإذا أمر بأمر أو نهى عن نهي كان األّو ل في‬
‫ذلك ﷺ‪ ،‬وكان مع أصحابه في الميدان أّو ل الُم نّفذين لألوامر‪ ،‬فهو في بدر أّو ل الُم قاتلين ﷺ‪ُ ،‬يسِّو ي‬
‫الّص فوف‪ ،‬ويشّج ع الُم قاتلين‪ ،‬وُيدير المعركة بنفسه‪.‬‬
‫وثبت في أحد وحنيٍن مع قلة من أصحابه‪ ،‬ولم يتزحزح من أرض المعركة‪ ،‬حتى نادى في‬
‫حنيٍن ‪ :‬أنا الّنبي ال كذب‪ ،‬أنا ابن عبد المطلب‪.‬‬
‫وفي غزوة األحزاب لّم ا أمر بحفر الخندق بدأ ﷺ يحفر معهم‪ ،‬وينقل الّتراب على كتفه‬
‫الّشريف‪.‬‬
‫وفي بناء المسجد باشر ﷺ العمل بنفسه‪ ،‬وهكذا في كل موقف يكون األسوة لهم قواًل وعماًل ‪،‬‬
‫وكان ال يأمر بأمر إاّل وهو أّو ل العاملين‪ ،‬وإمام الّسابقين حّتى في المعركة كان في الّص ف األّو ل‬
‫البًسا بيضته‪ ،‬حاماًل سالحه‪ ،‬باذاًل نفسه الّشريفة ودمه الّطاهر ﷺ‪.‬‬
‫وتمّيز ﷺ بالّر فق والّلين‪ ،‬فكان رفيًقا في قوله‪ ،‬رفيًقا في ُخ ُلقه‪ ،‬رفيًقا في عمله‪ ،‬وصح عنه ﷺ‬
‫أّنه قال‪« :‬اللهَّم َم ن َو ِلَي ِم ن َأْم ِر ُأَّم تي شيًئا َفَشَّق عليهم‪َ ،‬فاْش ُقْق عليه‪َ ،‬و َم ن َو ِلَي ِم ن َأْم ِر ُأَّم تي‬
‫شيًئا َفَر َفَق بِه ْم ‪َ ،‬فاْر ُفْق بِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأثنى عليه رّبه في ذلك وقال‪َ{ :‬فِبَم ا َر ْح َم ٍة ِم َن ِهَّللا ِلْنَت َلُهْم َو َلْو ُكْنَت َفًّظا َغِليَظ اْلَقْلِب‬
‫َالْنَفُّضوا ِم ْن َحْو ِلَك } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]159‬‬
‫فهو رفيق فيما يأخذ‪ ،‬رفيق فيما ُيعطي‪ ،‬ولذلك تأّلفت به القلوب‪ ،‬وأقبلت عليه األرواح‪ ،‬فكان‬
‫ﷺ ُيقّدم الّر فق على العنف‪ ،‬واإلنذار واإلعذار على العقوبة‪ ،‬فهو األّو ل في العالم الذي ُيقيم الُحّج ة‬
‫ويب المحّج ة للُم خالف‪ ،‬فال يعترف بالقّو ة الغاشمة‪ ،‬بل هو صاحب القوة العادلة‪ ،‬فما أوقع عقوبة‬
‫بأحد حتى استكمل وسائل اإلقناع واالستدالل والهداية وإقامة البرهان‪ ،‬حتى مكاتباته للملوك كان‬
‫طابعها الّر فق‪ ،‬ويرسل ﷺ الّر سل بالحّج ة واللين والّر حمة‪ ،‬وإعالن رّبانية الّر سالة‪ ،‬وعالمية الّدعوة‪،‬‬
‫وأن المقصد هداية البشر‪ ،‬وليس طلب الُم لك‪ ،‬واحتالل الّدول واستعمار الّشعوب‪.‬‬
‫ومع لينه ﷺ ورفقه كان أحزم الّناس‪ ،‬إذا اتخذ القرار ال يرّده راد‪ ،‬وال يثنيه ظرف‪ ،‬حتى ينفذ‬
‫أمر هللا‪ ،‬ولهذا لّم ا شاور الناس في غزوة أحد وهو في المسجد‪ ،‬وكان من رأيه أن يبقى في المدينة‬
‫ويقاتل فيها‪ ،‬وكان هذا الّر أي أسلم وأحزم‪ ،‬ولكن قام كثير من الناس وسألوه الخروج إلى أحد‪ ،‬فلّم ا‬
‫عزم وصّم م على الخروج ولبس ألمته‪ ،‬قالوا‪ :‬لعّلنا أكرهناك على الخروج يا رسول هللا فلو بقينا في‬
‫المدينة‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬فأبى ﷺ وقال‪َ« :‬م ا َيْنَبِغ ي ِلَنِبٍّي َأْن َيَض َع َأَداَتُه َبْعَد َأْن َلِبَسَه ا َح َّتى َيْح ُكَم هللا‬
‫َبْيَنُه َو ب َعُدِّو ِه » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فكان ﷺ يرسم الخطة وُيشاور‪ ،‬فإذا اتخذ القرار ال يعود وال ينثني‪ ،‬وكذلك الحزم في تنفيذ‬
‫الحدود‪ ،‬وإقامة الواجبات‪ ،‬وإعطاء الحقوق‪ ،‬كما صح عنه أّنه قال‪َ« :‬و اَّلِذي َنْفِسي بَيِدِه ‪ ،‬لو أَّن‬
‫فاِط َم َة بْنَت ُم َح َّم ٍد َسَر َقْت ‪َ ،‬لَقَطْعُت َيَدها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان له ﷺ سياسة وطرق شّتى وأساليب متنوعة في تأديب المخالفين والعصاة المذنبين‪،‬‬
‫فمنهم َم ن ستر عليه‪ ،‬ومنهم َم ن تأّلفه‪ ،‬ومنهم َم ن هجره‪ ،‬ومنهم َم ن أدّبه تعزيًر ا‪ ،‬ومنهم َم ن حجر‬
‫عليه‪ ،‬ومنهم َم ن غّر مه مااًل ‪ ،‬ومنهم َم ن أقام عليه الحد جلًدا أو قتاًل ‪ ،‬ومنهم َم ن استتابه‪ ،‬ومنهم َم ن‬
‫تركه في نفاقه وأعرض عنه‪ ،‬وهكذا بقية األصناف‪ ،‬فلكل حالة ُح كم بديع ُم تقن ثابت يجري على‬
‫ُسنن الّنبّو ة ونور الوحي‪.‬‬
‫وكان له سياسة مع المؤمنين وهم درجات‪ ،‬وسياسة مع المنافقين وهم دركات‪ ،‬وسّن أحكاًم ا‬
‫للُبغاة والُم حاربين‪ ،‬والخوارج‪ ،‬وأهل الكتاب والُم شـركين؛ بحكمة ونظام عادل‪.‬‬
‫وكان من سياسته ﷺ الّتوازن بين حقوق الّدنيا واآلخرة‪ ،‬والّنفس والّناس‪ ،‬والبدن والّر وح‬
‫على أتّم وفاق‪ ،‬وأحسن سياق‪ ،‬بال جور وال شطط‪ ،‬وال إفراط وال تفريط‪ ،‬ولحظ الّنفس وقت‪،‬‬
‫وللواجب عليها وقت‪ ،‬فكل منزلة من منازل الّسير إلى هللا لها عبوديتها في حياته ﷺ‪ ،‬ومراعاة قوة‬
‫دولته وضعفها‪ ،‬ففي أيام الّدعوة األولى لم يأمر بالقتال‪ ،‬بل بالكّف والّص فح والّص بر‪ ،‬وفي الحديبية‬
‫قّدم الصلح على الحرب‪ ،‬فكل قرار بتدبير من الواحد القهار‪.‬‬
‫لم يكن هناك أحد أكثر من الّنبّي ﷺ مشورة ألصحابه‪ ،‬مع العلم أّنه نبّي معصوم عليه الّص الة‬
‫والّسالم‪ ،‬ولكن ليعطي غيره دروًسا في ذلك وليتألف قلوب أصحابه حتى يشاركوه الّر أي‪ ،‬ويكون‬
‫قيامهم بالعمل عن انشراح واقتناع‪ ،‬كما أمره رّبه فقال‪َ{ :‬و َشاِو ْر ُهْم ِفي اَألْم ِر } [آل عمران‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]159‬وقال تعالى‪َ{ :‬و َأْم ُر ُهْم ُشوَر ى َبْيَنُهْم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪.]38‬‬
‫فقد شاورهم ﷺ في مكان الّنزول يوم بدر‪ ،‬وشاورهم في ُأحد‪ ،‬ومن ذلك أخذه بمشورة سلمان‬
‫الفارسي (رضي هللا عنه) يوم األحزاب حينما أشار عليه بحفر الخندق‪ ،‬وفي مواقف أخرى كثيرة‪،‬‬
‫وهذا من معالم فّن القيادة التي كتب عنها أساطين هذا الّتخصص‪.‬‬
‫وتمّيز ﷺ بفهمه ألصحابه‪ ،‬فكان يضع الّر جل المناسب في المكان المناسب‪ ،‬حتى إّنه صّح‬
‫عنه ﷺ أّن أبا ذر (رضي هللا عنه) طلب اإلمارة‪ ،‬فقال‪« :‬يا َأَبا َذٍّر ‪ ،‬إَّنَك َض ِع يٌف ‪ ،‬وأّنها َأَم اَنُة‪ ،‬وأّنها‬
‫َيوَم الِقَياَم ِة ِخ ْز ٌي َو َنَداَم ٌة‪ ،‬إاَّل َم ن َأَخ َذَها بَحِّقَه ا‪َ ،‬و َأَّدى الذي عليه ِفيَه ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وولى ﷺ إمارة الجيوش لألقوياء‪ ،‬فولى خالد بن الوليد ولم يول أبا ذر‪ ،‬وولى عمرو بن‬
‫العاص ولم يول أبا الّدرداء‪ ،‬ولهذا لّم ا أراد ﷺ أن ُيرسل إلى أهل اليمن وهم أهل كتاب أرسل لهم‬
‫عالم األمة معاذ بن جبل‪ ،‬ولما أتت الوفود تطلب المباراة والمبارزة في الخطابة والّشعر اختار‬
‫للخطابة بطلها ثابت بن قيس بن شماس‪ ،‬واختار للّشعر رائده وأستاذه حسان بن ثابت‪ ،‬وهكذا في‬
‫بقية المواقف‪ ،‬فقد كان ﷺ يضع الّر جل الُم ناسب في المكان الُم ناسب‪ ،‬ولن تجد صحابًّيا وضعه‬
‫رسول هللا في وظيفة إاّل وهو أنسب الّناس لها‪ ،‬وفّتش في تاريخ أصحابه‪ ،‬فلن تجده ﷺ وضع ُم فتًيا‬
‫مكان أميٍر ‪ ،‬وال قارًئا مكان قائٍد‪ ،‬وال شاعًر ا مكان ُم فّسٍر ‪ ،‬بل أحكم ُم همات الّص حابة بنور الّنبّو ة‪.‬‬
‫وكان ﷺ على معرفة كبيرة بأتباعه فكان يراعي مواهب الناس وقدراتهم‪ ،‬فللفقيه خطاب‪،‬‬
‫وللعاصي خطاب‪ ،‬وللرئيس جواب‪ ،‬وللمرؤوس جواب‪ ،‬وللشيخ نصح يناسبه‪ ،‬وللطفل حديث‬
‫يستوعيه‪ ،‬وللمرأة درس يليق بها‪ ،‬ولكل فئة ما ُيالئمها من حضرة هذا الّنبّي الكريم ﷺ‪.‬‬
‫وكان من سياسته ﷺ في الّتفضيل مراعاة الّسابقية والّتضحية والفداء والعطاء‪ ،‬فالعشرة‬
‫المبشرون بالجنة لهم منزلتهم‪ ،‬وأهل بدر لهم فضلهم‪ ،‬والّسابقون األّو لون لهم درجتهم‪ ،‬والمهاجرون‬
‫لهم قدرهم‪ ،‬واألنصار لهم مقامهم‪ ،‬كل شيء بنظام وكل تفضيل أو منحة أو جائزة بترتيب عجيب‪.‬‬
‫وكان ﷺ يجعل األعداء درجات حسب الُقرب من الحّق والكتاب الُم نّز ل‪ ،‬فأهل الكتاب أقرب‬
‫من الُم شركين‪ ،‬والّنصارى أقرب من اليهود‪ ،‬حتى إن هللا بشّـره بانتصار الّر وم؛ ألّنهم «أهل كتاب»‬
‫على فارس؛ ألّنهم «مجوس وثنُّيون»‪.‬‬
‫وكان ﷺ يستعمل وسائل الّسالم قبل إعالن الحرب من المفاوضات والّتنازل للمصلحة‪،‬‬
‫وإرسال الّر سل‪ ،‬وعقد االّتفاقيات‪ ،‬والّدخول في حلف مشترك لدفع ما هو أعظم من الحروب والفتن؛‬
‫ولهذا دعا ﷺ إلى المسالمة مع اليهود أّو ل وصوله إلى المدينة‪ ،‬وكتب بينه وبينهم كتاًبا ليأمن كيدهم‪،‬‬
‫ويكّف شّر هم‪ ،‬ويتفّر غ لمواجهة الُم شركين‪.‬‬
‫ومن عبقرية قيادته ﷺ تشجيعه وتحفيزه ألصحابه‪ ،‬فكان يستثمر طاقات أصحابه وقدراتهم‬
‫كل في مجاله‪ ،‬فيثني‪ ،‬ويحّفز‪ ،‬وُيشجع‪ ،‬ليزدادوا تميًز ا وعطاًء ‪ ،‬وأهداهم ألقاًبا ُعرفوا بها إلى يوم‬
‫الّدين‪ ،‬فأثنى على أبي بكر وسّم اه‪ :‬الصّديق‪ ،‬وأبو عبيدة أعطاه لقب‪ :‬أمين األمة‪ ،‬وابن مسعود‪ :‬غالٌم‬
‫معَّلٌم ‪ ،‬والزبير‪ :‬حوارُّي الّر سول‪ ،‬ومعاذ‪ :‬أعلم اُألّم ة بالحالل والحرام‪ ،‬وخالد‪ :‬سيف هللا المسلول‪،‬‬
‫فصارت هذه األلقاب أوسمة على صدور هؤالء األصحاب األطهار‪ُ ،‬تحّفزهم‪ ،‬وتشجعهم‪ ،‬وتزيدهم‬
‫هّم ة ونشاًطا‪.‬‬
‫وصح عنه ﷺ أّنه قال بعدما عادوا من غزوة الغابة‪َ« :‬خ يُر ُفْر ساِننا‪ :‬أبو َقتادَة‪ ،‬وَخ يُر‬
‫َر َّج اَلِتنا‪َ :‬سَلمُة بُن األكَو ِع» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وضرب ﷺ على صدر أبّي بن كعب (رضي هللا عنه) قائاًل ‪ِ« :‬لَيْهِنَك العلُم أبا الُم ْنِذ ِر » [رواه‬
‫مسلم]‪ .‬لقد كانت كلماته الُم لهمة الُم لهبة الُم شّج عة عوامل طاقة عجيبة قوّية ألصحابه ولألمة إلى يوم‬
‫الّدين‪ ،‬كقوله ﷺ‪« :‬أنا وكاِفُل الَيِتيِم في الَج َّنِة َهَكذا‪ ،‬وَأشاَر بالَّسَّباَبِة والُو ْس َطى» [رواه البخاري‬
‫ومسلم]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪َ« :‬م ن َسَّن في اإلْس اَل ِم ُسَّنًة َحَسَنًة‪َ ،‬فُعِم َل بَه ا َبْعَد ُه‪ُ ،‬كِتَب له ِم ْثُل َأْج ِر َم ن َعِم َل بَه ا‪،‬‬
‫َو اَل َيْنُقُص ِم ن ُأُج وِر ِه ْم شيٌء » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن براعة قيادته ﷺ فهمه ألعدائه ومعرفته بهم‪ ،‬ومن ذلك أّن مكرز بن حفص أرسلته‬
‫قريش في صلح الحديبية‪ ،‬فلّم ا أقبل ورآه الّنبّي ﷺ قال‪َ« :‬هذا ِم ْك َر ٌز ‪ ،‬وهو َر ُجٌل َفاِج ٌر »‪[ .‬رواه‬
‫البخاري]‪ ،‬ولّم ا جاء ُسَه ْيُل بُن َعْم ٍر و‪ ،‬فقاَل الّنبّي ﷺ‪« :‬لَقْد َسُهَل َلُكْم ِم ن أْم ِر ُكْم » [ذكره البخاري‬
‫مرساًل ]‪ ،‬فانظر دّقة تمييزه وفحصه عن الّر جال‪ ،‬ومعرفته باختالف الّشخصيات حتى في صف‬
‫أعدائه‪.‬‬
‫ومن أعظم صفاته ﷺ في القيادة أّنه كان قائًدا محبوًبا‪ ،‬وهذه الّص فة من أهم المهارات الفريدة‬
‫الّنادرة في القيادة‪ ،‬فلم يعتمد في قيادته على العنف أو القوة بل على الحّب والّر حمة‪ ،‬فكان ﷺ أحّب‬
‫الّناس إلى أتباعه وأصحابه‪ ،‬غرس فيهم الحّب فاستماتوا في طاعته‪ ،‬وبذلوا الغالي والّر خيص‪،‬‬
‫والّنفس والّنفيس‪ ،‬في اّتباع أمره واجتناب نهيه‪ ،‬بالحّب صنع منهم أعظم جيل عرفته البشـرّية‪،‬‬
‫وأكرم ُم جتمع مّر باإلنسانّية‪.‬‬
‫وَعْن َج اِبٍر (رضي هللا عنه) َقاَل ‪َّ :‬لما اْس َتَو ى َر ُسوُل هللا ﷺ َيْو َم اْلُج ُم َعِة ‪َ ،‬قاَل ‪« :‬اْج ِلُسوا»‪،‬‬
‫َفَسِم َع َذِلَك اْبُن َم ْس ُعوٍد‪َ ،‬فَج َلَس َعَلى َباِب اْلَم ْس ِج ِد‪َ ،‬فَر آُه َر ُسوُل هللا ﷺ‪َ ،‬فَقاَل ‪َ« :‬تَعاَل َيا َعْبَدهللا ْبَن‬
‫َمْسُعوٍد» [رواه أبو داود]‪ .‬إّنه االمتثال بكل حّب ‪.‬‬
‫وفي الّص حيحين أّن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) أكل مع الّنبّي ﷺ َمَر َقًة ِفيَه ا ُدَّباٌء ‪ ،‬وكان‬
‫َر سوُل هللا ﷺ َيْأُكُل ِم ن ذلَك الُّدَّباِء َو ُيْعِج ُبُه‪َ ،‬فقاَل َأَنٌس ‪« :‬ال أَز اُل ُأِح ُّب الُّد َّباَء َبْعَد ما َر َأْيُت َر سوَل هللا‬
‫ﷺ َص َنَع ما َص َنَع »‪.‬‬
‫حتى المشاركة فيما يحب ﷺ في طعامه‪ ،‬وشرابه‪ ،‬ولباسه‪ُ ،‬يحبون كل ما له عالقة بهذا القائد‬
‫العظيم‪.‬‬
‫ومن ُح سن قيادته ﷺ أّنه أّلف بين القلوب‪ ،‬وكسب األعداء‪ ،‬فكان يؤاخي بين المسلمين‪،‬‬
‫ويؤّلف بين قلوبهم‪ ،‬ويتحّبب إلى الجميع ويجذب أنفسهم كما قال تعالى‪َ{ :‬و َأَّلَف َبْيَن ُقُلوِبِه ْم َلْو َأْنَفْقَت‬
‫َم ا ِفي اَألْر ِض َج ِم يًعا َم ا َأَّلْفَت َبْيَن ُقُلوِبِه ْم َو َلِك َّن َهَّللا َأَّلَف َبْيَنُهْم ِإَّنُه َعِز يٌز َح ِك يٌم } [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]63‬‬
‫فكان يتأّلف هذا بطالقة الوجه‪ ،‬وغيَر ه بالكلمة الّطيبة‪ ،‬وآخَر بالهدّية‪ ،‬ورابًعا بالمال الجزيل‪،‬‬
‫وخامًسا باإلمارة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬حتى إّن كثيًر ا من الّص حابة كان يظن في نفسه لكثرة إقبال الّنبّي ﷺ‬
‫وبشـره وحفاوته به أّنه أحب الناس إلى الّنبّي ‪.‬‬
‫وكان له ﷺ بصيرة وحكمة في تأليف القلوب‪ ،‬ورّص الّص ف‪ ،‬وتالفي األخطاء‪ ،‬وإصالح‬
‫العيوب‪ ،‬وسّد الثغرات‪ ،‬فقد مارس ﷺ هذه القضايا مراًسا عملًّيا ميدانًّيا رّبانًّيا‪ ،‬فقد تعامل مع القائد‬
‫والجندي‪ ،‬والمعّلم والطالب‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬والخطيب والّشاعر‪ ،‬والّسفير والوافد‪ ،‬والملك واألمير‪،‬‬
‫والّتاجر واألجير‪ ،‬والعامل البسيط‪ ،‬والمؤمن والمنافق‪ ،‬والمسلم والكافر‪ ،‬حتى مع األعداء كسب‬
‫بعضهم وحّيد آخرين‪ ،‬مثلما فعل يوم الفتح وكسب وّد أبي سفيان فقال‪َ« :‬م ن َد َخ َل َداَر َأِبي ُسْفَياَن‬
‫َفهو آِم ٌن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فكان الّلطف منهجه ﷺ حتى انقاد له الّص عب‪ ،‬وسهل له العسير‪ ،‬فإن لم ينفع الّلطف في جذب‬
‫الُم خالف‪ ،‬كسر شوكته بالعفو والّص فح‪ ،‬كما فعل مع اليهود أّو ل ما وصل المدينة‪ ،‬وكما فعل مع‬
‫رأس الّنفاق عبدهللا بن ُأبّي ابن َسلوَل وغيره‪ ،‬فإن زاد الّشر ولم تنجح الحيل والوسائل حسم مادة‬
‫الّشر بالقوة والحزم‪.‬‬
‫ولقد أعطى هللا رسوله ﷺ قدرة تحويل األعداء إلى أصدقاء كما قال تعالى‪َ{ :‬عَسى ُهَّللا َأْن‬
‫َيْج َعَل َبْيَنُكْم َو َبْيَن اَّلِذيَن َعاَدْيُتْم ِم ْنُهْم َمَو َّدًة} [الممتحنة‪ :‬اآلية ‪.]7‬‬
‫فمّد ﷺ حبال الّر فق‪ ،‬وجسور الموّدة والّتواصل‪ ،‬ولين الجانب‪ ،‬وكريم العشرة‪ ،‬وسمو الخلق‬
‫حتى تعّطفت عليه القلوب‪ ،‬وانجذبت إليه األرواح‪ ،‬كما يقول الشاعر‪:‬‬
‫وأصبح عابدو األصنام ِقدًما‬
‫مُح اَة البيِت والّركِن اليماين‬
‫ومن جميل قيادته ﷺ أّنه كان يعفو عن الّز لة‪ ،‬ويتجاوز عن الخطأ لمن كثرت محاسنه‪،‬‬
‫وظهرت محامده‪ ،‬على نهج‪« :‬إذا بلَغ الماُء قَّلتيِن لم يحِم ِل الخبَث » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وفي «الّص حيحين» أّن حاطب بن أبي بلتعة الّص حابي الذي شهد بدًر ا كاتب المشركين سًّر ا؛‬
‫يخبرهم أّن رسول هللا ﷺ عازٌم على فتح مكة‪ ،‬وأّنه أعّد الجيش في القصة المعروفة‪ ،‬فلّم ا أتاه الوحي‬
‫ودعا حاطب بن أبي بلتعة لُيحاكمه‪ ،‬قال ُعمر بن الخطاب (رضي هللا عنه)‪َ :‬دْع ِني‪ ،‬يا َر سوَل هللا‪،‬‬
‫َأْض ِر ْب ُعُنَق هذا الُم ناِفِق ‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬إَّنه قْد َشِه َد َبْد ًر ا‪َ ،‬و ما ُيْد ِر يَك َلَعَّل هللا اَّطَلَع على َأْه ِل َبْد ٍر َفقاَل ‪:‬‬
‫اْع َم ُلوا ما ِش ْئُتْم ‪ ،‬فَقْد َغَفْر ُت َلُكْم »‪.‬‬
‫فذرفت عينا عمر‪ ،‬وسامح ﷺ حاطًبا؛ لمواقفه ومحاسنه‪.‬‬
‫وكذلك عفا ﷺ عن كثير من المنافقين؛ درًء ا للفتنة‪ ،‬وتسكيًنا للقلوب‪ ،‬وجمًعا للّشمل‪ ،‬فإّن‬
‫الّص حابة استأذنوه في قتل رأس المنافقين عبدهللا بن ُأبي بن سلول‪ ،‬فأبى عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«اَل يتحَّد ُث الَّناُس أَّن محَّم ًدا يقُتُل أصحاَبُه» [ُم تفق عليه]‪ ،‬إلى غير تلك من مواقف العفو الجليلة‪،‬‬
‫ومقامات الّتسامح الجميلة‪.‬‬
‫وألّن من مميزات القائد الّناجح تحديد الهدف‪ ،‬فإّنه ﷺ من أّو ل يوم قد حدد ماذا يريد‪ ،‬وع‬
‫هدفه ومقصوده‪ ،‬وأخذ يعلن في الناس‪« :‬يا أُّيها الناُس ‪ُ ،‬قولوا‪ :‬ال إلَه إال ُهللا‪ُ ،‬تفِلحوا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فمقصوده معروف للعاّم والخاّص وهو إخراج الّناس من الّظلمات إلى الّنور‪ ،‬وهدايتهم إلى‬
‫رّبهم حتى يعبدوا هللا وحده ال شريك له‪ ،‬ومن سياسته ﷺ إعالن مقاصده الّدعوية للخاّص والعاّم‬
‫وأعظمها الّدعوة لإليمان باهلل وتعبيد الّناس له‪ ،‬وقطع دابر الوثنّية‪ ،‬واجتثاث شجرة الجاهلّية‪ ،‬ومع‬
‫هذا كان يراعي المواثيق والعهود‪ ،‬ويحترم االتفاقيات‪ ،‬ويجتنب الغدر ونكث العهود‪ ،‬والخيانة‪ ،‬وقتل‬
‫الّسفراء‪ ،‬وإخالف الموعد والكذب‪ ،‬فهو إمام األوفياء وقدوة الّص ادقين‪.‬‬
‫وظهر في قيادته ﷺ عزمه الذي ال يعرف الّنكوص‪ ،‬وهّم ته التي ال تعرف الّتراجع‪ ،‬فكان‬
‫واثًقا بوعد ربه‪ ،‬يستشرف المستقبل كأّنه يراه رأي العين‪ ،‬وُيبّشـر أصحابه بنصر هللا‪ ،‬وتأييده جّل‬
‫في عاله‪ ،‬وتحّقق كل ما بّشر به ﷺ‪ ،‬ومن قوة توكله على مواله أّنه لم يركن ألهل الجاه‪ ،‬وال ألهل‬
‫المال‪ ،‬وإّنما كان حوله الفقراء والبسطاء والمساكين الذين يريدون الّدين لذات الّدين‪ ،‬وُيضّح ون‬
‫لمبادئهم ال لمطامع أخرى‪ ،‬فغّير بهم العالم‪ ،‬وفتح بهم العقول قبل المعاقل‪ ،‬وهذا من أعظم أسباب‬
‫انتصاراته وتمّيزه ﷺ في عالم القيادة‪.‬‬
‫وكان ُيعّد ﷺ لكل مقام ما يناسبه‪ ،‬فال يقع حادث وال يطرأ طارئ إاّل وأعّد ﷺ الُعّدة‪ ،‬وتهّيأ‪،‬‬
‫وأخذ باألسباب‪ ،‬عماًل بقول الباري ُسبحانه‪َ{ :‬و َأِع ُّدوا َلُهْم َم ا اْس َتَطْعُتْم ُقَّو ٍة} [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]60‬‬
‫وقد الم ُهللا تعالى الُم نافقين على عدم اإلعداد فقال تعالى‪َ{ :‬و َلْو َأَر اُدوا اْلُخ ُر وَج َألَعُّدوا َلُه‬
‫ُعَّدًة َو َلِك ْن َكِر َه ُهَّللا اْنِبَعاَثُهْم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪.]46‬‬
‫فقد تهّيأ ﷺ لغزوة بدر مع العلم أّنها كانت ُم باِغ تة وُم فاِج ئة‪ ،‬وأعّد الُعّدة لغزوة ُأحد‪ ،‬وكذلك‬
‫الهجرة فإّنه أسّر األمر بينه وبين صاحبه حتى خرجوا إلى الغار‪ ،‬ثّم إلى المدينة‪.‬‬
‫ورّتب الجيش‪ ،‬وتهّيأ في غزوة الخندق ونّظم الّص فوف وفاجأ خصومه من األحزاب بحفر‬
‫الخندق‪ ،‬حتى إّنهم اندهشوا لهذه الفكرة التي لم تكن العرب على دراية بها من قبل‪.‬‬
‫وكذلك في غزوة الفتح جهز جيًشا باساًل قوًيا بقيادات‪ ،‬ورايات‪ ،‬وألوية‪ ،‬وسرايا‪ ،‬وكان أحياًنا‬
‫إذا أراد غزوًة وّر ى بغيرها‪ ،‬حتى ُيفهم أّنه يريد مكاًنا غير المكان الذي ُيريده‪ ،‬مثلما فعل في فتح‬
‫مكة‪ ،‬فإّنه كان يسأل عن مياه العرب في جهات أخرى حتى ُيفهم أّنه يريد تلك الجهات‪ ،‬ويعّم ي على‬
‫العدو مسيره‪.‬‬
‫فلم يدخل ﷺ معركة إاّل وقد رّتب لها الّلواء‪ ،‬وصاحب الّلواء‪ ،‬والقادة‪ ،‬والّسرايا‪ ،‬والقلب‪،‬‬
‫والميمنة‪ ،‬والميسرة‪ ،‬واستطلع أحوال األعداء‪ ،‬واستكشف أرض المعركة‪ ،‬وأخذ لكل شيء َأْه بته‪،‬‬
‫وألبس كل حالة لبوسها‪ ،‬كل ذلك بعد الّتوّكل على هللا‪ ،‬واألخذ باألسباب‪ ،‬وبذل الُج هد في الحزم‪،‬‬
‫والعزم‪ ،‬والمضاء‪ ،‬والتقّدم‪.‬‬
‫ومن صفاته الجليلة ﷺ في القيادة قدرته على حل جميع الُم شكالت الُم فاجئة والّطارئة بكل‬
‫سهولة وُيسر‪ ،‬وهذا أصعب ما يواجه القادة عبر الّتاريخ؛ ألّن األزمات قد تباغتهم وتعصف بهم‪،‬‬
‫وتودي بهم لعواقب وخيمة إن لم يتخذوا القرارات الّص ائبة في وقتها دون تأخير أو تردد‪ ،‬لكن هللا‬
‫مّيز عبده ورسوله ﷺ بالحكمة واألناة‪ ،‬والعصمة والّسداد‪.‬‬
‫فقد ذكر ابن إسحاق في «الّسيرة»‪ :‬أّن بطون قريش لّم ا اختلفوا على من يضع الحجر األسود‬
‫مكانه بعد أن أعادوا بناء الكعبة‪ ،‬واحتدم الّشـر بينهم إلى درجة الّتهيؤ للقتال‪ ،‬فقال أحدهم‪ :‬سنرضى‬
‫بُح كم أّو ل من يدخل علينا من هذا الباب‪ .‬فدخل ﷺ ولّم ا أطلعوه على المشكلة قال مباشرة‪ :‬هلّم إلّي‬
‫ثوًبا‪ ،‬فُأتي به‪ ،‬فأخذ الحجر األسود فوضعه فيه بيده‪ ،‬ثم قال‪ :‬ليأخذ كل واحد بناحية من الّثوب‪ ،‬ثم‬
‫ارفعوا جميًعا ففعلوا‪ ،‬حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه بيده الّشـريفة ﷺ‪.‬‬
‫وكانت ُتعرض عليه ﷺ ُم شكالت وُم عضالت يومية فيبّت فيها بكل بساطة وارتياح وهدوء‬
‫وثقة‪ ،‬فيكون حكمه األسلم واألعدل واألنجع‪ ،‬وتنتهي كل أزمة إلى عاقبة حميدة‪ ،‬بفضل ما أعطاه هللا‬
‫من بركة الّنبوة‪ ،‬وسداد الّر أي‪ ،‬وصواب الّنظرة‪.‬‬
‫وأّم ا عن تحّكمه وسيطرته ﷺ في المعارك والغزوات‪ ،‬فقد ُدّر س وُأّلف في ذلك المؤلفات‪،‬‬
‫وذكر الخبراء العسكريون هذا الجانب المتمّيز من قيادته ﷺ‪ ،‬فكان يتحّكم في الموقع الذي يأتيه‪،‬‬
‫ويسيطر على اتجاهات المعركة‪ ،‬كما حدث في بدر لّم ا أخذ ﷺ المكان المناسب في الوادي‪ ،‬وشاور‬
‫الّص حابة فأشار الُح باب بن الُم نذر بأن يجعل الّنبّي ﷺ الماء خلف ظهره‪ ،‬حتى ال يشرب منه كفار‬
‫قريش‪.‬‬
‫وفي ُأحد سيطر ﷺ على موقع المعركة‪ ،‬وجعل الّر ماة في الجبل؛ ليحموا ظهور المسلمين‪.‬‬
‫وفي غزوة األحزاب سيطر ﷺ على ساحة القتال‪ ،‬وحفر الخندق؛ ليحمي به المدينة أمام‬
‫اقتحام خيول المشركين‪ ،‬وكان ﷺ يرسل طالئع االستطالع‪ ،‬ويبّث العيون التي تأتيه باألخبار‪ ،‬كما‬
‫أرسل حذيفة بن اليمان (رضي هللا عنهما) في الخندق يأتيه بخبر األحزاب‪.‬‬
‫ومن تمّيز قيادته ﷺ وضعه المال العام مواضعه‪ ،‬فال يذهب درهم وال دينار إاّل في مصرفه‬
‫المعّد له بحكمة وعدل‪ ،‬وهو األّو ل ﷺ أبد الّدهر الذي لم َيحْز لنفسه من المال شيًئا‪ ،‬ولم يوّر ث درهًم ا‬
‫وال ديناًر ا‪ ،‬وهو الحريص على طهارة المال العام والخاص من الحرام‪ ،‬فال ربا وال غش وال رشوة‬
‫وال قمار وال ميسر‪ ،‬وال مال فيه مظلمة‪ ،‬إّنما كل دخله طّيب‪ ،‬ومصرفه طيب‪ ،‬والمال عنده محفوظ‬
‫ألهله من أّم ته بتقسيم شرعّي نبوّي ‪ ،‬ال اضطراب فيه‪ ،‬وهو ينادي بكسب المال الحالل وطلب‬
‫الّر زق‪ ،‬وهجر الكسل‪ ،‬واالعتماد على الّناس‪ ،‬وترك المسألة‪.‬‬
‫وكان ُيحاسب أهل الفساد المالي‪ ،‬كمن غَّل من الغنيمة‪ ،‬وهو األخذ منها قبل قسمتها‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪َ{ :‬و َم ْن َيْغُلْل َيْأِت ِبَم ا َغَّل َيْو َم اْلِقَياَم ِة } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]161‬‬
‫وحاسب الّر جل الذي أرسله ليجمع الّص دقات فقال‪ :‬هذا لكم وهذا ُأهدي إلَّي ‪ .‬فغضب ﷺ‬
‫وقال‪« :‬فهاَّل َج َلَس في َبْيِت أِبيِه وُأِّم ِه ‪َ ،‬فَيْنُظُر أُيْهَدى له أْم ال؟!» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وربما بذل المال لكسر شوكة من ُتخشى عداوته‪ ،‬أو لهدايته‪ ،‬كما أعطى المؤّلفة قلوبهم‬
‫وترك األنصار‪.‬‬
‫ومن حكمة هللا برسوله ﷺ أّنه عاش مراحل الحياة كلها‪ ،‬وذاقها بحلوها ومّر ها من الغنى‬
‫والفقر‪ ،‬والّص حة والمرض‪ ،‬والّنصر والهزيمة‪ ،‬والعسـر والُيسـر‪ ،‬والّسرور والحزن‪ ،‬فقام بعبودية‬
‫كل حالة‪ ،‬وصار قدوة لألّم ة‪ ،‬ففي كل موقف يمر بأحدهم يجد قدوته فيها رسول هللا ﷺ‪.‬‬
‫ومن دّقة قيادته ﷺ استعماله كل وسيلة مشروعة لتبليغ رسالته‪ ،‬وهو ما ُيسمى في العصر‬
‫الحديث بـ «الّسياسة اإلعالمية»‪ ،‬فهو سّيد الُخ طباء‪ ،‬وإمام الُبلغاء‪ ،‬واألّو ل في الكلمة المؤّثرة‪ ،‬دخل‬
‫ﷺ بخطابته أسواق العرب‪ ،‬وهّز بها المنابر‪ ،‬وحّر ك بها المشاعر‪ ،‬وهو سّيد الواعظين وأبلغهم‪،‬‬
‫وهو صاحب الّنصيحة والوصايا الخاصة والعاّم ة برفق‪ ،‬وقد جّند معه علماء وفقهاء‪ ،‬وخطباء‬
‫وشعراء لنشر دعوته في األرض‪.‬‬
‫وهو الذي استعمل الُم راسالت مع الملوك واألعيان‪ ،‬وتحّدث لكل فئٍة بأسلوب وطريقة‬
‫تناسب الحال والمقام‪ ،‬فله خطاب يخص الكبير والصغير‪ ،‬والّشاب والّطفل‪ ،‬والّر جل والمرأة‪،‬‬
‫والمسلم والمشرك‪ ،‬والمنافق والكتابي‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬فقد ألهمه هللا ما يصلح كل فرد وفئة‪ ،‬وليست‬
‫هذه إاّل له ﷺ‪ ،‬واستعمل في اإلعالم المحاورة والمشاورة‪ ،‬والبشارة والّنذارة‪ ،‬والّترغيب والّترهيب‪،‬‬
‫واإلقناع والبالغة‪ ،‬واإلسهاب واإليجاز‪ ،‬عن طريق الكلمات‪ ،‬والُخ طب‪ ،‬والّدروس‪ ،‬والّندوات‪،‬‬
‫والمواعظ‪ ،‬وضرب األمثلة والقصص‪ ،‬والتطبيق العملي‪ ،‬والتوضيح باإلشارة والّر سم‪ ،‬واستعمال‬
‫كل وسيلة ُم باحة‪ُ ،‬م قنعة‪ ،‬مؤثرة‪.‬‬
‫واهتم ﷺ بالبيئة فسّن أحكاًم ا في استثمار األرض‪ ،‬وصيانة األشجار‪ ،‬وعدم تلويث البيئة‪،‬‬
‫والّنهي عن تنجيس اآلبار واألنهار والطرقات‪ ،‬واألمر بتنظيف الّطريق‪ ،‬العام وإزالة األذى‪،‬‬
‫وطهارة األفنية‪ ،‬وإعطاء الّطريق حقه‪ ،‬واحترام مرور الّناس‪ ،‬كما جاء في «الّص حيحين» أّنه قال‪:‬‬
‫«إَّياُكْم والُج ُلوَس بالُّطُر قاِت‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما لنا ِم ن َم جاِلِسنا ُبٌّد َنَتَح َّد ُث فيها‪ .‬فقاَل ‪ :‬إْذ أَبْيُتْم‬
‫ِإاَّل الَم ْج ِلَس ‪ ،‬فأْع ُطوا الَّطِر يَق َح َّقُه‪ ،‬قالوا‪ :‬وما َحُّق الَّطِر يِق يا َر سوَل هللا؟‪ ،‬قاَل ‪َ :‬غُّض الَبَص ِر ‪ ،‬وَكُّف‬
‫األَذى‪ ،‬وَر ُّد الَّسالِم ‪ ،‬واألْم ُر بالَم عروِف ‪ ،‬والَّنْه ُي َعِن الُم ْنَكِر »‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن رسول هللا ﷺ قال‪« :‬اَّتُقوا الَّلَّعاَنْيِن ِ» قالوا‪َ :‬و ما‬
‫الَّلَّعاَناِن يا َر ُسوَل هللا؟‪ ،‬قاَل ‪« :‬الذي َيَتَخ َّلى(يتغّو ط) في َطِر يِق الَّناِس ‪َ ،‬أْو في ِظ ِّلِه ْم » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬ما ِم ن ُمْسِلٍم َيْغِر ُس َغْر ًسا‪َ ،‬أْو َيْز َر ُع َز ْر ًعا‪َ ،‬فَيْأُكُل منه َطْيٌر َأْو ِإْنَساٌن َأْو َبِه يَم ٌة؛‬
‫ِإاَّل كاَن له به َص َد َقٌة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وله ﷺ أحاديث في فضل الغرس والّز رع‪ ،‬والّنهي عن قطع الّشجر المثمر واإلفساد في‬
‫األرض عموًم ا‪ ،‬وله أحاديث في الّتعامل مع الكنوز المدفونة‪ ،‬والمعادن األرضية‪ ،‬وفضل إحياء‬
‫األرض الميتة ونظام التمّلك‪.‬‬
‫ومن فنون قيادته‪ ،‬وبراعة ريادته‪ ،‬وتمام سيادته ﷺ‪ ،‬أّنه أخرج قادة‪ ،‬كل واحد منهم قائٌد‬
‫للّناس في فّنه إلى يوم الّدين‪ ،‬فإّنك تجد أبا بكر (رضي هللا عنه) قاد األزمات التي مّر ت به باقتدار‪،‬‬
‫وهي خمس مواقف شديدة وعصّية‪ ،‬كخطبته البارعة يوم وفاة رسول هللا ﷺ‪ ،‬والفصل في بيعة‬
‫الخليفة‪ ،‬وحروب الّر دة‪ ،‬وجمع القرآن‪ ،‬وإنفاذ جيش أسامة‪.‬‬
‫وتجد عمر (رضي هللا عنه) إماًم ا ألهل الحزم إلى يوم الّدين‪ ،‬وُأبّي بن كعب (رضي هللا‬
‫عنه) شيًخ ا للقّر اء أبد الّدهر‪ ،‬وابن عباس (رضي هللا عنهما) أستاًذا للُم فسرين على مدى الّتاريخ‪،‬‬
‫وزيد بن ثابت (رضي هللا عنه) عالم الفرائض إلى يوم يبعثون‪ ،‬ومعاذ بن جبل (رضي هللا عنه) إمام‬
‫العلماء في علم الحالل والحرام بقية أيام الّدهر‪ ،‬وكّلهم قد أخذ فّنه وموهبته وميراثه ودربته من ُم عِّلم‬
‫الخير ﷺ‪.‬‬
‫كان ﷺ قائًدا للّدولة‪ ،‬فدّبرها كأحكم قائد على وجه األرض‪ ،‬وصارت دولته مضرب المثل‬
‫في العدل والّشورى‪ ،‬وتنفيذ األحكام‪ ،‬واحترام حقوق اإلنسان‪ ،‬وكفالة كل يتيم وضعيف ومسكين‪ ،‬مع‬
‫الّسعي في حفظ الّنوع البشـري‪ ،‬وحقن الّدماء‪ ،‬وحفظ األموال‪ ،‬وصيانة األعراض‪ ،‬مع ُح سن‬
‫الّتواصل الحضاري وجميل الّتمّدن‪ .‬فرسول هللا ﷺ ليس ُم جّر د ُم بّلغ عن هللا بالقول‪ ،‬بل هو إمام في‬
‫القيادة‪ ،‬وقدوة في الّر يادة‪ ،‬قائد ُم ؤّيد بالوحي‪ ،‬خاض الحروب بنفسه‪ ،‬وأدار المعارك وأشرف عليها‪،‬‬
‫وقاد اُألّم ة في باب المال العام‪ ،‬وفي أبواب الّتربية‪ ،‬واألبوة العائلية‪ ،‬وفي رعاية مصالح الّناس‬
‫العاّم ة والخاّص ة‪.‬‬
‫فُسبحان من كّم ل سيرته‪ ،‬وطّه ر سريرته‪ ،‬وأّيده وسّدده‪ ،‬وألهمه وأرشده‪ ،‬ليكون قدوة‬
‫للعالمين‪ ،‬وُحّج ة على الّناس أجمعين‪:‬‬
‫قحطاُن عدانُن حازوا منك عَّزهتْم‬
‫بك التشـّرُف للتاريخ الهبِم‬
‫ومن عمامِتك البيضاِء قد لبسْت‬
‫دمشُق اتَج سناها غَري منثلِم‬
‫رداُء بغداد من برَديَك تنسجُه‬
‫أيدي رشيٍد ومأموٍن ومعتصِم‬
‫وسدرُة املنتهى أولتك هبجَتها‬
‫على بساٍط من التبجيل حمرتِم‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َعاِد اًل‬
‫العدل شريعة األنبياء‪ ،‬ومنهج األولياء‪ ،‬وُخ ُلق األصفياء‪ ،‬وبه قام نظام العالم‪ ،‬وسعادة البشر‪،‬‬
‫واستقرار الّدنيا‪.‬‬
‫بالعدل يحصل العمران‪ ،‬وتتآلف القلوب‪ ،‬وتتآخى األرواح‪ ،‬وتخمد الفتن‪ ،‬وُتصان الحرمات‪،‬‬
‫وُتحفظ الحقوق‪ ،‬فال استقرار للبشـر في حياة ناعمة سعيدة إاّل بالعدل‪ ،‬ولهذا قال هللا تعالى‪َ{ :‬و ِإَذا‬
‫َح َكْم ُتْم َبْيَن الَّناِس َأْن َتْح ُكُم وا ِباْلَعْدِل } [النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]58‬ونّز ه تعالى نفسه عن الظلم فقال‪َ{ :‬و َم ا‬
‫َر ُّبَك ِبَظَّالٍم ِلْلَعِبيِد} [فصلت‪ :‬اآلية ‪ ،]46‬وفي الحديث الُقدسي قال تعالى‪« :‬يا ِعَباِدي إِّني َح َّر ْم ُت‬
‫الُّظْلَم عَلى َنْفِسي‪َ ،‬و َجَعْلُتُه بْيَنُكْم ُم َح َّر ًم ا‪ ،‬فال َتَظاَلُم وا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ورسولنا ﷺ هو أعدل البشرّية‪ ،‬وأعظمهم إنصاًفا‪ ،‬فالعدل سمة من سماته‪ ،‬وصفة من صفاته‪.‬‬
‫هو أعدل الّناس في لحظه ولفظه‪ ،‬وفي أحواله وأقواله‪.‬‬
‫عادل مع نفسه ومع الّناس‪ ،‬عادل مع العدو والّص ديق‪ ،‬عادل مع القريب والبعيد‪ ،‬عادل مع‬
‫الغنّي والفقير‪ ،‬عادل مع الكبير والّص غير‪ ،‬عادل مع الّر جل والمرأة؛ ألّن الوحي الُم قّدس الُم طّه ر‬
‫الذي حمله ﷺ فيه أمر هللا بالعدل كما قال تعالى‪َ{ :‬لَقْد َأْر َسْلَنا ُر ُسَلَنا ِباْلَبِّيَناِت َو َأْنَز ْلَنا َمَعُه ُم اْلِك َتاَب‬
‫َو اْلِم يَز اَن ِلَيُقوَم الَّناُس ِباْلِقْسِط } [الحديد‪ :‬اآلية ‪.]25‬‬
‫لقد ُو لد العدل معه يوم ُو لد ﷺ‪ ،‬فكان العدل سجّيته وفطرته‪ ،‬ونهجه في الحياة حتى قبل‬
‫الّنبوة‪ ،‬فقد شهد ﷺ في صباه قبل البعثة حلف الفضول الذي عقده جماعة من قريش لنصرة المظلوم‬
‫في دار عبدهللا بن ُج ْدعان‪.‬‬
‫ولّم ا اختلفت قريش على من يضع الحجر األسود مكانه يوم بنوا الكعبة جعلوه حكًم ا بينهم‪،‬‬
‫مع أّن بني هاشم أسرة من قريش وهم طرف في الخصام‪ ،‬لكن لثقتهم جميًعا في عدله وأمانته‬
‫ونزاهته ﷺ جعلوه حكًم ا ُم نصًفا بينهم‪ ،‬وهذا قبل البعثة‪ ،‬فقل لي باهلل‪ :‬كيف يكون بعدما شّر فه هللا‬
‫بالوحي‪ ،‬وألبسه رداء الّنبوة‪ ،‬وتّو جُه بتاج الّر سالة؟!‬
‫إّن من نعم هللا الجليلة‪ ،‬ومننه الجزيلة أن بعث للّناس هذا اإلمام العظيم‪ ،‬والّنبي الكريم بعد أن‬
‫اكتظت الّدنيا ظلًم ا وجوًر ا‪ ،‬وُم لئ الُم جتمع فوضويًة وجهاًل ‪ ،‬وضاقت الحياة بالُظلم والجبروت‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪ُ{ :‬هَو اَّلِذي َبَعَث ِفي اُألِّم ِّييَن َر ُسوًال ِم ْنُهْم َيْتُلو َعَلْيِه ْم آَياِتِه َو ُيَز ِّك يِه ْم َو ُيَعِّلُمُه ُم اْلِك َتاَب َو اْلِح ْك َم َة‬
‫َو ِإْن َكاُنوا ِم ْن َقْبُل َلِفي َض َالٍل ُم ِبيٍن } [الجمعة‪ :‬اآلية ‪.]2‬‬
‫فجاء ﷺ بالعدل والحرّية واإلنصاف والمساواة‪ ،‬ونشـر العدل في كل مناحي الحياة‪ ،‬وغرسه‬
‫في الّنفوس‪ ،‬وزرعه في األرواح‪ ،‬ووّز عه على البشـرّية‪ ،‬وحّقق الحرّية‪ ،‬فأعتق الّناس من عبادة‬
‫العباد إلى عبادة رّب العباد‪ ،‬وحّر رهم من الّسجود لألصنام واألوثان للّسجود للواحد الدّيان‪ ،‬وفك عن‬
‫رقابهم أغالل وآصار الجاهلّية‪ ،‬وعاداتها الباطلة الّشركّية‪ ،‬وأطلقهم في فضاء اإليمان‪ ،‬وعالم‬
‫الّتوحيد‪ ،‬ودنيا الّنور‪ ،‬وبهذا ُأمر ﷺ‪َ{ :‬و ُأِم ْر ُت َألْعِدَل َبْيَنُكْم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪.]15‬‬
‫وأنفذ ﷺ العدالة بكل أشكالها‪ ،‬عدالة بين الّر جال والّنساء فيما عليهم من واجبات وطاعات‪،‬‬
‫وما لهم من أجر وثواب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬فاْس َتَج اَب َلُهْم َر ُّبُهْم َأِّني َال ُأِض يُع َعَم َل َعاِم ٍل ِم ْنُكْم ِم ْن َذَكٍر‬
‫َأْو ُأْنَثى َبْعُض ُكْم ِم ْن َبْعٍض } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]195‬‬
‫والمساواة بين الّز وجات في الحقوق الّز وجية‪ ،‬وبين األبناء في العطايا والهبات والبّر‬
‫والِّص الت‪ ،‬وكذلك المساواة في أخذ الحقوق وإقامة الحدود‪ ،‬وحرمة الّدماء واألموال واألعراض‪.‬‬
‫والمساواة بين الخصوم أمام القضاء في إبداء الّر أي‪ ،‬واإلنصات للّدعوة‪ ،‬وبيان الُحّج ة‪،‬‬
‫والقصاص‪ ،‬وإقامة الحدود على الجميع دون أّي تمييز أو تفرقة بين جنس أو لون‪ ،‬أو عرق أو‬
‫عقيدة‪.‬‬
‫فرسول هللا ﷺ هو أعدل من حكم بين الناس‪ ،‬وقضى بين البشر‪ ،‬أتى بشـريعة وافية تحفظ‬
‫الحقوق في الّدماء واألموال واألعراض‪ ،‬شريعة فيها نظام الّتعزير‪ ،‬ونظام الحدود‪ ،‬ونظام المقاصة‪،‬‬
‫بدقٍة عالية‪ ،‬وحكمة بالغة‪ .‬فشريعته ﷺ تقوم على العدل والمساواة‪.‬‬
‫وإّن ديًنا جعل بالل بن رباح المولى الحبشي (رضي هللا عنه) سّيًدا من سادات الُم سلمين‪،‬‬
‫وإماًم ا من أئمة الّدين‪ ،‬وكذلك عّم ار بن ياسر وُص هيًبا الّر ومي وسلمان الفارسي رضوان هللا عليهم‬
‫جميًعا؛ َلِديٌن يقوم على العدل واإلنصاف‪ ،‬واحترام حقوق اإلنسان‪ ،‬وحفظ مكانة المرء مهما كان‬
‫عرقه أو نسبه‪.‬‬
‫فالِّسباق في اإلسالم بالّتقوى‪ ،‬واألقدمية باإلنجاز في حقول الخير وأبواب الفضيلة‪ ،‬وليس‬
‫بالحسب الُم جّر د‪ ،‬وال بالعصبية الجاهلّية‪ ،‬وال بالعنصـرّية القبلّية‪:‬‬
‫فال حتسِب األنساَب تنجيَك من لَظى‬
‫ولو كنَت من َقيٍس وعبِد مداِن‬
‫أبو هلٍب يف الّنار وهو ابُن هاشٍم‬
‫وسلماُن يف الفردوس من ُخ رساِن‬
‫يحكم ﷺ في القضية فيكون أعدل من الميزان ُح كًم ا‪ ،‬ويفصل في الخصومة فيكون أمضى‬
‫من الّسيف حسًم ا‪ ،‬ويقول الكلمة فُتصبح قاعدة في ديوان العدل‪ ،‬وَيِبُّت في الُم نازعة فُتصبح مثاًل‬
‫شروًدا من اإلنصاف‪ ،‬فكان العادل في القضّية‪ ،‬والحاكم بالّسوّية‪ ،‬ال تأخذه في هللا لومة الئم‪ ،‬وال‬
‫تأخذه هوادة في تطبيق الحّد على من وجب عليه‪ ،‬ولهذا ال َيُشك في عدله ﷺ إاّل كافر مارق‪ ،‬أو‬
‫زنديق ُم نافق؛ ألّن هللا حّكمه ورضي ُح كمه‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬فَال َو َر ِّبَك َال ُيْؤ ِم ُنوَن َح َّتى ُيَح ِّك ُم وَك ِفيَم ا‬
‫َشَجَر َبْيَنُهْم ُثَّم َال َيِج ُدوا ِفي َأْنُفِس ِه ْم َحَر ًج ا ِم َّم ا َقَض ْيَت َو ُيَسِّلُم وا َتْسِليًم ا} [النساء‪ :‬اآلية ‪.]65‬‬
‫فمن العدل والحقيقة أن ُتحّكم رسول هللا ﷺ في نفسك وعبادتك‪ ،‬وآدابك وأخالقك‪ ،‬ولباسك‬
‫وطعامك‪ ،‬ويقظتك ومنامك‪ ،‬وكل شأن من شؤون حياتك؛ ألّنه أنصح اُألّم ة لُألمة‪ ،‬وأتقى الخليقة‬
‫وأعلمهم بمرضاة هللا‪ ،‬وأبعدهم عن معاصيه جّل في ُعاله‪ ،‬وهو أرحم بك من أّم ك وأبيك‪ ،‬ولو ُشك‬
‫في عدله ﷺ الرتفع العدل من العالم‪ ،‬وانتهى اإلنصاف من الّدنيا‪ ،‬وسادت الفوضى والجور والُظلم‬
‫بين أبناء البشر‪ ،‬يقول ﷺ‪َ« :‬و َم ْن َيْعِدُل ِإَذا َلْم َأْعِدْل؟»! [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وصدق بأبي هو وأمي! إذا اُّتهم في عدالته فمن يبقى بعده عاد من حاكٍم أو قاٍض أو زعيم؟!‬
‫ُّظ‬
‫وُيحّذر ﷺ من الظلم فيقول‪« :‬الُّظْلُم ُظلَم اٌت َيوَم الِقَياَم ِة » [ُم تفق عليه]‪ ،‬وُيخبر بقول الباري‬
‫ُسبحانه‪َ{ :‬أَال َلْعَنُة ِهَّللا َعَلى الَّظاِلِم يَن } [هود‪ :‬اآلية ‪ ،]18‬وقوله جّل اسمه‪ِ{ :‬إَّنُه َال ُيِح ُّب الَّظاِلِم يَن }‬
‫[الشورى‪ :‬اآلية ‪ ،]40‬ويأمر ﷺ ُم عاذ بن جبل (رضي هللا عنه) بالعدل‪ ،‬ويقول له وهو ُيرسله إلى‬
‫اليمن‪« :‬واَّتِق َدْع َو َة الَم ْظ ُلوِم ‪ ،‬فإَّن ليَس بْيَنُه وبْيَن هللا ِح َج اٌب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن خشيته ﷺ ومراقبته لرّبه في ُم راعاة العدل بين الّناس ُينّبه عليهم وُيحّذرهم فيقول لهم‪:‬‬
‫«إَّنُكْم َتْخ َتِص ُم وَن إَلَّي ‪ ،‬وَلَعَّل َبْعَضُكْم أْلَح َن بُحَّجِتِه ِم ن َبْعٍض ‪َ ،‬م ن َقَض ْيُت له بَح ِّق أِخ يِه شيًئا بَقْو ِلِه ‪،‬‬
‫فإَّنما أْقَطُع له ِقْط َعًة ِم َن الَّناِر فال َيْأُخ ْذَها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويقف ﷺ مع المساكين‪ ،‬وينتصر لهم‪ ،‬وُيحّذر من نقصهم حقوقهم‪ ،‬أو بخسهم أشياءهم‪،‬‬
‫فيقول‪« :‬إْخ َو اُنُكْم َخ َو ُلُكْم ‪َ ،‬جَعَلُه ُم هللا َتْح َت أْيِديُكْم ‪ ،‬فَم ن كاَن أُخ وُه َتْح َت َيِدِه ‪َ ،‬فْلُيْط ِع ْم ُه مَّم ا َيْأُكُل ‪،‬‬
‫وْلُيْلِبْس ُه مَّم ا َيْلَبُس ‪ ،‬وُتَكِّلُفوُهْم ما َيْغِلُبُه ْم ‪ ،‬فإْن َكَّلْفُتُم وُهْم فأِع يُنوُهْم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫لقد وضع ﷺ بشريعته الُم قّدسة نظاًم ا للبشرّية‪ ،‬عالًيا‪ ،‬طاهًر ا‪ ،‬نزيًه ا‪ ،‬مكتوًبا‪ ،‬مدوًنا‪ ،‬يجري‬
‫على الخاّص والعام‪ ،‬والّظالم والمظلوم‪ ،‬والغنّي والفقير‪ ،‬والّر ئيس والمرؤوس‪ ،‬بال ُم حاباة‪ ،‬وال‬
‫ُم صانعة‪ ،‬وال ُم داجاة‪ ،‬وال ُم جاملة‪ ،‬وماذا تنتظر من نبّي كريم إاّل العدل؟! وهو الذي أخبرنا عن عدل‬
‫هللا يوم العرض األكبر فقال ﷺ‪َ« :‬لُتَؤُّد َّن الُح ُقوَق إلى أْه ِلها َيوَم الِقياَم ِة ‪ ،‬حَّتى ُيقاَد ِللّشاِة الَج ْلحاِء ‪،‬‬
‫ِم َن الَّشاِة الَقْر ناِء » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فإذا كان هذا عدل هللا بين البهائم فكيف عدله بين بني آدم؟!‬
‫وإذا كان نبّي الّر حمة ُيخبر عن هذا العدل يوم القيامة‪ ،‬فال بد أّنه يكون أعدل الّناس‪،‬‬
‫وأخشاهم لرّبه‪ ،‬وأكثرهم إنصاًفا في األحكام‪ ،‬وُبعًدا عن ظلم األنام!‪.‬‬
‫لقد رّبى ﷺ أصحابه على العدل‪ ،‬وبّين لهم أجره العظيم‪ ،‬وقيمته الغالية‪ ،‬وأمرهم بتطبيقه في‬
‫كافة أمور معيشتهم‪ ،‬وعّلمهم أّنه بالموازنة والعدل‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق حقه تستقيم الحياة‪ ،‬كما قال‬
‫في «الّص حيحين» لعبدهللا بن عمرو (رضي هللا عنهما)‪َ« :‬بَلَغِني أَّنَك َتُص وُم الَّنهاَر وَتُقوُم الَّلْيَل ‪ ،‬فال‬
‫َتْفَعْل‪ ،‬فإَّن ِلَجَسِد َك َعَلْيَك َح ًّظا‪ ،‬وِلَعْيِنَك َعَلْيَك َح ًّظا‪ ،‬وإَّن ِلَز ْو ِج َك َعَلْيَك َح ًّظا»‪ ،‬وعند البخاري‬
‫والّترمذي ‪ -‬واللفظ له‪« :‬إّن لنفسك عليك حًّقا‪ ،‬ولرّبك عليك حًّقا‪ ،‬ولضيفك عليك حًّقا‪ ،‬وإّن ألهلك‬
‫عليك حًّقا‪ ،‬فأعط كل ذي حق حقه»‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ أهل العدل الُم قسطين بالفوز العظيم‪ ،‬والّنجاح والفالح يوم القيامة‪ ،‬فقال‪ِ« :‬إَّن‬
‫اْلُم ْقِسِط يَن ِع ْنَد هللا َعَلى َم َناِبَر ِم ْن ُنوٍر ‪َ ،‬عْن َيِم يِن الَّر ْح َم ِن َعَّز َو َجَّل ‪َ-‬و ِك ْلَتا َيَد ْيِه َيِم يٌن ‪ -‬اَّلِذيَن َيْعِد ُلوَن‬
‫ِفي ُح ْك ِم ِه ْم َو َأْه ِليِه ْم َو َم ا َو ُلوا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ المثل األعلى واألسوة العظمى في تنفيذ تلك الوصايا وهذه األوامر‪ ،‬فنّفذ العدل على‬
‫نفسه الّشريفة أواًل ‪ ،‬فلم يتمّيز على أصحابه‪ ،‬ولم يختص عنهم بشيء من األمور التي توجب‬
‫الُم ناصفة والمساواة‪ ،‬بل رّبما سبقهم في تحّم ل المتاعب والمصاعب‪ ،‬وآثرهم على نفسه بالمغانم‪،‬‬
‫يقول عبدهللا بن مسعود (رضي هللا عنه)‪ :‬كنا يوَم بدٍر ُكُّل ثالثًة على بعيٍر ‪ ،‬كان أبو لبابَة وعلُّي بُن‬
‫أبي طالٍب زميَلى رسوِل هللا ﷺ‪ ،‬قال‪ :‬وكانت عقبُة رسوِل هللا ﷺ‪ ،‬فقاال‪ :‬نحن نْم شي عنَك ‪ .‬فقال‪« :‬ما‬
‫أنتما بأقوى مّني وال أنا بأغنى عن األجِر مْنكما» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فانظر إلى هذا العادل العظيم ﷺ حتى في ركوب الّر احلة كيف يساوي نفسه بأصحابه‬
‫(رضي هللا عنهم)!؟‬
‫وفي شّدة غضبه ﷺ لم يحمله االنتقام لنفسه أن ينسى مبدأه في العدل‪ ،‬ومنهجه في اإلنصاف‪،‬‬
‫ألّنه معصوم بالّنبوة من أن يثأر لنفسه أو ينتقم لمقامه الّشريف‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري (رضي هللا‬
‫عنه) قال‪َ :‬بَعَث َعِلٌّي (رضي هللا عنه)‪َ ،‬و ُهَو ِباْلَيَمِن ِبَذَهَبٍة ِفي ُتْر َبِتَه ا ِإَلى َر ُسوِل هللا ﷺ َفَقَسَمَه ا‬
‫َر ُسوُل هللا ﷺ َبْيَن َأْر َبَعِة َنَفٍر ‪ :‬اَألْقَر ُع ْبُن َح اِبٍس اْلَح ْنَظِلُّي ‪َ ،‬و ُعَيْيَنُة ْبُن َبْدٍر‬
‫اْلَعاِم ِر ُّي ‪ُ ،‬ثَّم َأَح ُد َبِني ِك اَل ٍب‪َ ،‬و َز ْيُد اْلَخْيِر الَّطاِئُّي ‪ُ ،‬ثَّم َأَح ُد َبِني َنْبَه اَن ‪،‬‬
‫َأُتْعِط ي َص َناِديَد َنْج ٍد َو َتَدُعَنا؟ َفَقاَل َر ُسوُل هللا ﷺ‏«‏ِإِّني ِإَّنَم ا َفَعْلُت َذِلَك‬
‫اْلَفَز اِر ُّي ‪َ ،‬و َعْلَقَم ُة ْبُن ُعاَل َثَة‬
‫َقاَل ‪َ :‬فَغِض َبْت ُقَر ْيٌش َفَقاُلوا‬
‫َألَتَأَّلَفُه ْم‏» َفَج اَء َر ُج ٌل َكُّث‬
‫الِّلْح َيِة ‪ُ ،‬م ْش ـِر ُف اْلَو ْج َنَتْيِن ‪َ ،‬غاِئُر اْلَعْيَنْيِن ‪َ ،‬ناِتُئ اْلَج ِبيِن ‪َ ،‬م ْح ُلوُق الَّر ْأِس ‪َ ،‬فَقاَل اَّتِق َهللا َيا ُم َح َّم ُد‪،‬‏‬
‫َقاَل ‪َ:‬فَقاَل َر ُسوُل هللا ﷺ «َفَم ْن ُيِط ِع َهللا ِإْن َعَصْيُتُه َأَيْأَم ُنِني َعَلى َأْه ِل اَألْر ِض َو اَل َتْأَم ُنوِني‏» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫فهو العادل في الغضب والّر ضا ﷺ‪ ،‬وكانت دعوته دائًم ا كما جاء في الُسنن‪« :‬الَّلهَّم إِّني‬
‫أسَأُلك خشيَتك في الغيِب والَّشهادِة‪ ،‬وكلمَة العدِل والحِّق في الغضِب والِّر ضا» [رواه النسائي]‪.‬‬
‫بل إّنه ﷺ عرض على أصحابه القصاص من نفسه‪ ،‬وذلك لعظيم عدله وإنصافه‪ ،‬فعندما‬
‫وقف يوم بدر ُيسّو ي الّص فوف‪ ،‬وفي يِده قدٌح يعِّد ُل به القوَم ‪ ،‬فمَّر بسواِد بِن َغزَّيَة فوكزه في بطنِه‬
‫بالقدِح وقال‪ :‬استِو يا سواُد‪ .‬فقال‪ :‬يا رسوَل هللا أوَج ْعَتني وقد بعثك ُهللا بالحِّق والعدِل فأِقْدني‪ .‬قال‪:‬‬
‫فكشف رسوُل هللا عن بطِنه وقال‪ :‬استِقْد‪ ،‬قال‪ :‬فاعتنَقه فقَّبل بطنَه‪ ،‬فقال‪ :‬ما حملَك على هذا يا سواُد؟‬
‫قال‪ :‬يا رسوَل هللا حَض ر ما ترى فأردُت أن يكون آخُر العهِد بك أن يَم َّس جلدي جلَدك‪ ،‬فدعا له‬
‫رسوُل هللا ﷺ بخيٍر ‪ ،‬وقال له‪« :‬استِو يا سواُد» [أْو َر ده ابن إسحاق في الّسيرة]‪.‬‬
‫سرُب الّش ياطِني ملا جئَتنا احرتقْت‬
‫وانُر فار ختبو منَك يِف ندِم‬
‫َس‬
‫وُصّف َد الظلُم واألواثُن قد سقطْت‬
‫وَماُء ساوَة ّملا جئَت كاَحلَم ِم‬
‫وانظر لعدله ﷺ حتى مع فلذة كبده‪ ،‬وقّر ة عينه‪ ،‬وبهجة روحه‪ ،‬ابنته فاطمة (رضي هللا عنها)‬
‫‪ ،‬والتي قال عنها‪« :‬هي َبْض َعٌة ِم ِّني‪ُ ،‬يِر يُبِني ما أَر اَبَه ا‪ ،‬وُيْؤ ِذيِني ما آَذاَها»‪ُ[ .‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫ومع ذلك تقول عائشة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) ‪« :‬إَّن ُقَر ْيًشا َأَهَّم ُهْم َشْأُن الَم ْر َأِة اَّلتي‬
‫َسَر َقْت في َعْه ِد الّنبِّي ﷺ في َغْز َو ِة الَفْتِح‪َ ،‬فقالوا‪َ :‬م ن ُيَكِّلُم ِفيَه ا َر سوَل هللا ﷺ؟ َفقالوا‪َ :‬و َم ن َيْج َتِر ُئ‬
‫عليه إاَّل ُأَساَم ُة بُن َز ْيٍد‪ِ ،‬ح ُّب َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فُأِتَي بَه ا َر سوُل هللا ﷺ َفَكَّلَم ُه ِفيَه ا ُأَساَم ُة بُن َز ْيٍد‪َ ،‬فَتَلَّو َن‬
‫َو ْج ُه َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فقاَل ‪َ« :‬أَتْش َفُع في َح ٍّد ِم ن ُح ُدوِد هللا؟ َفقاَل له ُأَساَم ُة‪ :‬اْس َتْغِفْر لي يا َر سوَل هللا‪،‬‬
‫َفَلَّم ا كاَن الَعِش ُّي َقاَم َر سوُل هللا ﷺ َفاْخ َتَطَب ‪ ،‬فأْثَنى عَلى هللا بما هو َأْه ُلُه‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ :‬أَّم ا َبْعُد‪ ،‬فإَّنما َأْه َلَك‬
‫اَّلِذيَن ِم ن َقْبِلُكْم أَّنُه ْم َكاُنوا إَذا َسَر َق ِفيِه ِم الَّشـِر يُف َتَر ُكوُه‪ ،‬وإَذا َسَر َق ِفيِه ِم الَّض ِع يُف َأَقاُم وا عليه‬
‫الَح َّد‪ ،‬وإِّني َو اَّلِذي َنْفِسي بَيِدِه ‪ ،‬لو أَّن َفاِط َم َة بْنَت ُم َح َّم ٍد َسَر َقْت َلَقَطْعُت َيَد َها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫بهذا الموقف الّص ارم‪ ،‬والقول الحاسم ينهي ﷺ أّي جدل أو شك في عدالته‪ ،‬بل يقولها قوّية‬
‫مدوّية‪« :‬لو أَّن َفاِط َم َة بْنَت ُم َح َّم ٍد َسَر َقْت َلَقَطْعُت َيَد َها»‪.‬‬
‫وحاشاها أن تسـرق (رضي هللا عنها) وأرضاها‪.‬‬
‫واآلن ندخل بيته ﷺ لنرى العدالة في أبهى صورها‪ ،‬وأجمل مشاهدها مع أسرته وزوجاته‬
‫حيث الغيرة الطبيعية‪ ،‬والّتنافس المعروف بين الّنساء‪ ،‬ولكنه يتعامل بالعدل في كل موقف‪،‬‬
‫واإلنصاف في كل مسألة‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪َ :‬كاَن الَّنِبُّي ﷺ ِع ْنَد َبْعِض ِنَساِئِه ‪،‬‬
‫َفَأْر َسَلْت ِإْح َدى ُأَّم َه اِت الُم ْؤ ِم ِنيَن ِبَص ْح َفٍة ِفيَه ا َطَعاٌم ‪َ ،‬فَض َر َبِت اَّلِتي الَّنِبُّي ﷺ ِفي َبْيِتَه ا َيَد الَخاِد ِم ‪،‬‬
‫َفَسَقَطِت الَّصْح َفُة َفاْنَفَلَقْت ‪َ ،‬فَج َمَع الَّنِبُّي ﷺ ِفَلَق الَّصْح َفِة ‪ُ ،‬ثَّم َج َعَل َيْج َم ُع ِفيَه ا الَّطَعاَم اَّلِذي َكاَن ِفي‬
‫الَّصْح َفِة ‪َ ،‬و َيُقوُل‪َ« :‬غاَر ْت ُأُّم ُكم‪ُ .‬ثَّم َحَبَس الَخ اِد َم َح َّتى ُأِتَي ِبَصْح َفٍة ِم ْن ِع ْنِد اَّلِتي ُهَو ِفي َبْيِتَه ا‪َ ،‬فَد َفَع‬
‫الَّصْح َفَة الَّصِح يَح َة ِإَلى اَّلِتي ُكِس َر ْت َصْح َفُتَه ا‪َ ،‬و َأْم َسَك الَم ْك ُسوَر َة ِفي َبْيِت اَّلِتي َكَسَر ْت » [رواه‬
‫البخاري]‪ ،‬وقد خّر ج الترمذي هذا الحديث مختصـًر ا‪ ،‬وزاد فيه‪ :‬فقال النِبُّي ﷺ‪َ« :‬طَعاٌم ِبَطَعاٍم ‪ ،‬وِإَناٌء‬
‫ِبِإَناٍء »‪.‬‬
‫وحتى في أسفاره ﷺ كان العدل بين زوجاته ُنصَب عينيه‪ ،‬فروي أّنه‪« :‬إَذا َأَر اَد َأْن َيْخ ُر َج‬
‫َسَفًر ا‪َ ،‬أْقَر َع بْيَن ِنَساِئِه ‪ ،‬فأَّيُتُه َّن َخ َر َج َسْه ُم َه ا َخ َر َج بها رسول هللا ﷺ» [ُم تفق عليه]‪ .‬والقرعة هنا‬
‫إلتمام العدالة‪ ،‬وجبر الّنفوس‪ ،‬وتهدئة الخواطر‪.‬‬
‫ومن تمام عدله ﷺ أّنه اعتذر إلى رّبه فيما ال يقدر عليه من العدل بين نسائه فقال‪« :‬الَّلهَّم هذا‬
‫قسمي فيما أمِلُك ‪ ،‬فال تُلْم ني فيما تمِلُك وال أمِلُك » [رواه أبو داود]‪ ،‬ويعني بذلك ميل القلب من‬
‫المحبة والمودة لبعض نسائه أكثر من األخريات‪ ،‬وما يقدر عليه ﷺ من القسمة والّنفقة والبيتوتة‪،‬‬
‫فكان عاداًل تمام العدل في ذلك‪ ،‬أّم ا ميل القلب فذلك فوق طاقة البشـر‪ ،‬فانظر لدّقة َو َر عه‪ ،‬وخوفه ﷺ‬
‫من رّبه‪ ،‬وهذا من كمال عدله‪ ،‬ومّم ا يدلك على تحّر يه ﷺ العدل بين الّز وجات‪ ،‬وتحذيره من الجور‬
‫في معاملتهّن قوله ﷺ‪« :‬إذا كاَن عنَد الَّر جل امرَأتاِن ‪ ،‬فلم َيعِدْل بيَنُه ما جاَء يوَم القيامِة وِش ُّقُه‬
‫ساقٌط» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫حتى في مرضه ﷺ كان يتحّر ى العدل كما قالت أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪َ« :‬لَّم ا‬
‫َثُقَل الّنبُّي ﷺ واْش َتَّد به وَج ُعُه‪ ،‬اْس َتْأَذَن أْز َو اَج ُه في أْن ُيَمَّر َض في َبْيِتي‪ ،‬فأِذ َّن له» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ولقد وسع عدله ﷺ األبناء فأوصى بالعدل بينهم‪ ،‬وال يؤثر أحدهم في العطاء على اآلخر لميل‬
‫القلب إليه أو لكثرة حّبه‪ ،‬فعن الّنعمان بن بشير (رضي هللا عنهما) قال‪« :‬أعطاني أبي َعِط َيًة‪ ،‬فقالْت‬
‫َعمرُة بنُت رواَح ة‪ :‬ال َأْر ضى حَّتى ُتْش ِه َد رسوَل هللا ﷺ‪ ،‬فأتى رسوَل هللا فقاَل ‪ :‬إِّني َأْع َطْيُت اْبِني مْن‬
‫َعْم َر َة بنِت َر َو احَة عطَّيًة‪َ ،‬فَأَم رْتني أن ُأْش هدَك يا رسوَل هللا‪ ،‬قاَل ‪« :‬أعطيَت سائَر ولدَك مثَل هذا؟»‪،‬‬
‫قاَل ‪ :‬ال‪ ،‬قال‪« :‬فاَّتقوا َهللا واعِدلوا بيَن أوالِدُكم»‪ ،‬قال‪َ :‬فَر َجَع فرَّد َعِط ِّيَتُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن روائع قصص عدله ﷺ ما قام به مع زيد بن حارثة (رضي هللا عنه) وكان مملوًكا‬
‫لخديجة (رضي هللا عنها) أهدته للّنبي‪ ،‬فتبّناه رسوُل هللا ﷺ‪ ،‬وكان َم ن َتبَّنى رُج اًل في الجاهليِة َدعاه‬
‫الّناُس إليه‪ ،‬ووِر َث ميراَثه‪ ،‬فعن عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنهما) قال‪ :‬ما ُكَّنا َنْدُعو َز ْيَد بَن َح اِر َثَة‬
‫إاَّل َز ْيَد بَن ُمَحَّم ٍد حَّتى َنَز َل في الُقْر آِن ‪{ :‬اْدُعوُهْم ِآل َباِئِه ْم ُهَو َأْقَسُط ِع ْنَد ِهَّللا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪]5‬‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وهنا بالغة القرآن الّناصعة‪ ،‬وداللته الّر ائعة‪ ،‬في قوله تعالى‪{ :‬اْدُعوُهْم ِآل َباِئِه ْم ُهَو َأْقَسُط ِع ْنَد‬
‫ِهَّللا} ‪ ،‬فما فعله رسول هللا عدل بال شك‪ ،‬ولكّن هللا تعالى ُيريد عداًل أعظم وأوسع وأشمل ليكون‬
‫شريعة للُم سلمين أبد الّدهر‪ ،‬ومنهًج ا للمؤمنين مدى األيام‪ ،‬وهو أاّل ُينسب االبن إاّل ألبيه‪ ،‬حفًظا‬
‫للّنسب وللميراث‪.‬‬
‫لقد وثق في عدله ﷺ القريب والبعيد والّص ديق والعدو والُم سلم والكافر‪ ،‬يتحاكم إليه أصحاُبه‬
‫وُم حّبوه‪ ،‬ويأتي يطلب عدَله أعداُؤه ومناوئُو ه‪ ،‬يدلف إليه أهل الكتاب من اليهود والّنصارى يطلبون‬
‫اإلنصاف منه؛ ألّنه مقّر العدالة‪ ،‬وباب اإلنصاف‪ ،‬والمرجعية الُكبرى للمساواة بين البشر‪.‬‬
‫وأين يوجد العدل إاّل في برده؟!‬
‫وأين يحصل اإلنصاف إاّل في نفسه الّطاهرة وقلبه الّر حيم؟!‬
‫لقد امتثل ألمر رّبه في العدل مع ُخ صومه وأعدائه من الكفرة والُم شركين‪ ،‬ومع أهل الكتاب‬
‫الّناكثين‪ ،‬ومع المنافقين الُم رتّدين قال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا ُكوُنوا َقَّو اِم يَن ِهَّلِل ُشَه َداَء ِباْلِقْسِط َو َال‬
‫َيْج ِر َم َّنُكْم َشَنآُن َقْو ٍم َعَلى َأَّال َتْعِد ُلوا اْعِد ُلوا ُهَو َأْقَر ُب ِللَّتْقَو ى َو اَّتُقوا َهَّللا ِإَّن َهَّللا َخ ِبيٌر ِبَم ا َتْعَم ُلوَن }‬
‫[المائدة‪ :‬اآلية ‪.]8‬‬
‫حتى مع أهل البغضاء والّشحناء ال بد من العدل‪ ،‬فكان العدل منه ﷺ مع كل أحد وكل قضية‪،‬‬
‫وفي كل زمان ومكان‪ ،‬وكان ُيبّين دائًم ا أّن العدل محمود لذاته ولو كان من كافر‪ ،‬والّظلم مكروه‬
‫لذاته ولو كان من مؤمن‪ ،‬وأوجب علينا أن نتقّيد بالعدل حتى مع الكّفار وأهل الكتاب‪ ،‬امتثااًل ألمر‬
‫الباري ُسبحانه‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َيْأُمُر ِباْلَعْدِل َو اِإل ْح َساِن َو ِإيَتاِء ِذي اْلُقْر َبى َو َيْنَه ى َعِن اْلَفْح َشاِء َو اْلُم ْنَكِر‬
‫َو اْلَبْغِي َيِع ُظُكْم َلَعَّلُكْم َتَذَّكُر وَن } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]90‬‬
‫وفّر ق ﷺ بين األمين والخائن من أهل الكتاب كما قال تعالى‪َ{ :‬و ِم ْن َأْه ِل اْلِك َتاِب َم ْن ِإْن‬
‫َتْأَم ْنُه ِبِقْنَطاٍر ُيَؤ ِّدِه ِإَلْيَك َو ِم ْنُهْم َم ْن ِإْن َتْأَم ْنُه ِبِديَناٍر َال ُيَؤ ِّدِه ِإَلْيَك ِإَّال َم ا ُدْم َت َعَلْيِه َقاِئًم ا} [آل عمران‪:‬‬
‫اآلية ‪.]75‬‬
‫فانظر كيف أنصف وعدل في ُح كمه حتى مع الكفار واألعداء‪ ،‬ولم يحكم عليهم بحكم عام!؟‬
‫وامتثل ألمر رّبه‪َ{ :‬و َال ُتَج اِد ُلوا َأْه َل اْلِك َتاِب ِإَّال ِباَّلِتي ِه َي َأْح َسُن ِإَّال اَّلِذيَن َظَلُم وا ِم ْنُهْم } [العنكبوت‪:‬‬
‫اآلية ‪.]46‬‬
‫فأمر سبحانه بالّتمييز بين الّظالم وغيره‪ ،‬وأرشد إلى طريقة الجدل معهم‪ ،‬فمنهم من ينبغي‬
‫علينا أن ُنجادله بالتي هي أحسن‪ ،‬ومنهم من ُنجادله بالتي هي أخشن وهم الّظالمون منهم‪.‬‬
‫ومن العدل الذي أنزله ُهللا على نبّيه ﷺ الّتفريق بين من آذانا في الّدين ومن لم يؤذنا‪ ،‬فقال‬
‫تعالى‪َ{ :‬ال َيْنَه اُكُم ُهَّللا َعِن اَّلِذيَن َلْم ُيَقاِتُلوُكْم ِفي الِّديِن َو َلْم ُيْخ ِر ُج وُكْم ِم ْن ِد َياِر ُكْم َأْن َتَبُّر وُهْم َو ُتْقِس ُطوا‬
‫ِإَلْيِه ْم ِإَّن َهَّللا ُيِح ُّب اْلُم ْقِسِط يَن } [الممتحنة‪ :‬اآلية ‪.]8‬‬
‫ولهذا مّيز ﷺ في أحكامه وأقواله وأفعاله بين من حارب هللا ورسوله وآذى المؤمنين كعقبة‬
‫بن أبي معيط وأمثاله‪ ،‬وبين من نصـره كالُم طعم بن عدي وأبي البختري وغيرهما‪.‬‬
‫وإليك هذا المشهد الجميل الُم شرق الذي يدل على عدله وإنصافه ﷺ حتى مع الُكّفار‬
‫والُم شركين‪ .‬كان صفوان بن أمّية ال يزال على شركه بعد فتح مكة‪ ،‬وكان من تجار الّسالح في ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬فجاءه ﷺ وطلب منه دروًعا ُيقاتل بها يوم حنين‪ ،‬فقال له ﷺ‪َ« :‬يا َص ْفَو اُن ‪َ ،‬هْل ِع ْنَدَك ِم ْن‬
‫ِس اَل ٍح؟‪ ،‬قال‪ :‬عاريًة أم غصًبا؟‪ ،‬قال‪:‬اَل ‪َ ،‬بْل َعاِر َيٌة‪ ،‬فأعاره ما بين الّثالثين إلى األربعين درًعا‪،‬‬
‫وغَز ا رسول هللا ﷺ ُح نيًنا‪ ،‬فلّم ا ُهِز م الُم شركون‪ُ ،‬جِم عت دروع صفوان‪ ،‬فَفَقد منها َأْدراًعا‪ ،‬فقال‬
‫رسول هللا ﷺ لصفوان‪ِ :‬إَّنا َقْد َفَقْد َنا ِم ْن َأْد َر اِع َك َأْد َر اًعا َفَهْل َنْغَر ُم َلَك ؟‪ ،‬قال‪ :‬ال يا رسول هللا؛ ألن في‬
‫قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ» رواه أبو داود‪ ،‬وقال‪« :‬وكان أعاره قبل أن ُيسلم‪ ،‬ثم أسلم»‪.‬‬
‫وهنا نالحظ أّنه ﷺ كان ُم نتصًر ا فاتًح ا‪ ،‬لكّنه لم ُيرغم صفوان على أخذ الّدروع قهًر ا‪ ،‬بل‬
‫جعلها عارية أي عن طريق الّتراضي‪ ،‬وعند فقد بعضها سأله عّم ا يرضيه‪ ،‬فكان ﷺ عاداًل في أخذه‪،‬‬
‫ُم نصًفا في أدائه‪.‬‬
‫ويروي لنا عبد الّر حمن بن أبي بكر (رضي هللا عنهما) مشهًدا آخر من مشاهد عدله ﷺ‪،‬‬
‫مشهًدا تقف له القلوب إجالاًل والّنفوس تعظيًم ا‪ ،‬يقول(رضي هللا عنه)‪ُ« :‬كَّنا مع الّنبِّي ﷺ َثاَل ِثيَن‬
‫وِم َئًة‪َ ،‬فقاَل الّنبُّي ﷺ‪ :‬هْل مع أَح ٍد ِم نُكم َطَعاٌم ؟ َفِإَذا مع َر ُج ٍل َصاٌع ِم ن َطَعاٍم أْو َنْح ُو ُه‪َ ،‬فُعِج َن ‪ُ ،‬ثَّم‬
‫َج اَء َر ُجٌل ُم ْش ِر ٌك ُم ْش َعاٌّن َطِو يٌل ‪ ،‬بَغَنٍم َيُسوُقَه ا‪َ ،‬فقاَل الّنبُّي ﷺ‪ :‬أَبْيٌع أْم َعِط َّيٌة‪ ،‬أْو قاَل ‪ِ :‬هَبٌة‪ ،‬قاَل ‪، :‬اَل‬
‫َبْل َبْيٌع ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فاْش َتَر ى منه َشاًة َفُصِنَعْت ‪ ،‬فأَمَر َنِبُّي هللا ﷺ بَسَو اِد الَبْط ِن ُيْش َو ى‪ ،‬واْيُم هللا‪ ،‬ما ِم ن‬
‫الَّثاَل ِثيَن وِم َئٍة إاَّل قْد َح َّز له ُح َّز ًة ِم ن َسَو اِد َبْط ِنَه ا‪ ،‬إْن كاَن َشاِه ًدا أْع َطاَها إَّياُه‪ ،‬وإْن كاَن َغاِئًبا َخ َبَأَها‬
‫له‪ُ ،‬ثَّم َجَعَل ِفيَه ا َقْص َعتْيِن ‪ ،‬فأَكْلَنا أْج َمُعوَن وَشِبْعَنا‪ ،‬وَفَض َل في الَقْص َعتْيِن ‪َ ،‬فَح َم ْلُتُه عَلى الَبِع يِر »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫هذا رسولنا ﷺ وهو القائد‪ ،‬يحوطه أتباعه وأصحابه‪ ،‬وهم نحو مئة وثالثين رجاًل وقد‬
‫عّضهم الجوع‪ ،‬فيتعامل مع هذا الُم شـرك في شراء شاته بالعدل واإلنصاف‪ ،‬فال ُيرغمه وال يغصبه‬
‫حّقه‪ ،‬وإّنما يطلب الّشاة بثمنها‪ ،‬ويأخذها بحّقها‪ ،‬بكل سماحة ورضا من صاحبها‪ ،‬بغض الّنظر عن‬
‫دينه أو ُم عتقده‪ ،‬حتى ولو كان ُم شرًكا؛ ألن هللا جبله على العدل‪ ،‬وطبعه على اإلنصاف‪.‬‬
‫ومن عدله ﷺ مع أعدائه ما رواه ابن عباس (رضي هللا عنهما) فَقاَل ‪َ« :‬قِد َم ُمَسْيِلَم ُة الَكَّذاُب‬
‫عَلى َعْه ِد َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فَج َعَل يقوُل‪ :‬إْن َج َعَل لي ُمَحَّم ٌد األْم َر ِم ن َبْعِدِه َتِبْعُتُه‪ ،‬وَقِد َمَه ا في َبَشٍر َكِثيٍر‬
‫ِم ن َقْو ِم ِه ‪ ،‬فأْقَبَل إَلْيِه َر سوُل هللا ﷺ ومعُه َثاِبُت بُن َقْيِس بِن َشَّم اٍس ‪ ،‬وفي َيِد َر سوِل هللا ﷺ ِقْط َعُة‬
‫َجِر يٍد‪ ،‬حَّتى وَقَف عَلى ُمَسْيِلَم َة في أْص َح اِبِه ‪َ ،‬فَقاَل ‪« :‬لو َسَأْلَتِني هِذه الِقْط َعَة ما َأْع َطْيُتَكَه ا‪ ،‬وَلْن َتْعُدَو‬
‫أْم َر هللا ِفيَك ‪ ،‬وَلِئْن أْد َبْر َت َلَيْعِقَر َّنَك ُهللا‪ ،‬وإِّني َأَلَر اَك الذي ُأِر يُت ِفيِه ‪ ،‬ما َر َأْيُت ‪ ،‬وهذا َثاِبٌت ُيِج يُبَك‬
‫َعِّني» ُثَّم اْنَصَر َف عْنه‪َ ،‬قاَل ابُن َعَّباٍس ‪َ :‬فَسَأْلُت عن َقْو ِل َر سوِل هللا ﷺ‪« :‬إَّنَك ُأَر ى الذي ُأِر يُت فيه ما‬
‫أَر ْيُت »‪ ،‬فأْخ َبَر ِني أبو ُهَر ْيَر َة(رضي هللا عنه)‪ :‬أَّن َر سوَل هللا ﷺ َقاَل ‪َ«:‬بْيَنَم ا أَنا َناِئٌم ‪َ ،‬ر َأْيُت في َيَد َّي‬
‫ِس َو اَر ْيِن ِم ن َذَهٍب‪ ،‬فأَهَّم ِني َشْأُنُه َم ا‪َ ،‬فُأوِح َي إَلَّي في الَم َناِم ‪ :‬أِن اْنُفْخ ُه َم ا‪َ ،‬فَنَفْخ ُتُه ما َفَطاَر ا‪ ،‬فأَّو ْلُتُه ما‬
‫َكَّذاَبْيِن َيْخ ُر َج اِن َبْعِدي»[ُم تفق عليه]‪َ .‬فَكاَن َأَح ُدُهَم ا العنسَّي ‪َ ،‬و اآلَخ ُر مسيلمَة الكّذاَب صاحَب اليمامة‪.‬‬
‫وتأّم ل هنا ُم شاهدته ﷺ إلنسان يأبى أن يدخل دينه‪ ،‬ويؤمن برسالته‪ ،‬ثم يرى ُر ؤيا ‪ -‬ورؤيا‬
‫األنبياء حق‪ ،-‬وفيها أّن هذا الّر جل سوف يّدعي الّنبوة‪ ،‬ويعلم ﷺ فداحة الُج رم الذي سوف يرتكبه هذا‬
‫الكّذاب في األّم ة‪ ،‬والفتنة الّشنعاء الّشعواء التي سوف ينشرها بين الناس جّر اء دعوته اآلثمة الكاذبة‪،‬‬
‫وكان ﷺ في مركز قوة معه الّدولة والجيش‪ ،‬وهذا الّر جل الكّذاب اآلثم أتى وافًدا في حالة ضعف‬
‫وقلة‪ ،‬ومع ذلك لم يّتخذ رسول هللا أّي تصـرف عقابي ضّده‪ ،‬ولم يحد من حريته‪ ،‬وهذا لتمام عدله‬
‫ﷺ‪ ،‬فلم ُيرد إصدار ُح كٍم على ُم جّر د رؤيا ولو كانت حًقا؛ ألّنه ال بد من دليل ملموس محسوس‪،‬‬
‫وبّينة حاضرة ُم شاهدة بالعين‪ ،‬ولهذا كّله تركه ﷺ ليعود ألهله وعشيرته في اليمامة بنجد في كّل‬
‫سالم وأمان‪ ،‬نعم؛ أّنها الّنبوة في أسمى مظاهرها‪ ،‬والّر سالة في أبهى صورها‪.‬‬
‫وكان ﷺ عاداًل في الّتعامل مع الكافرين ومع الُعصاة من المؤمنين‪ ،‬فإّن هللا طلب مّنا البراءة‬
‫الّتامة من الكفر وأهله‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬قْد َكاَنْت َلُكْم ُأْس َو ٌة َحَسَنٌة ِفي ِإْبَر اِه يَم َو اَّلِذيَن َمَعُه ِإْذ َقاُلوا ِلَقْو ِم ِه ْم‬
‫ِإَّنا ُبَر آُء ِم ْنُكْم َو ِم َّم ا َتْعُبُدوَن ِم ْن ُدوِن ِهَّللا} [الممتحنة‪ :‬اآلية ‪.]4‬‬
‫ولكن مع عصاة المؤمنين أمرَنا ُسبحانه بالبراءة الجزئية‪ ،‬والُبغض على حسب المعصية‪،‬‬
‫فقال تعالى‪َ{ :‬و اْخ ِفْض َج َناَح َك ِلَمِن اَّتَبَعَك ِم َن اْلُم ْؤ ِم ِنيَن * َفِإْن َعَص ْو َك َفُقْل ِإِّني َبِر يٌء ِم َّم ا َتْعَم ُلوَن }‬
‫[الشعراء‪ :‬اآلية ‪.]216 - 215‬‬
‫فانظر الفرق بين البراءة من الكّفار‪ ،‬والبراءة الجزئية الّنسبية من عصاة المؤمنين‪ ،‬وهذا من‬
‫العدل واإلنصاف‪ ،‬فلم ُيخرج ﷺ أهل المعصية من دائرة اإليمان حتى أهل الكبائر منهم‪ ،‬بل تبّر أ من‬
‫أخطائهم وذنوبهم ومعاصيهم دون أن يتبّر أ منهم ومن إيمانهم‪.‬‬
‫وإليك مشهًدا آخر لعدله وجمعه ﷺ بين إقامة الحّد‪ ،‬والّر حمة والعدل واإلنصاف حتى مع‬
‫الُعصاة والُم ذنبين‪ ،‬فَعْن ُعَمَر ْبِن الخطاب(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّن َر ُج اًل عَلى َعْهِد النبِّي ﷺ كاَن اْس ُم ُه‬
‫َعْبَد هللا‪ ،‬وكاَن ُيْض ِح ُك َر سوَل هللا ﷺ‪ ،‬وكاَن النبُّي قْد َج َلَد ُه في الَّشَر اِب‪َ ،‬فُأِتَي به َيْو ًم ا فأَمَر به َفُجِلَد‪،‬‬
‫َفَقاَل َر ُج ٌل ِم َن الَقْو ِم ‪ :‬الَّلُه َّم العْنه‪َ ،‬م ا أْك َثَر ما ُيْؤ َتى بِه ؟ َفَقاَل النبُّي ﷺ‪ :‬ال َتْلَعُنوُه‪َ ،‬فَو هللا ما َعِلْم ُت إَّنه‬
‫ُيِح ُّب َهللا وَر سوَلُه» [رواه البخاري]‪ ،‬أّدبه ﷺ بالُح كم الشرعي لُيقيم حدود هللا‪ ،‬ثم أقّر له بُح ب هللا‬
‫ورسوله‪ ،‬فليس بالذي ألغى الحّد وعّطل ما أمر هللا به‪ ،‬وليس بالذي أخرجه من دائرة اإليمان وُح ب‬
‫هللا ورسوله‪.‬‬
‫وعدل ﷺ مع أهل العهد والذّم ة‪ ،‬كما جاء عند أبي داود أّن َر ُسوِل هللا ﷺ َقاَل ‪َ« :‬م ْن َظَلَم‬
‫ُم َعاِه ًدا َأْو اْنَتَقَص ُه‪َ ،‬أْو َكَّلَفُه َفْو َق َطاَقِتِه ‪َ ،‬أْو َأَخ َذ ِم ْنُه َشيًئا بَغْيِر طِيِب َنْفٍس َفَأَنا َح ِج يُج ُه َيْو َم‬
‫اْلِقَياَم ِة »‪.‬‬
‫فهل هناك عدل أعظم من هذا؟! أن يكون ﷺ يوم القيامة خصَم من ظلم ُم عاهًدا أو ذمًّيا مع‬
‫العلم أّنهم ُاخملفون له وال يعترفون بنبّو ته؟!‬
‫وفي حديث آخر يؤكد ﷺ على عدم الجور والُظلم مع أهل العهد والذّم ة‪ ،‬فيقول‪َ« :‬م ن َقَتَل‬
‫َنْفًسا ُم عاَهًدا َلْم َيِر ْح راِئَح َة الَج َّنِة ‪ ،‬وإَّن ِر يَح ها َلُيوَج ُد ِم ن َم ِسيَر ِة أْر َبِع يَن عاًم ا» [رواه البخاري]‪،‬‬
‫وقال رسول هللا ﷺ‪َ« :‬م ن َح َلَف على َيِم يٍن ‪ ،‬وهو فيها فاِج ٌر ‪ِ ،‬لَيْقَتِط َع بها ماَل اْم ِر ٍئ ُمْسِلٍم ‪َ ،‬لِقَي هللا‬
‫وهو عليه َغْضباُن »‪ .‬قاَل األْش َعُث ‪ِ :‬فَّي وهللا كاَن ذلَك ‪ ،‬كاَن َبْيِني وبْيَن َر ُج ٍل ِم َن الَيُه وِد أْر ٌض‬
‫َفَجَح دِني‪َ ،‬فَقَّد ْم ُتُه إلى الّنبِّي ﷺ‪ ،‬فقاَل لي‪ :‬أَلَك َبِّيَنٌة؟‪ُ ،‬قلُت ‪ :‬ال‪ ،‬فقاَل ِلْلَيُه وِد ِّي‪ :‬احِلْف ‪ُ ،‬قلُت ‪ :‬يا َر سوَل‬
‫هللا‪ ،‬إًذا َيْح ِلَف وَيْذَهَب بماِلي‪ ،‬فأْنَز َل هللا َتعالى‪ِ{ :‬إَّن اَّلِذيَن َيْش َتُر وَن َبَعْه ِد ِهَّللا َو َأْيَم اِنِه ْم َثَم نًا َقِليًال} [آل‬
‫عمران‪ :‬اآلية ‪ُ[ ،]77‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫إّنه ِخ الف بين صحابّي مؤمن بالّنبي ﷺ ويهودي ُم كّذب له في نبّو ته وال يعترف برسالته‪،‬‬
‫ومع ذلك لم يحمله ﷺ ُحّب الّص حابي وال ُبغض اليهودي على الحيف في الُح كم‪ ،‬أو ُظلم اليهودي‪ ،‬بل‬
‫بقي ﷺ في موقف العدل يطلب‪ :‬البّينة على المّدعي واليمين على من أنكر‪ ،‬بغض الّنظر عن مسألة‬
‫الُح ب والُبغض‪ ،‬أو اإليمان والُكفر‪ ،‬فيا له من عدل ما أجمله! ويا له من إنصاف ما أروعه!‬
‫وهذه قصة أخرى تفيض منها عدالته ورحمته وجوده وإنصافه ﷺ‪ ،‬فقد روى سهل بن أبي‬
‫َح ْثَم َة (رضي هللا عنه) َأَّن َنَفًر ا ِم ْن َقْو ِم ِه اْنَطَلُقوا ِإَلى خيبر‪َ ،‬فَتَفَّر ُقوا ِفيَه ا‪َ ،‬و َو َج ُدوا َأَح َدُهْم َقِتياًل ‪،‬‬
‫َو َقاُلوا ِلَّلِذي ُو ِج َد ِفيِه ْم ‪َ :‬قْد َقَتْلُتْم َص اِح َبَنا‪َ .‬قاُلوا‪َ :‬م ا َقَتْلَنا َو ال َعِلْم َنا َقاِتاًل ‪َ .‬فاْنَطَلُقوا ِإَلى الَّنِبِّي‪َ ،‬فَقاُلوا‪َ :‬يا‬
‫َر ُسوَل هللا‪ ،‬اْنَطَلْقَنا ِإَلى َخْيَبَر َفَو َج ْدَنا َأَح َدَنا َقِتياًل ‪َ .‬فَبَدَأ َعْبُد الّر ْح َمِن ‪َ ،‬و َكاَن َأْص َغَر الَقْو ِم ‪َ ،‬فَقاَل َلُه الَّنِبُّي‬
‫ﷺ‪َ« :‬كِّبِر الُكْبَر »(أي قِّدموا في الكالم أكبركم)»‪َ .‬فَقاَل َلُهْم ‪َ« :‬تْأُتوَن ِباْلَبِّيَنِة َعَلى َم ْن َقَتَلُه؟» َقاُلوا‪َ :‬م ا‬
‫َلَنا َبِّيَنٌة!! َقاَل ‪َ« :‬فَيْح ِلُفوَن »‪َ .‬قاُلوا‪ :‬ال َنْر َض ى ِبَأْيَم اِن اْلَيُه وِد‪َ .‬فَكِر َه َر ُسوُل هللا ﷺ َأْن ُيْبِط َل َد َم ُه‪،‬‬
‫َفَو َداُه ِم َئًة ِم ْن ِإِبِل الَّص َد َقِة » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقعت هذه الحادثة وكان الُّص لح قائًم ا مع اليهود كما جاء في «الصحيحين»‪« :‬وهي يومئٍذ‬
‫ُص لح»‪ ،‬فالمقتول صحابّي ُم سلم ُقتل في أرض اليهود‪ ،‬واليهود آنذاك في حالة هزيمة بعد انتصار‬
‫الّنبي عليهم‪ ،‬والّتهمة موجودة‪ ،‬والّشك ال زال قائًم ا فيمن قتله‪ ،‬لكن رسول هللا ﷺ لم يذهب مع هوى‬
‫القلب في ُحّب الّص حابي أو ُبغض اليهود‪ ،‬بل عرض األمر على أولياء القتيل بأن يأتوا ببّينة واضحة‬
‫فلم يجدوا‪ ،‬فعرض عليهم يمين اليهود فرفضوا لعلمهم بكذب اليهود‪ ،‬فما كان منه ﷺ بعد هذا كله إاّل‬
‫أن يدفع الدّية بنفسه ومن بيت مال المسلمين‪ ،‬والقاتل من اليهود والمقتول من المسلمين‪ ،‬فباهلل عليكم‬
‫هل سمعت آذانكم بعدل ورحمة وإنصاف مثل هذا على مّر األيام‪ ،‬وتعاقب األعوام؟!‬
‫لو أّن العدل ُم ّثل لكان في صورته الجميلة‪ ،‬ومقامه الّشـريف ﷺ‪ ،‬فهو الذي ألهمنا أّن العدل‬
‫حصن أمان لصاحبه في الّدنيا واآلخرة‪ ،‬وأّن من التزم به فاز برضا الخالق قبل رضا الخليقة‪.‬‬
‫وألهمنا ﷺ أّن العدل يقضي على غرور من يظنون أّنهم فوق البشر‪ ،‬وبالعدل ُنحقق األمن‬
‫واألمان‪ ،‬والّسالمة واالستقرار‪ ،‬ونقضـي على الفتن والّشحناء‪ ،‬والفرقة والّتعّص ب‪ ،‬ونصل إلى‬
‫جنات الّنعيم‪ ،‬وينال كل إنسان كرامته وعزيمته‪.‬‬
‫والعدل أساس تنمية الُم جتمعات وازدهارها ورخائها‪ ،‬وما سقطت حضارة وال انهارت دولة‪،‬‬
‫إاّل بسبب الُظلم؛ ألّن الُظلم مؤذن بخراب العمران‪ ،‬وشؤمه عظيم‪ ،‬ونهايته كارثية‪ ،‬وعواقبه وخيمة‪،‬‬
‫فصّلى هللا وسلم على من ُبِع َث بالّر سالة‪ ،‬وحكم بالعدالة‪ ،‬وعّلم من الجهالة‪ ،‬وهدى من الّضاللة‪.‬‬
‫اي أعدَل الّناس من حاٍف وُمنتعِل‬
‫وأكرَم اخللِق يف ِح ٍّل وُمرحتِل‬
‫عدُل الّنبوة يف برديك منتظٌم‬
‫وأنَت ميزاُن عدٍل هللا للّد وِل‬
‫كم ظاٍمل قد طغى حىت إذا ظهرت‬
‫مشس النبّو ة مل ينبس من الوجِل‬
‫وكم فقٍري كسري كنت انصَرُه‬
‫يِف ِع ّز عدلك يف زاٍه من اُحللِل‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َداِع ًيا‬
‫هو أّو ل الّدعاة‪ ،‬وشيخهم‪ ،‬وإمامهم‪ ،‬وقدوُتهم‪ ،‬وكل داعية ال يمتثل أمره ﷺ‪ ،‬وال ينتهي عن‬
‫نهيه‪ ،‬وال يدعو على طريقته فدعوته باطلة‪ ،‬وأي دعوة تقوم على غير منهجه الّشريف ﷺ فهي إلى‬
‫انحسار‪ ،‬وانكسار‪ ،‬واندثار؛ ولهذا سلك ﷺ جميع طرق الّدعوة‪ ،‬بل إّن حياته كّلها دعوة هلل‪ ،‬فضحكه‬
‫وبكاؤه‪ ،‬ورضاه وغضبه‪ ،‬وكالمه وأفعاله‪ ،‬وأخالقه ومواعظه‪ ،‬وكتبه وفتاويه‪ ،‬وسلمه وحربه‪ ،‬وليله‬
‫ونهاره‪ ،‬وضربه لألمثال وإيراده للقصص‪ ،‬وزياراته للّناس‪ ،‬واستقباله للوفود‪ ،‬كّلها دعوة هلل‪.‬‬
‫إّن أعظم وظيفة له ﷺ أّنه داعية إلى هللا‪ ،‬وأشرف عمل قام به في حياته أّنه أقام الحجة على‬
‫عباد هللا‪ ،‬وبّلغ رسالة هللا‪ ،‬فقد رفع هللا شأن هذا المنصب (منصب الّدعوة إليه)‪ ،‬وأشاد به فقال تعالى‪:‬‬
‫{َو َم ْن َأْح َسُن َقْو ًال ِم َم ْن َدَعا ِإَلى ِهَّللا َو َعِم َل َص اِلًح ا َو َقاَل ِإَّنِني ِم َن اْلُم ْسِلِم يَن } [فصلت‪ :‬اآلية ‪.]33‬‬
‫كانت الّدعوة شغله الّشاغل ﷺ‪ ،‬وعمله األّو ل واألخير‪ ،‬دعا إلى هللا بأقواله المعصومة‬
‫الُم سّددة‪ ،‬وأحواله الّشريفة العظيمة‪ ،‬وأفعاله الّطاهرة المؤّيدة بالوحي‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَتْه ِدي‬
‫ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْس َتَقيٍم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪ ،]52‬وهو الُم رسل بالّدعوة إلى الثقلين‪ :‬الجن واإلنس‪ ،‬وقال‬
‫له رّبه‪ُ{ :‬قْل َهِذِه َسِبيِلي َأْدُعو ِإَلى ِهَّللا َعَلى َبِص يَر ٍة َأَنا َو َمِن اَّتَبَعِني َو ُسْبَح اَن ِهَّللا َو َم ا َأَنا ِم َن‬
‫اْلُم ْش ِر ِكيَن } [يوسف‪ :‬اآلية ‪.]108‬‬
‫فقوله تعالى‪ُ( :‬قْل) دليل على أّنه ُيوحى إليه ﷺ‪ ،‬وأّنه يتلقى القرآن من حكيم حميد‪ ،‬وأّنه ال‬
‫يأخذ الّشريعة من نفسه‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ( :‬هِذِه َسِبيل)؛ أّن المنهج واضح‪ ،‬والّطريق معروف‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ( :‬أْدُعو) هذه هي الوظيفة‪ ،‬وهذا هو العمل الّدائم‪ ،‬والمنصب الّشريف المنوط به‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ِ( :‬إَلى هللا) أي الدعوة إلى توحيد هللا وعبادته جّل في ُعاله‪ ،‬وليس إلى نفسه ﷺ‬
‫أو إلى إمارة أو ُم ْلك‪ ،‬أو جماعة‪ ،‬أو حزب‪ ،‬أو منظمة‪ ،‬أو مقصد دنيوّي ‪ ،‬بل خالصة لوجه هللا‪.‬‬
‫وقوله عّز وجل‪َ( :‬عَلى َبِص يَر ٍة) أي على حكمة‪ ،‬وعلم‪ ،‬وتوحيد‪ ،‬ووحي معصوم مقّدس‪،‬‬
‫واّتباع ال ابتداع‪ ،‬وهدى ال ضالل‪.‬‬
‫وقوله‪َ( :‬أَنا) فهو األّو ل في هذا الباب وهو المعلم لهذا المنهج‪ ،‬وهو اإلمام والقدوة في هذا‬
‫الّطريق إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ( :‬و َم ِن اَّتَبَعِني) فكل تابع ينال هذا الّشرف‪ ،‬وله موفور األجر بقدر نصيبه في‬
‫البذل والعطاء لنشر دعوته ﷺ‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ( :‬و ُسْبَح اَن هللا) تنزيه للُم رِس ل سبحانه‪ ،‬وللُم رَسل ﷺ‪ ،‬وللّر سالة عن الّز يغ‬
‫والهوى والّضالل‪ ،‬فالكّل على حٍق وهدى‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ( :‬و َم ا َأَنا ِم َن الُم ْش ِر ِك يَن ) براءة له ﷺ وألتباعه الموّح دين من الّشرك الذي هو‬
‫أعظم ذنب في العالم‪ ،‬ولذلك كان أعظم عمل قام به ﷺ توحيد رّبه والّدعوة إلى عبودّية خالقه‪.‬‬
‫وبّين هللا لنبّيه ﷺ طريق الّدعوة فقال تعالى‪{ :‬اْدُع ِإَلى َسِبيِل َر ِّبَك ِباْلِح ْك َم ِة َو اْلَم ْو ِع َظِة اْلَحَسَنِة‬
‫َو َج اِد ْلُهْم ِباَّلِتي ِه َي َأْح َسُن } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]125‬‬
‫(اْدُع)‪ :‬أي مهمتك داللة الّناس إلى الّص راط المستقيم‪ ،‬ووظيفتك إرشادهم إلى الّنهج القويم‪.‬‬
‫(ِإَلى َسِبيِل َر ِّبَك )‪ :‬إلى طريقه الُم ستقيم‪ ،‬الموصل إلى طاعته ورضوانه وجّنته‪ ،‬وليس لمقصد‬
‫آخر من مقاصد الدنيا‪.‬‬
‫(ِباْلِح ْك َم ِة )‪ :‬بوضع الّشيء في موضعه‪ ،‬الكالم المناسب‪ ،‬والفعل المناسب‪ ،‬في الوقت‬
‫المناسب‪ ،‬فلكل قوم خطاب‪ ،‬ولكل مقام مقال‪.‬‬
‫(َو اْلَمْو ِع َظِة اْلَحَسَنِة )‪ :‬الكلمات الّسهلة الّلينة التي ال تكسر قلًبا‪ ،‬وال تجرح نفًسا‪.‬‬
‫(َجاِد ْلُه م ِباَّلِتي ِه َي َأْح َسُن )‪ :‬بالحوار البّناء القائم على احترام المحاور‪ ،‬وطلب الحقيقة‪،‬‬
‫وإظهار الُحّج ة والُبرهان‪.‬‬
‫ولم يترك ﷺ موقًفا ُم ناسًبا إاّل ودعا إلى هللا حسب ذاك الموقف‪ ،‬وُيرسل رسائل تصل إلى‬
‫القلوب مباشرة؛ ألن ذلك أثبت في الّذاكرة‪ ،‬وأوقع أثًر ا في الّنفس‪ ،‬ومن ذلك ما جاء عن عمر بن‬
‫الخطاب (رضي هللا عنه) أّن امرأة كانت تبحث عن ولدها بلهفة وشغف‪ ،‬ولّم ا وجدته ضمته بقّو ة‬
‫وحنان‪ ،‬فقال ﷺ ألصحابه‪َ« :‬أَتَر ْو َن َهِذِه الَمْر َأَة طاِر َح ًة َو َلَد َها في الَّناِر ؟ ُقْلَنا‪ :‬ال َو هللا‪َ ،‬فَقاَل ‪ :‬هلل َأْر َح ُم‬
‫ِبِع باِدِه ِم ْن َهِذِه ِبَو َلِد َها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومنها موعظته ﷺ عند القبر‪ ،‬فعن البراء بن عازب (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬خ َر ْج َنا َمَع‬
‫َر ُسوِل هللا ﷺ ِفي ِج َناَز ِة َر ُج ٍل ِم َن اَألْنَص اِر ‪َ ،‬فاْنَتَه ْيَنا ِإَلى اْلَقْبِر وَلَّم ا ُيْلَح ْد (لم ينتِه حفره)‪َ ،‬فَج َلَس‬
‫َر ُسوُل هللا ﷺ‪َ ،‬و َج َلْسَنا َحْو َلُه َكَأَّنَم ا َعَلى ُر ؤوِس َنا الَّطْيُر ‪َ ،‬و ِفي َيِدِه ُعوٌد َيْنُكُت ِبِه ِفي اَألْر ِض ‪َ ،‬فَر َفَع‬
‫َر ْأَسُه َفَقاَل ‪ :‬اْس َتِع يُذوا ِباهلل ِم ْن َعَذاِب اْلَقْبِر ‪َ ..‬مَّر َتْيِن َأْو َثاَل ًثا‪ ،‬ثم ذكر الحديث الّطويل في وصف‬
‫عذاب القبر وفتنته» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ويقول المستورد بن شداد (رضي هللا عنه)‪ :‬كنُت مَع الَّر كِب اَّلذيَن وقفوا مَع رسوِل هللا ﷺ‬
‫َعَلى الَّسْخ َلِة اْلَمِّيَتِة ‪ ،‬فقاَل رسوُل هللا ﷺ‪« :‬أتروَن هِذه هانت عَلى أهِلها حيَن ألقوها؟‪ ،‬قالوا‪ :‬من‬
‫هواِنها ألقوها يا رسوَل هللا‪ ،‬قاَل ‪ :‬الُّدنيا أهوُن عَلى هللا من هِذه عَلى أهِلها» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا أراد أن ُينّبه على خطأ لم ُيسم صاحبه‪ ،‬فيقول‪َ« :‬م ا َباُل َأْقَو اٍم َيْش َتِر ُطوَن ُشُر وًطا‬
‫َلْيَسْت ِفي ِك َتاِب هللا؟! َم ِن اْش َتَر َط َشْر ًطا َلْيَس ِفي ِك َتاِب هللا‪َ ،‬فْه َو َباِط ٌل ‪َ ،‬فَلْيَس َلُه َو ِإِن اْش َتَر ط ِم َئَة‬
‫َشْر ُط» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ورّبما لّم ح ﷺ في المجلس لُيفهم عنه دون أن يواجه صاحب الخطأ‪ ،‬فحينما استَّب رجالن‬
‫عنده ﷺ‪ ،‬واحمّر وجه أحدهما مغضًبا‪ ،‬قال ﷺ ألصحابه‪« :‬إِّني َألْع َلُم َكِلَم ًة لو قاَلَه ا َلَذَهَب َذا عْنه ما‬
‫َيِج د لو قال‪َ :‬أُعوُذ باهلل ِم َن الَّشْيَطاِن الَّر ِج يِم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبالّر غم من أّنه ﷺ أحُّب إلى الّص حابة من أنفسهم وأهلهم إاّل أّنه كان يتخّو لهم بالموعظة؛ كي‬
‫ال يجلب لهم الّسآمة والملل‪ ،‬فعن أبي وائل قال‪« :‬كاَن عبُد هللا بن مسعود (رضي هللا عنه) ُيَذِّك ُر‬
‫الّناَس في ُكِّل َخ ِم يٍس ‪ ،‬فقاَل له َر ُج ٌل ‪ :‬يا أبا عبِد الَّر ْح َمِن َلَو ِد ْدُت أَّنَك َذَّكْر َتنا ُكَّل َيوٍم ؟ قاَل ‪ :‬أَم ا إَّنه‬
‫َيْم َنُعِني ِم ن ذلَك أِّني أْك َر ُه أْن ُأِم َّلُكْم ‪ ،‬وأِّني أَتَخ َّو ُلُكْم بالَمْو ِع َظِة ‪ ،‬كما كاَن الّنبُّي ﷺ َيَتَخ َّو ُلنا بها‪،‬‬
‫َم خاَفَة الَّسآَم ِة َعَلْينا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وفي دعوته ﷺ كان يستعمل أسلوب القصص التي تحتوي على عظة وعبرة وفائدة‪ ،‬ويتمّيز‬
‫هذا األسلوب بتشويق الُم تلقي وجذب انتباهه وتحفيزه ألخذ العبرة وتعديل سلوكه لألفضل‪ ،‬فطبيعة‬
‫الّنفس البشـرّية تنجذب للقصص‪ ،‬مّم ا يؤدي إلى ترسيخ المعاني اإليمانّية في القلوب‪ ،‬والعقائد‬
‫الّص حيحة في العقول‪.‬‬
‫ومن هذه القصص ما ذكره ﷺ كما في «الصحيحين»‪ -‬عن أْص حاب الغار‪ ،‬وقَّص ة اختالف‬
‫المالئكة فيمن قَتل مئَة نْفٍس ثَّم تاب بعد ذلك‪ ،‬وقصة األْبرص واألْقرع واألْعمى التي رواها أبو‬
‫هريرة (رضي هللا عنه) في «الّص حيحين»‪ ،‬ومنها قوله ﷺ‪« :‬هلل أْفَر ُح بَتْو َبِة َعْبِدِه ِم ن َر ُج ٍل َنَز َل‬
‫َم ْنِز اًل وِبِه َم ْه َلَكٌة‪ ،‬ومعُه راِح َلُتُه‪ ،‬عليها َطعاُم ُه وَشراُبُه‪َ ،‬فَو َض َع َر ْأَسُه َفناَم َنْو َم ًة‪ ،‬فاْس َتْيَقَظ وقْد‬
‫َذَهَبْت راِح َلُتُه‪ ،‬حَّتى إذا اْش َتَّد عليه الَح ُّر والَعَطُش أْو ما شاَء هللا‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْر ِج ُع إلى َم كاِني‪َ ،‬فَر َجَع َفناَم‬
‫َنْو َم ًة‪ُ ،‬ثَّم َر َفَع َر ْأَسُه‪ ،‬فإذا راِح َلُتُه ِع ْنَد ُه»‪.‬‬
‫وأوجب هللا على رسوله ﷺ أن يبذل طاقته في الّدعوة وال يكتم شيًئا‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫الَّر ُسوُل َبِّلْغ َم ا ُأْنِز َل ِإَلْيَك ِم ْن َر ِّبَك َو ِإْن َلْم َتْفَعْل َفَم ا َبَّلْغَت ِر َساَلَتُه} [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]67‬‬
‫فهل بعد هذا الّتهديد من تهديد؟! ووهللا وتاهلل وباهلل! لقد بّلغ رسولنا ﷺ الّر سالة أتّم البالغ‪،‬‬
‫وأّدى األمانة أتّم األداء‪.‬‬
‫فكان ﷺ حريًص ا تمام الحرص على دعوة الّناس‪ ،‬وتوضيح الرسالة لهم‪ ،‬حتى قال ﷺ‪« :‬لَقد‬
‫تَر ْكُتُكم على مثِل الَبيضاِء ‪ ،‬ليُلها كَنهاِر ها ال َيزيُغ عنها إاَّل هاِلٌك » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فما ترك ﷺ أمًر ا فيه صالح لألمة‪ ،‬وال خيًر ا فيه نجاة لها إاّل دّلهم عليه‪ ،‬وال ترك شًر ا أو‬
‫سوًء ا فيه هالك لألمة إاّل حذرهم منه غاية الّتحذير‪ ،‬قال الّشاعر‪:‬‬
‫ُبشـرى لنا معشـَر اإلسالم إّن لنا‬
‫من العناية رك ا غري منهزِم‬
‫ًن‬
‫ّملا دعا هللا داعينا لطاعته‬
‫أبكرم الّرسل كّنا أكرَم األمِم‬
‫نزل ﷺ ميدان الّدعوة بكل ما ُأوتي من قوة‪ ،‬فدعا في المجامع العاّم ة‪ ،‬وفي المجالس‬
‫الخاّص ة‪ ،‬وكان ديدنه وكلمته الفريدة الوحيدة التي يرددها وال يمّل منها‪ُ :‬قولوا‪« :‬ال إلَه إاّل هلل‪،‬‬
‫ُتفِلحوا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وفي سبيل هذه الكلمة بذل ﷺ كل ما ُيمكن أن يبذله أّي إنسان في العالم‪ ،‬من الُج هد والعطاء‪،‬‬
‫والّتضحية والفداء‪ ،‬بإخالص وصدٍق وتفاٍن ‪ ،‬فبذل ِلذلك ُخ طَبه‪ ،‬وحديَثه‪ ،‬وفتاويه‪ ،‬وتفكيره‪ ،‬وماله‪،‬‬
‫ونفسه‪ ،‬حتى في ميدان الجدال‪ ،‬وفي ساحات القتال‪ ،‬مّر ة بالبيان والبرهان والقرآن‪ ،‬ومرة بالّسنان‬
‫عند تطاعن األقران والتقاء الّشجعان‪.‬‬
‫وكان ﷺ يستقبل الوفود‪ ،‬وُيقيم الُم ناظرات‪ ،‬ويستعين بشعراء الّدعوة؛ كحّسان ابن ثابت‬
‫وعبدهللا بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهم‪ ،‬والخطباء كثابت بن قيس ابن شّم اس‪ ،‬واستعمل‬
‫الخطابة والكلمات القصيرة والّنصائح الفردية‪ ،‬وزيارة األسواق العامة‪ ،‬فأّي وسيلة لم يطرقها ﷺ؟‬
‫وأّي طريق لم يسلكه؟! وأّي جهد لم يبذله؟! في سبيل نشر هذه الّدعوة الميمونة الُم باركة‪.‬‬
‫ليس في تاريخ البشرّية على اإلطالق رجل دعا بمراتب الّدعوة وأصنافها وأنواعها‬
‫وأشكالها؛ كمحّم د ﷺ‪ ،‬فإّنه دعا الُم شـركين‪ ،‬ودعا أهل الكتاب والمنافقين‪ ،‬ودعا الحاضرة والبادية‪،‬‬
‫ودعا الّر جال والّنساء‪ ،‬ودعا الكبار والّص غار‪ ،‬ودعا األغنياء والفقراء‪ ،‬وسلك ﷺ ُسبل الّدعوة‬
‫بأنواعها؛ كالّدعوة الّسـرية والجهرّية‪ ،‬والّدعوة الجماعّية والفردّية‪ ،‬وتحّدث إلى األغنياء بما يجذبهم‬
‫إلى الّدين‪ ،‬وتكّلم مع األعراب بما يصلح لهم‪ ،‬ودعا المرأة بما يناسبها‪ ،‬وحاور الّطفل بكالم يفهمه‪،‬‬
‫ووقف عليه الّص الة والّسالم مقامات الّدعوة‪ ،‬مّر ة ُم سالًم ا‪ ،‬ومّر ة ُم حارًبا‪ ،‬وأخرى يكتب ُم عاهدات‪،‬‬
‫أو يبعث بخطابات‪ ،‬أو يدعو للمفاوضات‪ ،‬أو يرسل رساًل ‪ ،‬أو يدخل في حوار‪ ،‬أو ُيلقي موعظة‪ ،‬أو‬
‫يرتجل ُخ طبة‪ ،‬أو يرد بفتوى‪ ،‬أو ُيجيب بجواب‪ ،‬أو يضرب أمثلة‪ُ ،‬كّلها دعوٌة إلى هللا عّز وجل‪،‬‬
‫وُنصٌح لألمة‪.‬‬
‫ذهب ﷺ إلى بالل (رضي هللا عنه)‪ ،‬المولى الخادم المسكين الحبشي‪ ،‬مولى أمّية بن خلف‪،‬‬
‫فعرض عليه دعوته‪ ،‬وآمن بالل وُعّذب في ذات هللا‪ ،‬وبقي وفًّيا صادًقا حتى أنقذه هللا من المشركين‪،‬‬
‫وصار من أعالم المؤمنين‪ ،‬إلى يوم الّدين‪ ،‬ببركة رسالة سّيد المرسلين‪ ،‬عليه صلوات رّب العالمين‪.‬‬
‫وعرض ﷺ دعوته على الّشيوخ‪ ،‬وأولهم‪ :‬أبوبكر الّص ديق‪ ،‬شيخ المكرمات‪ ،‬والمواقف‬
‫العظيمات‪ ،‬فكان أّو ل من أسلم وآمن‪ ،‬ولحقه الّشيخ الّثاني الّر جل العظيم أبو حفص‪ ،‬عمر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬فصارا وزيري رسول هللا ﷺ وشيخي اإلسالم‪.‬‬
‫وعرض ﷺ دعوته على الّشباب‪ ،‬فاستجاب له أّو لهم فتى الفتيان‪ ،‬وسّيد األبطال‪ ،‬وخيرة‬
‫شباب األمة أبو الحسن‪ ،‬علي بن أبي طالب‪ ،‬رجل المواقف‪ ،‬وبطل الحروب‪ ،‬وُم صارع األقران‪،‬‬
‫والفاتك بالّشجعان‪ ،‬وصار منه بمنزلة هارون من موسى عليهما الّسالم‪.‬‬
‫وعرض ﷺ دعوته على خديجة‪ ،‬لّم ا عاد من الغار بعد أن أتاه جبريل‪ ،‬وأكرمه هللا بالوحي‪،‬‬
‫وقال له جبريل‪( :‬اقرأ) قال‪« :‬ما أنا بقارئ» إلى آخر ما قال له‪ ،‬عاد وهو يرتجف من الخوف وقال‬
‫لخديجة‪« :‬لقد خفت على نفسـي»‪ ،‬فقالت كلمتها المشهورة وقد آمنت وأسلمت‪« :‬وهللا‪ ،‬ال ُيْخ ِز يَك هللا‬
‫أَبًدا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فبذلت (رضي هللا عنها) كل ما تملك في سبيل ُنصرته ﷺ‪ ،‬وآزرته وأعانته وشّدت من أزره‪.‬‬
‫ودعا ﷺ اليهود إلى اإلسالم‪ ،‬وذهب إلى مجالسهم‪ ،‬وأقام الحّج ة عليهم‪ ،‬واستدعاهم إلى بيته‬
‫ﷺ‪ ،‬وحاورهم وأقام لهم البّينات‪ ،‬وذكر لهم المعجزات‪ ،‬فأسلم منهم عبدهللا بن سالم واثنان أو ثالثة‬
‫معه‪ ،‬وَأَبى الباقون كبًر ا وبغًيا وحسًدا‪.‬‬
‫وحاور ﷺ الّنصارى‪ ،‬ودعاهم إلى دينه‪ ،‬وبّين لهم المحّج ة‪ ،‬وأقام عليهم الحّج ة‪ ،‬حتى إّنهم‬
‫خافوا ولم يباهلوه عليه الصالة والسالم‪ ،‬وكان ﷺ يعرض تعاليمه ودينه على األطفال‪ ،‬فأسلم عبدهللا‬
‫بن عباس وهو طفل صغير‪ ،‬وهو الذي قال له ﷺ‪« :‬احَفِظ هللا يحَفظَك ‪ ،‬احَفِظ هللا َتِج ْده تُج اَهَك »‬
‫[رواه أحمد]‪.‬‬
‫وقال ﷺ للجارية‪« :‬أْيَن هللا؟ قاَلْت ‪ :‬في الَّسماِء ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬م ن أنا؟‪ ،‬قاَلْت ‪ :‬أْنَت َر سوُل هللاِ‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫أْع ِتْقها‪ ،‬فأّنها ُم ْؤ ِم َنٌة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ﷺ لعمر بن أبي سلمة وهو طفل صغير يأكل معه‪ ،‬وكانت يد هذا الطفل تطيش في‬
‫الَّصْح َفِة ‪« :‬يا ُغالُم ‪َ ،‬سِّم هللا‪ ،‬وُكْل بَيميِنَك ‪،‬وُكْل مّم ا َيِليَك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن حرصه ﷺ على دعوة العالمين إرساله الّر ُسل للملوك‪ ،‬وكتابة الّر سائل لهم‪ ،‬بألطف‬
‫العبارات‪ ،‬وأرّق الكلمات‪ ،‬كرسالته ﷺ إلى هرقل عظيم الّر وم التي جاء فيها‪« :‬بْس ِم هللا الَّر ْح َم ِن‬
‫الَّر ِح يِم ‪ِ ،‬م ن ُم َح َّم ٍد عبِد هللا وَر سوِلِه إلى ِه َر ْقَل َعِظ يِم الُّر وِم ‪َ :‬ساَل ٌم عَلى َم ِن اَّتَبَع الُه َدى‪ ،‬أَّم ا َبْعُد‪،‬‬
‫فإِّني أْدُعوَك بِدَعاَيِة اإلْس اَل ِم ‪ ،‬أْسِلْم َتْس َلْم ‪ُ ،‬يْؤ ِتَك ُهللا أْج َر َك َمَّر َتْيِن ‪ ،‬فإْن َتَو َّلْيَت فإَّن َعَلْيَك إْثَم‬
‫األِر يِس ِّييَن ‪َ ،‬و {َياَأْه َل اْلِك َتاِب َتَعاَلْو ا ِإَلى َكِلَم ٍة َسَو اٍء َبْيَنَنا َو َبْيَنُكْم َأَّال َنْعُبَد ِإَّال َهَّللا َو َال ُنْش ِر َك ِبِه َشْيًئا َو َال‬
‫َيَّتِخ َذ َبْعُض َنا َبْعًض ا َأْر َباًبا ِم ْن ُدوِن ِهَّللا َفِإْن َتَو َّلْو ا َفُقوُلوا اْش َه ُدوا ِبَأَّنا ُم ْسِلُم وَن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]64‬‬
‫[ُم تفق عليه]‬
‫فانظر كيف دعاه ﷺ ووصفه بالعظمة‪ ،‬وبّج له وأالن له القول‪ ،‬وترفق به ليكون أدعى‬
‫إلسالمه‪.‬‬
‫لقد كانت قضّية الّدعوة هي القضية الحاضرة في فؤاده عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فلّم ا أرسل‬
‫معاذ بن جبل (رضي هللا عنه) إلى أهل اليمن قال له‪« :‬إَّنَك تْأتي َقْو ًم ا ِم ن أْه ِل الِك تاِب‪ ،‬فاْدُعُه ْم إلى‬
‫َشهاَد ِة أَّن ال إَلَه إاّل هللا وأِّني َر سوُل هللا» [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫ولّم ا بعث ﷺ علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) قائًدا للجيش يوم خبير قال له‪« :‬اْدُعُه ْم إلى‬
‫اإلْس اَل ِم ‪ ،‬وَأْخ ِبْر ُهْم بما َيِج ُب عليهم ِم ن َح ِّق هللا ِفيِه ؛ َفَو هللا َأَلْن َيْهِد َي ُهللا بَك َر ُج اًل واِح ًدا‪َ ،‬خ ْيٌر لَك‬
‫ِم ن أْن َيكوَن لَك ُح ْم ُر الَّنَعمِ» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحث على الّدعوة لمنهج هللا‪ ،‬وُيبّين األجر في ذلك فقال‪َ« :‬م ن َد َّل على َخ يٍر ‪ ،‬فله‬
‫ِم ثُل أجِر فاِعِله» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وألهمنا ﷺ أن ندعَو إلى هللا باحترامنا للّنظام والتزامنا بالقيم‪ ،‬ومحافظتنا على اآلداب‬
‫والمبادئ الفاضلة‪ ،‬في كّل مكان وزمان‪ ،‬فإّننا بذلك ننال األجر والمثوبة من رّب العالمين‪ ،‬فقال ﷺ‪:‬‬
‫«َم ْن َدَعا ِإَلى ُهًدى َكاَن َلُه ِم ْن اَأْلْج ِر ِم ْثُل ُأُج وِر َم ْن َتِبَعُه اَل َيْنُقُص َذِلَك ِم ْن ُأُج وِر ِه ْم َشْيًئا» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وكان عليه الّص الة والّسالم يدعو أمته وأتباعه إلى يوم الّدين أن يبّلغوا عنه الّر سالة‪،‬‬
‫وينشروا عنه العلم الّنافع‪ ،‬بالّلطف والقول الجميل والّر فق بالمدعو‪ ،‬وستر العاصي‪ ،‬وجذب المخالف‬
‫بألين الّطرق وأرفق الّسبل‪ ،‬والّتدرج في الّدعوة‪ ،‬والحكمة في الموعظة‪ ،‬والجدل بالحسنى‪ ،‬فقال ﷺ‪:‬‬
‫«َبِّلُغوا َعِّني ولو آَيًة» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬نَّض َر هللا امرًأ سِم ع مّنا شيًئا فبَّلَغُه كما سمَع ‪ ،‬فُر َّب ُم َبَّلٍغ أوعى من ساِم ٍع»‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فلم يكتِف ﷺ ببالغ نفسه‪ ،‬بل دعا البقّية لُم شاركته في هذا الّتبليغ‪ ،‬وفي هذه الّدعوة الميمونة‬
‫المباركة‪ ،‬بل إّنه أشرك أّم ته ﷺ في بعثته؛ ألّنه ببركة رسالته صاروا معه في نهجه وفي طريقه‪،‬‬
‫فقال ﷺ‪« :‬إَّنما ُبِع ْثُتْم ُم َيِّس ِر يَن ‪ ،‬وَلْم ُتْبَعُثوا ُم َعِّس ِر يَن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فانظر إلى لفظة‪« :‬إّنما ُبعثتم» كأّنهم شاركوه في البعثة؛ ألّنهم دخلوا في بركة رسالته‪ ،‬وفي‬
‫ُيمن دعوته فلهم حظ من هذا الّشرف العظيم واألجر الجسيم‪ ،‬وقال ﷺ‪َ« :‬م ن َسَّن في اإلْس اَل ِم ُسَّنًة‬
‫َحَسَنًة‪َ ،‬فُعِم َل بَه ا َبْعَد ُه‪ُ ،‬كِتَب له ِم ْثُل َأْج ِر َم ن َعِم َل بَه ا‪ ،‬وَيْنُقُص ِم ن ُأُج وِر ِه ْم شيٌء ‪َ ،‬و َم ن َسَّن في‬
‫اإلْس اَل ِم ُسَّنًة َسِّيَئًة‪َ ،‬فُعِم َل بَه ا َبْعَد ُه‪ُ ،‬كِتَب عليه ِم ْثُل ِو ْز ِر َم ن َعِم َل بَه ا‪ ،‬وَيْنُقُص ِم ن َأْو َز اِر ِه ْم شيٌء »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫فقل لي بربك‪ :‬أّي داعية دعا إلى هللا من عهد آدم إلى قيام الّساعة حظي بهذه المقامات‬
‫الُم نيفة‪ ،‬والمواقف الّشـريفة‪ ،‬والّص فات الّنبيلة‪ ،‬إاّل رسولنا عليه الصالة والّسالم؟!‬
‫ولك أن تتصور هذا األجر العظيم‪ ،‬فما دعا داٍع بعده ﷺ‪ ،‬وال خطب خطيب‪ ،‬وال عّلم أستاذ‪،‬‬
‫وال أفتى عالم‪ ،‬وال تكّلم شيخ‪ ،‬وال كتب كاتب‪ ،‬وال أّلف مؤلف‪ ،‬في علوم اإلسالم‪ ،‬أو في الّدعوة إلى‬
‫هللا إاّل كان له ﷺ مثل أجور هؤالء جميًعا؛ ألّنه أّو ل من دعا‪ ،‬وأّو ل من عّلم‪ ،‬وأّو ل من هدى ﷺ‪،‬‬
‫فجزاه هللا عّنا خير ما جزى نبًيا عن ُأّم ته‪.‬‬
‫إّن الجامعات والمعاهد واألكاديميات ُتخّر ج العظماء والعباقرة والمبدعين والمخترعين‬
‫والمكتشفين‪ ،‬أّم ا محمد ﷺ فما أخرجه للّناس إاّل هللا وحده‪ ،‬فهو سبحانه الذي توّلى تعليمه‪ ،‬وتربيته‬
‫وتأديبه‪ ،‬وهدايته وعصمته‪ ،‬وتسديده وتوفيقه‪.‬‬
‫وإذا كان هللا عّز وجل يقول عن أمته‪ُ{ :‬كْنُتْم َخْيَر ُأَم ٍة ُأْخ ِر َج ْت ِللَّناِس َتْأُمُر وَن ِباْلَم ْعُر وِف‬
‫َو َتْنَه ْو َن َعِن اْلُم ْنَكِر َو ُتْؤ ِم ُنوَن ِباِهَّلل} [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]110‬‬
‫فكيف يكون إمامها ونبّيها؟! فهو خير البشـر‪ ،‬وأشرف من خلق هللا على اإلطالق‪ ،‬نسأل هللا‬
‫أن يرزقنا حسن اّتباعه‪ ،‬واالقتداء بهديه‪ ،‬واالتساء بسّنته‪ ،‬والّثبات على نهجه‪ ،‬حتى نرد على حوضه‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫وعند تأّم ل ما بذله ﷺ في سبيل الّدعوة‪ ،‬وحرص عليه فإّنك لو اخترت وصًفا له ﷺ مع‬
‫وصف الّنبوة لقلت‪ :‬كان (َداِعًيا ِإَلى هللا)‪ ،‬ولذلك يقول له ربه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّنِبُّي ِإَّنا َأْر َسْلَناَك َشاِه ًدا‬
‫َو ُمَبِّش ًر ا َو َنِذيًر ا * َو َداِع ًيا ِإَلى ِهَّللا ِبِإْذِنِه َو ِس َر اًج ا ُم ِنيًر ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]46 - 45‬‬
‫وقال ﷺ للّناس في المشهد العظيم يوم عرفة في خطبته الّتاريخية الّر بانّية العظيمة‪َ« :‬و َأْنُتْم‬
‫ُتْس َأُلوَن َعِّني‪َ ،‬فما َأْنُتْم َقاِئُلوَن ؟ قالوا‪َ :‬نْش َه ُد أَّنَك قْد َبَّلْغَت َو َأَّدْيَت َو َنَصْح َت ‪َ ،‬فقاَل بإْصَبِعِه الَّسَّباَبِة ‪،‬‬
‫َيْر َفُعَه ا إلى الَّسَم اِء َو َيْنُكُتَه ا إلى الَّناِس ‪ :‬اللهَّم ‪ ،‬اْش َه ْد‪ ،‬اللهَّم اْش َه ْد‪َ ،‬ثاَل َث َمَّر اٍت» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ونحن نشهد أّنه قد بّلغ رسالة رّبه‪ ،‬وأّدى أمانة مواله‪ ،‬ونصح األّم ة وكشف هللا به الغّم ة‪،‬‬
‫فجزاه هللا عّنا خير ما جزى نبًيا عن أّم ته‪.‬‬
‫ُكن داعًيا إلى هللا على نهج رسول هللا‪ ،‬بُح سن تعاملك مع اآلخرين‪ ،‬وتبليغهم ما تيّسر لك من‬
‫آية أو حديث بأي وسيلة تجدها‪ ،‬بنصيحة صادقة‪ ،‬بمعاملة حسنة‪ ،‬بإحسان إلى جار‪ ،‬بصلة رحم‪،‬‬
‫بمساعدة محتاج‪ ،‬بوجه طلق‪ ،‬بإغاثة ملهوف‪ ،‬بإماطة أذى عن طريق‪ ،‬بعمل صالح‪ ،‬بأقوالك‬
‫وأفعالك‪ ،‬لتكن مّم ن قال هللا عنهم‪َ{ :‬و َم ْن َأْح َسُن َقْو ًال ِم َم ْن َدَعا ِإَلى ِهَّللا َو َعِم َل َص اِلًح ا َو َقاَل ِإَّنِني ِم َن‬
‫اْلُم ْسِلِم يَن } [فصلت‪ :‬اآلية ‪.]33‬‬
‫حممٌد يف فؤاد الغاِر يرِجتُف‬
‫يف كّف ه اجملد والّتاريخ والّش ـرُف‬
‫مزّمٌل يِف رداء الوحي جّللُه‬
‫نوٌر من هللا ال صوٌف وال َخ َص ُف‬
‫عليه ميّن صالة هللا أبعُثها‬
‫إىل رايٍض اُهلدى واَخلري تزدِلُف‬
‫صالُة َص ٍب حُم ٍب والٍه َدِنٍف‬
‫بذكر سريِته الَغّراء يل َشَغُف‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َزاِه ًد ا‬
‫سافر ﷺ بروحه من عالم الّدنيا الفانّية إلى منازل اآلخرة الباقّية‪ ،‬فلم يكن للّدنيا في قلبه‬
‫الّطاهر أي مكان أو اعتبار‪ ،‬ال ُيفّكر فيها قّلت أو كثرت‪ ،‬أقبلت أو أدبرت‪ ،‬فقد أغناه هللا بميراث‬
‫الّنبّو ة‪ ،‬وأكرمه بتاج الّر سالة‪ ،‬وأعلى قدره بما عنده من كنوز الحكمة‪ ،‬فكان زهُده ﷺ زهد من علم‬
‫فناءها‪ ،‬وعرف جفاءها‪ ،‬وُسرعة زوالها‪ ،‬وقّلة زادها‪ ،‬وأّن ما أعده هللا ألوليائه في اآلخرة من نعيم‬
‫مقيم‪ ،‬وأجر عظيم‪ ،‬وخلود دائم‪ ،‬أغلى وأفضل من كل زخارف دار الّز وال والفناء‪ ،‬وكان يقول ﷺ‪:‬‬
‫« َم ا ِلي َو ِللُّد ْنَيا ؟ َم ا َأَنا في الُّد ْنَيا ِإاَّل َكَر اِك ٍب اْس َتَظَّل َتْح َت َشَج َر ٍة‪ُ ،‬ثَّم َر اَح َو َتَر َكَه ا» [رواه‬
‫الترمذي]‪.‬‬
‫ووعده رّبه فقال له‪َ{ :‬و َلآلِخ َر ُة َخْيٌر َلَك ِم َن اُألوَلى} [الضحى‪ :‬اآلية ‪ ]4‬أي أّن ما أعّده هللا‬
‫لك في اآلخرة أعظم وأكرم مّم ا أعده لك في الّدنيا‪ ،‬فما أعظم هذا الوعد من رّب العالمين‪ ،‬لنبّيه‬
‫الكريم! وما قيمة الحياة الّدنيا عنده ﷺ؟!‬
‫وكيف ال يزهد فيها بعد هذا الوعد؟! أال يزهد فيها بزخرفها ومتاعها وكّل ما فيها‪ ،‬وهللا‬
‫ُينّز ل عليه‪ِ{ :‬إَّنا َأْع َطْيَناَك اْلَكْو َثَر } [الكوثر‪ :‬اآلية ‪]1‬؟!‬
‫سواًء كان المقصود بالكوثر أّنه الخير الكثير‪ ،‬أو نهر في جّنات الّنعيم‪ ،‬فالمعنى أّن عطاَء ه‬
‫عند هللا ُم ّدخر ومحفوظ في اآلخرة‪ ،‬ولهذا لم يلتفت ﷺ إلى الّدنيا؛ ألّن روحه الّطاهرة الّشريفة‬
‫الكريمة أرادت بصدق ما عند هللا‪ ،‬كما قال ﷺ في سكرات موته‪« :‬بِل الرفيَق األْعلى» َثاَل ًثا [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫تنظر إليه ﷺ وهو إمام الُم سلمين‪ ،‬وقائد المؤمنين‪ ،‬وأفضل الّناس أجمعين‪ ،‬فتجده يسكن بيًتا‬
‫من طين‪ُ ،‬م تقارب األطراف‪ ،‬داني الّسقف‪ ،‬وينام على حصير بال‪ ،‬ويبحث عن تمرات ُتقيم ُص لبه‪،‬‬
‫أحياًنا يلبس إزاًر ا ورداًء فحسب‪ ،‬وما أكل على مائدة ُم رتفعة‪ ،‬وربما أرسل له أصحابه الّطعام‬
‫لعلمهم أّن هللا صرف قلبه عن غرور الّدنيا ومتاعها الّز ائل تهذيًبا لروحه‪ ،‬وحفًظا لدينه‪ ،‬وإكراًم ا‬
‫لنفسه عن أدرانها‪ ،‬يقول ﷺ‪ :‬إَّن أْصَد َق َكِلَم ٍة قاَلها شاِع ٌر َكِلَم ُة َلِبيٍد‪َ« :‬أال ُكُّل شيٍء ما َخ ال هللا‬
‫باِط ٌل » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ُم لهم العالم رسول هللا ﷺ هو األسوة الُعظمى في القناعة‪ ،‬والُقدوة األولى في اإلقبال على‬
‫اآلخرة وترك الّدنيا‪ ،‬وعدم االلتفات إليها‪ ،‬أو الفرح بها‪ ،‬أو الحرص على جمعها‪ ،‬فلم يبِن قصًر ا‪ ،‬ولم‬
‫يّدخر مااًل ‪ ،‬ولم يخّلف مزرعًة وال ُبستاًنا‪.‬‬
‫قوله‪ ،‬وفعله‪ ،‬وحاله‪ ،‬جميعها تدعو إلى الّز هد في الّدنيا‪ ،‬والعمل واالستعداد لآلخرة‪ ،‬يقول‬
‫ﷺ‪َ« :‬قْد َأْفَلَح َم ن َأْس َلَم ‪َ ،‬و ُر ِز َق َكَفاًفا‪َ ،‬و َقَّنَعُه هللا بما آَتاُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقد عّو ضه هللا تعالى عن زهده ﷺ في الّدنيا بوحي كريم‪ ،‬وقرآن عظيم فقال تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد‬
‫آَتْيَناَك َسْبًعا ِم َن اْلَم َثاِني َو اْلُقْر آَن اْلَعِظ يَم * َال َتُم َّدَّن َعْيَنْيَك ِإَلى َم ا َم َّتْعَنا ِبِه َأْز َو اًج ا ِم ْنُهْم َو َال َتْح َز ْن‬
‫َعَلْيِه ْم } [الحجرات‪ :‬اآلية ‪.]88-87‬‬
‫والمعنى ما دام آتيناك سورة الفاتحة وهي الّسبع المثاني‪ ،‬وآتيناك القرآن العظيم الذي فيه كل‬
‫كنوز المعارف‪ ،‬وجميع معادن الفتوحات‪ ،‬وكافة أبواب البركات‪ ،‬فال ُتطلق عينيك إلى زخارف‬
‫الّدنيا الفاِنَية‪ ،‬وإلى مباهجها الفاِتَنة الّز ائلة‪ ،‬فالذي عندك أغلى وأعظم مّم ا عند اآلخرين‪ ،‬فاهنأ بعطاء‬
‫هللا‪ ،‬وافرح بما آتاك هللا‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫ُخ ذوا كّل دنياكم واترُك وا‬
‫ُفؤادَي حًرا طليًق ا غريًبا‬
‫َفإيّن أعظمكم ثروًة‬
‫وإن خلتموين وحيًد ا سليًبا‬
‫ومن الزّهاد َم ن زهد في المال‪ ،‬ومنهم َم ن زهد في المنصب‪ ،‬ومنهم َم ن زهد في الجاه‪،‬‬
‫ومنهم َم ن زهد في الّثناء‪ ،‬إلى آخر تلك القائمة من مقاصد الّدنيا وُم غرياتها‪ .‬أّم ا ُم لهم العالم ﷺ فقد‬
‫زهد في هذا كله حااًل ‪ ،‬وقواًل ‪ ،‬وفعاًل ‪ ،‬زهًدا عاًّم ا شاماًل ‪ ،‬كاماًل ‪ ،‬وكان يقول‪َ« :‬لْو كاَن اِل ْبِن آَد َم واٍد‬
‫ِم ن َذَهٍب‪ ،‬أَح َّب أَّن له واِد ًيا آَخ َر ‪ ،‬وَلْن َيْم َأل فاُه إاَّل الُّتراُب ‪ ،‬وهللا َيُتوُب على َم ن تاَب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فزهد ﷺ في المال‪ ،‬وكان يقول‪َ« :‬تِع َس عبُد الِّديَناِر ‪َ ،‬و َعْبُد الِّد ْر َهِم ‪َ ،‬و َعْبُد الَخ ِم يَصِة » [رواه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫وُيقّسم ﷺ األموال على الّناس‪ ،‬ثم ال يحوز منها درهًم ا واحًدا‪ ،‬ويوّز ع اإلبل والبقر والغنم‬
‫على األصحاب واألتباع والمؤّلفة قلوبهم‪ ،‬ثم ال يذهب بناقة‪ ،‬وال بقرة‪ ،‬وال شاة‪.‬‬
‫ولّم ا قدم أبو عبيدة (رضي هللا عنه) بمال من البحرين‪ ،‬وعلمت األنصار بقدومه اجتمعوا‬
‫وتبّسم ﷺ حين رآهم‪ ،‬وقال‪« :‬أظنكم قد سمعتم أّن أبا عبيدة قد جاء بشـيء؟‪ ،‬قالوا‪ :‬أجل يا رسول‬
‫هللا‪ ،‬قال‪ :‬فأْبِش ُر وا وَأِّم ُلوا ما َيُسُّر ُكْم ‪َ ،‬فَو هللا ال الَفْقَر َأْخ َشى عَلْيُكم‪ ،‬وَلِك ْن َأَخ َشى عَلْيُكم َأْن ُتْبَسَط‬
‫َعَلْيُكُم الُّد ْنَيا كما ُبِس َطْت عَلى َم ن كاَن َقْبَلُكْم ‪َ ،‬فَتَناَفُسوَها كما َتَناَفُسوَها وُتْهِلَكُكْم كما َأْه َلَكْتُه ْم » [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وزهد ﷺ في القصور والّدور‪ ،‬والحدائق الغّناء والبساتين الفيحاء‪ ،‬فسكن في غرفة من طين‪،‬‬
‫ومات في غرفة من طين‪ ،‬وُدفن في ُغرفة من طين‪ ،‬وتصف لنا فراشه ﷺ زوُج ه أّم المؤمنين عائشة‬
‫(رضي هللا عنها) فتقول‪« :‬كاَن ِفَر اُش َر سوِل هللا ﷺ ِم ن أَد ٍم ‪ ،‬وَح ْش ُو ُه ِم ن ِليٍف » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وذات يوم دخل ُعمر بن الخطاب (رضي هللا عنه) على الّنبي ﷺ‪ ،‬فوجده َعَلى َحِص يٍر ما بْيَنُه‬
‫وبْيَنُه شيٌء ‪ ،‬وَتْح َت َر ْأِسِه ِو َساَدٌة ِم ن أَدٍم َح ْش ُو َها ِليٌف ‪ ،‬وإَّن ِع ْنَد ِر ْج َلْيِه َقَر ًظا َم ْص ُبوًبا‪ ،‬وِع ْنَد َر ْأِسِه‬
‫أَهٌب ُم َعَّلَقٌة‪ ،‬فلّم ا رأى أَثَر الَحِص يِر في َج ْنِبِه ﷺ َبَكى (رضي هللا عنه)‪َ ،‬فقاَل ﷺ‪ :‬ما ُيْبِك يَك ؟‪َ ،‬فقال‬
‫عمر‪ :‬يا َر سوَل هللا إَّن ِكْس ـَر ى وَقْيَص ـَر ِفيما ُهما ِفيِه ‪ ،‬وَأْنَت َر سوُل هللا! َفقاَل ﷺ‪ :‬أما َتْر َض ى أْن‬
‫َتُكوَن لهُم الُّد ْنَيا وَلَنا اآلِخ َر ُة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومعنى‪« :‬أَدم» أي‪ِ :‬ج لد‪ ،‬و«الَقَر ظ»‪ :‬نوع من شجٍر عظاٍم لها ُسوٌق ِغ الٌظ َأمثال شجر‬
‫الَج وز‪ ،‬و«مصبوًبا» أي‪ :‬ورق القرض كان مجموًعا عند رجليه‪.‬‬
‫وزهد ﷺ في المنصب فلم يتوّل وزارة‪ ،‬وال إمارة‪ ،‬ولم يطلب ُم لًكا‪ ،‬بل اختار أن يكون عبًدا‬
‫رسواًل ‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪« :‬جلس جبريُل إلى الّنبِّي ﷺ فنظر إلى الّسماِء ‪ ،‬فإذا‬
‫مَلٌك ينزُل ‪ ،‬فقال له جبريُل‪ :‬إن هذا الَم َلك ما نزل منُذ ُخ ِلَق قبَل الساعِة ‪ .‬فلما نزل قال‪ :‬يا محمُد‬
‫أْر َسَلني إليك رُّبك‪ ،‬أَفَم ِلًكا نبًّيا يجعلك أو عبًدا رسواًل ؟‪ ،‬قال له جبريُل‪ :‬تواَض ْع لرِّبك يا محمُد!‪ ،‬فقال‬
‫ﷺ‪ :‬ال‪ ،‬بل عبًدا رسواًل » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وزهد ﷺ في الجاه فلم يّتخذ حشًم ا‪ ،‬وال خدًم ا‪ ،‬ولم يكن له موكب‪ ،‬ولم يهتم بالّشارات‪ ،‬وال‬
‫المهرجانات‪ ،‬وال المظاهر الخّداعة‪ ،‬وإّنما كان متواضًعا‪ ،‬سهاًل ‪ ،‬زاهًدا في إغراءات الّدنيا‪ ،‬يأكل كما‬
‫يأكل الفقراء‪ ،‬ويجلس كما يجلس المساكين‪ ،‬ويدعو رّبه فيقول‪« :‬اللهَّم ال َعْيَش إاَّل َعْيُش اآلِخ َر ة»‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وزهد ﷺ في المديح والّثناء‪ ،‬فما كان يغّر ه بهرج الحديث‪ ،‬وال زخرف القول‪ ،‬يرفض‬
‫إطراءه‪ ،‬وينهى عن الغلّو في مدحه‪ ،‬ويقول‪« :‬اَل ُتْط ُر وِني‪ ،‬كما َأْط َر ِت الَّنَص اَر ى اْبَن َمْر َيَم ‪ ،‬فإَّنما َأَنا‬
‫َعْبُدُه‪َ ،‬فُقولوا‪ :‬عبُد هللا‪َ ،‬و َر ُسوُلُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فأّي زهد أعظم من زهد هذا اإلمام المعصوم ﷺ الذي جمع كل صور الّز هد!؟ فكّل الّز اهدين‬
‫بعده إّنما توّز عوا قطرة من زهده ﷺ‪ ،‬وتقّسموا ذرة من هذا الُخ ُلق الّشريف؛ ألّن زهده تغّلف بعصمة‬
‫إلهّية‪ ،‬وصدر عن نبّو ة رّبانية‪ ،‬وتمام اليقين أّن هذه الّدنيا ال تساوي عند هللا جناح بعوضة‪ ،‬وال قطرة‬
‫ماء‪.‬‬
‫قال ﷺ‪« :‬وهللا ما الُّد ْنيا في اآلِخ َر ِة إاَّل ِم ْثُل ما َيْج َعُل أَح ُدُكْم إْص َبَعُه هِذه ‪ -‬وَأشاَر بالَّسَّباَبِة ‪-‬‬
‫في الَيِّم ‪َ ،‬فْلَيْنُظْر بَم َتْر ِج ُع ؟» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫لقد عاش ﷺ الحياة الّر ّبانية‪ ،‬ال الّر هبانية‪ ،‬وال الفرعونية‪ ،‬والرّبانية هي أخذ القوت وما تيّسر‬
‫من الدنيا‪ ،‬وترك فضول األشياء‪ ،‬فكان يقول ﷺ‪« :‬اللهَّم اْج َعْل ِر ْز َق آِل ُم َح َّم ٍد ُقوًتا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫(ُقوًتا)‪ :‬أي الذي يتقّو ت به‪ ،‬ويسّد رمقه فقط‪ ،‬ال يطلب وال يطمع في أكثر من ذلك‪ ،‬فلم يكن‬
‫له خزانة خاصة للّطعام يكتنز فيها الحبوب ويجمع فيها الّثمار‪ ،‬بل كان على قوت يومه الذي ُيشاركه‬
‫فيه الّناس‪ ،‬ولم يكن له مستودع للمالبس يجمع فيه ألوانها‪ ،‬وأشكالها‪ ،‬وأصنافها‪ ،‬بل كان يلبس ما‬
‫وجد من دون تكّلف‪.‬‬
‫أّم ا الّر هبانية‪ :‬فهي االنقطاع عن الّلذائذ‪ ،‬وتحريم الطّيبات على الّنفس‪.‬‬
‫والفرعونّية‪ :‬هي االنغماس في الّشهوات‪ ،‬والّلهث وراء الُم غريات‪.‬‬
‫وهناك زهد عقيم‪ ،‬ومذهب سقيم في الّتخّلي عن الّدنيا‪ ،‬وقد رفضه ﷺ‪ ،‬أال وهو «زهد البلهاء‬
‫الّدراويش» الذين يضّيعون المال بحّج ة الزهد‪ ،‬حرصوا على الّدنيا واجتهدوا‪ ،‬فلّم ا أعجزتهم زهدوا‪.‬‬
‫أّم ا رسولنا ﷺ فأتته الّدنيا طالبة‪ ،‬وجرت خلفه راغبة‪ ،‬فأخذ منها بقدر ما يسّد الّر مق‪ ،‬ويقيم‬
‫األَو د‪ ،‬واشتغل بالفضائل عن الُفضول‪ ،‬وبالكفاف عن اإلسراف‪ ،‬وبالُقوت عن الياقوت‪ ،‬وبطلب العّز‬
‫عن جمع الكنز‪:‬‬
‫وزهدَك والّد نيا إليَك فقريٌة‬
‫وجودك واملعروف يف الّناس ُينكُر‬
‫وجاءت لك الّد نيا متيل وتصطفي‬
‫وأنَت من الّد نيا أجّل وأكُرب‬
‫وكان ﷺ ُيوصي بالقناعة‪ ،‬والّر ضا بالكفاف فيقول‪« :‬ارَض بما قسَم هللا َلَك َتكن أغنى‬
‫الّناِس » [رواه الترمذي بسند حسن]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ن أصبح آمًنا في ِس ْر ِبه‪ ،‬معاًفى في َج سِده‪ ،‬عنَده طعاُم يوِم ه‪ ،‬فكأَّنما ِح يَز ْت لُه‬
‫الُّدنيا» [رواه الترمذي بسند حسن]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن إضاعة المال‪ ،‬وأمر بحفظه‪ ،‬واالقتصاد في إنفاقه‪ ،‬والتوّسط في بذله‪ .‬وكان مع‬
‫زهده ﷺ يأكل الطّيب إذا حضـر‪ ،‬ويقول‪َ« :‬أُّيها الّناُس ‪ ،‬إَّن هللا َطِّيٌب ال َيْقَبُل إاَّل َطِّيًبا‪ ،‬وإَّن هللا أَمَر‬
‫الُم ْؤ ِم ِنيَن بما أَمَر به الُمْر َسِليَن »‪ ،‬فقاَل ‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الُّر ُسُل ُكُلوا ِم َن الَّطِّيَباِت َو اْع َم ُلوا َص اِلًح ا}‬
‫[المؤمنون‪ :‬اآلية ‪[ ،]51‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيحّب الّطيب‪ ،‬والمسك‪ ،‬ويلبس الجميل‪ ،‬ويقول‪« :‬إَّن هللا َجِم يٌل ُيِح ُّب الَج َم اَل » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وكان ال يرد موجوًدا‪ ،‬وال يتكّلف مفقوًدا‪ ،‬ولم يكن زهده ﷺ اضطراًر ا بل كان اختياًر ا‪ ،‬فإّن‬
‫الّدنيا ُعرضت عليه‪ ،‬وكان بإمكانه ﷺ لو رغب فيها أن يحوز الكنوز المّدخرة‪ ،‬والقناطير المقنطرة‪.‬‬
‫وأنا أطرح هنا سؤااًل للعالم‪ :‬أروني عظيًم ا أو زعيًم ا أو قائًدا جرت األودية إليه بغنائم اإلبل‬
‫والبقر والغنم‪ ،‬وأتته الكنوز من كل جهة فوّز عها وقّسمها‪ ،‬ثم نام في ليلته تلك على خبز من شعير‪،‬‬
‫وتوّسد الحصير؟!‬
‫ُعرضْت لك الّد نيا بكامل زّيها‬
‫يف زخرف من حسنها تتبهرُج‬
‫فصدفت عنها زاهًد ا متوّرًعا‬
‫وإىل عال الفردوس روحك تعرُج‬
‫حىّت اجلبال الّش م من ذهٍب أتت‬
‫طوًعا إليك ويف مقامك ُتسـَرُج‬
‫فعففَت عن كّل احلطام تكّرًما‬
‫يكفيك وحي يف احلياة ومنهُج‬
‫وانظر إليه ﷺ وهو يضع يده على منكب عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنهما) في لمسة كّلها‬
‫حنان‪ ،‬وإيحاء‪ ،‬وتأثير‪ ،‬وإلهام‪ ،‬ويقول له وهو يختصر مشهد الّز هد في جملة واحدة‪ُ« :‬كْن في الُّد ْنَيا‬
‫َكأَّنَك َغِر يٌب أْو َعاِبُر َسِبيٍل » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫والغريب هو الذي ال يتعّلق بسكٍن ‪ ،‬وال بأهٍل ‪ ،‬وال بماٍل ‪ ،‬بل ينتظر الّر حيل في أّي لحظة‪،‬‬
‫وهذا هو حال المؤمن الّص ادق الذي اختصـر مشهده ﷺ في كلمة (َغِر يب)‪ ،‬وكأّنه يقول‪ :‬إن لم‬
‫تستطع أن تكون غريًبا فكن (َعاِبَر َسِبيٍل )‪ ،‬وهو أقّل درجة‪ ،‬وعابر الّسبيل قد يأخذ معه عصا أو‬
‫بعض الّز اد ُيوصله إلى مكانه‪ ،‬وهذا حال المؤمنين الّص ادقين الذين يأخذون الّدنيا طريًقا ُيوصلهم إلى‬
‫اآلخرة‪ ،‬وسبياًل إلى رضوان هللا في جّنات الّنعيم‪ ،‬ويوقنون تمام اليقين أّنها دار ممر ال دار مقر‪،‬‬
‫ُم قتدين بإمامهم‪ ،‬ونبّيهم‪ ،‬وُم لهمهم‪ ،‬محمد بن عبدهللا‪.‬‬
‫ومن زهده ﷺ أّنه لم ُيوّر ث درهًم ا وال ديناًر ا‪ ،‬وال فّضة وال ذهًبا‪ ،‬وال كنوًز ا وال قصوًر ا‪،‬‬
‫بل وّر ث ما هو أفضل من ذلك‪ ،‬وأشرف‪ ،‬وأعظم‪ ،‬وأجّل ‪ ،‬وّر ث الّر سالة الُم حّم دية الخالدة‪ ،‬ونور‬
‫اإلسالم الهادي‪.‬‬
‫أّم ا عن متاع الّدنيا فقال ‪ -‬بأبي هو وأّم ي‪« :-‬ال ُنوَر ث؛ ما تَر كنا صدقٌة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وتقول أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪ُ« :‬تُو ِّفَي َر ُسوُل هللا ﷺ َو َم ا ِفي َر ِّفي ِم ْن َشْي ٍء‬
‫َيْأُكُلُه ُذو َكِبٍد ِإاَّل َشْط ُر َشِع يٍر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول عمرو بن الحارث (رضي هللا عنه)‪« :‬ما َتَر َك َر سوُل هللا ﷺ ِديناًر ا‪ ،‬وال ِد ْر َهًم ا‪ ،‬وال‬
‫َعْبًدا‪ ،‬وال أَم ًة‪ ،‬إاّل َبْغَلَتُه الَبْيضاَء اَّلتي كاَن َيْر َكُبها‪ ،‬وِس الَح ُه‪ ،‬وَأْر ًضا َجَعَلها اِل ْبِن الَّسِبيِل َص َد َقًة»‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫وآمل منك أن تتأّم ل هذه الحقيقة‪ :‬بعد موته ﷺ فتح هللا على أتباعه الّدنيا‪ ،‬وُأّسست بعد وفاته‬
‫إلى اليوم أكثر من مئة دولة إسالمّية‪ ،‬من شرق الّص ين إلى غرب أوروبا‪ ،‬على مّر أربعَة عشَر قرًنا‬
‫من الّز مان‪ ،‬يفتحون الخزائن‪ ،‬ويحصلون على الكنوز‪ ،‬وُيسّيرون الّذهب والفّضة‪ ،‬ويمتلكون الّدور‬
‫والقصور‪ ،‬وينعمون بالحدائق واألنهار‪ ،‬وإمام هذه اُألّم ة‪ ،‬وُقدوتها‪ ،‬وُم عّلمها‪ ،‬والّسبب بعد هللا في هذا‬
‫الُم لك‪ ،‬وهذا الغنى‪ ،‬وهذا المجد‪ ،‬هو الّنبي المعصوم محمد بن عبدهللا ﷺ‪ ،‬ثم يكون أزهد هؤالء‬
‫جميًعا‪ ،‬وأقّلهم متاًعا‪ ،‬وأكثرهم سخاًء وبذاًل وعطاًء ‪ ،‬فصّلى هللا وسّلم عليه دائًم ا وأبًدا‪.‬‬
‫كفاَك ع كِّل قصـٍر شاهٍق عمٍد‬
‫ْن‬
‫بيٌت من الطِني أو كهٌف من الَعلِم‬
‫تبيِن الفضائل أبراًج ا مشَّيدًة‬
‫ُنْص َب اخلياِم اليت مْن أروِع اخليِم‬
‫إذا ُملوُك الَوَرى َص ّف وا َمَو ائَد ُه م‬
‫َعَلى َش ِه ٍي من األْك الت َواُألدِم‬
‫صففَت مائدًة للّروح مطعُم َه ا‬
‫نوٌر ِم َن الَوْح ِي أو َعْذ ٌب ِم َن الكلِم‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َو ِفًّيا‬
‫أثنى هللا عّز جَّل على ُخ ُلق الوفاء على ُر سله الِك رام‪ ،‬فقال ُسبحانه عن إسماعيل (عليه‬
‫السالم)‪َ{ :‬و اْذُكْر ِفي اْلِك َتاِب ِإْس َم اِع يَل ِإَّنُه َكاَن َص اِدَق اْلَو ْعِد َو َكاَن َر ُسوًال َنِبًّيا} [مريم‪ :‬اآلية ‪،]54‬‬
‫وقال عن إبراهيم (عليه السالم)‪َ{ :‬و ِإْبَر اِه يَم اَّلِذي َو َّفى } [النجم‪ :‬اآلية ‪]37‬؛ وألّن الوفاء من صفات‬
‫األنبياء‪ ،‬وأجّل أعمال األولياء‪ ،‬جاء خاتم الّر سل محّم د بن عبدهللا ﷺ بالوحي الُم قّدس لتثبيت أصل‬
‫الوفاء‪ ،‬والّتأكيد على احترام العهود والعقود والمواثيق بين الّناس‪ ،‬وتعميق هذا المبدأ في الّنفوس‪،‬‬
‫فأرشد المؤمنين ألمر الباري تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا َأْو ُفوا ِباْلُعُقوِد} [المائدة‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬وقوله‬
‫تقّدس اسمه‪َ{ :‬و َأْو ُفوا ِباْلَعْه ِد ِإَّن اْلَعْه َد َكاَن َم ْسُؤوًال} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]34‬‬
‫وبّشر ﷺ أهل الوفاء بأّنهم من أهل الجّنة كما قال الباري‪َ{ :‬و اْلُم وُفوَن ِبَعْه ِدِه ْم ِإَذا َعاَهُدوا‬
‫َو الَّص اِبِر يَن ِفي اْلَبْأَساِء َو الَّض َّر اِء َو ِح يَن اْلَبْأِس ُأوَلِئَك اَّلِذيَن َص َدُقوا َو ُأوَلِئَك ُهُم اْلُم َّتُقوَن } [البقرة‪:‬‬
‫اآلية ‪.]177‬‬
‫وبّشرهم أيًض ا ﷺ أّنهم خالدون في الفردوس األعلى كما وصفهم هللا تعالى فقال عنهم‪:‬‬
‫{َو اَّلِذيَن ُهْم َِأل َم اَناِتِه ْم َو َعْه ِدِه ْم َر اُعوَن } [المؤمنون‪ :‬اآلية ‪.]8‬‬
‫وكان ﷺ ينهى عن الغدر ويقول‪ِ« :‬لُكِّل غاِد ٍر ِلَو اٌء َيوَم الِقياَم ِة ُيْعَر ُف بِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫واستعاذ ﷺ من الخيانة فقال‪« :‬أعوُذ ِبَك ِم َن الِخ ياَنِة فأّنها بئَسِت الِبَطاَنُة» رواه أبو داود‪.‬‬
‫وتبّر أ ﷺ من كل ُخ لق ُينافي الوفاء ويهدم هذا الهيكل الوطيد فقال ﷺ‪َ« :‬أْر َبٌع َم ن ُكَّن فيه كاَن‬
‫ُم َناِفًقا‪َ ،‬أْو َكاَنْت فيه َخ ْص َلٌة ِم ن َأْر َبَعٍة‪َ :‬كاَنْت فيه َخ ْص َلٌة ِم َن الِّنَفاِق حَّتى َيَدَعَه ا‪ِ :‬إَذا َح َّد َث َكَذَب ‪ ،‬وإَذا‬
‫َو َعَد َأْخ َلَف ‪ ،‬وإَذا َعاَهَد َغَد َر ‪ ،‬وإَذا َخ اَص َم َفَج َر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫أكرم الُم عطين‪ ،‬وأجود الُم تفّضلين‪ ،‬هو رّب العالمين‪ ،‬وحّقه ُسبحانه أن ُيشكر وال ُيكفر‪،‬‬
‫وبالحمد ُيذكر‪ ،‬ورسولنا ﷺ أعظم من وّفى مع رّبه في كل منازل الوالية ومقامات العبودية؛ فكانت‬
‫حياته ﷺ قصة من الوفاء‪ ،‬وديواًنا من الّثناء‪ ،‬لرّب األرض والّسماء‪.‬‬
‫كان ﷺ وافًّيا مع هللا بقلبه فأخلص عبوديته لرّبه وطّه ره بذكر مواله‪ ،‬وكان وافًّيا بلسانه‪،‬‬
‫فكان دائم الّتقديس للعلّي القدير‪ ،‬كثير الّتسبيح للطيف الخبير‪ ،‬وافًيا باّتباع أوامره ُسبحانه‪ ،‬فلّم ا قال له‬
‫رّبه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اْلُم َّز ِّم ُل * ُقِم الَّلْيَل ِإَّال َقِليًال} {} [المزمل‪ :‬اآلية ‪ ،]2 -1‬قام ﷺ حتى توَّر مت قدماه‪،‬‬
‫َو ِقيَل َلُه‪َ :‬قْد َغَفَر هللا َلَك َم ا َتَقَّدَم ِم ْن َذْنِبَك َو َم ا َتَأَّخ َر ‪ ،‬فَقال ﷺ‪َ« :‬أفاَل َأُكوُن َعْبًدا َشُكوًر ا» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وأوفى لربه لّم ا أمره‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّر ُسوُل َبِّلْغ َم ا ُأْنِز َل ِإَلْيَك ِم ْن َر ِّبَك َو ِإْن َلْم َتْفَعْل َفَم ا َبَّلْغَت‬
‫ِر َساَلَتُه َو ُهَّللا َيْعِص ُم َك ِم َن الَّناِس ِإَّن َهَّللا َال َيْه ِدي اْلَقْو َم اْلَكاِفِر يَن } [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]67‬‬
‫فامتثل ألمره خير امتثال‪ ،‬وبّلغ الّر سالة‪ ،‬وأّدى األمانة‪ ،‬ونصح األمة‪ ،‬وهدى الّناس إلى‬
‫الّص ـراط الُم ستقيم‪ ،‬وبّين لهم دين هللا القويم‪.‬‬
‫فكان ﷺ وافًيا بكل جوارحه‪ ،‬وسّخ رها وفاًء هلل؛ ألّنه ُسبحانه أعطاه عطّية لم ُيعطها أحًدا من‬
‫العالمين‪ ،‬ومنحه منحة لم يمنحها بشًر ا من األّو لين وال اآلخرين‪ ،‬وهي أن جعله خاتم األنبياء‪ ،‬وسّيد‬
‫األّو ِلياء‪ ،‬وأفضل من حملته الغبراء وأظلته الّسماء‪.‬‬
‫ووفى ﷺ مع أّم ه فلم يجحد معروفها‪ ،‬ولم ينس جميلها‪ ،‬فعن أبي ُهَر ْيَر َة (رضي هللا عنه)‬
‫قال‪َ« :‬ز اَر الّنبي ﷺ َقْبَر ُأِّم ِه َفَبَكى َو َأْبَكى من َحْو َله» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ووّفى مع أّم ه من الّر ضاعة حليمة الّسعدية وبّر بها‪ ،‬كما أخبر أبو الُّطَفْيِل (رضي هللا عنه)‬
‫فقال‪« :‬إن اْم َر َأًة َد َنْت إلى الّنبّي ﷺ َفَبَسَط لها ِر َداَءُه َفَج َلَسْت عليه‪ ،‬فقلت‪ :‬من ِه َي ؟ َفَقاُلوا‪ :‬هذه أّم ه‬
‫التي َأْر َض َعْتُه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وأكرم ابنتها الّشيماء أخته من الّر ضاعة وأجزل عطّيتها‪ ،‬وعّظم هديتها‪ ،‬وأحسن إلى قومها‬
‫من هوازن بعد غزوة حنين وفتح الّطائف‪ ،‬فأطلق أسراهم‪ ،‬وأكرم مثواهم‪[ .‬ذكرها ابن حجر في‬
‫«اإلصابة»]‪.‬‬
‫ومن صور وفائه البن عّم ه علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) الذي أسلم صغيًر ا‪ ،‬وعاصر‬
‫الّدعوة شاًّبا‪ ،‬وبذل روحه فداًء للّنبي ﷺ‪ ،‬وقام المقامات المشهودة‪ ،‬والمواقف المعهودة‪ ،‬شجاعة‬
‫ودفاًعا عن المّلة‪ ،‬فإّن رسول هللا ﷺ عرف له ذلك‪ ،‬وقال في خيبر‪ُ« :‬أَلْع ِط َيَّن الَّر اَيَة َغًدا َر ُج اًل ُيِح ُّبُه‬
‫ُهللا وَر سوُلُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال لعلي‪َ« :‬أَم ا َتْر َض ى َأْن َتُكوَن ِم ِّني بَم ْنِز َلِة هاُر وَن ِم ن ُم وسى؟» [ُم تفق عليه]‪ .‬إلى غير‬
‫ذلك من الّثناء الجزيل على أمير المؤمنين أبي الحسن(رضي هللا عنه)‪.‬‬
‫ووّفى ﷺ لزوجه خديجة (رضي هللا عنها) التي واكبت فجر دعوته‪ ،‬وصحبته وقت اإليذاء‬
‫والمشقة وأيام الحزن‪ ،‬واحتسبت معه‪ ،‬وشّدت من أزره‪ ،‬وقّو ت عزيمته‪ ،‬وأسعفته بمالها‪ ،‬ورأيها‪،‬‬
‫وصبرها‪ ،‬فلّم ا ماتت حزن عليها حزًنا شديًدا حّتى ُسمي ذاك العام بعام الحزن‪.‬‬
‫وما ترك ﷺ ذكراها‪ ،‬وال الّدعاء لها‪ ،‬وال الحنين أليامها‪ ،‬وقد بّشرها قبل موتها ببشارة هللا‬
‫عن طريق جبريل‪« :‬أن هللا ُيقرؤها السالم وُيبّشرها بَبْيٍت ِم ن َقَص ٍب‪ ،‬ال َص َخ َب ِفيِه ‪ ،‬واَل َنَص َب »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫حتى إّن عائشة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) وهي لم تَر خديجة‪ ،‬ولم تجتمع بها كانت تغار‬
‫منها أكثر من نسائه األخريات؛ لكثرة ما يذكرها‪ ،‬وُيثني عليها‪ ،‬ويبّر صديقاتها‪ ،‬فَعْن َعاِئَشَة َقاَلْت ‪:‬‬
‫«ما ِغ ْر ُت عَلى اْم َر َأٍة ما ِغ ْر ُت عَلى َخ ِديَج َة‪ ،‬ولَقْد ماتت َقْبَل أْن َيَتَز َّو َجِني بَثاَل ِث ِسِنيَن ‪ِ ،‬لما ُكْنُت‬
‫أْسَمُعُه َيْذُكُر َها‪ ،‬ولَقْد أَمَر ُه َر ُّبُه َعَّز َو َجَّل أْن ُيَبّشِـَر َها بَبْيٍت ِم ن َقَص ٍب في الَج َّنِة ‪ ،‬وإْن كاَن َلَيْذَبُح‬
‫الَّشاَة ُثَّم ُيْهِدي إلى َخاَل ِئِلَه ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وذات يوم استأذنت هالة أخت خديجة‪ ،‬فسمع الّنبي ﷺ صوتها فقال‪« :‬اللهَّم َهاَلُة بْنُت‬
‫ُخ َو ْيِلٍد» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫حنيًنا لخديجة ووفاًء لها‪ ،‬فبقيت ذكرى خديجة معه والحنين لها‪ ،‬والوفاء ُم الزم له ﷺ حتى‬
‫لقَي رّبه‪.‬‬
‫ومن وفائه ﷺ ألصحابه أّنه كان يبّر هم‪ ،‬ويصلهم‪ ،‬ويدعو لهم‪ ،‬ويفرح لفرحهم‪ ،‬ويأسى‬
‫ألساهم‪ ،‬فيعود المريض‪ ،‬وُيشّيع الجنازة‪ ،‬وُيبارك للمتزوج‪ ،‬وُيعطي الفقير‪ ،‬وُيساعد المسكين‪،‬‬
‫ويشفع للمحتاج‪ ،‬فما من أحد منهم إاّل وقد وصلته صورة من صور بّر ه ووفائه ﷺ‪.‬‬
‫ومن تمام وفائه ﷺ أّنه كان يعرف المقامات التي وقفها أصحابه‪ ،‬والبذل الذي بذلوه‪ ،‬واألذى‬
‫الذي تلقوه‪ ،‬فيحفظ لكٍّل مكانه‪ ،‬ويعرف لكٍّل ميزانه‪ ،‬فهذا صاحبه األّو ل أبو بكر الصديق (رضي هللا‬
‫عنه) وأرضاه‪ ،‬كان أّو ل من أسلم‪ ،‬وصاحبه الذي هاجر معه باذاًل نفسه وماله؛ لنصرة اإلسالم‪ ،‬فكان‬
‫ﷺ ُيقّدمه دائًم ا‪ ،‬وُينّو ه بذكره‪ ،‬ويحتفي به ويحفظ له سابقته وأيامه؛ وفاًء ونباًل وشهامًة‪ ،‬ويقول ﷺ‪:‬‬
‫«إَّن َأَم َّن الّناِس َعَلَّي في ماِلِه َو ُصْح َبِتِه َأُبو َبْك ٍر ‪ ،‬ولو ُكْنُت ُم َّتِخ ًذا َخ ِلياًل الَّتَخ ْذُت َأبا َبْك ٍر َخ ِلياًل ‪َ ،‬و َلِك ْن‬
‫ُأُخ ّو ُة اإلْس الِم ‪ ،‬ال ُتْبَقَيَّن في الَم ْس ِج ِد َخ ْو َخ ٌة إاّل َخ ْو َخ َة َأِبي َبْك ٍر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫والخوخة‪ :‬هي باب صغير كالنافذة الكبيرة تكون بين بيتين ينصب عليها باب‪ .‬حتى في‬
‫مرض موته ﷺ لم ينس الوفاء ألبي بكر فيقول‪ُ« :‬م روا أبا َبكٍر فليصِّل بالَّناِس » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ووّفى ﷺ مع األنصار الذين استقبلوه ونصـروه وفدوه باألموال واألرواح ففاض عليهم ِبحِّبه‬
‫ومْدِح ه وثَناِئه‪ ،‬بل جعل ﷺ ُحّب األنصار من عالمات اإليمان فقال‪ُ« :‬حُّب األْنصاِر آَيُة اإليماِن ‪،‬‬
‫وُبْغُض ُه ْم آَيُة الِّنفاِق » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ودعا ﷺ لهم فقال‪« :‬اللهَّم اْغ ِفْر ِلَألْنصاِر ‪ ،‬وَألْبناِء األْنصاِر ‪ ،‬وَأْبناِء أْبناِء األْنصاِر » [ُم تفق‬
‫عليه]‪ ،‬وأثنى عليهم فقال‪« :‬األْنَص اُر ِشَعاٌر َو الَّناُس ِد َثاٌر ‪َ ،‬و َلْو اَل الِه ْج َر ُة َلُكْنُت اْم َر ًأ ِم َن األْنَص اِر ‪ ،‬ولو‬
‫َسَلَك الَّناُس َو اِد ًيا َو ِشْعًبا‪َ ،‬لَسَلْك ُت َو اِد َي األْنَص اِر َو ِشْعَبُه ْم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن وفائه ﷺ ألصحابه ما حفظه للُم ستضعفين األّو لين الذين تلقوا الّضربات‪ ،‬وتجّر عوا‬
‫الغصص‪ ،‬ولقوا األالقي‪ ،‬وذاقوا الّشدائد في سبيل هللا؛ كبالل بن رباح الذي جعله ﷺ مؤّذًنا وصاحًبا‬
‫ومرافًقا‪ ،‬وبّشـره بأّنه سمع دَّف نعليه في الجنة‪ .‬وكذلك عمار بن ياسر‪ ،‬وُص هيب بن سنان‪ ،‬وَخّباب‬
‫بن اَألَر َّت ‪ ،‬وبقّية الُم ستضعفين‪ ،‬الّص ابرين‪ ،‬الُم حتسبين‪ ،‬الّثابتين‪ ،‬على نهج رّب العالمين‪.‬‬
‫وهذا عثمان بن مظعون(رضي هللا عنه) وقد ُتوفي بعدما ُأوِذ َي في سبيل هللا‪ ،‬فلَّم ا ماتت‬
‫زينُب ابنُة رسوِل هللا ﷺ قال وهو ُيشّيعها‪«:‬اْلَحِقي بَسَلِفنا الخِّيِر ُعْثماَن بِن َم ْظ عوٍن » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فوّفى ﷺ مع جميع صحابته الكرام رضوان هللا عليهم‪ ،‬وأوصى بهم خير وصّية فقال‪« :‬ال‬
‫َتُسُّبوا أْصحاِبي‪َ ،‬فلو أَّن أَح َدُكْم أْنَفَق ِم ْثَل ُأُح ٍد َذَهًبا‪ ،‬ما َبَلَغ ُم َّد أَحِدِه ْم ‪ ،‬وال َنِص يَفُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫غمر ﷺ بوفائه جميع أصحابه‪ ،‬فعاشوا معه في بحبوحة من الّنعيم‪ ،‬وفردوس من األنس‪،‬‬
‫وجّنة من الّر ضا‪ ،‬ووجدوا معه كل معاني األمن واإليمان‪ ،‬والّسلوة واإلحسان‪ ،‬فصالة هللا وسالمه‬
‫عليه ما ارتفع أذان‪ ،‬وُتلي قرآن‪.‬‬
‫إّن وفاءه ﷺ صار مضرب األمثال على مّر األجيال‪ ،‬وصرًح ا مشيًدا‪ ،‬وُخ ُلًقا فريًدا‪ ،‬شهد به‬
‫أعداؤه قبل أصدقائه‪ ،‬فقد أخبر أبو سفيان (رضي هللا عنه)‪ :‬أّنه لّم ا كان في بالد الّر وم قبل إسالمه‬
‫وبعدما وصلت رسالة رسول هللا ﷺ إلى هرقل‪ ،‬طلب هرقٌل ُم قابلته لسؤاله عن الّنبي ﷺ‪ ،‬وكان مّم ا‬
‫سأل‪َ« :‬هْل َيْغِد ُر ؟»‪ ،‬فقال أبو سفيان‪ :‬ال‪ ،‬فقال هرقل في نهاية ِح واره مع أبي سفيان‪َ :‬و َسَأْلُتَك ‪َ :‬هْل‬
‫َيْغِد ُر ؟ َفَز َعْم َت َأَّنُه ال َيْغِد ُر ‪َ ،‬و َكَذِلَك الُّر ُسُل ال َتْغِد ُر ‪ُ[ .‬م تفق عليه]‬
‫وهذه كانت شهادة أبي سفيان قبل أن ُيسلم بوفاء الّنبي ﷺ‪ ،‬وقد شهد بوفائه ﷺ جميع أعدائه‬
‫الذين أبرموا معه العهود والعقود والمواثيق سواء كانوا مع أهل الكتاب أو المشركين أو المعاهدين‪،‬‬
‫فما نقض عهًدا‪ ،‬وال خان ميثاًقا‪ ،‬وال أخلف وعًدا‪ ،‬مهما كانت الّظروف أو اشتدت األزمات‪ ،‬بل إّنه‬
‫أخبر ﷺ بأّن هللا تعالى خصم لكل خائن وغادر يوم القيامة‪ ،‬قال تعالى في الحديث القدسي العظيم‪:‬‬
‫«َثالَثٌة أنا َخ ْص ُم ُه ْم َيوَم الِقياَم ِة ‪َ :‬ر ُجٌل أْع َطى بي ُثَّم َغَد َر ‪ ،‬وَر ُجٌل باَع ُح ًّر ا فأَكَل َثَم َنُه‪ ،‬وَر ُجٌل اْس َتْأَج َر‬
‫أِج يًر ا فاْس َتْو َفى منه وَلْم ُيْعِط أْج َر ُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان يتبّر أ ﷺ من أهل الغدر والخيانة فيقول‪َ« :‬م ن َقَتَل ُم عاَهًدا َلْم َيِر ْح راِئَح َة الَج َّنِة ‪ ،‬وإَّن‬
‫ِر يَح ها ُتوَج ُد ِم ن َم ِسيَر ِة أْر َبِع يَن عاًم ا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فكان ينهى ﷺ عن الغدر والخيانة والفجور والكذب؛ قواًل وفعاًل وحااًل ‪ ،‬ويغرس الوفاء في‬
‫نفوس أصحابه‪ ،‬ويوصيهم به حتى مع أعدائهم‪ ،‬فكان إذا أرسل سرّية وقف يوّدعهم بأجّل وصّية في‬
‫الوفاء فيقول‪« :‬ال َتْغِد ُر وا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وهذه الوصية لم تكن ُم قتصرة على الّتعامل بين المسلمين فقط‪ ،‬بل هي للّتعامل مع األعداء‬
‫الذين حاربوهم وآذوهم‪ ،‬وكادوا لهم المكائد‪ ،‬فما أجمل وما أسمى هذا الوفاء الّنبوي الّشريف! الذي‬
‫لم يقتصر على أصحابه وُم حبيه‪ ،‬ولم ينته عند حدود عشيرته وتابعيه‪ ،‬بل تعدى ذلك ووصل إلى من‬
‫حاربه وعاداه‪ ،‬يقول حذيفة بن اليمان(رضي هللا عنه)‪« :‬ما َم َنَعِني َأْن َأْش َه َد َبْد ًر ا إاّل أِّني َخ َر ْج ُت َأنا‬
‫َو َأِبي ُحَسْيٍل ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأَخ َذنا ُكّفاُر ُقَر ْيٍش ‪ ،‬قالوا‪ :‬إَّنُكْم ُتِر يُدوَن ُم َح َّم ًدا‪َ ،‬فُقْلنا‪ :‬ما ُنِر يُدُه‪ ،‬ما ُنِر يُد إاَّل‬
‫الَم ِديَنَة‪ ،‬فأَخ ُذوا ِم ّنا َعْهَد هللا َو ِم يثاَقُه َلَنْنَص ِر فَّن إلى الَم ِديَنِة ‪َ ،‬و ال ُنقاِتُل معُه‪ ،‬فأَتْينا َر سوَل هللا ﷺ‪،‬‬
‫فأْخ َبْر ناُه‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬اْنَص ـِر َفا‪َ ،‬نِفي لهْم بَعْهِدِه ْم ‪َ ،‬و َنْس َتِع هللا عليهم» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقد وّفى ﷺ مع بعض المشركين ولم ينس لهم مواقفهم اإليجابية الُم شـّر فة معه‪ ،‬ومنهم أبو‬
‫البختري بن هشام‪ ،‬الذي عارض قريًشا‪ ،‬ودافع عن الّنبي ﷺ وأصحابه‪ ،‬وسعى في نقض الّص حيفة‬
‫الجائرة الظالمة‪ ،‬فوّفى له ﷺ ورد له الجميل والمعروف في معركة بدر كما روى ابن إسحاق بسنده‬
‫إلى ابن عباس (رضي هللا عنهما) فقال ﷺ‪« :‬إِّني قد عرفت أّن رجاًل من بني هاشم وغيرهم قد‬
‫أخرجوا ُكرًها‪ ،‬ال حاجة لهم بقتالنا‪ ،‬فَم ن َلقي ِم نُكم أحًدا من بني هاشم فال يقتله‪ ،‬ومن لقي أبا‬
‫البختري بن هشام فال يقتله‪ ،‬ومن لقي العباس بن عبد المطلب فال يقتله؛ فإّنه إّنما أخرج‬
‫مستكرًها»‪.‬‬
‫وكذلك وّفى ﷺ للمطعم بن عدي الذي أجاره وأدخله مكة لّم ا عاد من الّطائف‪ ،‬وقد آذاه‬
‫المشركون‪ ،‬ثم مات الُم ْط ِع م بن عدي ُم شرًكا‪ ،‬فلّم ا أتت معركة بدر وَأسَر ﷺ سبعين من المشركين‬
‫قال‪َ« :‬لْو َكاَن الُم ْط ِع ُم ْبُن َعِد ٍّى َحًّيا‪ُ ،‬ثَّم َكَّلَم ِني ِفي َهُؤالِء ‪َ ،‬لَتَر ْكُتُه ْم َلُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ووّفى ﷺ للّنجاشي ملك الحبشة الذي استقبل الّص حابة في الهجرة األولى والّثانية‪ ،‬وآواهم‬
‫وأكرمهم‪ ،‬ثم أسلم (رضي هللا عنه)‪ ،‬فلما جاء رسول هللا ﷺ خبر وفاته قال للّص حابة كما في‬
‫الّص حيحين‪« :‬إَّن أًخ ا َلُكْم قْد ماَت ‪َ ،‬فُقوُم وا َفَص ُّلوا عليه (َيْعِني الَّنجاِش َي )‪ ،‬فصّلى عليه صالة الغائب‬
‫ودعا له»‪.‬‬
‫ومن وفائه ﷺ أّنه قبل إجارة الُم سلم للمشرك‪ ،‬فإّن أم هانئ بنت أبي طالب (رضي هللا عنها)‬
‫أجارت ُم شرًكا يوم فتح مكة‪ ،‬فقالت‪ُ :‬قلُت ‪ :‬يا رسول هللا‪َ ،‬ز َعَم ابُن ُأِّم ي (تقصد أخاها علي بن أبي‬
‫طالب (رضي هللا عنه))‪ ،‬أَّنه َقاِتٌل رجاًل قد أجرُته‪ :‬فالن ابن هبيرة؛ فقال رسول هللا‪َ« :‬قْد َأَج ْر َنا َم ْن‬
‫َأَج ْر ِت َيا ُأَّم َهاِنٍئ » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فهذه امرأة‪ ،‬وأجارت ُم شرًكا فوّفى ﷺ لها بجوارها وقبل ضمانها ونّفذ وعدها‪ ،‬فكان ﷺ آية‬
‫في الوفاء وحفظ العهد‪ ،‬ومن أين ُيتعلم الوفاء إاّل منه!؟ ومن أين تؤخذ المراجل والمروءات إاّل من‬
‫أخالقه وصفاته!؟ ومن أين ُيعرف الّنبل والّشهامة إال من نفسه الّشريفة وطبعه الجليل وسجاياه‬
‫الحميدة ﷺ!؟‬
‫ومن وفائه ﷺ حنينه إلى وطنه‪ ،‬فعند فراقه لمكة بكى ونظر إليها وقال‪« :‬وهللا إَّنِك لَخ يُر‬
‫أرِض هللا‪ ،‬وأَح ُّب أرِض هللا إلى هللا‪ ،‬ولوال أِّني ُأخِر ْج ُت منِك ما َخ َر ْج ُت » [رواه أحمد والترمذي]‪.‬‬
‫فكان حنينه إلى وطنه‪ ،‬وشوقه إلى مالعب الّص با‪ ،‬ومعاهد الفتوة‪ ،‬ومغاني الّشباب يثير فيه‬
‫االشتياق إلى مكة دائًم ا‪ ،‬حتى إّنه ورد في (دالئل الّنبوة) أّن أصيل الهذلي زار الّنبي ﷺ في المدينة‬
‫فسأله عن مكة‪ ،‬فأخبره أّنه قد نبت اإلذخر أو نحو ذلك‪ ،‬فدمعت عيناه ﷺ‪ ،‬والحنين للوطن يدل على‬
‫الوفاء وحفظ العهد‪.‬‬
‫وقد آن لقلمي أن يقف‪ ،‬ولمداده أن يجّف ‪ ،‬فأنا عاجز أن أصف وفاء سيد األنبياء‪ ،‬ولكن لعّل‬
‫وابل الّدمع الّسخي ُيوّفي ما بقي من حق هذا الّنبي األّم ي‪ ،‬مع الّص الة العطرة‪َ ،‬و الَّساَل م الُم طّه ر على‬
‫جنابه الّشريف‪.‬‬
‫فمهما خطب الُخ طباء‪ ،‬ونظم الُّشعراء‪ ،‬وتكّلم الُفصحاء‪ ،‬فسيظل إمام األوفياء‪ ،‬فوق القصائد‬
‫العصماء‪ ،‬والخطب الغّر اء‪.‬‬
‫ماذا يقول األوفياء إذا َرأوا‬
‫صفحات جمدك يف ال جل اخلالِد‬
‫ّس‬
‫يستغفرون هللا من تقصريهم‬
‫اي خري مولوٍد وأكر والِد‬
‫َم‬
‫حىّت الوفاُء ملكٍة سّج لتُه‬
‫يوم الِف راق بدمع صٍب واجِد‬
‫بل ُصغت يف ذكرى خدجية قّصًة‬
‫ح هتا بدموع جفٍن ساهِد‬
‫رّب‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َص اِد ًقا‬
‫الّص دق من أنبل األخالق التي يّتصف بها اإلنسان؛ ولهذا أثنى هللا على الّص دق وأهله فقال‬
‫سبحانه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا اَّتُقوا َهَّللا َو ُكوُنوا َمَع الَّص اِدِقيَن } [التوبة‪ :‬اآلية ‪ ،]119‬ووصف أنبياءه‬
‫بالّص دق وشّر فهم بذلك فقال تعالى‪َ{ :‬و اْذُكْر ِفي اْلِك َتاِب ِإْبَر اِه يَم ِإَّنُه َكاَن َص ِّديًقا َنِبًّيا} [مريم‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]41‬وقال عن إسماعيل (عليه السالم)‪ِ{ :‬إَّنُه َكاَن َص اِدَق اْلَو ْعِد َو َكاَن َر ُسوًال َنِبًّيا} [مريم‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]54‬وقال عن يوسف (عليه السالم)‪ُ{ :‬يوُسُف َأُّيَه ا الِّص ِّديُق } [يوسف‪ :‬اآلية ‪ ،]46‬وعّلم محّم ًدا‬
‫عليه الّص الة والّسالم هذا الّدعاء فقال تعالى‪َ{ :‬و ُقْل َر ِّب َأْدِخ ْلِني ُم ْدَخ َل ِص ْدٍق َو َأْخ ِر ْج ِني ُم ْخ َر َج‬
‫ِص ْدٍق } [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]80‬‬
‫فالّص دق من أعظم دعائم اإليمان‪ ،‬ولذلك ال يتم إيمان مؤمن حتى ُيصّدق باهلل رًّبا‪ ،‬وُيصّدق‬
‫بمحمد نبًّيا‪ ،‬وُيصّدق باإلسالم ديًنا‪ ،‬ورسولنا ﷺ هو الّص ادق الُم صّدق‪ ،‬وهو إمام الّص ادقين إلى يوم‬
‫الّدين‪ ،‬ولو كان الّص دق شخًص ا لكان هو ﷺ‪ ،‬فأنفاسه وحروفه وكلماته تقطر صدًقا‪.‬‬
‫جاء ﷺ بالّص دق من عند رّبه‪ ،‬فهو صادق الّنظرات والعبارات‪ ،‬وصادق األقوال واألفعال‪،‬‬
‫وصادق األحكام واألخبار‪ ،‬فكالمه صدق وُسّنته صدق‪ ،‬ورضاه صدق وغضبه صدق‪ ،‬ومدخله‬
‫صدق ومخرجه صدق‪ ،‬وضحكه صدق وبكاؤه صدق‪ ،‬ويقظته صدق ومنامه صدق‪ ،‬صادق مع‬
‫رّبه‪ ،‬صادق مع نفسه‪ ،‬صادق مع أهله‪ ،‬صادق مع أعدائه‪ ،‬صادق مع الّناس‪:‬‬
‫ُس بحاَن من جعل املهابة برَده‬
‫يف صمتِه ووَقارِه وحيائِه‬
‫هذا الذي شهد ال مان بصدقِه‬
‫ّز‬
‫حىت شهود ال دق من أعدائِه‬
‫ّص‬
‫ويكفيه صدًقا‬
‫تامًة‪ ،‬لم ُينقص حرًفا‬
‫ﷺ أّنه أخبر عن هللا بعلم الغيب‪ ،‬وائتمنه هللا على الّر سالة‪ ،‬فأّداها لُألّم ة كاملًة‬
‫ولم يزد حرًفا‪ ،‬وبّلغ األمانة عن رّبه أتّم البالغ‪ ،‬فكُّل قوله وعمله وحاله َم ْبِنٌّي‬
‫على الّص دق‪ ،‬فهو صادق في حربه وسلمه‪ ،‬وبيعه وشرائه‪ ،‬وعقوده وعهوده‪ ،‬وُخ طبه ورسائله‪،‬‬
‫وفتاويه وقصصه‪ ،‬وقوله ونقله‪ ،‬وروايته ودرايته‪.‬‬
‫أقام هللا لسانه‪ ،‬وسّدد لفظه‪ ،‬وأصلح ُنطقه وقّو م حديثه‪ ،‬فهو الّص ادق المصدوق الذي لم ُيحفظ‬
‫له غلطة‪ ،‬ولم ُتنقل عنه كذبة‪ ،‬ولم ُيخالف ظاهره باطنه‪ ،‬بل كان صادًقا حتى في إشارات عينيه‪ ،‬فلّم ا‬
‫ُأتي إليه ﷺ برجل ُم هدر دمه قال أصحابه‪ :‬أال أشرت لنا بعينك في قتله؟! فقال ﷺ‪ « :‬ال َينبغي ِلنبٍّي‬
‫أْن َتُكوَن لُه َخ اِئَنُة اَألْع ُيِن » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫شهد بصدقه ﷺ زوُج ه خديجة (رضي هللا عنها) ‪ ،‬أعرف الّناس به‪ ،‬فقد ظفرت بعشرته ليل‬
‫نهار؛ ولهذا لّم ا قال لها بعدما نزل عليه الوحي‪« :‬إّني قد خشيت َعَلى نفسـي؛ قالت‪َ :‬كاَّل ‪ ،‬أْبِش ْر ‪،‬‬
‫َفَو هللا ال ُيْخ ِز يَك هللا أَبًدا‪ ،‬إَّنَك َلَتِص ُل الَّر ِح َم ‪ ،‬وَتْصُدُق الَح ِديَث ‪ُ[ »......‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫فلّم ا خاف ﷺ على نفسه بعدما شاهد هذا العارض الذي حصل له في غار حراء أثبتت له‬
‫خديجة أّنه ال يصيبه سوء ألّنه ُج بل على مكارم األخالق ومعالي األمور‪ ،‬ومن أعظمها الّص دق‪،‬‬
‫فالّص ادق ال يعثر‪ ،‬وأقسمت (رضي هللا عنها) وهي باّر ة في يمينها‪ ،‬صادقة في قسمها‪ ،‬أّن هللا ال‬
‫يخزيه أبًدا‪ ،‬والّدليل ما ذكرته من صفات جليلة‪ ،‬وخالل جميلة‪ ،‬ومنها صدقه ﷺ‪.‬‬
‫وُعرف ﷺ في قريش قبل بعثته بالّص ادق األمين‪ ،‬ووقف في أّو ل أيام بعثته على الّص فا ُينادي‬
‫بطون قريش ويقول‪« :‬أَر َأْيُتْم َلْو أْخ َبْر ُتُكْم أَّن َخْياًل َتْخ ُر ُج ِبَسْفِح هذا الَجَبِل ‪ ،‬أُكْنُتْم ُم َص ِّدِقَّي ؟»‪َ ،‬قاُلوا‪:‬‬
‫«ما َج َّر ْبَنا َعَلْيَك َكِذًبا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫يا لهذه الّشهادة الّص ادقة المدّو ية بصدق هذا الّنبي الكريم! قالوها باإلجماع بعد أن عاش بينهم‬
‫أربعين سنة‪ ،‬وعرفوا سيرته قبل الّنبوة‪ ،‬وشهدوا صدقه في قوله وفعله‪ ،‬وحّله وترحاله‪ ،‬وبيعه‬
‫وشرائه‪ ،‬وغضبه ورضاه‪.‬‬
‫ومنذ أن بعثه هللا إلى أن توفاه لم يستطع أحد من أعدائه سواء كان من المشـركين أو‬
‫المنافقين أو أهل الكتاب أن يعثر على كذبة واحدة له ﷺ‪ ،‬وال سقطة واحدة‪ ،‬وال هفوة واحدة‪ ،‬وال‬
‫عثرة واحدة‪ ،‬وحاولوا أن يقتنصوا عليه أي عيب فلم يجدوا أبًدا‪ ،‬فلّم ا سأل هرقل ملك الّر وم أبا‬
‫سفيان فقال له‪« :‬هل كنتم تَّتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟‪ ،‬قال أبو سفيان‪ :‬ال‪ ،‬فقال هرقل‪َ« :‬لْم‬
‫َيُكْن ِلَيَدَع الَكِذ َب عَلى الَّناس‪ُ ،‬ثَّم َيْذَهَب َفَيْكِذب عَلى هللا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان أبو سفيان (رضي هللا عنه) في تلك الفترة عدًّو ا للرسول ﷺ‪ ،‬وفي حالة حرب معه‪،‬‬
‫ومع ذلك لم يصف الّنبي بالكذب‪ ،‬بل أثبت له الّص دق رغم عداوته له‪ ،‬وهرقل وهو نصراني استنبط‬
‫من هذا أن من أعظم عالمات نبوته ﷺ الّص دق‪ ،‬وأّنه يستحيل أن يترك الكذب على الّناس ويكذب‬
‫على هللا رّب العالمين‪.‬‬
‫ويقول عبدهللا بن سالم (رضي هللا عنه)‪ :‬لّم ا أتى الّنبي ﷺ إلى المدينة‪« :‬فجئُت في الَّناِس‬
‫ألنظَر فلَّم ا تبّينُّت وْج هه ﷺ عرفُت أَّن وْج َه ُه ليَس بوْج ِه كَّذاٍب» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وفي الّص حيحين‪ :‬أّن الّشمس ُكسفت في اليوم الذي مات فيه ابنه إبراهيم‪ ،‬فقال الّناس‪ :‬كسفت‬
‫الّشمس لموت إبراهيم‪َ ،‬فَخ َطَب الَّناَس وقال ﷺ‪« :‬إَّن الَّشْم َس َو اْلَقَمَر ِم ن آَياِت هللا‪ ،‬وإَّنُه ما ال‬
‫َيْنَخ ِس َفاِن ِلَمْو ِت َأَح ٍد‪َ ،‬و اَل ِلَحَياِتِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫انظر إلى الّص دق والتجّر د والوضوح والّتواضع! ولو كان غيره ﷺ من أهل الّدنيا ألخذها‬
‫فرصة‪ ،‬وعّدها مناسبة‪ ،‬وركب الموجة‪ ،‬وقال‪ :‬نعم‪ ،‬صدقتم فيما قلتم‪ ،‬وأصبتم فيما رأيتم‪ ،‬ليزداد‬
‫مجًدا ُدنيوًيا‪ ،‬وبهرًج ا وشهرًة زائفًة‪ ،‬لكّنها الّنبوة في أجمل صورها‪ ،‬وأبهى مشاهدها‪.‬‬
‫ويكفي عن شهادة الّناس أجمعين‪ ،‬بصدق سّيد المرسلين‪ ،‬شهادة رّب العالمين‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫{َلَقْد َص َدَق ُهَّللا َر ُسوَلُه الُّر ْؤ َيا ِباْلَح ِّق َلَتْدُخ ُلَّن اْلَم ْس ِج َد اْلَحَر اَم ِإْن َشاَء ُهَّللا آِم ِنيَن } [الفتح‪ :‬اآلية ‪.]27‬‬
‫حتى رؤياه ﷺ في المنام صادقة‪ ،‬فكيف روايته في اليقظة؟! قال تعالى‪َ{ :‬و اَّلِذي َج اَء‬
‫ِبالِّص ْدِق َو َص َّدَق ِبِه ُأوَلِئَك ُهُم اْلُم َّتُقوَن } [الزمر‪ :‬اآلية ‪.]33‬‬
‫فالذي جاء بالّص دق هو رسول الهدى ﷺ‪ ،‬والّص دق هو كتاب هللا الذي ال يأتيه الباطل من بين‬
‫يديه وال من خلفه‪ ،‬والذي صّدق به هم أتباعه ﷺ الذين يؤمنون به إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫لم يعرف ﷺ الكذب في حياته جاًّدا أو مازًح ا‪ ،‬فقد كان يمزح وال يقول إاّل حًقا‪ ،‬كما روي عنه‬
‫أّنه ﷺ قال‪ِ« :‬إِّني َأَلْم َز ُح َو اَل َأُقوُل ِإاَّل َح ًّقا» [رواه الّطبراني]‪.‬‬
‫ومن صدقه ﷺ في الّدعابة أَّن رجاًل أتاه فقال له‪ :‬يا رسوَل هللا‪ ،‬احِم ْلني‪ ،‬قال الّنبُّي ‪ِ« :‬إَّنا‬
‫َح اِم ُلوَك َعَلى َو َلِد َناَقٍة‪ ،‬قال‪ :‬وما أصنع بولِد الناقِة ؟‪ ،‬فقال الّنبُّي ﷺ‪َ :‬و َهْل َتِلُد اِإْل ِبَل ِإاَّل الُّنوُق ؟!»‬
‫[رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وقد نهى ﷺ عن الكذب حتى في المزاح فقال‪َ« :‬و ْيٌل ِلَّلِذي ُيَحِّد ُث ِباْلَحِديِث ِلُيْض ِح َك ِبِه اْلَقْو َم‬
‫َفَيْك ِذ ُب ‪َ ،‬و ْيٌل َلُه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫عصمه ُهللا من الكذب في غضبه ورضاه‪ ،‬في غضبه يوم تختل موازين الّر جال وتتغ‬
‫الّنفوس‪ ،‬وتذهب العقول إلى الحيل يبقى ﷺ صادًقا ثابًتا على الحق‪.‬‬
‫وفي وقت الّر ضا يوم الّسـرور‪ ،‬ويوم تمرح األرواح في أساليب الّتساهل والّتسامح في‬
‫الحديث‪ ،‬يبقى ﷺ مع ِص دقة ال يحيد ُأنملة‪ ،‬فعن عبدهللا بن عمرو (رضي هللا عنهما) قال‪ :‬كنت أكُتُب‬
‫كل شيء أسَم ُعه من رسول هللا ﷺ أريد حفَظه‪ ،‬فنَه ْتني قريٌش وقالوا‪ :‬أتكتب كَّل شيء تسمعه ورسوُل‬
‫هللا ﷺ َبَشـٌر َيتكَّلُم في الغضِب والِّر ضا ؟! فأمسكُت عن الكتاب‪ ،‬فذكرُت ذلك لرسول هللا ﷺ فأومأ‬
‫بأصبِع ه إلى ِفيه فقال‪« :‬اْكُتْب ‪َ ،‬فَو اَّلِذي َنْفسي بَيِده َم ا َيْخ ُر ُج ِم ْنُه إاّل َحٌّق » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وكان ﷺ صادًقا في ِس لِم ه وحربه‪ ،‬في زمن األمن والّسلم يوم ُيسهب الكثير في الُم بالغات‪،‬‬
‫وترخيص المنقوالت‪ ،‬وحشد الّر وايات‪ ،‬كان ﷺ يلتزم بالّص دق‪ ،‬ويقف مع الحّق ‪ ،‬بال زيادة وال‬
‫نقص‪ ،‬وال وكس وال شطط‪.‬‬
‫وكان صادًقا في حربه يوم يبحث الخصم عن الّنكاية في خصمه‪ ،‬ويلتمس العدّو اإلضرار‬
‫بعدوه‪ ،‬وُيستعان بالّز ور والبهتان‪ ،‬كان هذا اإلمام المعصوم ال يقول إاّل الحق‪ ،‬وال ينطق إاّل‬
‫بالصدق‪ ،‬مع أّن الحرب ُيباح فيها ُم خادعة العدّو كما صّح عنه ﷺ أّنه قال‪« :‬الحرب ُخ ْدعة» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫ومع ذلك لم يكذب ﷺ في أّي حرب من حروبه‪ ،‬صدق مع أعدائه كما صدق مع أحبابه؛ ألّنه‬
‫ُبعث بشعار‪َ{ :‬و َتَّم ْت َكِلَم ُة َر ِّبَك ِص ْدًقا َو َعْدًال} [األنعام‪ :‬اآلية ‪.]115‬‬
‫كان ﷺ صادًقا في األخبار‪ ،‬عاداًل في األحكام‪ ،‬وقد روى ابن هشام وابن كثير في الّسيرة‬
‫الّنبوية أّن رسول هللا ﷺ لقي طليعة للمشـركين وهو في سفٍر مع أصحابه‪ ،‬فقال المشركون‪ :‬مّم ن‬
‫أنتم؟ فقال الّنبي ﷺ‪« :‬نحن من ماء»‪ ،‬فنظر بعضهم إلى بعض! فقالوا‪ :‬أحياء اليمن كثيرة‪ ،‬لعّلهم‬
‫منهم‪ ،‬وانصرفوا‪ ،‬وهللا تعالى قال‪َ{ :‬و َج َعْلَنا ِم َن اْلَم اِء ُكَّل َشْي ٍء َح ٍّي} [األنبياء‪ :‬اآلية ‪ ،]30‬وقال‬
‫سبحانه‪َ{ :‬فْلَيْنُظِر اِإل ْنَساُن ِم َّم ُخ ِلَق * ُخ ِلَق ِم ْن َم اٍء َداِفٍق } [الطارق‪ :‬اآلية ‪ ،]6 -5‬وقد صدق ﷺ في‬
‫هذا القول‪ ،‬وهذا ما ُيسّم ى بالّتعريض‪ ،‬وفي الّتعريض مندوحة عن الكذب‪ ،‬وقد جمع في هذا بين‬
‫الّص دق وبين المحافظة على أسرار الّدولة في مواجهة أعدائها‪.‬‬
‫ولقد رّبى ﷺ جياًل صادًقا ال يقول إاّل الحق‪ ،‬وال ينطق إاّل بالّص دق‪ ،‬فقد سّطر أصحابه‬
‫رضوان هللا عليهم أروع القصص في الّص دق‪ُ ،‬يعرض أحدهم على الّسيف فال ُيبّدل وال ُيغير‪ ،‬فُيقتل‬
‫على الّص دق‪ ،‬ويلقى هللا صادًقا‪« ،‬فهذا خبيب بن عدي (رضي هللا عنه) ‪-‬كما في البخاري‪ُ-‬ر فع على‬
‫الخشبة ليصلب وأراد منه المشـركون أن يقول غير الحق فأبى إاّل أن يموت صادًقا كما عّلمه وألهمه‬
‫نبّيه ﷺ‪ ،‬وذهب إلى رّبه شهيًدا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وهذا جعفر بن أبي طالب (رضي هللا عنه) وهو الجئ عند الّنجاشي ملك الحبشة‪ ،‬ومعه‬
‫بعض الّص حابة رضوان هللا عليهم‪ ،‬فيقول مبعوث قريش للّنجاشي ليثير غضبه عليهم‪ ،‬وُيعيدهم إلى‬
‫المشركين في مكة‪« :‬أّيها الملك‪ :‬إّنهم يقولون في عيسى قواًل عظيًم ا‪ ،‬إّنهم يقولون‪ :‬إّنه عبد!»‬
‫[رواه ابن إسحاق في «السيرة»]‪ .‬وهذا في ظّنه مخالف لمعتقد الّنجاشي‪ ،‬فاستدعاهم وسألهم عن‬
‫األمر‪ ،‬ومع صعوبة المشهد وشّدة األزمة وهول الموقف إاّل أّنهم التزموا بالّص دق الذي عّلمهم إّياه‬
‫نبّي هللا ﷺ‪ ،‬وقالوا الحّق وإن كان خالف ما يعتقد هذا الملك‪ ،‬كما أتى به القرآن‪ ،‬ولم ُيغّيروا‪ ،‬ولم‬
‫ُيبّدلوا ُم راعاة للمقام‪ ،‬ولم يرهبوا الموقف‪ ،‬ولم يتخّلوا عن مبدئهم وصدقهم‪.‬‬
‫وقد دعا ﷺ المؤمنين إلى الّص دق في كل أقوالهم وأفعالهم فقال‪َ« :‬عَلْيُكْم ِبالِّص ْد ِق ؛ َفِإَّن‬
‫الِّص ْد َق َيْهِدي ِإَلى اْلِبِّر ‪َ ،‬و ِإَّن اْلِبَّر َيْهِدي ِإَلى اْلَج َّنِة ‪َ ،‬و َم ا َيَز اُل الَّر ُجُل َيْصُدُق َو َيَتَح َّر ى الِّص ْد َق َح َّتى‬
‫ُيْكَتَب ِع ْنَد هللا ِص ِّديًقا‪َ ،‬و ِإَّياُكْم َو اْلَكِذ َب ؛ َفِإَّن اْلَكِذ َب َيْهِدي ِإَلى اْلُفُج وِر ‪َ ،‬و ِإَّن اْلُفُج وَر َيْهِدي ِإَلى الَّناِر ‪،‬‬
‫َو َم ا َيَز اُل الَّر ُجُل َيْك ِذ ُب َو َيَتَح َّر ى اْلَكِذ َب َح َّتى ُيْكَتَب ِع ْنَد هللا َكَّذاًبا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وخاطب ﷺ أّم ته يدعوهم إلى الصدق فقال‪« :‬اْض َم ُنوا ِلي ِس ًّتا ِم ْن َأْنُفِسُكْم َأْض َم ُن َلُكُم اْلَج َّنَة؛‬
‫اْصُدُقوا ِإَذا َح َّد ْثُتْم ‪َ ،‬و َأْو ُفوا ِإَذا َو َعْدُتْم ‪َ ،‬و َأُّدوا ِإَذا اْؤ ُتِم ْنُتْم ‪َ ،‬و اْح َفُظوا ُفُر وَج ُكْم ‪َ ،‬و ُغُّض وا َأْبَص اَر ُكْم ‪،‬‬
‫َو ُكُّفوا َأْيِد َيُكْم » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪ِ« :‬إَّن الِّص ْد َق ُطَم ْأِنيَنٌة‪َ ،‬و ِإَّن اْلَكِذ َب ِر يَبٌة» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫بل نّبه ﷺ على التزام الّص دق حتى في أدّق األمور والُم عامالت اُألسرّية‪ ،‬فعن عبدهللا بن‬
‫عامر (رضي هللا عنه) قال‪« :‬دعْتني ُأّم ي يوًم ا ورسوُل هللا ﷺ قاعٌد في بيِتنا‪ ،‬فقالْت ‪ :‬ها تعاَل‬
‫ُأعطيَك ‪ ،‬فقال لها رسوُل هللا ﷺ‪ :‬وما أردِت أْن تعطيِه ؟‪ ،‬قالْت ‪ُ :‬أعطيِه تمًر ا‪ ،‬فقال لها رسوُل هللا ﷺ‪:‬‬
‫أما إّنك لو لْم ُتعطِه شيًئا ُكتبْت عليِك َكِذبٌة» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن حصول البركة في البيع والّشراء‪ ،‬ومع الكذب ُتمحق البركة‪ ،‬فَقاَل ﷺ‪« :‬اْلَبِّيَعاِن‬
‫بالِخ ياِر َم ا َلْم َيَتَفَّر َقا‪َ ،‬فِإْن َص َد َقا َو َبَّيَنا ُبوِر َك لهما في َبْيِع ِه ما‪َ ،‬و ِإْن َكَتما وَكَذبا ُم ِح َقْت َبَر َكُة َبْيِع ِه ما»‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ن َكَذَب َعَلَّي ُم َتَعِّم ًدا َفْلَيَتَبَّو ْأ َم ْقَعَد ُه ِم َن الّناِر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فالكذب عليه ﷺ ليس كالكذب على غيره‪ ،‬ألّنه نبي معصوم واالفتراء عليه ﷺ افتراء على‬
‫الّشريعة وقدح في الوحي‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحكم للّناس على حسب ما ظهر له منهم‪ ،‬ويكل سرائرهم ونياتهم إلى هللا؛ ألّنه‬
‫ُسبحانه األعلم بما تحويه الّنيات‪ ،‬فليس للحاكم إاّل ما ظهر له‪.‬‬
‫أّم ا الغيب فعند هللا جّل في عاله‪ ،‬فعن أّم سلمة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) أّن َر ُسوِل هللا‬
‫ﷺ‪َ ،‬سِم َع ُخ ُص وَم ًة ِبباِب ُحْج َر ِتِه َفَخ َر َج ِإَلْيِه ْم ‪َ ،‬فقاَل ‪« :‬إَّنما َأنا َبَشٌر ‪ ،‬وإَّنه َيْأِتيِني الَخ ْص ُم ‪َ ،‬فَلَعَّل‬
‫َبْعَضُكْم َأْن َيكوَن َأْبَلَغ ِم ن َبْعٍض ‪ ،‬فأْح ِس ُب أَّنُه صاِدٌق فأْقِض ي له ِبذلَك ‪ ،‬فَم ن َقَض ْيُت له ِبَح ِّق ُمْسِلٍم ‪،‬‬
‫فإَّنما هي ِقْط َعٌة ِم َن الّناِر ‪َ ،‬فْلَيْأُخ ْذها َأْو ِلَيْتُر ْكها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ودّلنا ﷺ على أّن الّنية الّص ادقة هي مدار األعمال ويحاسب هللا اإلنسان بها‪ ،‬وبها ينجو أو‬
‫يهلك‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬م ن َسَأَل هللا الَّشهاَد َة بِص ْد ٍق ‪َ ،‬بَّلَغُه هللا َم ناِز َل الُّشَه داِء ‪ ،‬وإْن ماَت على‬
‫ِفراِشِه »[رواه مسلم]‪.‬‬
‫وفي األخير‪-‬وبعد أن أبحرنا في هذا الباب مع صدقه ﷺ ‪ -‬أسألك سؤااًل ‪:‬‬
‫هل تعتقد أّن هناك في العالم أصدق من ُم حمد بن عبدهللا ﷺ الذي اصطفاه هللا لتبليغ وحيه‬
‫للعالمين‪ ،‬ومن أّو ل شروط الوحي الّص دق؟!‬
‫إًذا فاعتقد اعتقاًدا جازًم ا أّنه ﷺ أصدق وأبّر َم ْن خلق هللا‪.‬‬
‫فصّلى هللا وسّلم على إمام الّص ادقين‪ ،‬وقدوة الُم خلصين‪ ،‬إلى يوم الدين‪.‬‬
‫ال دق اتجك اي نو طلعتِه‬
‫ّص‬
‫َمْن ُر‬
‫أهبى من الّش مس بل أسىن من القمِر‬
‫جتري حروفَك صدًقا انصًعا ألًق ا‬
‫وح من هللا من آٍي ومن سوِر‬
‫ٌي‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َأِم ْي ًنا‬
‫األمانة قاعدة أصيلة من قواعد الُم ثل العليا والّص فات الّنبيلة في الّشـريعة اإلسالمّية‪ ،‬وُخ لق‬
‫عظيم وأساس قويم من أسس الّر سالة الُم حمدّية‪.‬‬
‫واألمانة أعّم وأشمل من حفظ المال فقط‪ ،‬بل تشمل األقوال‪ ،‬واألعمال‪ ،‬والمعتقدات‪،‬‬
‫واألخالق‪.‬‬
‫ومن أجّل صفات األنبياء عليهم الّسالم صفة األمانة‪ ،‬فكان كّل نبّي يقول لقومه‪ِ{ :‬إِّني َلُكْم‬
‫َر ُسوٌل َأِم يٌن } [الشعراء‪ :‬اآلية ‪.]143‬‬
‫ومن أعظم شروط الوالية األمانة‪ ،‬كما قال العزيز ليوسف (عليه السالم)‪ِ{ :‬إَّنَك اْلَيْو َم َلَدْيَنا‬
‫َم ِك يٌن َأِم يٌن } [يوسف‪ :‬اآلية ‪.]54‬‬
‫ونبّي هللا هود (عليه السالم) ُيقّدم نفسه لقومه فيقول‪ُ{ :‬أَبِّلُغُكْم ِر َساَالِت َر ِّبي َو َأَنا َلُكْم َناِص ٌح‬
‫َأِم يٌن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]68‬‬
‫وقيل في وصف موسى (عليه السالم)‪َ{ :‬ياَأَبِت اْس َتْأِج ْر ُه ِإَّن َخْيَر َمِن اْس َتْأَج ْر َت اْلَقِوُّي‬
‫اَألِم يُن } [القصص‪ :‬اآلية ‪.]26‬‬
‫وأشهر من ُعرف باألمانة هو سّيد ولد آدم رسولنا محمد بن عبدهللا ﷺ‪ ،‬فقد اشتهر بصفة‬
‫األمانة قبل أن ُيشّر فه هللا بالنبّو ة وبعدها‪ ،‬فعرفت عنه ُقريش صدق أمانته‪ ،‬وصار مضرب المثل في‬
‫هذه الّص فة الجليلة‪ ،‬حتى إّن بطون ُقريش لّم ا اختصمت وتنازعْت على وضع الحجر األسود مكانه‪،‬‬
‫اتفقوا على أن ُيحّكموا أّو ل من يدخل عليهم الحرم‪ ،‬فلّم ا أبصروا الّنبي ﷺ قالوا‪ :‬هذا األمين‪ ،‬هذا‬
‫محمد‪ ،‬رضينا به حكًم ا‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬هُلَّم إلَّي َثّو ًبا‪ ،‬فُأِتَي به‪ ،‬فأَخ َذ الُّر كَن يعني الَحَج َر األسوَد فوَض َعه‬
‫فيه بيِده‪ ،‬ثَّم قال‪ِ :‬لَتأُخ ْذ كُّل َقبيلٍة بناِح يٍة ِم َن الَّثوِب‪ ،‬ثَّم ارَفُعوه جميًعا‪ ،‬فَفَعلوا‪ ،‬حَّتى إذا َبَلُغوا به‬
‫موِض َعه وَض َعه هو بيِده ﷺ‪ ،‬ثَّم َبنى عليه»‪[ .‬رواه ابن هشام في «السيرة»]‪.‬‬
‫وكانت أمانته ﷺ من أسباب زواج خديجة (رضي هللا عنها) منه‪ ،‬فقد استأمنته في تجارتها‬
‫إلى الّشام بعدما استفاض خبر أمانته ﷺ‪ ،‬هذا وهو في عصـر الجاهلّية‪ ،‬فقل لي برّبك‪ :‬كيف يكون‬
‫بعد أن بعثه هللا نبًّيا للعالمين‪ ،‬ورسو لألميين؟!‬
‫وأّم ا بعد بعثته ﷺ فقد شهد بأمانته العدّو قبل الّص ديق‪ ،‬فهذا هرقل في حواره مع أبي سفيان‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬و َسَأْلُتَك ‪ :‬هْل َيْغِد ُر ؟ َفَز َعْم َت أَّنُه ال َيْغِد ُر ‪َ ،‬و َكذلَك الُّر ُسُل ال َتْغِد ُر » [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫فكان عليه الّص الة والّسالم مضرب المثل في أداء األمانات‪ ،‬وحفظ الودائع للّناس حتى في‬
‫أصعب الّظروف وأشّد األزمات‪ ،‬وبعد أذية قريش له حرص ﷺ على أداء األمانات والودائع‪ ،‬فعند‬
‫هجرته من مكة إلى المدينة كّلف علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) بأن يؤِّدي ما عنده ِم ن ودائع‬
‫وأمانات إلى أهلها‪.‬‬
‫ولّم ا بعث علُّي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) بقطعة ذهب إلى رسول هللا فقّسمها ﷺ على‬
‫أربعة من وجهاء الّناس الذين أسلموا متأخرين تأليًفا لهم‪ ،‬وشك بعض المنافقين في هذه القسمة‬
‫واعترض‪ ،‬وهنا خاطب ﷺ ُأّم ته بدليل قاطع وبرهان ساطع وسؤال ُيوجهه لذوي العقول فقال ﷺ‪:‬‬
‫«َأاَل َتْأَم ُنوِني وَأنا أِم ين َم ْن في الَّسماِء ‪َ ،‬يْأِتيِني َخ َبُر الَّسماِء َص باًح ا وَم ساًء » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أال ترضون بأمانتي وقد استأمنني هللا على تبليغ رسالته للبشر؟!‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّنه قال ﷺ‪« :‬وهللا إِّني َألْنَقِلُب إلى أْه ِلي فأِج ُد الَّتْم َر َة‬
‫ساِقَطًة عَلى ِفراِش ي‪ ،‬أْو في َبْيِتي‪ ،‬فأْر َفُعها آِل ُكَلها‪ُ ،‬ثَّم أْخ َشى أْن َتُكوَن َص َد َقًة‪-‬أْو ِم َن الَّص َد َقِة ‪-‬‬
‫َفُأْلِقيَه ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن أجمل صور أمانته ﷺ وأعظمها أثًر ا األمانة الكبرى التي ُألقيت على عاتقه‪ ،‬وهي أمانة‬
‫الّر سالة‪ ،‬التي حملها بصدق‪ ،‬وأّداها بحق‪ ،‬وتحّم ل في سبيلها كل أذى‪ ،‬ولقي في تبليغها كل مشّقة‪،‬‬
‫بّلغها أحسن البالغ‪ ،‬وأّداها بأجمل ما تؤَّدى به األمانات‪ ،‬وأجّل ما ُتبّلغ به الّر ساالت‪ ،‬لقد بّلغها ﷺ‬
‫بالّسنان والّلسان‪ ،‬والُحّج ة والبيان‪ ،‬والدليل والُبرهان‪ ،‬وبذل في سبيل تبليغها ﷺ روحه ودمه‪ ،‬ووقته‪،‬‬
‫وماله وجهده‪ ،‬وليله ونهاره‪ ،‬فلم يهدأ له بال‪ ،‬ولم يرتح له حال‪ ،‬حتى بّلغها للعالمين‪ ،‬كما قال في‬
‫خطبة الوداع‪« :‬أيها الناس‪َ :‬قْد َتَر ْك ُت ِفيُكْم ما َلْن َتِض ُّلوا َبْعَد ُه إِن اْع َتَص ْم ُتْم به‪ِ ،‬ك َتاُب هللا‪َ ،‬و َأْنُتْم‬
‫ُتْس َأُلوَن َعِّني‪َ ،‬فما َأْنُتْم َقاِئُلوَن ؟‪ ،‬قالوا‪َ :‬نْش َه ُد أَّنَك قْد َبَّلْغَت َو َأَّدْيَت َو َنَصْح َت ‪َ ،‬فقاَل بإْص َبِعِه الَّسَّباَبِة‬
‫َيْر َفُعَه ا إلى الَّسَم اِء َو َيْنُكُتَه ا إلى الَّناِس ‪ :‬اللهَّم اْش َه ْد‪ ،‬اللهَّم اْش َه ْد‪َ ،‬ثاَل َث َمَّر اٍت» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ونحن نشهد بعد أربعة عشر قرًنا مع الّشاهدين أّنه ﷺ صدق في تبليغها‪ ،‬ووّفى في أدائها‪،‬‬
‫فجزاه هللا عّنا خير ما جزى نبًّيا عن أمته‪ ،‬جزاء ما جاهد وبذل‪ ،‬وضحى وأعطى‪ ،‬ويكفيه ﷺ أّن هللا‬
‫قد تّو جُه بهذا الّتاج يوم الجمع األكبر والمؤتمر األعظم على صعيد عرفة فقال سبحانه‪{ :‬اْلَيْو َم‬
‫َأْك َم ْلُت َلُكْم ِديَنُكْم َو َأْتَم ْم ُت َعَلْيُكْم ِنْعَم ِتي َو َر ِض يُت َلُكُم اِإل ْس َالَم ِدينًا} [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]3‬‬
‫أّدى ﷺ أمانة حفظ الجوارح‪ ،‬ثم دعا اُألّم ة لهذه الّتزكية‪ ،‬بحفظ كل جارحة من الجوارح‪،‬‬
‫وُم راقبة هللا عّز وجل في العقل والقلب‪ ،‬والّسمع والبصـر‪ ،‬واليد والّر جل‪ ،‬وكل أعضاء الجسم‪ ،‬فَقاَل‬
‫ﷺ‪« :‬إَّن هللا َكَتَب على اْبِن آَد َم َح َّظُه ِم َن الِّز نا‪َ ،‬أْد َر َك ذلَك ال َم حاَلَة؛ َفِز نا الَعْين الَّنَظُر ‪َ ،‬و ِز نا الِّلساِن‬
‫الُّنْط ُق ‪ ،‬والَّنْفُس َتَم ّنى َو َتْش َتِه ي‪ ،‬واْلَفْر ُج ُيَصِّدُق ذلَك ‪َ ،‬أْو ُيَكِّذ ُبُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكانت األمانة تحكم كل لفظ وكل لحظ‪ ،‬وكّل حركة من حركاته ﷺ‪ ،‬فكان الُم َطّه ر الُم زَّكى‪،‬‬
‫األمين في نفسه وفي كل عضو من أعضائه‪.‬‬
‫ومن عظيم أمانته ﷺ أّنه بّلغ الوحي الُم نّز ل عليه كاماًل ‪ ،‬حتى ما جاء في شؤونه الخاصة‬
‫وأسراره التي كان ُيخفيها وال ُيريد أن ُيظهرها للّناس‪ ،‬ولكن لّم ا نزل الوحي في شأنها أعلنها ﷺ‬
‫إعالًنا بّيًنا لألّم ة‪ ،‬ويشهد أنس (رضي هللا عنه) بذلك فيقول‪ :‬لو كاَن َر سوُل هللا ﷺ كاِتًم ا شيًئا َلَكَتَم‬
‫هِذه‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فكاَنْت َز ْيَنُب َتْفَخ ُر على أْز واِج الّنبِّي ﷺ َتُقوُل‪َ« :‬ز َّو َج ُكَّن أهاِليُكَّن ‪ ،‬وَز َّو َج ِني هللا َتعالى ِم ن‬
‫َفْو ِق َسْبِع َسَم اواٍت»‪.‬‬
‫وَعْن ثاِبٍت ‪ -‬الراوي عن أنس (رضي هللا عنه) ‪َ{ :-‬و ُتْخ ِفي ِفي َنْفِسَك َم ا ُهَّللا ُم ْبِديِه َو َتْخ َشى‬
‫الَّناَس } [األحزاب‪ :‬اآلية ‪]37‬؛ َنَز َلْت في َشْأِن َز ْيَنَب وَز ْيِد بِن حاِر َثَة [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبّلغ ﷺ العتاب الموحى إليه في شأن عبدهللا بن أّم مكتوم (رضي هللا عنه) لّم ا قال له رّبه‪:‬‬
‫{َعَبَس َو َتَو َّلى} ‪ .‬فقام ﷺ وتال الّسورة على الّناس على الّر غم من أّنه الُم عاتب فيها ﷺ بسبب اجتهاده‬
‫يوم أعرض عن األعمى‪.‬‬
‫وأيًض ا عاتبه رّبه عّز وجل لّم ا قبل ﷺ ُعذر الُم نافقين الذين استأذنوه في التخلف عن غزوة‬
‫تبوك‪ ،‬فقام عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وأعلن هذا العتب اإللهي‪ ،‬وتال على الّناس قول الباري سبحانه‪:‬‬
‫{َعَفا ُهَّللا َعْنَك ِلَم َأِذ ْنَت َلُهْم } [التوبة‪ :‬اآلية ‪ ،]43‬ولم يكتم حرًفا‪ ،‬ولم ُيحّر ف الكلم عن مواضعه‪ ،‬بل‬
‫قالها بصدق وأمانة ووضوح‪.‬‬
‫وُيخفي ﷺ سًّر ا ُأسرًيا بينه وبين أهله‪ ،‬ولكن يأتي الوحي بكشف القّص ة وتوضيح األمر‬
‫وإزالة الّلبس‪ ،‬ويخاطبه رّبه فيقول سبحانه‪َ{ :‬و ِإْذ َأَسَّر الَّنِبُّي ِإَلى َبْعِض َأْز َو اِج ِه َح ِديًثا َفَلَّم ا َنَّبَأْت ِبِه‬
‫َو َأْظ َهَر ُه ُهَّللا َعَلْيِه َعَّر َف َبْعَض ُه َو َأْع َر َض َعْن َبْعٍض } [التحريم‪ :‬اآلية ‪ ،]3‬فيقف عليه الّص الة والّسالم‬
‫تالًيا اآليات أمام الّناس لتتلوها األمة إلى يوم الّدين‪ ،‬حتى خلجات قلبه ﷺ‪ ،‬وميل طبعه‪ ،‬وأسرار‬
‫ضميره التي يكتمها عن جلسائه‪ ،‬أظهرها الوحي كما قال تعالى‪{ :‬وَلْو َال َأْن َثَّبْتَناَك َلَقْد ِك ْدَت َتْر َكُن‬
‫ِإَلْيِه ْم َشْيًئا َقِليًال} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ .]74‬فيقوم ﷺ وُيعلنها للبشرّية جمعاء بال تردد‪.‬‬
‫وإن لم يكن هذا أداء األمانة‪ ،‬فما هو أداؤها إذا؟! وهل في العالم أحد غير الّنبي ﷺ يسّبه‬
‫أعداؤه‪ ،‬ويتفننون في شتمه‪ ،‬وُينّو عون أساليب القدح في شخصه الكريم‪ ،‬ويتهمونه بأّنه كاهن‪،‬‬
‫ومجنون‪ ،‬وساحر‪ ،‬وُم فتٍر على هللا‪ ،‬ويخترع األقوال‪ ،‬ويؤّلف األكاذيب ‪ -‬صانه ُهللا من ذلك كّله ‪ -‬ثم‬
‫يأتي الوحي بذكر هذا الّسباب وتلك الّشتائم‪ ،‬فيقرؤها ﷺ في صالته‪ ،‬ويذكرها في تالوته‪ُ ،‬م بّلًغا عن‬
‫هللا بصدق‪ ،‬ومؤدًيا ألمانة الوحي بحق‪ُ ،‬يبّلغ رسالة رّبه بأتّم بيان دون أن ُينقص منها كلمة أو يلوي‬
‫ُج ملة‪ ،‬أو ُيحّر ف عبارة‪ ،‬فتال على الناس قول هللا تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َنْعَلُم َأَّنُهْم َيُقوُلوَن ِإَّنَم ا ُيَعِّلُم ُه َبَشٌر }‬
‫[النحل‪ :‬اآلية ‪ ،]103‬وقوله سبحانه‪َ{ :‬و َقاُلوا َأَساِط يُر اَألَّو ِليَن اْك َتَتَبَه ا َفِه َي ُتْم َلى َعَلْيِه ُبْك َر ًة َو َأِص يًال}‬
‫[الفرقان‪ :‬اآلية ‪ ،]5‬وقوله تعالى‪َ{ :‬و َيُقوُلوَن َأِإَّنا َلَتاِر ُكو آِلَه ِتَنا ِلَشاِع ٍر َم ْج ُنوٍن } [الصافات‪ :‬اآلية‬
‫‪.]36‬‬
‫وإّننا بعاداتنا البشرّية وطبيعتنا اإلنسانّية نكتم ونستر كل نقص وعيب‪ ،‬وكل سٍّب ُيوّج ه إلينا‪،‬‬
‫وكل شتم ُنقصد به من األعداء‪ ،‬وفي الُم قابل ُنظهر المديح‪ ،‬وُنعلن اإلنجازات‪ ،‬ونفخر بالّثناء الذي‬
‫ُيهدى إلينا من اآلخرين‪ ،‬لكّنه ﷺ يتغّلب على طبيعته البشرّية فُيبّلغ كل ما أوحي إليه من رّبه سواًء‬
‫كان ثناًء أو عتاًبا‪ ،‬أو ما يقوله عنه أعداؤه‪ ،‬ويفتري عنه خصومه‪ ،‬على حٍّد سواء من البيان والّتبليغ‪.‬‬
‫ومن صور أمانته ﷺ حفظه للودائع والحقوق‪ ،‬وحّثه على ذلك بقوله وفعله‪ ،‬فَعْن َأِبي ُهَر ْيَر َة‬
‫(رضي هللا عنه) َأّنه ﷺ َقاَل ‪َ« :‬م ْن َأَخ َذ َأْم َو اَل الَّناِس ُيِر يُد َأَداَء َها؛ َأَّدى ُهللا َعْنُه‪َ ،‬و َم ْن َأَخ َذ ُيِر يُد‬
‫ِإْتاَل َفَه ا؛ َأْتَلَفُه ُهللا» [رواه البخاري]‪ .‬وقال ﷺ‪« :‬أِّد األمانَة إلى مِن ائتمَنَك ‪ ،‬وال َتُخ ن َم ن خاَنَك »‬
‫[رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ويكفي في عظيم أمانته ﷺ في باب المال أّنه وهو إمام األّم ة‪ ،‬وحاكم الّدولة مات ولم يترك‬
‫لورثته درهًم ا وال ديناًر ا‪ ،‬كما قال عليه الّص الة والّسالم‪« :‬ال ُنوَر ث؛ ما تَر كنا صدقٌة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فأّي أمانة أعظم من هذه األمانة في حفظ مال األّم ة‪ ،‬وعدم أخذ شيء منه ولو درهًم ا واحًدا؟!‬
‫وعّلمنا ﷺ األمانة في البيع والّشراء‪ ،‬وأخبر بأّن المؤمن ال يغش وال يخون‪ ،‬فَعْن أبي هريرة‬
‫(رضي هللا عنه)‪ ،‬أَّن َر سوَل هللا ﷺ َم َّر على ُص ْبَر ِة َطعاٍم فأْدَخ َل َيَدُه فيها‪َ ،‬فناَلْت أصاِبُعُه َبَلاًل ‪ ،‬فقاَل ‪:‬‬
‫ما هذا يا صاِح َب الَّطعاِم ؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬أصاَبْتُه الَّسماُء يا َر سوَل هللا‪ ،‬قاَل ‪« :‬أَفال َجَعْلَتُه َفْو َق الَّطعاِم َكْي‬
‫َيراُه الّناُس ‪َ ،‬م ن َغَّش فليَس ِم ِّني» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن هللا تعالى يقول في الحديث القدسي‪« :‬أنا ثالُث الَّشريَكْيِن ما لم يُخْن أَح ُدهما‬
‫صاحَبُه‪ ،‬فإذا خاَنه خَر ْج ُت ِم ن بيِنهما» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وَقاَل ﷺ‪َ« :‬ثالَثٌة أنا َخ ْص ُم ُه ْم َيوَم الِقياَم ِة ‪َ :‬ر ُجٌل أْع َطى بي ُثَّم َغَد َر ‪ ،‬وَر ُجٌل باَع ُح ًّر ا فأَكَل‬
‫َثَم َنُه‪ ،‬وَر ُجٌل اْس َتْأَج َر أِج يًر ا فاْس َتْو َفى منه ولم ُيعِط ه أجَر ه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فغرس ﷺ في أصحابه وأتباعه مراقبة هللا تعالى‪ ،‬وأداء األمانة حتى في أدق األمور كما قال‬
‫تعالى‪َ{ :‬فَم ْن َيْعَم ْل ِم ْثَقاَل َذَّر ٍة َخْيًر ا َيَر ُه * َو َم ْن َيْعَم ْل ِم ْثَقاَل َذَّر ٍة َشًّر ا َيَر ُه} [الزلزلة‪ :‬اآلية ‪.]8 -7‬‬
‫ودعا ﷺ لتحّم ل األمانة في العمل‪ ،‬وفي باب المسؤولية أًّيا كانت هذه المسؤولية‪ ،‬سواًء‬
‫مسؤولية عامة؛ من إمارة أو وزارة‪ ،‬أو مسؤولية خاصة كاألعمال والوظائف األخرى‪.‬‬
‫بل جعل ﷺ كل شأن من شؤون الحياة أمانة ُيسأل عنها اإلنسان يوم القيامة فقال عليه الّص الة‬
‫والّسالم‪ُ« :‬كُّلُكْم َر اٍع َفَم ْس ؤوٌل َعْن َر ِعَّيِتِه ‪َ ،‬فاَأْلِم يُر اَّلِذي َعَلى الَّناِس َر اٍع‪َ ،‬و ُهَو َم ْس ُئوٌل َعْن َر ِعَّيِتِه ‪،‬‬
‫َو الَّر ُجُل َر اٍع َعَلى َأْه ِل َبْيِتِه ‪َ ،‬و ُهَو َم ْس ُئوٌل َعْنُه ْم ‪َ ،‬و اْلَمْر َأُة َر اِعَيٌة َعَلى َبْيِت َبْعِلَه ا َو َو َلِدِه ‪َ ،‬و ِه َي‬
‫َم ْس ُئوَلٌة َعْنُه ْم ‪َ ،‬و اْلَعْبُد َر اٍع َعَلى َم اِل َسِّيِدِه َو ُهَو َم ْس ُئوٌل َعْنُه‪َ ،‬أاَل َفُكُّلُكْم َر اٍع‪َ ،‬و ُكُّلُكْم َم ْس ُئوٌل َعْن‬
‫َر ِعَّيِتِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ا ِم ْن َعْبٍد اْس َتْر َعاُه ُهللا َر ِعَّيًة‪َ ،‬فَلْم َيُح ْط َه ا ِبَنِص يَح ٍة‪ِ ،‬إاّل َلْم َيِج ْد َر اِئَح َة اْلَج َّنِة »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقد أنكر ﷺ حتى على من تأّو ل في المال العام كما جاء عن أبي ُح ميد الّساعدي (رضي هللا‬
‫عنه) أّنه قال‪ :‬اْس َتْعَم َل َر سوُل هللا ﷺ َر ُج اًل على َصَدقاِت َبِني ُسَلْيٍم ‪ُ ،‬يْدعى اْبن الُّلْتِبَّيِة ‪َ ،‬فَلّم ا جاَء‬
‫حاَسَبُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬هذا ماُلُكْم ‪َ ،‬و هذا َهِد َّيٌة‪َ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪َ :‬فَه اَّل َج َلْس َت في َبْيِت أِبيَك وُأِّم َك ‪ ،‬حَّتى‬
‫َتْأِتَيَك َهِد َّيُتَك إْن ُكْنَت َصاِد ًقا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ُيبّين ﷺ أّن المنصب مْغَر م ال مغنم‪ ،‬وأّن الوظيفة مسؤولية وأمانة‪ ،‬فقال ألبي ذر‪« :‬يا‬
‫َأبا َذٍّر ‪ ،‬إَّنَك َض ِع يٌف ‪ ،‬وأّنها َأماَنُة‪ ،‬وأّنها َيوَم الِقياَم ِة ِخ ْز ٌي َو َنداَم ٌة‪ ،‬إاّل َم ن َأَخ َذها بَحِّقها‪َ ،‬و َأّدى الذي‬
‫عليه ِفيها» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫لقد جعل ﷺ األمانة مسؤولية في كل عمل وكل باب من أبواب الحياة‪ ،‬فقال عليه الّص الة‬
‫والّسالم‪« :‬إَّن هللا ُيِح ُّب ِإَذا َعِم َل َأَح ُدُكْم َعَم اًل َأْن ُيْتِقَنُه» [رواه البيهقي في شعب اإليمان]‪.‬‬
‫وعّلمنا ﷺ بسيرته وشريعته أّن الكل سوف يقف أمام هللا عّز وجل وُيسأل عن أمانته‬
‫ومسؤوليته‪ ،‬وقرن ﷺ بين اإليمان واألمانة وكّأنها عقد واحد فقال ﷺ‪« :‬ال إيماَن ِلَم ن ال أمانَة له‪ ،‬وال‬
‫ِديَن ِلَم ن العهَد له» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وحّث ﷺ على أمانة الكلمة‪ ،‬وأخبر بأّن اإلنسان ُيسأل عنها يوم القيامة‪ ،‬فَقاَل ‪ِ« :‬إَذا َح َّد َث‬
‫الَّر ُجُل الَّر ُجَل ِباْلَح ِديِث‪ُ ،‬ثَّم اْلَتَفَت ‪َ ،‬فِهَي َأَم اَنٌة» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪ِ« :‬إَّن اْلَعْبَد َلَيَتَكَّلُم‬
‫َو ِإَّن اْلَعْبَد َلَيَتَكَّلُم ِباْلَكِلَم ِة ِم ْن َسَخ ِط‬
‫ِباْلَكِلَم ِة ِم ْن ِر ْض َو اِن هللا‪ ،‬اَل ُيْلِقي َلها َبااًل ‪َ ،‬يْر َفُعُه ُهللا ِبَه ا َد َر َج اٍت‪،‬‬
‫هللا‪ ،‬اَل ُيْلِقي َلها َبااًل ‪َ ،‬يْه ِو ي ِبَه ا ِفي َجَه َّنَم » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ بخطورة الّلسان‪ ،‬وأّنه قد يجّر على صاحبه عواقب وخيمة إن لم يقم عليه بحّق‬
‫األمانة‪ ،‬فال يتكلم إاّل بالحق مّم ا ُيرضي هللا عّز وجل‪ .‬وَعْن ُم َعاِذ ْبِن َجَبٍل (رضي هللا عنه) أّن الّنبي‬
‫ﷺ قال‪« :‬أال أخُبرَك بَم اَل ِك ذِلَك كِّلِه ؟‪ُ ،‬قلُت ‪ :‬بلى يا نبي هللا‪ ،‬قال‪ :‬فأخَذ بِلساِنِه وقاَل ‪ُ :‬كَّف عليَك هذا‪،‬‬
‫فُقلُت ‪ :‬يا نبَّي هللا‪ ،‬وإّنا لمؤاَخ ذوَن بما نَتَكَّلُم ِبِه ؟!‪ ،‬فقاَل ‪َ :‬ثِك َلتَك أُّم َك يا معاُذ! َو َهل َيُكُّب الّناَس في‬
‫الّناِر على وجوِه ِه م ‪-‬أو على َم ناخِر ِه م‪ -‬إاّل َح صائُد ألسنِتِه م» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫ومن صور أمانة الكلمة أمانة الّشهادة وُم راقبة هللا عّز وجل فيها‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّال َم ْن‬
‫َشِه َد ِباْلَح ِّق َو ُهْم َيْعَلُم وَن } [الزخرف‪ :‬اآلية ‪.]86‬‬
‫وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪َ :‬ذَكَر َر سوُل هللا ﷺ الَكَباِئَر ‪ ،‬أْو ُسِئَل َعِن الَكَباِئِر‬
‫َفقاَل ‪« :‬الِّش ْر ُك باهلل‪ ،‬وَقْتُل الَّنْفِس ‪ ،‬وُعُقوُق الَو اِلَد ْيِن ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬أاَل ُأَنِّبُئُكْم بَأْك َبِر الَكَباِئِر ؟ قاَل ‪َ :‬قْو ُل‬
‫الُّز وِر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن مشاهد أمانة الكلمة أيًض ا التي أّكد عليها الّنبي ﷺ حفظ األسرار الّز وجية واألمور‬
‫الخاّص ة التي تجري بين الّز وج وزوجته‪ ،‬كما قال ﷺ‪« :‬إَّن ِم ن َأْع َظِم األَم اَنِة ِع ْنَد هللا َيوَم الِقَياَم ِة ‪،‬‬
‫الَّر ُجَل ُيْفِض ي إلى اْم َر َأِتِه ‪َ ،‬و ُتْفِض ي ِإَلْيِه ‪ُ ،‬ثَّم َيْنُشُر ِس َّر َها» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫لقد كانت قضية األمانة ماثلة في خطابِه ﷺ‪ ،‬فكان يدعو إليها بالوحي كتاًبا وُسّنة‪ ،‬وُيرّبي ُأّم ته‬
‫عليها في كل مواطن الحياة‪ُ ،‬م متثاًل أمر رّبه جّل اسمه‪َ{ :‬فْلُيَؤ ِّد اَّلِذي اْؤ ُتِم َن َأَم اَنَتُه َو ْلَيَّتِق َهَّللا َر َّبُه}‬
‫[البقرة‪ :‬اآلية ‪.]283‬‬
‫ويبّلغنا ﷺ قول الباري سبحانه‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َيْأُمُر ُكْم َأْن ُتَؤ ُّدوا اَألَم اَناِت ِإَلى َأْه ِلَه ا} [النساء‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]58‬وُيحّذرنا وينهانا عن الخيانة عماًل بقول هللا تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا َال َتُخ وُنوا َهَّللا َو الَّر ُسوَل‬
‫َو َتُخ وُنوا َأَم اَناِتُكْم َو َأْنُتْم َتْعَلُم وَن } [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]27‬‬
‫وأّن الخيانة مسلك مشين وخلق رديء كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َهَّللا َال ُيِح ُّب اْلَخاِئِنيَن } [األنفال‪:‬‬
‫اآلية ‪.]58‬‬
‫بل إّنه ﷺ أخبر بأّن الخيانة ركن من أركان الّنفاق‪ ،‬وأّن المؤمن ال يخون أبًدا‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬آَيُة‬
‫الُم ناِفِق َثالٌث ‪ِ :‬إذا َح َّد َث َكَذَب ‪ ،‬وإذا َو َعَد َأْخ َلَف ‪ ،‬وإذا اْؤ ُتِم َن خاَن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬أْر َبٌع َم ن ُكَّن فيه كاَن ُم ناِفًقا خاِلًص ا‪ ،‬وَم ن كاَنْت فيه َخ ْص َلٌة منهَّن كاَنْت فيه‬
‫َخ ْص َلٌة ِم َن الِّنفاِق حّتى َيَدَعها‪ :‬إذا اْؤ ُتِم َن خاَن ‪ ،‬وإذا َح َّد َث َكَذَب ‪ ،‬وإذا عاَهَد َغَد َر ‪ ،‬وإذا خاَص َم َفَج َر »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫بل إّن من عالمات الّساعة ضياَع األمانة‪ ،‬كما قال ﷺ لمن سأله عن الساعة‪َ« :‬فِإذا ُض ِّيَعِت‬
‫األماَنُة فاْنَتِظ ِر الّساَعَة» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبّشر ُهللا تعالى المؤمنين الذين ُيحافظون على األمانات‪ ،‬ويؤدون الحقوق‪ ،‬بالفردوس األعلى‬
‫في جّنات الّنعيم‪ ،‬كما قال ُسبحانه‪َ{ :‬و اَّلِذيَن ُهْم َِأل َم اَناِتِه ْم َو َعْه ِدِه ْم َر اُعوَن * َو اَّلِذيَن ُهْم َعَلى َص َلَو اِتِه ْم‬
‫ُيَح اِفُظوَن * ُأوَلِئَك * ُهُم * اْلَو اِر ُثوَن * اَّلِذيَن َيِر ُثوَن اْلِفْر َدْو َس ُهْم ِفيَه ا َخ اِلُدوَن } [المؤمنون‪ :‬اآلية‬
‫‪.]11 -8‬‬
‫اتُج األمانة فوق رأسك يلمع‬
‫وعلى جبينك مشُس حٍّق تسطُع‬
‫ُصنت الّرسالة خُم لًص ا ألدائها‬
‫وهللا يشهد واخلالئق تسمُع‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُش َج اًعا‬
‫الّشجاعة من أنبل خصال الّر جال‪ ،‬وأشرف صفات األبطال‪ ،‬ولألنبياء عليهم الّسالم من‬
‫الّشجاعة أعالها وأكملها‪ ،‬وأتّم ها وأشملها‪ ،‬وأشجعهم سّيدهم وخاتمهم محّم د بن عبدهللا ﷺ‪ ،‬فكان‬
‫أشجع الّناس قلًبا‪ ،‬كالّطود ال يتزعزع وال يتزلزل‪ ،‬وال يخاف الّتهديد والوعيد‪ ،‬وال ُترهبه المواقف‬
‫واألزمات‪ ،‬وال تهّز ه الحوادث والُم لّم ات‪ ،‬فّو ض أمره لرّبه‪ ،‬وتوّكل على مواله‪ ،‬وأناب إليه‪ ،‬ورضي‬
‫بحكمه‪ ،‬واكتفى بنصره‪ ،‬ووثق بوعده‪.‬‬
‫ُشجاع ﷺ منذ طفولته وصباه‪ ،‬حّتى أرسله رّبه واصطفاه‪.‬‬
‫شارك قبل الّنبوة وهو لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره مع أعمامه في «حرب اْلِفَج ار»‪،‬‬
‫وكان يبيت وحده قبل الّنبوة في «غار حراء» في الّظالم الّدامس‪ ،‬واألرض الموحشة‪ ،‬ورأس الجبل‬
‫الوعر‪.‬‬
‫وأّي شجاعة أعظم من أن يقوم فرد أمام ُأّم ة‪ ،‬ورجل أمام شعب!؟ ثم يواجه الّدنيا بأسرها‪،‬‬
‫وُتعلن ضده الحرب الّضـروس‪ ،‬والمعارك الحامية‪ ،‬وليس معه جندي ُيرافقه‪ ،‬وال جيش يسنده‪ ،‬وال‬
‫حراسة تحميه‪ ،‬وإّنما يذهب إلى مجامع الّناس بقلب مفتوح‪ ،‬وصدر مشروح‪ ،‬فيدخل األسواق‪،‬‬
‫ويذهب إلى مكان األصنام‪ ،‬ويرتقي المنابر لُيعلن دعوته جهاًر ا نهاًر ا‪ ،‬بكل شجاعة وإقدام‪ ،‬ويواجه‬
‫الخطوب والكروب ثم ال يعرف الهزيمة‪ ،‬وال الّنكوص‪ ،‬وال االنكسار‪.‬‬
‫وقف ﷺ أمام صناديد الجاهلّية وحيًدا‪ ،‬وثبت أمام جبابرة الوثنية فريًدا‪ ،‬وفي الّلحظة التي‬
‫وقف فيها ﷺ على الّص فا وقال للّناس‪ُ « :‬قولوا‪ :‬ال إلَه إاَّل ُهللا ُتفِلحوا»‪ ،‬كانت هناك قلوب حاقدة‪،‬‬
‫وسيوف مسلولة‪ ،‬ورماح ُم شرعة‪ ،‬ومع هذا كله وقف صامًدا‪ ،‬كالّطود الّشامخ ال يهتز‪ ،‬وال ينحني‪،‬‬
‫وال ينكسر‪.‬‬
‫خاض المعارك بنفسه عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وباشر القتال بشخصه الكريم‪ ،‬وعّر ض روحه‬
‫للمنايا‪ ،‬وقّدم نفسه للموت‪ ،‬غير هائب وال خائف‪ ،‬ولم يفر من معركة قط‪ ،‬وما تراجع خطوة واحدة‪.‬‬
‫وساعة ُيحَم ى الوطيس‪ ،‬وُتشرع الّسيوف‪ ،‬وُتمتشق الّر ماح‪ ،‬وتهوي الّر ؤوس‪ ،‬ويدور كأس‬
‫المنايا على الّنفوس‪ ،‬في تلك الّلحظة يكون ﷺ أقرب أصحابه من الخطر‪ ،‬يحتمون به أحياًنا وهو‬
‫صامد ُم جاهد‪ ،‬ال يكترث لعدو ولو كثر عدده‪ ،‬وال يأبه لخصم ولو قوَي بأسه‪ ،‬بل كان ُيعّدل‬
‫الّص فوف‪ ،‬وُيشّج ع الُم قاتلين‪ ،‬ويتقّدم الكتائب‪ ،‬برز ﷺ يوم بدر وقاد المعركة بنفسه‪ ،‬وخاض غمار‬
‫الموت بروحه الّشريفة‪ ،‬وكان أّو ل َم ن يهُّب عند سماع المنادي‪.‬‬
‫وتكالبت عليه األحزاب من كل مكان يوم الخندق‪ ،‬وضاق األمر‪ ،‬وحّل الكرب‪ ،‬وبلغت‬
‫القلوب الحناجر‪ ،‬وُز لزل المؤمنون زلزااًل شديًدا‪ ،‬فقام ﷺ ُيصّلي ويدعو ويستغيث مواله حتى نصـره‬
‫جّل في عاله‪ ،‬ورّد كيد عدوه‪ ،‬وأخزى خصومه‪ ،‬وأرسل عليهم ريًح ا وجنوًدا‪ ،‬وباؤوا بالُخ سران‬
‫والهوان‪.‬‬
‫قال الّشاعر‪:‬‬
‫َأَتَّخرُت َأسَتبقي اَحلياَة َفَلم َأِج د‬
‫ِلَنفـسي َح ياًة ِم ثَل َأن َأَت َق َّد َما‬
‫َفَلسنا علَى اَألعقاِب َتدمى ُك لوُمنا‬
‫َو َلِكن عَلى َأقداِم نا َتقُطُر الِّد َما‬
‫وال يبلغ مبلغه ﷺ في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق‪ ،‬فهو الّشجاع الفريد‪ ،‬والّص نديد الوحيد‬
‫الذي كملت فيه صفات الّشجاعة‪ ،‬وتّم ت فيه سجايا اإلقدام وقوة البأس‪ ،‬وهو القائل‪« :‬واَّلِذي َنْفِسـي‬
‫ِبَيِدِه ! َو ِدْدُت ُأِّني ُأقاِتُل في َسبيِل هللا َفُأْقَتُل ‪ُ ،‬ثَّم ُأْح يا ُثَّم ُأْقَتُل ‪ُ ،‬ثَّم ُأْح يا ُثَّم ُأْقَتُل » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن مواقف شجاعته ﷺ في المعارك موقفه يوم ُح نين‪ ،‬فقد فّر كثير من الّص حابة من‬
‫مواجهة العدّو بعدما ٌأمطروا بالنبل من الّر ماة‪ ،‬وبقي ﷺ وحده ليس معه إاّل نفر قليل من أصحابه‪،‬‬
‫ونزل من بغلته‪ ،‬وأقبل على جيش العدو وحيًدا‪ ،‬وقد أخذ حفنة من الّتراب في يده ونثرها في‬
‫وجوههم وهو يقول‪« :‬شاهت الوجوه»‪[ .‬رواه ُم سلم]‪ .‬ثم أخذ ُيرّدد‪« :‬أنا الّنبُّي ال َكِذ ْب ‪ ،‬أنا ابُن عبِد‬
‫الُم َّطِلْب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ولم يزل ﷺ ُم تقّدًم ا في نحور األعداء‪ ،‬وُينادي في الّص حابة ويقول‪« :‬إلَّي عباد هللا»‪ ،‬حتى‬
‫رجعوا رضوان هللا عليهم‪ ،‬وأنزل هللا تعالى قوله‪َ{ :‬فَقاِتْل ِفي َسِبيِل ِهَّللا َال ُتَكَّلُف ِإَّال َنْفَسَك َو َحِّر ِض‬
‫اْلُم ْؤ ِم ِنيَن } [النساء‪ :‬اآلية ‪.]84‬‬
‫هّللف ما أشجعه ﷺ في مواقف تطير فيها األحالم‪ ،‬وتعمى فيها البصائر!‬
‫خيوض حبر املنااي وهو مبتسٌم‬
‫ويصدم اهلول إعصاًرا إبعصاِر‬
‫وبريق الّنصـر دوًما فوق هامته‬
‫بني العوايل أبتباع وأنصاِر‬
‫ويوم ُأحد ُشّج عليه الّص الة والّسالم في وجهه‪ ،‬وُكسـرت رباعيته‪ ،‬وُقتل الكثير من أصحابه‪،‬‬
‫فما وهن وال ضعف‪ ،‬بل كان أمضى من الّسيف حسًم ا‪ ،‬وثبت في هذا الموقف العصيب وبقي رغم‬
‫جراحه ُيقاتل وُيدافع ُم تقّدًم ا والّر ماح ُم شرعة أمام عينيه‪ ،‬والّسهام ُم وَّج هة إلى جنبْيه‪ ،‬وما زال ُيلهب‬
‫الحماسة في أصحابه‪ ،‬ويشّد من أزرهم‪ ،‬وُيقِّو ي من عزائمهم‪ ،‬مّم ا خّفف عليهم مرارة الهزيمة‪،‬‬
‫وهّو ن عليهم ألم الُم صيبة‪ ،‬فعن البراء (رضي هللا عنه) قال‪ُ« :‬كّنا وهللا إذا اْح َمَّر الَبْأُس َنَّتِقي به‪،‬‬
‫وإَّن الُّشجاَع ِم ّنا َلَّلِذي ُيحاِذي به‪َ ،‬يْعِني الّنبَّي ﷺ» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول أمير المؤمنين علي بن طالب(رضي هللا عنه)‪ُ« :‬كَّنا ِإَذا َحِم َي اْلَبْأُس َو َلِقَي اْلَقْو ُم‬
‫اْلَقْو َم اَّتَقْيَنا ِبَر ُسوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فاَل َيُكوُن َأَح ٌد ِم َّنا َأْد َنى ِإَلى اْلَقْو ِم ِم ْنُه» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫ويقول أنس‪« :‬كاَن الّنبُّي ﷺ أْح َسَن الّناِس ‪ ،‬وَأْج َو َد الّناِس ‪ ،‬وَأْش َجَع الّناِس ‪ ،‬ولَقْد َفِز َع أْه ُل‬
‫الَم ِديَنِة ذاَت َلْيَلٍة‪ ،‬فاْنَطَلَق الّناُس ِقَبَل الَّص ْو ِت‪ ،‬فاْس َتْقَبَلُه ُم الّنبُّي ﷺ قْد َسَبَق الّناَس إلى الَّص ْو ِت‪،‬‬
‫وهو يقوُل ‪َ :‬لْن ُتراُعوا َلْن ُتراُعوا‪ .‬وهو على َفَر ٍس ألِبي َطْلَح َة ُعْر ٍي ما عليه َسْر ٌج‪ ،‬في ُعُنِقِه‬
‫َسْيٌف » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وشارك ﷺ في حفر الخندق مع أصحابه وكان أكثرهم نشاًطا‪ ،‬وقوًة‪ ،‬وتأثيًر ا‪ ،‬حتى إّن‬
‫الّص خرة لما عرضت لهم‪ ،‬وشّق عليهم َكْس ُر ها‪ ،‬بادر ﷺ وفلقها بالمعول‪ ،‬وشاركهم في بناء المسجد‪،‬‬
‫وكان ينقل معهم الّطين‪.‬‬
‫ولّم ا حّج وأتى البيت أمر الّص حابة أن يرملوا؛ لُيظهر القّو ة أمام قريش وُيظهر عظمة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فرمل بنشاط ثالثة أشواط‪ ،‬ثّم سعى ﷺ بين الّص فا والمروة حتى إّن إزاره كان يلتف على‬
‫ركبتيه من قوة سعيه‪.‬‬
‫وكان ﷺ قوًّيا في مشيه‪ ،‬إذا مشى كأّنه يتحّدر من صبب أي‪« :‬ينزل من علو»‪.‬‬
‫رّبما يمشي وأصحابه يجرون بعده جرًيا؛ لقوة حركته‪ ،‬ونشاطه ﷺ‪.‬‬
‫وكان ﷺ قوّي الجسم‪ ،‬تام الّص حة‪ُ ،‬م تكامل األعضاء‪ ،‬موفور الّنشاط‪ ،‬قيل‪ :‬إّنه ُأعطي قّو ة‬
‫ثالثين رجاًل ‪ ،‬وورد عنه ﷺ في قوته أّنه سابق وناضل وصارع‪ ،‬وهذه أنواع رياضة فيها صّح ة‬
‫بدن‪ ،‬واستعمال قوة‪ ،‬والقيام بعبادته‪ ،‬ونشر دعوته على أكمل وجه‪.‬‬
‫وكان ﷺ قوًّيا في أمر هللا حتى إّنه إذا أمر أصحابه بأمر فيه سماحة وفيه ُيسـر قالوا‪ :‬وأين‬
‫نحن من رسول هللا الذي غفر هللا له ما تقّدم من ذنبه وما تأخر!؟ فيزيدون في العبادة‪ ،‬فيغضب ﷺ‬
‫ويقول‪« :‬إَّن أْتقاُكْم وَأْع َلَم ُكْم باهلل أنا» [رواه البخاري]‪ .‬ويقول ﷺ‪َ« :‬م ن َر ِغ َب عن ُسَّنتي فليَس‬
‫ِم ِّني» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فكانت قّو ته عادلة‪ ،‬وشجاعته صارمة حازمة‪ ،‬ال ُظلم فيها وال تهور‪ ،‬ألّنه مؤّيد بالعناية‬
‫الّر بانية‪ ،‬محفوظ بالّر عاية اإللهية‪ ،‬معه عصمة الّنبوة‪ ،‬في كل منزل ينزله‪ ،‬وكل عمل يعمله‪ ،‬وكل‬
‫تصـرف يتصّر فه‪ ،‬فمثاًل لّم ا حاصر ﷺ حصن الّطائف علم أّن الّطعام الذي داخل الحصن يكفي أهله‬
‫سنة كاملة‪ ،‬وهذا معناه أنه سيتعّطل هو وأصحابه عن المصالح العاّم ة والخاّص ة‪ ،‬وسوف تبقى‬
‫المدينة المنورة عاصمة اإلسالم نهًبا ُم شاًعا‪ ،‬فقّر ر ﷺ بكل حزم وشجاعة أن ُينهي الحصار؛ ألّن‬
‫المصلحة تقوم على هذا‪ ،‬ويعود ﷺ لُيتابع بناء دولته وهداية ُأّم ته‪ ،‬وهذا غاية الّر شد وتمام الّسداد‪،‬‬
‫فصّلى هللا وسّلم عليه ما أشجعه في اإلقدام واإلحجام‪ ،‬في الحرب والّسلم‪ ،‬وفي الخوف واألمان!‬
‫ودعا ﷺ في رسالته إلى القوة ال إلى الّضعف‪ ،‬والّنصر ال الهزيمة‪ ،‬والّنشاط ال الكسل‪،‬‬
‫والّر يادة ال العجز‪ ،‬والّنجاح ال الفشل‪ ،‬وهذا هو الذي حّققه ﷺ‪ ،‬حتى صارت سيرته في الّر يادة‬
‫والقيادة والقوة والّشجاعة ُتدّر س في العالم‪ ،‬وأصبح األّو ل حتى عند غير الُم سلمين في مصّنفاتهم‬
‫ومؤلفاتهم بشهادة عظمائهم وعباقرتهم عبر التاريخ‪:‬‬
‫وقفت وحدك واألاّي م كاحلة‬
‫واملوت خيطب بني السيف والُعنِق‬
‫فكنت أشجع خلق هللا كّلهِم‬
‫تلقى املنااي بال خوٍف وال قلِق‬
‫كال هر يف مهٍم والبحر يف كرٍم‬
‫ّد‬
‫والبدر يف شفٍق والفجر يف ألِق‬
‫مع املالئِك واألصحاب تقدمهم‬
‫وأنت فيهم مكان الّنون يف احلدِق‬
‫وقد ُقرنت شجاعته ﷺ بالّر حمة ألّنها كانت في سبيل هللا؛ لتكون كلمة هللا هي العليا‪ ،‬فلم‬
‫يضرب بيده إاَّل في سبيل هللا‪ ،‬كما قالت عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬ما َض َر َب َر سوُل هللا ﷺ شيًئا‬
‫َقُّط بَيِدِه ‪َ ،‬و ال اْم َر َأًة‪َ ،‬و ال خاِد ًم ا‪ ،‬إاّل َأْن ُيجاِه َد في َسبيِل هللا‪َ ،‬و ما ِنيَل منه شيٌء َقُّط‪َ ،‬فَيْنَتِقَم ِم ن‬
‫صاِح ِبِه ‪ ،‬إاّل َأْن ُيْنَتَه َك شيٌء ِم ن َم حاِر ِم هللا‪َ ،‬فَيْنَتِقَم هلل َعَّز َو َجَّل » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫إّن شجاعته ﷺ قامت على الُم ثل الُعليا‪ ،‬والمبادئ الّسامية‪ ،‬والقيم األخالقية العالية‪ ،‬وليست‬
‫لمجّر د الجبروت أو االستيالء أو االنتقام‪ ،‬ألّنه لم يفعل فعاًل ‪ ،‬ولم ُيقّر ر قراًر ا إاّل بوحي من هللا‪،‬‬
‫فالّنبوة تحكمه‪ ،‬والعصمة تصونه‪.‬‬
‫وحّث ﷺ ُأّم ته على الّشجاعة‪ ،‬ودّلهم على االستعاذة من العجز والكسل والُج بن والُبخل‪ ،‬وكان‬
‫يدعو رّبه ويقول‪« :‬اللهَّم إِّني أُعوُذ بَك ِم َن الَعْج ِز والَكَسِل ‪ ،‬والُجْبِن والُبْخ ِل » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ألّن الُبخل والُج بن بينهما توافق‪ ،‬فالُبخل شح بالمال‪ ،‬والجبن شح بالّنفس‪.‬‬
‫وقد حّيا ﷺ الّشجعان ورحب بهم‪ ،‬وأشاد بشجاعة علي بن أبي طالب‪ ،‬والّز بير ابن العّو ام‪،‬‬
‫وخالد بن الوليد‪ ،‬وأبي قتادة‪ ،‬وأبي طلحة‪ ،‬وأبي دجانة‪ ،‬وأمثالهم من الّشجعان رضوان هللا عليهم‪،‬‬
‫وشّج ع ﷺ الّر ماة‪ ،‬فصح عنه أّنه كان يقول لسعد ابن أبي وقاص‪« :‬اْر ِم َفداَك أِبي وُأِّم ي» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وعن عقبة بن عامر (رضي هللا عنه) قال‪َ :‬سِم ْعُت َر سوَل هللا ﷺ َو هو على الِم ْنَبِر يقوُل‪:‬‬
‫«َو َأِع ُّدوا لهْم ما اْس َتَطْعُتْم ِم ن ُقَّو ٍة‪َ ،‬أال إَّن الُقَّو َة الَّر ْم ُي ‪َ ،‬أال إَّن الُقَّو َة الَّر ْم ُي ‪َ ،‬أال إَّن الُقَّو َة الَّر ْم ُي »‪.‬‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫وروى أبو داود عن عائشَة (رضي هللا عنها) أّنها قالت‪ :‬كنت مَع الَّنبِّي ﷺ في سَفٍر فسابقُتُه‬
‫فسبقُتُه على رجلَّي ‪ ،‬فلّم ا َحملُت الَّلحَم سابقُتُه فسبَقني‪ ،‬فقاَل ‪« :‬هِذِه بتلَك الَّسبقِة »‪.‬‬
‫وأشرف ﷺ على سباق الخيل المضّم رة وغير المضّم رة‪ ،‬ولتمام قوته ﷺ‪ ،‬وقوة عزيمته‪،‬‬
‫وكمال هّم ته‪ ،‬كان يدعو إلى االهتمام بالّص حة‪ ،‬ومراعاة األطعمة الّنافعة‪ ،‬واألدوية المفيدة‪ ،‬فدعوته‬
‫رّبانية‪ ،‬ال رهبانية‪.‬‬
‫فلقد أتى ﷺ لجمال وكمال الحياة‪ ،‬وللّنجاة والفوز في اآلخرة‪ ،‬ولهذا قال ﷺ‪«:‬الُم ْؤ ِم ُن الَقِو ُّي‬
‫َخ ْيٌر َو َأَح ُّب إلى هللا ِم ن الُم ْؤ ِم ِن الَّض ِع يِف » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فالّشجاعة والقوة قيمتان من قيم اإلسالم العظيمة؛ ّألنهما من أركان الّر يادة‪ ،‬ومن أصول‬
‫الّنجاح في الّدنيا واآلخرة‪ ،‬ولهذا يقول هللا سبحانه وتعالى‪َ{ :‬ياَيْح َيى ُخ ِذ اْلِك َتاَب ِبُقَّو ٍة} [مريم‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]12‬وهو ُح سن األخذ واإلقبال باهتمام واعتناء‪ ،‬ويقول جّل في ُعاله‪َ{ :‬و َأِع ُّدوا َلُهْم َم ا اْس َتَطْعُتْم‬
‫ُقَّو ٍة} [األنفال‪ :‬اآلية ‪.]60‬‬
‫إّن القوة العادلة تحفظ الكيان‪ ،‬وُتعين اإلنسان‪ ،‬وتصون الُح رمات‪ ،‬وُتدافع عن المكاسب‪،‬‬
‫وتنصر الحّق ‪ ،‬وتدمغ الباطل‪:‬‬
‫ُأثين َعَلى َمْن ؟! أتدري َمْن أّجبلُه ؟‬
‫أَما علمَت َمبن أهديُته كِلِم ي‬
‫يف أشجِع الّناس قلًبا غَري منتقٍم‬
‫وأصدِق اخللِق ُطًّرا غَري مّتهِم‬
‫أهبى من البدِر يف ليِل الّتماِم هدًى‬
‫أسخى من البحِر بل أرسى من العلِم‬
‫أصفى من الّش مِس يف نطٍق وموعظٍة‬
‫أمضـى من الّس يِف يف ُح ْكم ويف ِح َك ِم‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَت َو اِض ًعا‬
‫أطّل محمد ﷺ على الكون بُه داه‪ ،‬كما ُيطل القمر على الّدنيا بُم حّياه‪ ،‬ففاض على الجميع‬
‫بتواضعه وَخ ْفِض جناحه‪ ،‬وليِن جانبه للمؤمنين‪ ،‬امتثااًل ألمر خالقه‪َ{ :‬و اْخ ِفْض َج َناَح َك ِلَمِن اَّتَبَعَك‬
‫ِم َن اْلُم ْؤ ِم ِنيَن } [الشعراء‪ :‬اآلية ‪.]215‬‬
‫فكان الّتواضع سجّيته لم يتكّلفه أو يتصّنعه خالف الكثير من البشـر‪.‬‬
‫يتواضع ﷺ في أكله وشربه‪ ،‬ولباسه‪ ،‬ومشيه‪ ،‬ويدعو للّتواضع بكالمه‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬فيقول‪ِ« :‬إَّن‬
‫هللا َأْو َح ى إَلَّي َأْن َتَو اَض ُعوا َح َّتى اَل َيْفَخ َر َأَح ٌد َعَلى َأَح ٍد‪ ،‬واَل َيْبِغ َي َأَح ٌد َعَلى َأَح ٍد» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ويحّث أصحابه على الّتواضع فيقول‪َ« :‬م ا َتَو اَض َع َأَح ٌد هلل ِإاَّل َر َفَعُه هللا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ينهى عن الكبر‪ ،‬ويبغض أهله ويقول‪ُ« :‬يْح َشُر الُم تكِّبروَن يوَم القياَم ِة َأمثاَل الَّذِّر‬
‫في صوِر الّناِس ‪َ ،‬يعلوُهم كُّل شيٍء ِم َن الَّص غاِر حّتى َيدُخ لوا ِس جًنا في َج هَّنم ُيقال له‪ :‬بوَلُس ‪،‬‬
‫فَتعلوُهم ناُر اَألنياِر ‪ُ ،‬يسَقوَن ِم ن طيَنِة الَخ باِل ُعصارة أهِل الّناِر » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فما أشنع الّص ورة! وما أبشع المشهد! الذي وصف به الّنبي ﷺ الُم تكبرين لُينّفر عباد هللا عن‬
‫هذا الُخ ُلق الذميم‪ ،‬وهذا الوصف الّسخيم‪ ،‬ليكونوا عباًدا ُم خبتين‪ ،‬متواضعين‪ ،‬لّر ب العالمين‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬ال َيْد ُخ ُل اْلَج َّنَة َم ْن َكاَن ِفي َقْلِبِه ِم ْثَقاُل َذَّر ٍة ِم ْن ِكْبٍر » [رواه مسلم]‪ ،‬ويروي ﷺ‬
‫عن رّبه أّنه ُسبحانه قال‪« :‬الكبرياُء ردائي‪ ،‬والعظمُة إزاري‪ ،‬فَم ن ناَز عني واحًدا منهما ألقيُته في‬
‫الّنار» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ومفهوم الحديث أّن من تكّبر فقد نازع هللا صفة من صفاته‪ ،‬ألّن الكبرياء والعظمة له وحده‬
‫ُسبحانه وتعالى‪ ،‬أّم ا اإلنسان المخلوق الّضعيف فعليه أن يتمسكن ويتواضع للملك الجّبار الواحد‬
‫القّه ار‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬أاَل ُأْخ ِبُر ُكْم بَأْه ِل الَج َّنِة ؟! ُكُّل َض ِع يٍف ُم َتَض ِّعٍف ‪ ،‬لو أْقَسَم على هللا َأَلَبَّر ُه‪ .‬أاَل‬
‫ُأْخ ِبُر ُكْم بَأْه ِل الّناِر ؟! ُكُّل ُعُتٍّل ‪َ ،‬ج ّو اٍظ ُم ْس َتْك ِبٍر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫والمقصود بقوله‪ُ« :‬عُتّل »‪ :‬أي الجافي شديد الخصومة بالباطل‪ ،‬و«َج ّو اٍظ »‪ :‬هو من يجمع‬
‫المال ويمنعه عن اآلخرين‪ ،‬وقيل أيًض ا‪ :‬إّنه الضخم الذي يختال في مشيه‪ ،‬و«الُم ْس َتْك ِبر»‪ :‬هَو‬
‫الُم َتعاِلي على َخ ْلِق هللا تعالى‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث بّين ﷺ أّن صفة من يدخل الجّنة اللِّينة قلوبهم‪ ،‬الّر قيقة أرواحهم‪،‬‬
‫الُم نكسرون لرّبهم‪ ،‬المستكينون لجالله‪ ،‬المتواضعون لعباده‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫ُأثين اي صاِح إّن الكرب خلق سِّيئ‬
‫هيهات يوجد يف سوى اجلهالِء‬
‫فاخفض جناحك لألانِم تفز هبم‬
‫إّن ال واضع شيمُة احلكماِء‬
‫ّت‬
‫لو ُأعجب القمر املنري بنفسه‬
‫لرأيته يهوي إىل الغرباِء‬
‫وكان تواضعه ﷺ تواضع َم ن عرف رّبه مهابًة‪ ،‬واستحيا منه وعّظمه وقّدره حّق قدره‪،‬‬
‫وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب‪ ،‬فسافرت روحه إلى هللا‪ ،‬وهاجرت نفسه إلى الّدار اآلخرة‪،‬‬
‫فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الّدنيا‪ ،‬وصار عبًدا لّر به بحق‪ ،‬يجلس مع أصحابه فكأنه واحد‬
‫منهم‪ ،‬ليس له مجلس أو مكان ُيمّيزه عّم ن حوله‪.‬‬
‫يأتي الغريب الذي ال يعرفه‪ ،‬فال يستطيع أن ُيمّيزه بين أصحابه ﷺ‪ ،‬فيسأل‪َ« :‬أُّيكم ُم َح َّم ٌد؟!‬
‫والنبُّي ﷺ ُم َّتِكٌئ بين َظْه َر اِنيِه م» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫عاش ﷺ الّتواضع مع أصحابه فشاركهم الّتعب والّنصب‪ ،‬والمشقة والجوع والظمأ‪ ،‬بل أكل‬
‫بعدما أكلوا‪ ،‬وشرب بعدما شربوا‪ ،‬ويقول‪َ« :‬ساِقي الَقْو ِم آِخ ُر ُهْم ُشْر ًبا» [رواه مسلم]‪ .‬ويسأله‬
‫أصحابه (رضي هللا عنهم) فيقولون له‪َ« :‬كأَّنَك َر َعْيَت الَغَنَم ؟!‪ ،‬فيقول ﷺ‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬و هْل ِم ن َنِبٍّي إاّل َو َقْد‬
‫َر عاها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫بكل سهولة وصدق وتواضع يعترف ﷺ أّنه رعى الغنم‪ ،‬وهو أكرم الخلق على هللا‪ ،‬ولو كان‬
‫غيره من أهل الّدنيا لصعب عليه االعتراف بهذه الحقيقة‪ ،‬أو تردد في قولها‪ ،‬فيا لسمو نفسه وإخباته‬
‫لرّبه!‬
‫ومن تواضعه ﷺ أّنه كان إذا مّر على الصبيان سّلم عليهم بُلطف‪ ،‬وأقبل عليهم بتواضع‪ ،‬كما‬
‫ُر وي عن أنس (رضي هللا عنه) أَّنُه َمَّر َعَلى ِص ْبَياٍن َفَسَّلَم َعَلْيِه ْم ‪ ،‬وقال‪َ« :‬كاَن الَّنبُّي ﷺ َيْفَعُلُه»‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ﷺ َيُز وُر اَأْلْنَص اَر ‪َ ،‬و ُيَسِّلُم َعَلى ِص ْبَياِنِه ْم ‪َ ،‬و َيْم َسُح ُر ُؤوَسُهْم ‪[ .‬رواه ابن حّبان]‪.‬‬
‫بل إّنه ﷺ كان ُيداعب األطفال وُيمازحهم‪ ،‬ويأتي الّص بي ومعه عصفوره الصغير الذي ُيحّبه‬
‫وُيداعبه وال يكاد ُيفارقه‪ ،‬فيقابله الّنبي ﷺ بالّترحاب والبشاشة والّتواضع‪ ،‬ويناديه بكنيته‪ ،‬ويسأله عن‬
‫حال عصفوره‪ ،‬فيقول‪« :‬يا أبا ُعَم ير (كنية ذلك الطفل الصغير)‪َ ،‬م ا َفَعَل الَّنَغْيُر » (العصفور الّص غير‬
‫الذي كان يلعب به الّص بي) [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ولّم ا مات هذا العصفور قاَم الّنبي ﷺ بمواساته والّتخفيف عنه‪ ،‬ولم يتركه حتى تبّسم ونسي‬
‫هّم ه وحزنه‪.‬‬
‫وكان ﷺ يكره المدح‪ ،‬وينهى عن إطرائه ويقول‪« :‬ال ُتْط ُر وِني‪ ،‬كما َأْط َر ِت الَّنصارى اْبَن‬
‫َمْر َيَم ‪ ،‬فإَّنما َأنا َعْبُدُه‪َ ،‬فُقولوا‪ :‬عبُد هللا‪َ ،‬و َر ُسوُلُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ينهى أن يقام له أو يوقف على رأسه‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪« :‬لم‬
‫يكن شخٌص أحَّب إليهم من رسوِل هللا ﷺ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا ِلما يعلمون من كراهيِته لذلك»‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فكان من هديه ﷺ أّنه ال يحّب المظاهر‪ ،‬وال مشاهد الكبر والخيالء‪ ،‬بل يتواضع غاية‬
‫الّتواضع‪ ،‬حتى القيام الذي هو أبسط الحقوق للوافد ال يرضاه ﷺ ليكون مضرب المثل في الّتواضع؛‬
‫ألنه إمام األّم ة‪ ،‬والّنبي األسوة ﷺ‪.‬‬
‫وكان ﷺ يجلس حيثما انتهى به المجلس‪ ،‬ويختلط بالّناس كأّنه أحدهم‪ ،‬ويجيب الّدعوة ويقول‪:‬‬
‫«َلْو ُدِعيُت إلى ِذراٍع أْو ُكراٍع َأَلَجْبُت » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وَعْن َأَنِس بِن َم اِلٍك (رضي هللا عنه)‪ :‬أَّن َج َّدَتُه ُم َلْيَكَة َدَعْت َر سوَل هللا ﷺ ِلَطَعاٍم َص َنَعْتُه‪،‬‬
‫فأَكَل منه‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ُ« :‬قوُم وا َفُأَصِّلَي َلُكْم ‪ ،‬قاَل َأَنٌس (رضي هللا عنه)‪َ :‬فُقْم ُت إلى َح ِص يٍر لَنا َقِد اْس َو َّد‬
‫ِم ن ُطوِل ما ُلِبَس ‪َ ،‬فَنَض ْح ُتُه بَم اٍء ‪َ ،‬فَقاَم عليه َر سوُل هللا ﷺ َو َص َفْفُت َأَنا َو اْلَيِتيُم َو َر اَءُه‪َ ،‬و اْلَعُج وُز ِم ن‬
‫َو َر اِئَنا‪َ ،‬فَص َّلى َلَنا َر سوُل هللا ﷺ َر ْك َعَتْيِن ِ‪ُ ،‬ثَّم اْنَص َر َف »‪ُ[ .‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫ومع أّنه ﷺ سيد األنبياء وخاتمهم إاّل أّنه تواضع وكره تفضيله عليهم‪ ،‬فقال‪« :‬ال ُتَخ ِّيُر وِني‬
‫على ُم وسى» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وَج اَء إليه ﷺ َر ُج ٌل َفقاَل ‪« :‬يا َخ ْيَر الَبِر َّيِة ! َفقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪َ :‬ذاَك إْبَر اِه يُم عليه الَّساَل ُم »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك‪ :‬أَّن رجاًل قاَل ‪ :‬يا ُم حَّم ُد يا سِّيَدنا وابَن سِّيِدنا‪ ،‬وخيَر نا وابَن خيِر نا‪َ .‬فقاَل‬
‫رسوُل هللا ﷺ‪« :‬يا أُّيها الّناُس ‪ ،‬عليُكم بقوِلُكم‪ ،‬وال يسَتْهويَّنكُم الَّشيطاُن ‪َ ،‬أنا ُم حَّم ُد بُن عبِد هللا‪ ،‬عبُد‬
‫هللا ورسوُلُه‪ ،‬وهللا ما أحُّب أن ترَفعوني فوَق منزَلتي اَّلتي أنزَلني هللا عَّز وجَّل » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫يتواضع ﷺ للمؤمنين‪ ،‬فيزور المريض‪ ،‬ويعطف على المسكين‪ ،‬ويصل البائس‪ ،‬ويواسي‬
‫الُم ستضعفين‪ ،‬وُيداعب األطفال‪ ،‬وُيمازح األهل‪ ،‬وُيكّلم اَألَم ة‪ ،‬ويجلس على الّتراب‪ ،‬وينام على‬
‫الّثرى‪ ،‬ويفترش الّر مل‪ ،‬ويتوّسد الحصير‪.‬‬
‫قد رضي عن رّبه‪ ،‬فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوّي ‪.‬‬
‫ُيكلم الناس بلطف‪ ،‬ويخاطب الغريب بود‪ ،‬ويتأّلف الخلق‪ ،‬ويتبّسم في وجوه أصحابه‪.‬‬
‫وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو (رضي هللا عنه) قال‪« :‬أتى الّنبَّي ﷺ رجٌل فكَّلمه‪ ،‬فجعل‬
‫ترَعُد فرائُص ه!‪ ،‬فقاَل َلُه ‪ :‬هِّو ن عليَك ‪ ،‬فإِّني لسُت بمِلٍك ‪ ،‬إَّنما َأنا ابُن امرأٍة تأُكُل الَقديَد» [رواه ابن‬
‫ماجه]‪.‬‬
‫وقل لي برّبك! هل مّر بك عبر تاريخ الّز عماء والمشاهير والعظماء والقادة من يقول مثل‬
‫هذه الكلمة؟! بل إّن قائل هذه الكلمة هو أحّب العباد إلى هللا‪ ،‬وأكرمهم وأجّلهم عند مواله‪ ،‬ومع ذلك‬
‫يقول بكل أريحية‪ ،‬وكل تواضع ونفس رضّية‪« :‬أنا ابُن امرأٍة تأكُل القديَد»‪ ،‬وصدق بأبي هو وأمي‪،‬‬
‫نعم هو ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة‪ ،‬ولكّنه صاحب الحوض المورود‪ ،‬والمقام المحمود‪ ،‬والّلواء‬
‫المعقود‪ ،‬والّشفاعة الكبرى‪ ،‬وهو إمام األنبياء‪ ،‬وخاتم المرسلين ﷺ‪.‬‬
‫وُخ ذ من تواضعه ﷺ ما تشاء‪ ،‬وطالع من كرم نفسه‪ ،‬وسخاوة طبعه‪ ،‬ولطيف معشره‪ ،‬ما‬
‫أردت أن ُتطالع‪ ،‬وعش معي لحظة قيام اإلمام األعظم والّنبي األكرم ﷺ‪ ،‬فيحمل المعول ويحفر مع‬
‫أصحابه‪ ،‬والغبار يتناثر على رأسه‪ ،‬وهو يشارك بوجدانه وجسمه في الحفر‪ ،‬وينقل الّتراب على‬
‫كتفه الشريف‪.‬‬
‫وعش معي لحظة تفّقده ﷺ لجارية فقيرة كسيرة كانت تكنس المسجد فُيخَبر بموتها فيذهب‬
‫إلى قبرها في الحال لُيصّلي عليها‪.‬‬
‫وعش معي لحظة جوعه ﷺ جوًعا شديًدا يظهر على قسمات وجهه فُيَقَّدم له ُخ بز الّشعير‬
‫الجاف الحاف اليابس فيأبى إاّل أن ُيشاركه الفقراء والمساكين‪ ،‬فيجلس معهم على األرض‪ ،‬ويقدم لهم‬
‫الخبز بنفسه‪.‬‬
‫وعش معي لحظة أن يتلّو ى ﷺ من الجوع فُيهدى له لبن فيتذّكر الفقراء من أهل الّص فة‪،‬‬
‫فيدعوهم إلى بيته‪ ،‬ويسقيهم الّلبن واحًدا واحًدا‪ ،‬ويشـرب هو آخرهم‪.‬‬
‫ُيشارك ﷺ الخادم في الّلقمة‪ ،‬وُيقاسمه الكسرة‪ ،‬ويجلس معه على البساط البالي‪ ،‬ويمازحه‬
‫ويضاحكه‪ ،‬بل من هؤالء المساكين البسطاء من اّتخذه ابًنا قبل نسخ ذلك‪ ،‬ومنهم من اّتخذه حبيًبا‬
‫خاًص ا‪ ،‬ومستشاًر ا أميًنا‪.‬‬
‫وكان ُيحّب المساكين‪ ،‬وألغى ﷺ الفروق الطبقية التي ُتمّيز اإلنسان عن أخيه اإلنسان‪ ،‬فال‬
‫فضل لعربي على أعجمي‪ ،‬وال أبيض على أسود إاّل بالتقوى‪ ،‬مؤذنه حبشي‪ ،‬ومستشاره فارسي‪،‬‬
‫وصديقه رومي‪ ،‬قال ﷺ‪َ« :‬يا َأُّيَه ا الّناُس َأاَل ِإَّن َر َّبُكْم َو اِح ٌد‪َ ،‬و ِإَّن َأَباُكْم َو اِح ٌد‪َ ،‬أاَل اَل َفْض َل ِلَعَر ِبٍّي َعَلى‬
‫َأْع َجِم ٍّي‪ ،‬واَل ِلَعَجِم ٍّي َعَلى َعَر ِبٍّي‪ ،‬واَل َأِلْح َمَر َعَلى َأْس َو َد‪ ،‬واَل َأْس َو َد َعَلى َأْح َمَر ؛ إاَّل بِالَّتْقَو ى» [رواه‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫ومن تواضعه ﷺ أّنه لم يكن له طعام خاص يحوزه لنفسه ويستأثر به على أصحابه‪ ،‬بل كان‬
‫طعامه من جنس طعامهم يوضع على مائدة واحدة ويشاركه الجميع‪ ،‬وربما كان طعامه معهم الملح‬
‫والّشعير ورديء الّتمر‪ ،‬فال يتأّفف ﷺ‪ ،‬وال يتذّم ر‪ ،‬بل يتناول ذلك برحابة صدر وبشاشة وحمد‬
‫وشكر هلل تعالى‪ ،‬بل قال ﷺ‪« :‬إذا َسَقَطْت ِم ن أَح ِدُكُم الُّلْقَم ُة‪َ ،‬فْلُيِم ْط ما كاَن بها ِم ن أًذى‪ُ ،‬ثَّم ِلَيْأُكْلها‪،‬‬
‫وال َيَدْعها ِللَّشْيطاِن ‪ ،‬فإذا َفَر َغ َفْلَيْلَعْق أصاِبَعُه‪ ،‬فإَّنه ال َيْد ِر ي في أِّي َطعاِم ِه َتُكوُن الَبَر َكُة» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫إّن هذا الّتوجيه الّنبوي الّشريف درس لكل ُم تكّبر ُم تجّبر يتأّفف ويتعالى على أكل الطعام إذا‬
‫سقط في األرض بطًر ا وكبًر ا‪ ،‬فيا لهذا الّنبي العظيم! ما أكثر شكره لرّبه! وما أعظم معرفته بنعمة‬
‫مواله! أّنها النبّو ة في أجمل صورها‪ ،‬وأبهى مشاهدها‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫َمَألى الَّس َناِبِل َتْنَح يِن ِبَت َو اُضٍع‬
‫والَف اِرَغاُت ُرُؤوُسُه ّن َش واِم ُخ‬
‫ومن تواضعه ﷺ كانت الخادمة من خادمات المدينة تأتي إليه ‪-‬بأبي هو وأمي‪ ،‬وهو سيد ولد‬
‫آدم وخاتم األنبياء‪ -‬فتأخذ بيده‪ ،‬ويذهب معها إلى حيث شاءت‪ ،‬كما جاء عن أنس بن مالك (رضي هللا‬
‫عنه) أّنه قال‪«:‬إْن كاَنِت األَم ُة ِم ن إماِء أْه ِل الَم ِديَنِة ‪َ ،‬لَتْأُخ ُذ بَيِد َر سوِل هللا ﷺ َفَتْنَطِلُق به َحْيُث‬
‫شاَء ْت » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫هل وقفتم بقلوبكم مع هذا المشهد؟!هل حضـرت أرواحكم هذا المقام وصورتموه في‬
‫أذهانكم؟!‬
‫وعنه أيًض ا أَّن اْم َر َأًة كاَن في َعْقِلها شيٌء ‪َ ،‬فقاَلْت ‪« :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إَّن لي إَلْيَك حاَج ًة‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬يا‬
‫ُأَّم ُفالٍن ! اْنُظِر ي َأَّي الِّس َكِك ِش ْئِت‪ ،‬حّتى َأْقِض َي َلِك حاَج َتِك ‪َ .‬فَخ ال معها في َبْعِض الُّطُر ِق ‪ ،‬حّتى َفَر َغْت‬
‫ِم ن حاَجِتها» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫بهذا الّتواضع والّسهولة واليسر يقف ﷺ مع امرأة ليست تاّم ة العقل‪ ،‬وتطلب منه ﷺ موعًدا‬
‫تحدده هي‪ ،‬ومكاًنا تختاره هي‪ ،‬وبرغم انشغاله ﷺ بأمور األّم ة وأعباء الّر سالة ُيلّبي طلبها‪ ،‬ويأتي‬
‫إليها في نفس المكان والوقت التي حددته‪ ،‬ويستمع إليها بإنصات‪ ،‬ويقضي حاجتها بكل تواضع‬
‫ورأفة‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن أبي أوفى (رضي هللا عنهما) قال‪« :‬كاَن رسوُل هللا ﷺ ُيْكثُر الِّذكَر ‪ ،‬وُيقُّل‬
‫الَّلغَو ‪ ،‬ويطيُل الَّص الَة‪ ،‬ويقِّص ُر الخطبَة‪ ،‬وال يأَنُف أن يمشَي مَع األرَم لِة والمسكيِن ‪ ،‬فَيْقِض َي َلُه‬
‫الحاجَة» [رواه النسائي]‪.‬‬
‫وفي مشهد آخر مهيب‪ ،‬وفي محفل رهيب؛ قام ﷺ يخطب على منبره‪ ،‬يعظ الّناس ويرشدهم‪،‬‬
‫وإذا بالحسن بن علي وفاطمة (رضي هللا عنهم)‪ ،‬يدخل المسجد وعليه قميص طويل يتعّثر فيه‪،‬‬
‫فيقطع ُخ طبته ﷺ‪ ،‬وينزل ويذهب ليحمل الحسن معه ويضعه بجانبه‪.‬‬
‫وتحضره صالة الفريضة وهو ﷺ إمام المسلمين في الّص الة وفي الحياة‪ ،‬فلّم ا حانت اإلقامة‬
‫دخل المسجد وهو يحمل أمامة بنت ابنته زينب‪ ،‬وهي طفلة صغيرة على كتفه‪ ،‬وكّبر وصّلى بالّناس‪،‬‬
‫فكان كّلما سجد وضعها‪ ،‬وكّلما قام رفعها‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحمل األطفال بُحّب ‪ ،‬ويضّم هم بحنان‪ ،‬وُيداعبهم بلطف‪ ،‬وُيعّلمهم برفق‪ .‬يزور‬
‫العجوز في بيتها‪ ،‬ويأكل طعامها‪ ،‬ويتحّدث معها‪ ،‬ويدخل البشـر عليها؛ حتى يمأل بيتها سعادة وأنًسا‪.‬‬
‫يجلس مع المساكين والضعفاء والخدم‪ ،‬فيأكل معهم خبز الّشعير على بساط واحد‪ ،‬ويتحدث‬
‫لهم كأّنه واحد منهم‪ ،‬فيعيشون أجمل لحظات العمر‪ ،‬وأسعد دقائق الّز من‪.‬‬
‫يحمل حاجة أهله‪ ،‬ويخصف نعله‪ ،‬ويرقع ثوبه‪ ،‬ويكنس بيته‪ ،‬ويحلب شاته‪ ،‬فلّم ا سأل َر ُج ٌل أم‬
‫المؤمنين عاِئشَة (رضي هللا عنها) ‪« :‬هل كان َر سوُل هللا ﷺ َيعَم ُل في َبيِتِه َشيًئا؟ قالت‪َ :‬نَعْم ‪ ،‬كان‬
‫َر سوُل هللا ﷺ َيخِص ُف َنعَلُه‪ ،‬وَيخيُط َثوَبه‪ ،‬وَيعَم ُل في َبيِته كما َيعَم ُل أَح ُدكم في َبيِته» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيقّر ب الّطعام لضيفه‪ ،‬وُيرّح ب بزّو اره‪ ،‬ويسأل عن أخبارهم‪ .‬وُيردف على الّر احلة‪،‬‬
‫فعن أسامة بن زيد (رضي هللا عنهما)‪« :‬أَّن َر سوَل هللا ﷺ َر ِك َب عَلى ِح َم اٍر عَلى َقِط يَفٍة َفَد ِكَّيٍة‪،‬‬
‫وَأْر َد َف ُأَساَم َة بَن َز ْيٍد وَر اَءُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما) قال‪َ« :‬أْر َد َف َر سوُل هللا ﷺ الَفْض َل بَن َعّباٍس َيوَم‬
‫الَّنْح ِر َخْلَفُه على َعُج ِز راِح َلِتِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يلبس الّص وف‪ ،‬ويأكل الّشعير‪ ،‬وربما مشى حافًيا‪ ،‬ونام في المسجد‪.‬‬
‫يعاون الّضعيف‪ ،‬ويتفقد الّسرية‪ ،‬ويكون في آخرهم فيساعد المحتاج‪ ،‬ويرافق الوحيد منهم‪،‬‬
‫ويقف مع المرضى يمّر ضهم‪ ،‬ومع الجرحى يداويهم‪ ،‬ومع الجوعى يطعمهم‪ ،‬ومع الجّه ال يعلمهم‪،‬‬
‫ومع الُعصاة ُيرشدهم‪ ،‬ومع الجنود ُيشّج عهم‪ ،‬ومع األيتام يكفلهم‪ ،‬ومع الُم شّر دين يؤويهم‪ ،‬ومع‬
‫المنكوبين يواسيهم‪.‬‬
‫إّنه الوالد الحاني للجميع‪ ،‬واألب الّر حيم بالكل‪ ،‬والقائد العادل لألّم ة‪ ،‬واألسوة الحسنة‬
‫لإلنسانية‪.‬‬
‫يقول عثمان بن عفان (رضي هللا عنه)‪« :‬إّنا وهللا قد َصِح بنا َر سوَل هللا ﷺ في الَّسفِر‬
‫والحَض ِر ‪ ،‬وكاَن يعوُد َم رضانا‪ ،‬ويّتبُع َج نائَز نا‪ ،‬ويغزو مَعنا‪ ،‬وُيواسينا بالقليِل والكثيِر » [رواه‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫وأرسى ﷺ بتواضعه قاعدة تبقى إلى يوم الّدين‪ ،‬وبّلغ أعظم رسالة في الّتواضع من رّب‬
‫العالمين‪ ،‬وهي‪ :‬أّن ُكل شيء ارتفع من الّدنيا أو عال أو خدع الّناس ببريقه وزخرفه فإّن له نهاية‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪ُ{ :‬كُّل َشْي ٍء َهاِلٌك ِإَّال َو ْج َه ُه َلُه اْلُح ْك ُم َو ِإَلْيِه ُتْر َجُعوَن } [القصص‪ :‬اآلية ‪.]88‬‬
‫وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه)قال‪ :‬كاَنْت ناَقٌة ِلَر سوِل هللا ﷺ ُتَسّم ى‪ :‬الَعْضباَء ‪ ،‬وكاَنْت‬
‫ال ُتْس َبُق ‪َ ،‬فجاَء أْعراِبٌّي على َقُعوٍد له َفَسَبَقها‪ ،‬فاْش َتَّد ذلَك على الُم ْسِلِم يَن ‪ ،‬وقالوا‪ُ :‬سِبَقِت الَعْضباُء !‬
‫فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪« :‬إَّن َح ًّقا على هللا أْن ال َيْر َفَع شيًئا ِم َن الُّد ْنيا إاّل وَض َعُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫لقد اختصر ﷺ هذا المشهد كّله بكلمته‪« :‬إَّن َح ًّقا على هللا أْن ال َيْر َفَع شيًئا ِم َن الُّد ْنيا إاّل‬
‫وَض َعُه»‪ ،‬فنهاية كل مشهد دنيوي تراه‪ ،‬وكل منظر يجذبك؛ إلى الفناء‪ ،‬ويبقى ما كان هلل عّز وجل‪،‬‬
‫كما قيل ‪:‬‬
‫ٍء‬
‫ِط‬
‫أال ُك ُّل شي ما خاَل هللا اب ُل‬
‫ِئ‬
‫وكُّل نعيٍم ال حَم الَة زا ُل‬
‫وبَّلغنا ﷺ عن رّبه قوله ُسبحانه‪َ{ :‬و ِع َباُد الَّر ْح َم اِن اَّلِذيَن َيْم ُشوَن َعَلى اَألْر ِض َهْو نًا َو ِإَذا‬
‫َخاَطَبُه ُم اْلَج اِه ُلوَن َقاُلوا َسَالًم ا} [الفرقان‪ :‬اآلية ‪.]63‬‬
‫فأدب المشي والوقار والّتواضع من هديه ﷺ الذي علمه رّبه‪ ،‬وعّلمه ﷺ ألمته‪.‬‬
‫وبّلغنا ﷺ عن رّبه أجمل خطاب وأجل نصيحة‪ ،‬فقال تعالى‪ِ{ :‬إَّنَك َلْن َتْخ ِر َق اَألْر َض َو َلْن‬
‫َتْبُلَغ اْلِج َباَل ُطوًال} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]37‬‬
‫ومن شريف األدب وكريم الّتوجيه ما بلغنا ﷺ عن رّبه قوله تعالى عن لقمان وهو يعظ ابنه‪:‬‬
‫{َو اْغ ُضْض ِم ْن َص ْو ِتَك ِإَّن َأْنَكَر اَألْص َو اِت َلَص ْو ُت اْلَح ِم يِر } [لقمان‪ :‬اآلية ‪.]19‬‬
‫فهي الّتربية اإليمانية والّتوجيه الّنبوي بالتواضع هلل في الهيئة والمشـي والكالم وسائر‬
‫الّتصرفات‪.‬‬
‫وأقول عن نفسي‪ :‬إّنني تمر بي مواقف يدركني فيها الّضعف البشري فتدعوني نفسي لطلب‬
‫الّتصّدر والبروز في مناسبات‪ ،‬فأتذكر تواضعه ﷺ على سمو قدره الّشريف‪ ،‬وعلو مجده المنيف‪،‬‬
‫فألوم نفسي وأنا أصغر قدًر ا من أصغر خّدامه ﷺ‪ ،‬أتذّكره ﷺ وهو يخالط الّضعفاء‪ ،‬ويأكل مع‬
‫الفقراء‪ ،‬وُيشارك العمال عملهم‪ ،‬متواضًعا في عظمته‪ ،‬سهاًل في هيبته‪.‬‬
‫ُكّلما رأيت يتيًم ا تذّكرت اليتيم األّو ل أبا األيتام ﷺ‪ ،‬وُكّلما أبصـرت مسكيًنا طاف بذهني أرحم‬
‫الّناس بالمساكين ﷺ‪ ،‬وُكّلما مّر بي موقف أو ُم ناسبة مع أصحابي فيها ما يدعو إلى الّتواضع‬
‫والبساطة تذكرناه ﷺ‪.‬‬
‫أذكر ذات يوم ركبنا سيارة قديمة‪ ،‬وكأّن بعضنا وجد غضاضة‪ ،‬فقلنا‪ :‬سيد ولد آدم ﷺ ركب‬
‫حماًر ا‪ ،‬فإن خرجنا البّر أو سافرنا إلى الّص حراء ولم نجد فراًشا وجلسنا على الّر مل ُقلنا‪ :‬أكرم الخلق‬
‫ﷺ جلس وأكل ونام على الّتراب‪ ،‬وإذا كان في الطعام ِقّلة أو لم يكن فاخًر ا كما نريد ُقلنا‪ :‬خاتم‬
‫األنبياء ﷺ أكل خبز الّشعير ورديء التمر‪ ،‬فهو معنا ﷺ بتواضعه؛ ألّنه يرشدنا وكأّنه واقف على‬
‫رؤوسنا ُيعّلمنا وُيرّبينا‪ ،‬وُكّلما حاولت الّنفس أن تتكّبر‪ ،‬وأن تطغى ذّكرناها بتواضع خليل هللا‪،‬‬
‫وصفوته من خلقه‪ ،‬محمد بن عبدهللا‪ ،‬فصّلى هللا وسّلم عليه ما تحّر ك بذكره الّلسان‪ ،‬وسارت بأخباره‬
‫الّر كبان‪ ،‬ورّدد حديثه اإلنس والجاّن ‪.‬‬
‫جّل من بّو أَك اجملد اُملنيْف‬
‫وحباك الّنبل والّس مت الّش ـريْف‬
‫فتواضعت عفاًفا وُتقى‬
‫ليتيٍم وفقٍري وضعيْف‬
‫رمحٌة أنتم من هللا َعَلى‬
‫عاِمل الُّدنيا وما كنت العنيْف‬
‫فعليك هللا صّلى ُك ّلما‬
‫هتف الُورُق على الغصن الّلطيْف‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َض اِح ًك ا‬
‫َم ن يقرأ هدَيه ﷺ في الّضحك والتبّسم يجد أّن ضحكتُه آسرٌة حانّية‪ ،‬وبسمته ُتدِخ ل الُّلطف‬
‫على القلوب‪ ،‬واُألنس على األرواح‪ ،‬حتى إّن الّص حابة رضوان هللا عليهم كانوا يعيشون أجمل‬
‫لحظات حياتهم وهم ُيشاهدون تلك اإلشراقة على ُم حّياه ﷺ‪ ،‬وينقلونها لنا وهم في غاية الّسرور‬
‫واالنشراح واالنبساط‪ ،‬فتبّسمه ﷺ يختلف عن تبّسم غيره‪ ،‬فعند تبّسمه ُيقّر ر الُعلماء أّنه رضَي الّشيء‬
‫فصار شريعة‪ ،‬وأَح َّب المشهد فصار مقبواًل ‪ ،‬وأقَّر األمر الذي تبّسم من أجله فصار نافًذا‪ ،‬فتبّسمه ﷺ‬
‫عبادة وشريعة‪ ،‬ألّنه ُم ؤّيد‪ُ ،‬م سّدد‪ ،‬معصوٌم ‪ُ ،‬م رسل من عند هللا‪.‬‬
‫وحّث ﷺ على الّتبّسم‪ ،‬وأخبر أّنه من أنواع المعروف‪ ،‬فعن أبي ذٍّر (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قال لي الَّنبي ﷺ‪« :‬ال تْح ِقَر َّن من المعُر وِف شْيًئا‪ ،‬ولْو أْن تْلقى أخاَك بوْج ٍه طْلٍق » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن االبتسامة صدقة ُيؤجر عليها الُم سلم‪ ،‬فقال‪« :‬تبُّسُم َك في وْج ِه أخيَك َلَك صدقٌة»‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وجميع من لقي رسول هللا ﷺ ونظر إلى وجهه الّشريف الُم شرق البشوش‪ ،‬وتبّسمه الّص ادق‬
‫الّنابع من قلبه الطاهر‪َ ،‬عِلم وَأقَّر بأّن وجهه ليس بوجه كّذاب وال مفتر فاالبتسامة سّنة من ُسنن‬
‫األنبياء التي تدّل على صفاء سريرتهم‪ ،‬وطيب نفوسهم‪ ،‬ورسوخ إيمانهم‪ ،‬وصفاء عقيدتهم‪ ،‬ونقاء‬
‫أرواحهم‪.‬‬
‫ِم‬
‫ِض‬
‫ْن نوِر وجهَك َتسَت ـيُء األجنُم‬
‫ِم‬
‫والَف جُر ُيشـِرُق ْن نداَك ويبسُم‬
‫حىّت كأّن البدر ُأِع طَي ملعًة‬
‫ِم‬
‫ِه‬
‫ن ُح سنَك الَبا ي َوُح سنَك أعظُم‬
‫ومن مواقف تبّسمه ﷺ ما رواه جرير بن عبدهللا البجلي (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال‪« :‬ما َر آِني‬
‫َر سوُل هللا ﷺ إاّل َتَبَّسَم في َو ْج ِه ي» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويفتخر جرير بهذا العطاء ويفرح بهذا الّسخاء‪ ،‬وكانت هذه البسمة الوارفة الّدافئة الّص ادقة‬
‫أجّل عند جرير من كل الّذكريات‪ ،‬وأسمى من كّل األمنيات‪ ،‬يبتسم الّنبّي ﷺ في وجه جرير فيمأل‬
‫روَح ه بًر ا وحناًنا ولطًفا‪ ،‬وُيشِبع قلبه سماحًة ورحمًة ووًّدا‪.‬‬
‫وأّم ا ضحكه ﷺ فهو الّلقطة الّتاريخية الّنبوية التي يسعد بها كل مؤمن ومؤمنة ويعيشها‬
‫الّص حابة بأرواحهم ووجدانهم‪ ،‬وينقلونها لنا فيقولون‪َ« :‬ضحَك حَّتى َبدْت َنواِج ُذه»‪ ،‬و«افتّر عن مثل‬
‫الَبَر د»‪ ،‬و«ضحك عن مثل الّلؤلؤ»‪ ،‬ثم يذكرون لماذا ضحك‪ ،‬ويضحكون لضحكه‪ ،‬ويستأنسون‬
‫ُألْنِسه‪.‬‬
‫فضحكته ﷺ كانت الّضحكة الساّر ة الجميلة الّر ائعة‪.‬‬
‫كان ُيرشد بمزاحه‪ ،‬وُيرّبي بتبّسمه‪ ،‬وُيدخل الّسرور بضحكه‪ ،‬فُطرفته دعوة‪ ،‬وضحكته‬
‫رسالة‪ ،‬ولمزاحه مقاصد‪ ،‬ولضحكه أسرار؛ ألّنه معصوم في ِج ّده ومزاحه‪ ،‬وفي ضحكه وُبكائه‪.‬‬
‫ورسول هللا ﷺ في ضحكه ومزاحه ودعابته وسٌط بين من جّف ُخ ُلقه‪ ،‬ويبس طبعه‪ ،‬وتجّه م‬
‫ُم حّياه‪ ،‬وعبس بوجهه‪ ،‬وبين من أكثر من الّضحك‪ ،‬واستهتر في المزاح‪ ،‬وأدمن الّدعابة والخّفة‪.‬‬
‫فكان ﷺ يضحك في بعض المناسبات حتى تبدو نواجذه‪ ،‬ولكّنه ال يستغرق في الّضحك حتى‬
‫يهتّز جسمه أو يتمايل‪ ،‬أو تبدو لهواته وهي‪( :‬أقصى الفم)‪ ،‬فعن عائشة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها)‬
‫قالت‪« :‬ما َر َأْيُت النبَّي ﷺ ُم ْس َتْج ِم ًعا َقُّط ضاِح ًكا‪ ،‬حّتى أرى منه َلهواِتِه ‪ ،‬إَّنما كاَن َيَتَبَّسُم » [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وقد ورد عنه ﷺ أّنه مازح بعض أصحابه حينما قال له‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا‪ ،‬اْح ِم ْلِني‪َ ،‬قاَل الَّنِبُّي ﷺ‪:‬‬
‫«ِإَّنا َح اِم ُلوَك على َو َلِد َناَقٍة» َقاَل ‪َ :‬و َم ا َأْص َنُع ِبَو َلِد الَّناَقِة ؟ َفَقاَل الَّنِبُّي ﷺ‪َ« :‬و َهْل َتِلُد اإلبُل إاّل‬
‫النوَق »‪« .‬أي أّن الجمل أصاًل ولُد ناقة» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫ومازح ﷺ أنًسا (رضي هللا عنه) فقال له‪« :‬يا ذا األذنين» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فكان ﷺ يمزح وال يقول إاّل حًّقا‪.‬‬
‫وضحَك ﷺ في مقام الّتشريع بإظهار سماحة الّدين وُيسر المّلة‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا‬
‫عنه)‪َ :‬أتى َر ُج ٌل الّنبَّي ﷺ َفقاَل ‪َ« :‬هَلْك ُت ‪ ،‬وَقْعُت على أْه ِلي في َر َم ضاَن ‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْعِتْق َر َقَبًة‪ ،‬قاَل ‪ :‬ليَس‬
‫لي‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فُص ْم َشْه َر ْيِن ُم َتتاِبعْيِن ‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال أْس َتِط يُع ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأْط ِع ْم ِسِّتيَن ِم ْسِك يًنا‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال أِج ُد‪َ ،‬فُأِتَي‬
‫بَعَر ٍق فيه َتْم ٌر ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬أْيَن الّساِئُل ؟ َتَصَّدْق بها‪ ،‬قاَل ‪ :‬على أْفَقَر ِم ِّني‪ ،‬وهللا ما بْيَن الَبَتْيها أْه ُل َبْيٍت‬
‫أْفَقُر ِم ّنا‪َ ،‬فَض ِح َك الّنبُّي ﷺ حّتى َبَدْت َنواِج ُذُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأنُتْم إًذا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وضحك ﷺ تعّج ًبا‪ ،‬فعن سعد بن أبي وقاص (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال‪« :‬اْس َتْأَذَن ُعَمُر على‬
‫َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬و ِع ْنَد ُه ِنساٌء ِم ن ُقَر ْيٍش ُيَكِّلْم َنُه َو َيْس َتْك ِثْر َنُه‪ ،‬عاِلَيًة َأْصواُتُه َّن ‪َ ،‬فَلّم ا اْس َتْأَذَن ُعَمُر ُقْم َن‬
‫َيْبَتِد ْر َن الِح جاَب ‪ ،‬فأِذ َن له َر سوُل هللا ﷺ‪َ ،‬و َر سوُل هللا ﷺ َيْض َح ُك ‪َ ،‬فقاَل ُعَم ُر ‪َ :‬أْض َح َك هللا ِس َّنَك ‪ ،‬يا‬
‫َر سوَل هللا! َفقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪َ :‬عِج ْبُت ِم ن َهُؤالِء الاّل تي ُكَّن ِع نِدي‪َ ،‬فَلّم ا َسِم ْعَن َص ْو َتَك اْبَتَد ْر َن‬
‫الِح جاَب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وضحَك ﷺ إقراًر ا للمسألة‪ ،‬وتصديًقا للكالم‪ ،‬فعن عبدهللا بن مسعود (رضي هللا عنه) قال‪:‬‬
‫«جاَء َر ُج ٌل ِم ن أْه ِل الِك تاِب إلى الّنبِّي ﷺ َفقاَل ‪ :‬يا أبا القاِس ِم ‪ ،‬إَّن هللا ُيْم ِسُك الَّسَم اواِت على إْصَبٍع‪،‬‬
‫واألَر ِض يَن على إْصَبٍع‪ ،‬والَّشَج َر والَّثرى على إْصَبٍع‪ ،‬والَخ الِئَق على إْصَبٍع‪ُ ،‬ثَّم يقوُل‪ :‬أنا الَم ِلُك ‪ ،‬أنا‬
‫الَم ِلُك ‪َ .‬فَر َأْيُت الّنبَّي ﷺ َض ِح َك حّتى َبَدْت َنواِج ُذُه‪ُ ،‬ثَّم َقَر َأ‪َ{ :‬و َم ا َقَدُر وا َهَّللا َح َّق َقْدِر ِه} [الزمر‪ :‬اآلية‬
‫‪ُ[ ،]67‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫وعن أبي سعيد الخدري (رضي هللا عنه) أن النبي ﷺ قال‪َ« :‬تُكوُن األْر ُض َيوَم الِقياَم ِة ُخ ْبَز ًة‬
‫واِح َد ًة‪َ ،‬يَتَكَّفُؤها الَجّباُر بَيِدِه كما َيْك َفُأ أَح ُدُكْم ُخ ْبَز َتُه في الَّسَفِر ‪ُ ،‬نُز اًل ألْه ِل الَج َّنِة ‪ .‬فأتى َر ُج ٌل ِم َن‬
‫الَيُه وِد فقاَل ‪ :‬باَر َك الَّر ْح َم ُن َعَلْيَك يا أبا القاِس ِم ‪ ،‬أال ُأْخ ِبُر َك بُنُز ِل أْه ِل الَج َّنِة َيوَم الِقياَم ِة ؟ قاَل ‪ :‬بلَى ‪،‬‬
‫قاَل ‪َ :‬تُكوُن األْر ُض ُخ ْبَز ًة واِح َد ًة‪ ...‬كما قاَل النبُّي ﷺ‪َ ،‬فَنَظَر الّنبُّي ﷺ إَلْينا‪ُ ،‬ثَّم َض ِح َك حّتى َبَدْت‬
‫َنواِج ُذُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫حتى مواقف الّر حمة في اآلخرة يذكرها لنا ﷺ ببشٍر وسروٍر وضحك‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬إِّني َألْع َلُم‬
‫آِخ َر أْه ِل الَّناِر ُخ ُر وًج ا ِم ْنها‪ ،‬وآِخ َر أْه ِل الَج َّنِة ُدُخ واًل الَج َّنَة‪َ ،‬ر ُجٌل َيْخ ُر ُج ِم َن الَّناِر َحْبًو ا‪ ،‬فَيقوُل ُهللا‬
‫َتباَر َك وَتعاَلى له‪ :‬اْذَهْب فاْد ُخ ِل الَج َّنَة‪َ ،‬فَيْأِتيها فُيَخ َّيُل إَلْيِه أَّنها َم َأْلى‪َ ،‬فَيْر ِج ُع فَيقوُل ‪ :‬يا َر ِّب‪ ،‬وَج ْدُتها‬
‫َم َأْلى‪ ،‬فَيقوُل ُهللا َتباَر َك وَتعاَلى له‪ :‬اْذَهْب فاْد ُخ ِل الَج َّنَة‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَيْأِتيها‪ ،‬فُيَخ َّيُل إَلْيِه أَّنها َم َأْلى‪َ ،‬فَيْر ِج ُع‬
‫فَيقوُل‪ :‬يا َر ِّب‪ ،‬وَج ْدُتها َم َأْلى‪ ،‬فَيقوُل ُهللا له‪ :‬اْذَهْب فاْد ُخ ِل الَج َّنَة‪ ،‬فإَّن لَك ِم ْثَل الُّد ْنيا وَعَشَر َة أْم ثاِلها‪،‬‬
‫أْو إَّن لَك َعَشَر َة أْم ثاِل الُّد ْنيا‪ ،‬قاَل ‪ :‬فَيقوُل ‪ :‬أَتْس َخ ُر بي‪ ،‬أْو أَتْض َح ُك بي‪ ،‬وَأْنَت الَم ِلُك ؟ قاَل ‪ :‬لَقْد َر َأْيُت‬
‫َر سوَل هللا ﷺ َض ِح َك حَّتى َبَدْت َنواِج ُذُه‪ .‬قاَل ‪َ :‬فكاَن ُيقاُل‪ :‬ذاَك أْد َنى أْه ِل الَج َّنِة َم ْنِز َلًة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وضحَك ﷺ لبعض األمور العجيبة الغريبة‪ ،‬وبّين ما فيها من أحكام شرعّية‪ ،‬فعن جابر بن‬
‫عبدهللا (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال‪« :‬جاَء َر ُج ٌل إلى الّنبِّي ﷺ َفقاَل ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬ر َأْيُت في الَم ناِم َكأَّن‬
‫َر ْأِس ي ُقِط َع ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَض ِح َك الّنبُّي ﷺ‪َ ،‬و قاَل ‪ :‬إذا َلِع َب الَّشْيطاُن بَأَح ِدُكْم في َم ناِم ِه ‪ ،‬فال ُيَحِّد ْث به‬
‫الّناَس »‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫وضحَك ﷺ من مزاح ودعابة بعض األعراب‪ ،‬فعن أبي هريرة(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّن الَّنبَّي‬
‫ﷺ كاَن َيْو ًم ا ُيَحِّد ُث ‪ ،‬وِع ْنَد ُه َر ُجٌل ِم ن أْه ِل الَباِدَيِة ‪ :‬أَّن َر ُج اًل ِم ن أْه ِل الَج َّنِة اْس َتْأَذَن َر َّبُه في الَّز ْر ِع‪،‬‬
‫َفَقاَل له‪ :‬أَلْس َت ِفيما ِش ْئَت ؟ َقاَل ‪َ :‬بَلى‪ ،‬وَلِكِّني ُأِح ُّب أْن أْز َر َع‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬فَبَذَر ‪َ ،‬فَباَد َر الَّطْر َف َنَباُتُه‬
‫واْسِتَو اُؤ ُه واْسِتْح َصاُدُه‪َ ،‬فكاَن أْم َثاَل الِج َباِل ‪ ،‬فَيقوُل ُهللا‪ُ :‬دوَنَك يا اْبَن آَد َم ؛ فإَّنه ال ُيْش ِبُعَك َشيٌء ‪َ .‬فَقاَل‬
‫األْع َر اِبُّي ‪ :‬وهللا ال َتِج ُدُه إاَّل ُقَر ِشًّيا أْو أْنَص اِر ًّيا؛ فإَّنُه ْم أْصَح اُب َز ْر ٍع‪ ،‬وَأَّم ا َنْح ُن َفَلْس َنا بَأْصَح اِب َز ْر ٍع‪.‬‬
‫َفَض ِح َك الَّنبُّي ﷺ» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وضحَك ﷺ للّضعف البشرّي الذي َيعرض للناس مهما كان فيهم من خير وصالح‪ ،‬فعن‬
‫عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنه)‪ ،‬قال‪َ« :‬لَّم ا َح اَص َر َر سوُل هللا ﷺ الَّطاِئَف ‪َ ،‬فَلْم َيَنْل منهْم شيًئا‪ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫إَّنا َقاِفُلوَن إْن َشاَء ُهللا‪َ .‬فَثُقَل عليهم‪ ،‬وقالوا‪َ :‬نْذَهُب واَل َنْفَتُح ُه! وقاَل َم َّر ًة‪َ :‬نْقُفُل ‪َ .‬فقاَل ‪ :‬اْغ ُدوا عَلى‬
‫الِقَتاِل ‪َ .‬فَغَد ْو ا فأَص اَبُه ْم ِج َر اٌح‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬إَّنا َقاِفُلوَن َغًدا إْن َشاَء ُهللا‪ .‬فأْع َجَبُهْم ‪َ ،‬فَض ِح َك الَّنبُّي ﷺ» [رواه‬
‫البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫وضحك ﷺ من سرعة ملل الّناس‪ ،‬وقّلة صبرهم‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪:‬‬
‫«أَّن َر ُج اًل َج اَء إلى النبِّي ﷺَيوَم الُج ُم َعِة ‪ ،‬وهو َيْخ ُطُب بالَم ِديَنِة ‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬قَح َط الَم َطُر ‪َ ،‬فاْس َتْس ِق َر َّبَك ‪.‬‬
‫َفَنَظَر إلى الَّسَم اِء وما َنَر ى ِم ن َسَح اٍب‪َ ،‬فاْس َتْس َقى‪َ ،‬فَنَشَأ الَّسَح اُب َبْعُضُه إلى َبْعٍض ‪ُ ،‬ثَّم ُم ِط ُر وا حَّتى‬
‫َساَلْت َم َثاِع ُب الَم ِديَنِة ‪َ ،‬فما َز اَلْت إلى الُج ُم َعِة الُم ْقِبَلِة ما ُتْقِلُع ‪ُ ،‬ثَّم َقاَم ذلَك الَّر ُجُل أْو َغْيُر ُه‪ ،‬والنبُّي ﷺ‬
‫َيْخ ُطُب ‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬غِر ْقَنا‪َ ،‬فاْد ُع َر َّبَك َيْح ِبْسَه ا َعَّنا‪َ ،‬فَض ِح َك ُثَّم قاَل ‪ :‬الَّلُه َّم َح َو اَلْيَنا واَل َعَلْيَنا؛ َمَّر َتْيِن أْو‬
‫َثاَل ًثا‪َ ،‬فَجَعَل الَّسَح اُب َيَتَصَّدُع َعِن الَم ِديَنِة َيِم يًنا وِش َم ااًل ‪ُ ،‬يْم َطُر ما َح َو اَلْيَنا واَل ُيْم ِط ُر منها شيٌء ‪،‬‬
‫ُيِر يِه ُم ُهللا َكَر اَم َة َنِبِّيِه ﷺ وإَج اَبَة َدْع َو ِتِه »‪ُ[ .‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫وتبّسم ﷺ من ُح سن جواب أحد أصحابه وموافقته للحق في اختياره سورة الفاتحة لتكون‬
‫ُر قيًة‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري (رضي هللا عنه) قال‪« :‬إَّن ناًسا ِم ن َأْصحاِب َر سوِل هللا ﷺ كاُنوا في‬
‫َسَفٍر ‪َ ،‬فَمُّر وا بَح ٍّي ِم ن َأْح ياِء الَعَر ِب‪ ،‬فاْس َتضاُفوُهْم َفَلْم ُيِض يُفوُهْم ‪َ ،‬فقالوا لهْم ‪ :‬هْل ِفيُكْم راٍق ؟ فإَّن‬
‫َسِّيَد الَح ِّي َلِديٌغ ‪َ ،‬أْو ُم صاٌب ‪َ ،‬فقاَل َر ُج ٌل منهْم ‪َ :‬نَعْم ‪ ،‬فأتاُه َفَر قاُه بفاِتَحِة الِك تاِب‪َ ،‬فَبَر َأ الَّر ُجُل ‪َ ،‬فُأْع ِط َي‬
‫َقِط يًعا ِم ن َغَنٍم ‪ ،‬فأبى َأْن َيْقَبَلها‪َ ،‬و قاَل ‪ :‬حّتى َأْذُكَر ذلَك للّنبِّي ﷺ‪ ،‬فأتى الّنبَّي ﷺ َفَذَكَر ذلَك له‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬يا‬
‫َر سوَل هللا‪ ،‬وهللا ما َر َقْيُت إاّل بفاِتَحِة الِك تاِب‪َ ،‬فَتَبَّسَم ﷺ َو قاَل ‪َ :‬و ما َأْدراَك أّنها ُر ْقَيٌة؟! ُثَّم قاَل ‪ُ :‬خ ُذوا‬
‫منهْم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫كان ِم َز احه ﷺ تأليًفا للقلوب‪ ،‬وتبّسمه ُأنًسا لألرواح‪ ،‬وضحكه بلسًم ا للنفوس‪ ،‬بل كّل مزحة‬
‫مكتوبة في دواوين الحديث على أّنها ُسّنة‪ ،‬وكل بسمة نقلها الّر واة على أّنها أثر وُخ ُلق من أخالقه‬
‫الشريفة‪ ،‬يبتسم بوجه أبهى من الّشمس‪ ،‬وجبين أزهى من البدر‪ ،‬وُم حّيا أجمل من الفجر‪ ،‬وفٍم أطهر‬
‫من الماء الّز الل‪ ،‬وبشاشة أندى من الغيث‪ ،‬وُخ ُلق أرّق من الّنسيم‪.‬‬
‫يمزح وال يقول إاّل حًّقا‪ ،‬فيكون مزحه على أرواح أصحابه أهنأ من قطرات الماء على الكبد‬
‫الّص ادي‪ ،‬وألطف من يد الوالد الحاني على رأس ابنه الوديع‪ ،‬يمازحهم فتنشط أرواحهم وتنشرح‬
‫صدورهم‪ ،‬وتنطلق أسارير وجوههم‪ ،‬فال وهللا ال يريدون الّدنيا كلها في مقابل جلسة واحدة من‬
‫جلساته‪ ،‬وال وهللا ال يرغبون في القناطير المقنطرة من الذهب والفضة في مقابل كلمة حانية وادعة‬
‫مشرقة من كلماته‪.‬‬
‫فسبحان َم ن رفع قدره حتى صار ضحكه ُيحفظ في بطون األسفار! كأّنه أعجب قصة من‬
‫قصص العبر والِع ظات‪ ،‬وتبارك من شّر ف منزلته حتى جعل مزحه يرويه الّثقات عن الّثقات كأّنه‬
‫فريضة قائمة‪.‬‬
‫اللهم صِّل وسِّلم على من جعلَت تبّسمه وضحكه من أمور الّشريعة‪ ،‬ومسائل المّلة‪ُ ،‬تكتب في‬
‫العبادات‪ ،‬وُتسّج ل في الطاعات‪.‬‬
‫َض ِح َك ْت بك اَألاَّي ُم اَي َعَلَم اُهْلَد ى‬
‫ِم‬
‫َواْسَتْبَش ـَرْت ِبُقُد و َك اَأْلْع َو اُم‬
‫َو َت َو َّقَف الَّتاِريُخ ِع ْنَد َك ُمْذ ِع ًنا‬
‫ِل‬
‫ِه‬
‫ْمُت ي َعَلْي َوَصْحُبَك اَألْقالُم‬
‫اْض َح ْك َأِلَّنَك ِج ْئَت ُبْش ـَرى ِلْلَوَرى‬
‫ِّس‬
‫يِف َراَحَتْيَك ال ْلُم َواِإل ْس الُم‬
‫اْض َح ْك َفبْعَثُتَك الُّصُعوُد َو َفْج ُرَه ا‬
‫ِه‬
‫ِم ِج‬
‫يالُد يٍل َما َعَلْي َظالُم‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ اَب ِكًيا‬
‫البكاء فضيلة عند رؤية الّتقصير‪ ،‬أو الخوِف من سوِء المصير‪ ،‬وهو َم ْح مدة إذا تذّكر العبد‬
‫رّبه وخاف ذنبه‪ ،‬ودليل على تقوى القلب‪ ،‬وسمّو الّنفس‪ ،‬وُطْه ر الّضمير‪ ،‬ورّقة العاطفة‪.‬‬
‫وقد نّو ه تعالى بصفة الُبكاء عند رسله األبرار فقال‪َ{ :‬و ِم َم ْن َهَدْيَنا َو اْج َتَبْيَنا ِإَذا ُتْتَلى َعَلْيِه ْم‬
‫آَياُت الَّر ْح َم اِن َخ ُّر وا ُسَّج ًدا َو ُبِك ًّيا} [مريم‪ :‬اآلية ‪ ،]58‬ووصف أولياءه الّص الحين بقوله‪َ{ :‬و َيِخ ُّر وَن‬
‫ِلَألْذَقاِن َيْبُكوَن َو َيِز يُدُهْم ُخُشوًعا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]109‬والَم أعداءه على القسوة والغلظة فقال‬
‫تعالى‪َ{ :‬أَفِم ْن َهَذا اْلَح ِديِث َتْعَج ُبوَن * َو َتْض َح ُكوَن َو َال َتْبُكوَن } [النجم‪ :‬اآلية ‪ ،]60 - 59‬وأثنى على‬
‫قوم فقال تعالى‪َ{ :‬و ِإَذا َسِم ُعوا ما ُأْنِز َل ِإَلى الَّر ُسوِل َتَر ى َأْعُيَنُهْم َتِفيُض ِم َن الَّدْم ِع ِم َّم ا َعَر ُفوا ِم َن‬
‫اْلَح ِّق } [المائدة‪ :‬اآلية ‪.]83‬‬
‫وسّيد الخاشعين لّر ب العالمين‪ ،‬وإماُم الَخلِق يوَم الّدين‪ ،‬هو خاتم المرسلين ﷺ‪ ،‬فقد كان ندّي‬
‫الجفن‪ ،‬سريع العبرة‪ ،‬سخّي الّدمع‪ ،‬رقيق القلب‪ ،‬جّياش العاطفة‪ ،‬مشبوب الحشا‪ ،‬تنطلق دمعته في‬
‫صدق وُطهر‪ ،‬ويفيض نشيجه في ُقنوت وإخباٍت‪ ،‬ويترك بكاؤه في قلوب أصحابه آثاًر ا من الّتربية‬
‫واالقتداء والّص الح ما ال تتركه الخطب البليغة‪ ،‬والمواعظ المؤثرة؛ ألّن البكاء دليل على خشوع‬
‫القلب وصفاء الّر وح‪ ،‬وهو أعظم مشهد إنسانّي للعطف والّر حمة‪ ،‬وكان رسولنا ﷺ أرّق الّناس قلًبا‪،‬‬
‫وأنقاهم روًح ا‪ ،‬وأطهرهم نفًسا‪ ،‬وكانت عيناه تفيضان بصادق الّدموع عند المواقف المؤّثرة‪ ،‬ومن‬
‫تلك المواقف‪:‬‬
‫بكاؤه ﷺ يف الصالة‪:‬‬
‫كان ﷺ يبكي في الّص الة حين مناجاته لخالقه ومواله‪ ،‬وقد سافرْت روحه تطوف حول عرش‬
‫الّر حمن‪ ،‬خشوًعا وإخباًتا‪ ،‬ودعاًء وتضرًعا‪ ،‬فعن عبدهللا بن الّشخير (رضي هللا عنه) قال‪« :‬رأْيُت‬
‫رسوَل هللا ﷺ ُيصّلى وفي صدِر ِه أزيٌز كأزيِز المرجِل مَن البكاِء » [رواه أحمد]‪ ،‬و(أزيز المرجِل ) هو‬
‫صوُت َغَليان الِقْدر‪.‬‬
‫وبكى ﷺ في صالة الكسوف خوًفا على ُأّم ته من نزول العذاب؛ كما جاء في حديث َعْبِد هللا‬
‫ْبِن َعْم ٍر و (رضي هللا عنهما) َقاَل ‪ُ« :‬كِس َفِت الَّشْم ُس َعَلى َعْه ِد َر ُسوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فَص َّلى فَأَطاَل اْلِقَياَم ‪ُ ،‬ثَّم‬
‫َر َكَع َفَأَطاَل الُّر ُكوَع‪ُ ،‬ثَّم َر َفَع َفَأَطاَل ‪ ،‬وأحسبه قال‪ِ :‬في الُّسُج وِد َنْح َو َذِلَك ‪َ ،‬و َجَعَل َيْبِك ي ِفي ُسُج وِدِه‬
‫َو َيْنُفُخ َو َيُقوُل‪َ :‬ر ِّب َلم َتِع ْد َهَذا َو َأَنا َأْس َتْغِفُر َك ‪َ ،‬ر ِّب َلْم َتِع ْد َهَذا َو َأَنا ِفيِه ْم » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وبكى الّنبّي ﷺ في صالته ليلة غزوة بدر؛ كما جاء في حديث َعِلٍّي(رضي هللا عنه) َقاَل ‪َ« :‬م ا‬
‫َكاَن ِفيَنا َفاِر ٌس َيْو َم َبْد ٍر غيَر الِم قداِد‪َ ،‬و َلَقْد َر َأْيُتَنا َو َم ا ِفيَنا إاَّل َناِئٌم ‪ ،‬إاَّل َر ُسوَل هللا ﷺ َتْح َت َشَج َر ٍة‬
‫يصِّلي َو َيْبِك ي َح َّتى َأْصَبَح» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫بكاؤه ﷺ عند مساع القرآن وتالوته‪:‬‬
‫كانت دموعه ﷺ تسيل كثيًر ا عند تالوته للقرآن أو سماعه‪ ،‬ويتأّثر ويعيش بوجدانه كّل كلمة‬
‫من هذا الّذكر الحكيم‪ ،‬فقد بكى ﷺ عند تالوة القرآن كما جاء عن عبدهللا بن عمرو بن العاص‬
‫(رضي هللا عنهما)‪« :‬أَّن الّنبَّي ﷺ َتال َقْو َل هللا عَّز وجَّل في إْبراِه يَم ‪َ{ :‬ر ِّب ِإَّنُه َّن َأْض َلْلَن َكِثيًر ا ِم َن‬
‫الَّناِس َفَم ْن َتِبَعِني} [إبراهيم‪ :‬اآلية ‪ ،]36‬وقاَل ِع يَسى عليه الّسالم‪ِ{ :‬إْن ُتَعِّذْبُهْم َفِإَّنُهْم ِع َباُدَك َو ِإْن‬
‫َتْغِفْر َلُهْم َفِإَّنَك َأْنَت اْلَعِز يُز اْلَح ِك يُم } [المائدة‪ :‬اآلية ‪َ ،]118‬فَر َفَع َيَدْيِه وقاَل ‪ :‬اللهَّم ُأَّم تي ُأَّم ِتي‪ ،‬وَبَكى»‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يبكي عند سماع القرآن‪ ،‬كما جاء عن عبدهللا بن مسعود (رضي هللا عنه) أّن الّنبّي‬
‫ﷺ قال له‪« :‬اْقَر ْأ َعَلَّي ‪ ،‬قاَل ‪ُ :‬قلُت ‪ :‬أْقَر ُأ َعَلْيَك وَعَلْيَك ُأْنِز َل ؟!‪ ،‬قاَل ‪ :‬إِّني أْش َتِه ي أْن أْس معُه ِم ن غيِر ي‪،‬‬
‫قاَل ‪َ :‬فَقَر ْأُت الِّنساَء حّتى إذا َبَلْغُت ‪َ{ :‬فَكْيَف ِإَذا ِج ْئَنا ِم ْن ُكِّل ُأَّم ٍة ِبَشِه يٍد َو ِج ْئَنا ِبَك َعَلى َهُؤ َالِء َشِه يًدا}‬
‫[النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]41‬قاَل ِلي‪ُ :‬كَّف ‪ -‬أْو أْم ِس ْك ‪َ -‬فَر َأْيُت َعْيَنْيِه َتْذِر فاِن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫بكاؤه ﷺ عند القرب‪:‬‬
‫بكى ﷺ وهو يوّدع األحباب‪ ،‬ويواريهم الّتراب‪ ،‬ويضعهم في الحفرة التي تنتهي فيها بهرجة‬
‫الّدنيا الفانية وزخارفها‪ ،‬الحفرة التي هي آخر منازل الّدنيا‪ ،‬وأّو ل منازل اآلخرة‪ ،‬أّنها القبر‪ ،‬تسيل‬
‫دموعه ويهتّز كيانه ﷺ على فراق األعّز اء على روحه‪ ،‬والقريبين من قلبه‪ ،‬بعد حياة ِم لؤها المحّبة‬
‫والوفاء‪ ،‬واإلخالص والّص فاء‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪« :‬زاَر الّنبُّي ﷺ َقْبَر ُأِّم ِه ‪َ ،‬فَبكى‬
‫َو َأْبكى َم ن َحْو َلُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ويحضر ﷺ جنازة ابنته أّم كلثوم‪ ،‬ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول المنظر‪ ،‬وتذُّكر‬
‫العاقبة‪ ،‬والتفّكر في ذاك المصير‪ ،‬وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر الُم عّبر منه ﷺ ويبكون‬
‫لبكائه‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬شِه ْدنا بْنًتا ِلَر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬وَر سوُل هللا ﷺ جاِلٌس‬
‫على الَقْبِر َفَر َأْيُت َعْيَنْيِه َتْدمعاِن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬د َخ ْلَنا مع َر سوِل هللا ﷺ عَلى َأِبي َسْيٍف الَقْيِن ‪،‬‬
‫وكاَن ِظ ْئًر ا ِإِل ْبَر اِه يَم عليه الَّساَل ُم ‪ ،‬فأَخ َذ َر سوُل هللا ﷺ إْبَر اِه يَم ‪َ ،‬فَقَّبَلُه‪ ،‬وَشَّم ُه‪ُ ،‬ثَّم َد َخ ْلَنا عليه َبْعَد‬
‫ذلَك وإْبَر اِه يُم َيُج وُد بَنْفِسِه ‪َ ،‬فَجَعَلْت َعْيَنا َر سوِل هللا ﷺ َتْذِر َفاِن ‪َ ،‬فقاَل له عبُد الَّر ْح َمِن بُن َعْو ٍف‬
‫(رضي هللا عنه)‪ :‬وَأْنَت يا َر سوَل هللا؟ َفقاَل ‪ :‬يا اْبَن َعْو ٍف إَّنَه ا َر ْح َم ٌة‪ُ ،‬ثَّم َأْتَبَعَه ا بُأْخ َر ى‪َ ،‬فقاَل ﷺ‪:‬‬
‫إَّن الَعْيَن َتْد َمُع ‪ ،‬والَقْلَب َيْح َز ُن ‪ ،‬واَل َنُقوُل إاَّل ما َيْر َض ى َر ُّبَنا‪ ،‬وإَّنا بِفَر اِقَك يا إْبَر اِه يُم َلَم ْح ُز وُنوَن »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فلم يكن بكاؤه ﷺ بكاَء تسّخ ط أو اعتراض على القدر‪.‬‬
‫بكاؤه ﷺ عند استشهاد أصحابه‪:‬‬
‫بكى ﷺ على شهداء مؤتة (رضي هللا عنهم)؛ كما جاء في حديث َأَنٍس (رضي هللا عنه)‪« :‬إَّن‬
‫الَّنِبَّي ﷺ‪َ :‬نَعى َجْعَفًر ا َو َز ْيًدا واْبَن َر واَح َة َقْبَل َأْن َيِج يَء َخ َبُر ُهْم َو َعْيَناُه َتْذِر َفاِن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبكى ﷺ وفاضت دموعه وشهق لّم ا شاهد عّم ه حمزة بن عبدالمطلب سيد الشهداء وأسد هللا‬
‫في أرضه شهيًدا‪ ،‬كما ُر وي في «مستدرك الحكم» أَّنه ﷺ لّم ا رأى حمزَة قتياًل بكى‪ ،‬فلّم ا رأى ما ُم ِّثَل‬
‫بِه شَه َق ‪ ،‬وهنا يقول شاعر اإلسالم حسان بن ثابت‪:‬‬
‫َبَك ت َعيين َوَح َّق َهلا ُبكاها‬
‫َو ما ُيغين الُبكاُء َوال الَعويُل‬
‫عَلى َأَس ِد اِإل َلِه َغداَة قالوا‬
‫ِل‬
‫أَمَحَزُة َذ َك الَرُج ُل الَق تيُل‬
‫ُأصيَب اُملسِلموَن ِبِه مَج يًعا‬
‫ُه ناَك َو َقد ُأصيَب ِبِه الّرسوُل‬
‫َأاب َيعلى َلَك اَألركاُن ُه َّدت‬
‫َوَأنَت املاِج ُد الَب ُّر الَو صوُل‬
‫َعَليَك ال ِّبَك يف ِج ناٍن‬
‫َس ُم َر‬
‫خُم اِلُطها َنعيٌم ال َيُزوُل‬
‫وكان يرّق قلُبه الّطاهر ﷺ‪ ،‬وتسيل دموُع عينيه الّشريفتين‪ ،‬عطًفا وحزًنا على ما يصيب‬
‫أصحابه من أمراض أو أذى‪ ،‬فبكى ﷺ عندما زار سعد بن عبادة (رضي هللا عنه) وقد اشتد مرُض ه‪،‬‬
‫فعن عبدهللا بن عمر (رضي هللا عنهما) قال‪« :‬اْش َتكى َسْعُد بُن ُعباَدَة َشْك وى له‪ ،‬فأتاُه الّنبُّي ﷺ َيُعوُدُه‬
‫مع عبِدالَّر ْح َمِن بِن َعْو ٍف ‪ ،‬وَسْعِد بِن َأِبي وّقاٍص ‪ ،‬وَعْبِدهللا بِن َم ْس ُعوٍد (رضي هللا عنهم)‪َ ،‬فَلّم ا َدَخ َل‬
‫عليه َفَو َج َدُه في غاِش َيِة َأْه ِلِه ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬قْد َقضى؟‪ ،‬قالوا‪ :‬ال يا َر سوَل هللا‪َ ،‬فَبكى النبُّي ﷺ‪َ ،‬فَلّم ا َر أى الَقْو ُم‬
‫ُبكاَء الّنبِّي ﷺ َبَكْو ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبكى حين زار حفيده (ابن بنته زينب)‪ ،‬وكان في مرض الموت‪ ،‬فعن أسامة ابن زيد‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬قاَم الّنبُّي ﷺ وَقاَم معُه َسْعُد بُن ُعَباَد َة‪ ،‬وُم َعاُذ بُن َجَبٍل ‪َ ،‬فُدِفَع الَّص ِبُّي إَلْيِه‬
‫وَنْفُسُه َتَقْعَقُع َكأّنها في َشٍّن ‪َ ،‬فَفاَضْت َعْيَناُه‪َ ،‬فقاَل له َسْعٌد‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما هذا؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬هِذه َر ْح َم ٌة‬
‫َجَعَلَه ا هللا في ُقُلوِب ِعَباِدِه ‪ ،‬وإَّنما َيْر َح ُم هللا ِم ن ِعَباِدِه الُّر َح َم اَء » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ولم يملك ﷺ عينيه من البكاء حين دخل على عثمان بن مظعون بعد موته‪ ،‬فقّبله وسالت‬
‫دموعه ﷺ رحمًة وشفقة‪ ،‬تقول عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬رأيُت رسوَل هللا ﷺ ُيقِّبُل ُعثماَن بَن‬
‫َم ظعوٍن َو هَو َم ِّيٌت ‪ ،‬حَّتى رأيُت الُّدموَع تسيُل » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ بفضل البكاء من خشية هللا‪ ،‬فذكر من الّسبعة الذين يظلهم ُهللا في ظِّله يوم ال ِظ ّل‬
‫إاّل ظُّله‪ ...« :‬وَر ُجٌل َذَكَر هللا خاِلًيا‪َ ،‬ففاَضْت َعْيناُه ‪[ »...‬متفق عليه]‪.‬‬
‫وصّح عنه ﷺ أّنه قال‪« :‬عينان ال تمّسهما النار أبًدا‪ :‬عين بكت وجاًل من خشية هللا‪ ،‬وعين‬
‫باتت تحرس في سبيل هللا» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فالبكاء المشروع المحمود هو ما كان من خوف هللا عّز وجل‪ ،‬وتذّكر الّر جوع إليه‪ ،‬والوقوف‬
‫بين يديه‪ ،‬والّتفّكر في آياته الّشرعية والكونّية‪.‬‬
‫والبكاء دليل على الوفاء‪ ،‬وهو من أفضل أعمال األولياء‪ ،‬خاصة إْن كان ندًم ا على معصية‪،‬‬
‫أو عنَد َفواِت طاعة‪ ،‬أو كان وجاًل من عذاٍب‪ ،‬ورحمًة لُم صاٍب‪ ،‬ورّقًة عند موعظٍة‪ ،‬وخشيًة عند‬
‫تفّكر‪.‬‬
‫وال ُيحمد البكاء على الّدنيا‪ ،‬فهي أقل وأرخص من أن ُيبكى عليها‪ ،‬فليست أهاًل لذلك‪ ،‬ولهذا‬
‫لم يكن ﷺ بالَه لوع الَج زوع الذي يأسف على َفوات الحظوظ الّدنيوية‪ ،‬ويجزع على ذهاب المكاسب‬
‫الّدنّية‪ ،‬ولم يكن بالفِر ِح الَبِط ِر القاسي الذي ال ُتؤِّثر فيه المواقف‪ ،‬وال تحّر كه األزمات‪ ،‬بل كان بكاؤه‬
‫وندمه وأسفه طاعًة هلل‪ ،‬وعبادة له‪ ،‬وخوًفا منه‪ ،‬ومرضاة له جّل في ُعاله‪ ،‬وليس كبكاء أهل الّدنيا‬
‫الذين يبكون على َفواِت حظوظهم منها‪ ،‬وذهاب نصيبهم من مغرياتها وشهواتها‪ ،‬وإّنما قلبه ُم عّلق‬
‫برّبه؛ ألّن بكاءه نتَج عن ِع ظِم معرفته بمواله‪ ،‬وقربه من خالقه‪ ،‬وصدق خشوعه ﷺ‪.‬‬
‫لقد كان أصحابه ﷺ ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف‪ ،‬ونشيجه يتعالى‪ ،‬ولصدره‬
‫أزيز‪ ،‬ولصوته هزيم فيتحّو ل المسجد إلى بكاٍء ودموٍع‪ ،‬ووجٍل وخشوٍع‪ ،‬كٌل ُينّكس رأسه‪ ،‬ويترك‬
‫الّتعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي ال تمحوه األيام‪ ،‬وال ُتنسيه الّليالي‪.‬‬
‫يا هللا! محّم د رسول هللا يقف هكذا باكًيا أمام الّناس‪ ،‬هكذا تسّح دموعه وتتساقط على وجنتيه‪،‬‬
‫وهو أعرف الّناس باهلل‪ ،‬وأدراهم بالوحي‪ ،‬وأعلمهم بالمصير! يبكي من قلب ِم لُؤه الخوف من هللا‪،‬‬
‫ومن نفس عمَر َها حّب هللا‪ ،‬فتكاد دُم وعه تتحدث للّناس‪ ،‬ويكاد بكاؤه أن يكون أبلغ من كّل موعظة‪،‬‬
‫وأفصح من كّل كلمة‪ ،‬فصّلى هللا وسلم على أصدق األمة دموًعا‪ ،‬وأعظمهم خشوًعا‪ ،‬وصّلى هللا‬
‫وسلم على أبّر من ذرفت عيناه‪ ،‬وفقنا هللا الّتباع ُهداه‪ ،‬والّسير على ُخ طاه‪.‬‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َفِص ْيًح ا‬
‫شْر ُح الّر سالة الّسماوية‪ ،‬وتوضيح الُّسنة الّنبوية‪ ،‬وتبليغ المّلة الُم ّقدسة‪ُ ،‬م هّم ة عظيمة تحتاج‬
‫إلى فصاحة باهرة‪ ،‬وبالغة خاّل بة‪ ،‬وبيان جّذاب‪ ،‬وعرض جميٍل رائق‪ ،‬ولهذا أمر هللا نبّيه الُم صطفى‬
‫ﷺ بالبالغة في القول والموعظة‪ ،‬فقال له‪َ{ :‬و ِع ْظ ُهْم َو ُقْل َلُهْم ِفي َأْنُفِس ِه ْم َقْو ًال َبِليًغا} [النساء‪ :‬اآلية‬
‫‪.]63‬‬
‫فكان من مهماته العظيمة عليه الّص الة والّسالم بيان الّر سالة للّناس كاّفة‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َو َم ا َأْنَز ْلَنا َعَلْيَك اْلِك َتاَب ِإَّال ِلُتَبِّيَن َلُه ُم اَّلِذي اْخ َتَلُفوا ِفيِه } [النحل‪ :‬اآلية ‪.]64‬‬
‫وألهّم ية الفصاحة‪ ،‬ومكانة البيان والبالغة‪ ،‬أرسل هللا تعالى مع موسى أخاه هارون عليهما‬
‫الّسالم؛ ألّن هارون أفصح من موسى لساًنا‪ ،‬وأقوى بياًنا‪ ،‬كما قال‪َ{ :‬و َأِخ ي َهاُر وُن ُهَو َأْفَص ُح ِم ِّني‬
‫ِلَسانًا َفَأْر ِس ْلُه َم ِع ي ِر ْدًء ا ُيَص ِّد ُقِني ِإِّني َأَخاُف َأْن ُيَكِّذُبوِن } [القصص‪ :‬اآلية ‪.]34‬‬
‫وهذا دليل على أهّم ية البالغة‪ ،‬ومكانة الفصاحة التي كان العرُب رّو اَدها‪ ،‬وأعظَم األمم‬
‫نبوًغا فيها‪.‬‬
‫فرسوُلنا محمد ﷺ أَتى بالمعجزة الباهرة‪ ،‬والُحّج ة القاطعة‪ ،‬فكان أفصح َم ن تكّلم بلغة الّضاد‪،‬‬
‫وأبلَغ َم ن وّص ل رسالة هللا إلى العباد‪ ،‬فقد وهبه هللا تعالى جمال العبارة‪ ،‬وأْس َر الكلمة‪ ،‬ورونق‬
‫الُج ملة‪ ،‬وُح سن مخارِج الحروف‪ ،‬وإعجاز الّلفظ‪ ،‬وإشراق الّديباجة‪ ،‬فكانت فصاحته وبالغته ﷺ من‬
‫أجّل دالئل نبّو ته‪ ،‬وأوضح عالمات عظمته‪ ،‬وأبرز مظاهر رسالته‪ ،‬فهو صاحب أفصِح لسان ُم بين‪،‬‬
‫وأظهر منطٍق ُم ستقيم‪ ،‬وأصدق الكلمات وأبلغ العبارات‪.‬‬
‫زّكى هللا تعالى كالمه ومنطقه وحديثه فقال ُسبحانه‪َ{ :‬و َم ا َيْنِط ُق َعِن اْلَهَو ى * ِإْن ُهَو ِإَّال‬
‫َو ْح ٌي ُيوَح ى} [النجم‪ :‬اآلية ‪ ،]4 -3‬وقال ُسبحانه‪َ{ :‬نَز َل ِبِه الُّر وُح اَألِم يُن * َعَلى َقْلِبَك ِلَتُكوَن ِم َن‬
‫اْلُم ْنِذ ِر يَن * ِبِلَساٍن * َعَر ِبٍّي * ُم ِبيٍن *} [الشعراء‪ :‬اآلية ‪.]195 - 193‬‬
‫فكالمه ﷺ هو الّسحر الحالل‪ ،‬والعذب الّز الل‪ ،‬يمأل القلوب بهجًة وجمااًل ‪ ،‬وُيبهر األرواح‬
‫رونًقا وفخامًة‪ ،‬سداٌد في القول‪ ،‬وإشراٌق في العبارة‪ ،‬وجماٌل في األلفاظ‪ ،‬إذا أسهب أطاب وأعجب‪،‬‬
‫وإذا أوجز أعجز‪.‬‬
‫يمّد ﷺ الحديث وقت المّد‪ ،‬فال ماللة وال سآمة‪ ،‬ويختصر وقت االختصار فال إغماض وال‬
‫إخالل‪ ،‬حاضر الُحّج ة‪ ،‬قوي الُبرهان‪ُ ،‬م قنع الدليل‪ ،‬يجد السامع لكالمه حالوة وطالوة‪ ،‬ويشعر‬
‫الُم تلقي لحديثه بُأنٍس وسعادة‪.‬‬
‫فهو ﷺ الذي بّز الُخ طباء‪ ،‬وأعجز الُبلغاء‪ ،‬وأسكت الُفصحاء‪ ،‬وأدهش الّشعراء؛ ألّنه ُم لَه م‬
‫بالّنبّو ة‪ُ ،‬م سّدد بالّر سالة‪ ،‬محفوظ بالعصمة‪ُ ،‬م حاط بالعناية‪ ،‬فُكل كلمة يقولها شريعة‪ ،‬وُكل لفظة يتلّفظ‬
‫بها دين‪ ،‬وُكل حديٍث يتفّو ه به طاعة‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫َفما َع َف ال الَغَة ُذو ياٍن‬
‫َر َب‬
‫َب‬
‫ِك‬
‫ِخ‬
‫ِإذا مَل َيَّت ذَك َلُه تااًب‬
‫فقد جعل ﷺ للفصاحة ديواًنا‪ ،‬وللبالغة ُبستاًنا‪ ،‬فهو سيد من نطق فأفصح‪ ،‬ومن تكّلم فأوضح‪،‬‬
‫ُتَدّر س كلماته في الجوامع تدريًسا‪ ،‬وُتَعّلم في دواوين الُعلماء تعليًم ا وتحفيًظا‪ ،‬ليس في عباراته همز‬
‫أو غمز أو لمز أو تبّذل أو سقوط‪ ،‬بل ُر قّي وسمّو وإبداع وإمتاع‪.‬‬
‫فمن يقرُأ كالمه ﷺ ويتدّبره حّق التدّبر يبقى أسيًر ا لهذا الّنمط الُم رّتب الجميل‪ ،‬الغالي الّنفيس‪.‬‬
‫وإّنك لُتمّيز قوله ﷺ بين أقوال آالف الّز عماء‪ ،‬والعظماء‪ ،‬والعباقرة‪ ،‬والُم بدعين‪ ،‬والّشعراء‪،‬‬
‫والُح كماء‪ ،‬واألدباء‪ ،‬وتتأكد أن محمد بن عبدهللا ﷺ قد قال هذا الحديث‪ ،‬وأّنه صاحب هذه الّر وائع‬
‫الفريدة‪ ،‬والُّدرر المجيدة‪ ،‬والجمل الّسديدة؛ ألّنه ﷺ الُم تفّر د في العالم الذي ال تشبع األرواح الطاهرة‬
‫من حديثه الّشجي‪ ،‬وال ُتروى النفوس الّز كية من معين كالمه العذب‪.‬‬
‫إّن حديثه الماتع ﷺ ُيدّر س في الجامعات‪ ،‬وُتَح ضر فيه الّر سائل والّدراسات‪ ،‬وُتَص َّنف في‬
‫إعجازه وإيجازه المصّنفات‪ ،‬فصارت كّل كلمة من كلماته عليه الّص الة والّسالم مثاًل شروًدا في‬
‫الّص دق والتأثير‪ ،‬وصار الّسطر الواحد من كالمه ﷺ منهج حياة‪ ،‬ودستور أخالق‪ ،‬وعظة كافية‬
‫شافية‪ ،‬ودرًسا بليًغا من العلم النافع‪.‬‬
‫ومن الُم تعارف عليه أّن الفصاحة والبالغة كثيًر ا ما تؤدي بأصحابها إلى الوقوع في‬
‫الُم بالغات‪ ،‬وتكّلف العبارات‪ ،‬والخروج بالكلمات عن الموضوعّية والّص دق‪ ،‬حتى إّن العرب كانوا‬
‫يقولون‪« :‬أعذب الّشعر أكذبه»‪ ،‬لكّن الّنبي الُم ختار‪ ،‬إمام األبرار كان في فصاحته وبالغته صادًقا‬
‫قواًل وفعاًل ‪ ،‬فلم ُتحفظ له في الكالم سقطة‪ ،‬ولم ُتذكر له في الحديث غلطة‪ ،‬حتى في مزاحه ﷺ كان‬
‫يتحّر ى الّص دق وعدم الخروج عن الموضوعّية‪ ،‬قال ﷺ‪ُ...« :‬ثَّم ال َتِج ُدوِني َبِخ ياًل ‪ ،‬واَل َكُذوًبا‪ ،‬واَل‬
‫َجَباًنا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الّسجع المتكّلف‪ ،‬والكالم الُم تعّسف‪ ،‬فقال لمن سجع بالّز ور والبهتان‪« :‬إَّنما هذا‬
‫ِم ن إْخ واِن الُكّه اِن » ِم ن َأْج ِل َسْج ِعِه الذي َسَج َع ‪ُ[ .‬م تفق عليه]‬
‫وكذلك كان ﷺ بعيًدا عن الّتنطِع في العبارات‪ ،‬والتشّدق في الكلمات‪ ،‬فلم يستخدم األلفاظ‬
‫الّص عبة الغريبة التي َيستعصي على الّناس فهمها‪ ،‬فيحتاجون إلى معاجم لتفسيرها‪ ،‬بل كانت كلماته‬
‫سهلة بسيطة واضحة‪ ،‬قال تعالى {ُقْل َم ا َأْس َأُلُكْم َعَلْيِه ِم ْن َأْج ٍر َو َم ا َأَنا ِم َن اْلُم َتَكِّلِفيَن } [ص‪ :‬اآلية‬
‫‪.]86‬‬
‫ونهى ﷺ عن الّتعمق في الحديث‪ ،‬وذَّم المتشدقين المتكّبرين‪ ،‬فعن جابر (رضي هللا عنه) أّن‬
‫رسول هللا ﷺ قال‪« :‬إَّن ِم ن أحِّبكم إلَّي وأقرِبُكم مِّني مجلًسا يوَم القيامِة أحاسَنُكم أخالًقا‪ .‬وإَّن‬
‫أبغَض ُكم إلَّي وأبعَدُكم مِّني يوَم القيامِة الَّثرثاروَن والمتشِّدقوَن والمتَفيِه قوَن » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫فالُيسر منهجه‪ ،‬والّسهولة طريقته‪ ،‬والّسماحة مّلته‪ ،‬في المقال‪ ،‬واألفعال‪ ،‬واألحوال‪.‬‬
‫ورغم ُأمّيته ﷺ إاّل أّنه كان إذا ارتجل أتى بكالم يفيض بالغًة وفصاحًة‪ ،‬وبراعًة ونصاعًة‪،‬‬
‫ونداوًة وطالوًة‪ ،‬وهو لم يحمل قلًم ا‪ ،‬ولم يخّط حرًفا‪ ،‬لكنه يبهر أساطين البالغة‪ ،‬ويدّو خ أساتذة‬
‫البيان‪ ،‬وُيذهل عمالقة الفصاحة‪ ،‬وُيفحم رّو اد الّلغة‪ ،‬ويقوُم في الجموع الهادرة‪ ،‬ويُدِلف في أسواق‬
‫العرب العامرة‪ ،‬ويفاجئ الجموع في المنتديات واألماكن العامة‪ ،‬فيرقى ثم يخطب فال تسمع إاّل‬
‫همًسا‪ ،‬كل اآلذان صاغية‪ ،‬والقلوب واعية‪ ،‬واألبصار شاخصة لهذا اإلمام العظيم‪ ،‬والّنبي الكريم ﷺ‪.‬‬
‫ومن الذي يشبع من كالمه ‪ -‬بأبي هو وأمي ﷺ ‪ -‬وقد ملك مقاليد اإلبداع في الّلفظ والمعنى‪،‬‬
‫واستولى على مملكة البيان نطًقا وأداًء ‪ ،‬فكان الّص حابة رضوان هللا عليهم يجلسون أمامه في جّنٍة من‬
‫الُم تعة الّر وحية‪ ،‬وفي روضة من المواهب الُقدسّية‪ ،‬وهم يستمعون لبركات الكلمات الّنبوية‪ ،‬فُسبحان‬
‫من عّلمه هذا بدون علم سابق! قال تعالى‪َ{ :‬م ا ُكْنَت َتْدِر ي َم ا اْلِك َتاُب َو َال اِإل يَم اُن َو َلِك ْن َج َعْلَناُه ُنوًر ا‬
‫َنْه ِدي ِبِه َم ْن َنَشاُء ِم ْن ِع َباِدَنا َو ِإَّنَك َلَتْه ِدي ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْس َتَقيٍم } [الشورى‪ :‬اآلية ‪.]52‬‬
‫فرسول هللا ﷺ سيد اإلقناع‪ ،‬وإمام الُحّج ة الّناصعة‪ ،‬وأمير البيان األّخ اذ الُم وحي‪.‬‬
‫ومن براعة أقواله‪ ،‬وفصاحة ألفاظه‪ ،‬ونصاعة بيانه‪ ،‬ما ابتكره ﷺ من الُج مل التي لم يسبق‬
‫أن قيلت قبله‪ ،‬وإّنما افتتحها افتتاًح ا‪ ،‬كقوله ﷺ‪« :‬ال ُيْلَد ُغ الُم ْؤ ِم ُن ِم ن ُجْح ٍر واِح ٍد َمَّر َتْيِن » [ُم تفق‬
‫عليه]‪ ،‬وقوله ﷺ‪« :‬هذا حين َحِم َي الَو ِط يُس » [رواه مسلم]‪ .‬ومعنى (حمي الَو ِط يس) أي‪( :‬اشتّدت‬
‫الحرب)‪ ،‬فكما أّنه ﷺ فتح برسالته القلوب والعقول‪ ،‬فقد فتح بفصاحته المقول والمنقول‪.‬‬
‫ومن بالغته ﷺ الّتلويح ال الّتصريح‪ ،‬حتى ال تكون الّنصيحة فضيحة‪ ،‬فكان عليه الّص الة‬
‫والّسالم يستعمل ألطف العبارات‪ ،‬وأجمل الكلمات في الّتنبيه على خطأ المخطئ‪ ،‬وذنب المذنب‪،‬‬
‫مثلما فعل مع أحد ُو الته حين قبل الهدّية أثناء عمله ُم خالًفا لُسّنته‪ ،‬فوقف ﷺ وخطب في الناس‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«إِّني أْس َتْعِم ُل الَّر ُجَل ِم نُكم على الَعَم ِل مّم ا واّل ِني هللا‪َ ،‬فَيْأتي فَيقوُل ‪ :‬هذا ماُلُكْم وهذا َهِد َّيٌة ُأْه ِد َيْت‬
‫ِلي‪ ،‬أفال َج َلَس في َبْيِت أِبيِه وُأِّم ِه حّتى َتْأِتَيُه َهِد َّيُتُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فلم يوّج ه ﷺ الخطاب للشخص الُم خطئ مباشرة‪ ،‬بل تكّلم بصيغة العموم‪ ،‬وهكذا كانت‬
‫طريقته وبالغته في إنكار األخطاء على الّناس‪.‬‬
‫ولقد ُأّلفت في بالغة كالمه وفصاحته ﷺ مؤلفات‪ ،‬وغاص العلماء في بحور عباراته‪،‬‬
‫واستخرجوا آللئ حديثه‪ ،‬وجواهر ألفاظه ﷺ‪ ،‬وأفردوا ذلك بالّتصنيف‪ ،‬وجمعوا فيها التآليف؛ ألن هللا‬
‫رزقه ُح سن البيان‪ ،‬حتى أسمع اإلنس والجان‪ ،‬وأنصت له الّثقالن‪.‬‬
‫وأدعوك اآلن أن تدخل معي في مجلسه المبارك‪ُ ،‬م ستمًعا ُم نصًتا لجالل عباراته‪ ،‬وجمال‬
‫إشاراته‪ ،‬وكمال كلماته‪ ،‬لينشرح صدرك‪ ،‬ويرتاح بالك‪ ،‬وُتسافر روحك إلى عالم الخلود‪ ،‬وتذهب‬
‫عنك الوساوس والّشكوك‪ ،‬والهموم والغموم‪ ،‬ألّنك مع المعصوم ﷺ‪ ،‬وأسوق لك بعض الّنماذج من‬
‫فصاحته وبالغته وبيانه عليه الّص الة والّسالم في أحاديث ُدّر ست في المساجد‪ ،‬وفي الجامعات‪،‬‬
‫ُّط‬
‫وعلى المنابر‪ ،‬وفي مجامع الناس‪ ،‬منها قوله ﷺ‪« :‬الُّطُه وُر َشْط ُر اإليماِن والحْم ُد ِهلل َتمُأَل الميزاَن ‪،‬‬
‫وُسْبحاَن هللا والحمُد ِهلل َتْم آَل ِن ‪َ-‬أْو َتْم ُأل‪ -‬ما بين الَّسَم اواِت واألْر ِض ‪ ،‬والَّص الُة ُنوٌر ‪ ،‬والَّص َد َقُة‬
‫ُبْر هاٌن ‪ ،‬والصبُر ِض ياٌء ‪ ،‬واْلُقْر آُن ُحَّج ٌة َلَك ‪ ،‬أْو َعَلْيَك ‪ُ ،‬كُّل الّناِس َيْغُدو َفباِيٌع َنْفَسُه َفُم ْعِتُقها‪ ،‬أْو‬
‫ُم وِبُقها» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فانظر إلى كل فاصلة من هذه الكلمات كأّنها دّر ة في عقد‪ ،‬وكأّنها جوهرة في تاج‪ ،‬كل كلمة‬
‫ُتدّر س‪ ،‬وُتشرح‪ ،‬وُتعَّلم‪ ،‬لما فيها من أسراٍر وحكٍم ومعاٍن ‪ ،‬وكل جملة أخذت قضيًة ومساًر ا غير‬
‫الجملة األخرى‪ ،‬لكّنه ﷺ جمعها في تناسق‪ ،‬فال تشعر باختالف‪ ،‬وال تضاد‪ ،‬وال تعارض‪ ،‬وال ِثقل‪،‬‬
‫وال استيحاش‪.‬‬
‫وانظر إلى هذا الحديث المؤّثر الُم شجي‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬احَفِظ َهللا َيحَفْظ َك ‪ ،‬احَفِظ َهللا َتِج ْده َأماَم َك ‪،‬‬
‫َتَعَّر ف إلى هللا في الَّر خاِء َيعِر ْفك في الِّشَّد ِة‪ ،‬وإذا سَألَت فاسَأِل َهللا‪ ،‬وإذا استَعنَت فاسَتِع ْن باهلل‪ ،‬قد‬
‫َج َّف الَقَلُم بما هو كاِئٌن ‪ ،‬فلو أَّن الَخ لَق ُكَّلهم َج ميًعا أرادوا أْن َينَفعوَك ِبَشيٍء لم َيكُتبه ُهللا عليَك ؛ لم‬
‫َيقِدروا عليه‪ ،‬وإْن أراُدوا أْن َيُض ُّر وك ِبَشيٍء لم َيكُتْبه ُهللا عليَك ؛ لم َيقِدروا عليه‪ ،‬واعَلْم أَّن في‬
‫الَّص بِر على ما َتكَر ُه َخ يًر ا َكثيًر ا‪ ،‬وأَّن الَّنَص ر مع الَّص بِر ‪ ،‬وأَّن الَفَر َج مع الَكْر ِب‪ ،‬وأَّن مع الُعسـِر‬
‫ُيسـًر ا» [رواه أحمد والترمذي]‪.‬‬
‫آمل أن تصغي بقلبك‪ ،‬وأن ُتعيد قراءة هذا الحديث مرة أخرى حتى تعيه‪ ،‬ويستقر في أعماق‬
‫روحك‪ ،‬ويسري إلى نياط قلبك؛ إّنه كالم معصوم يّتصف بالحكمة والبيان‪.‬‬
‫وأّم ا براعة القول فقد بلغ فيها ﷺ المكان األعلى‪ ،‬والمحل األسمى‪ ،‬وكان خطاُبه يأخذ‬
‫باأللباب‪ ،‬وحديُثه يسري إلى األرواح‪ ،‬وكالُم ه فائٌق ُم شرٌق يدخل إلى القلوب دون أّي استئذان‪ ،‬فقد‬
‫آتاه هللا جوامع الكلم‪ ،‬وبدائع الحكم‪ ،‬فإن كانت العرب أفصح األمم‪ ،‬فإّن الّنبي األكرم أفصحها لساًنا‪،‬‬
‫وأوضحها بياًنا‪ ،‬وأقواها برهاًنا‪.‬‬
‫آتاه هللا فصاحة عظيمة‪ ،‬وبالغة فائقة‪ ،‬ومّيزه وخّص ه ُسبحانه عن األنبياء جميًعا بجوامع‬
‫الَكِلم‪ ،‬فكان يتكّلم ﷺ الكالم القليل الُم بارك‪ ،‬فيجمع المعاني الغزيرة الكثيرة الوفيرة في ُيسر من‬
‫القول‪ ،‬وسهولة من اللفظ‪ ،‬مع نصاعة في العبارة‪ ،‬ولطف في اإلشارة‪.‬‬
‫وقد أخبرنا ﷺ بهذه الموهبة الرّبانية فقال‪ُ« :‬بِع ْثُت بَج واِم ِع الَكِلِم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فكان ﷺ إذا تكّلم أعطى المقام حّقه‪ ،‬فليس في إيجازه إخالل‪ ،‬وال في تطويله إمالل‪ ،‬بل‬
‫ُيفّص ل القول على المقام تفصيل الّثوب على الجسم‪ ،‬بال زيادة وال نقصان‪.‬‬
‫كالمه ﷺ يجذب األرواح‪ ،‬ويأسر القلوب‪ ،‬وتنصت له اآلذان‪ ،‬وتشرئب له األعناق‪ ،‬ينثر‬
‫كلماته كالّدر المنضود‪ ،‬واللؤلؤ المنظوم‪ ،‬له إشراق وبهاء‪ ،‬ورونق وصفاء‪ ،‬يفهمه الحاضر والباد‪،‬‬
‫والصغير والكبير‪ ،‬والعاِلم والعامي‪.‬‬
‫وقد وصفت أم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) كالمه فقالت‪« :‬ما كان رسوُل هللا ﷺ َيسُر ُد‬
‫َسْر َدكم هذا‪ ،‬ولكّنه كان يتكَّلُم بكالٍم َبَّين َفْصل يحفُظه من جَلس إليه» [رواه الترمذي] وقالت‬
‫(رضي هللا عنها) ‪« :‬إَّن النبَّي ﷺ‪ ،‬كاَن ُيَحِّد ُث َح ِديًثا لو َعَّد ُه العاُّد َأَلْح َص اُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫بل إّن بعض كلماته ﷺ أّلف فيها الحافظ بن ناصر الدمشقي ُم جّلًدا كاماًل ‪ ،‬كحديث‪َ« :‬كِلَم تاِن‬
‫َخ ِفيَفتاِن عَلى الِّلساِن ‪َ ،‬ثِقيَلتاِن في الِم يزاِن ‪َ ،‬ح ِبيَبتاِن إلى الَّر ْح َم ِن ‪ُ ،‬سْبحاَن هللا وِبَح ْم ِدِه ‪ُ ،‬سْبحاَن هللا‬
‫الَعِظ يِم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فأخرج من الحديث كّل معنى بليغ‪ ،‬وكل دّر ة ثمينة‪ ،‬وكل كنز نفيس‪ ،‬وأتى بالغرائب‬
‫والعجائب‪ ،‬والّشوارد والفرائد‪ ،‬وبسط القول ُم علًقا على هذا الحديث الّنبوي‪ ،‬مستشهًدا بشهادات‬
‫أساطين البيان‪ ،‬ورّو اد البالغة‪.‬‬
‫وقد أّلف أحد العلماء كتاًبا كاماًل في «سّيد االستغفار»‪ ،‬والذي جمع من أسرار البالغة‪،‬‬
‫وأنوار القداسة‪ ،‬وفتوحات الّنبوة‪ ،‬ما ال يدور في الخيال‪ ،‬وال يخطر في البال؟‬
‫وإّنك لتقرأ الّسطر من حديثه ﷺ فإذا هو قاعدة ُكّلية في الحياة‪ ،‬يكفيك عن ُم جلداٍت من كالم‬
‫الّناس‪ ،‬وإّنك لتطالع الكلمة من كلماته ﷺ فتقف أمامها مشدوًها مذهواًل مأسوًر ا‪ ،‬إن كان عندك ُحّب‬
‫للبيان وعشق للفصاحة‪ ،‬وأين ُيوجد البيان إاّل في كالمه‪ ،‬وأين ُيوجد اإلشراق واإلبهار واإلعجاب‬
‫والّر وعة إاّل في حديثه ﷺ؟!‬
‫فانظر مثاًل إلى قوله ﷺ‪« :‬اَّتِق هللا َحْيث ُكْنَت ‪ ،‬وَأْتِبِع الَّسِّيَئَة اْلحسنَة َتْم ُحَه ا‪ ،‬وَخ الِق الَّناَس‬
‫بُخ ُلٍق َحَسٍن » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫هذا الحديث شرحه بعض العلماء في أكثر من خمسين صفحة‪ ،‬استغرق كّل الوصايا التي‬
‫ُيمكن أن يقولها آالف العلماء‪ ،‬وآالف الّشعراء‪ ،‬وآالف الُح كماء في سطر واحد‪.‬‬
‫هذا الحديث الوجيز القصير قاعدة كلية في األخالق‪ ،‬فهو خطبة كافية‪ ،‬وموعظة شافية‪:‬‬
‫«اتق هللا حيثما كنت» رسالة نبوية معصومة لقلب كل مسلم ومسلمة‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬وأتبع السيئة الحسنة تمحها»‪ ،‬إرشاٌد نبوّي كريم فيه من اإليجاز واإلعجاز ما‬
‫يفوق الوصف‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬وخالق الّناس بخلق حسن» كلمة ُم باركة شافية في علم األخالق والّتعامل مع‬
‫الناس‪.‬‬
‫وعن سفيان بن عبدهللا الّثقفي (رضي هللا عنه)‪ُ :‬قلُت ‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ُ ،‬قْل لي في اإلْس الِم َقْو اًل‬
‫ال أْس َأُل عْنه أَح ًدا َبْعَدَك ‪ ،‬قاَل ‪ُ« :‬قْل‪« :‬آَم ْنُت باهلل‪ ،‬ثم اْس َتِقم» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫جاء هذا الحديث الّنبوي في جملة واحدة‪ ،‬واستوعب كل أمور الّدين‪ ،‬وجمع مسائل المّلة‪ ،‬ولم‬
‫يترك شاردة وال واردة في الّر سالة الُم حّم دية إاّل شملها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬قوله ﷺ‪« :‬الِبُّر ُح سُن الُخ ُلِق ‪ ،‬واإلْثُم َم ا َح اَك ِفي َنْفِس َك َو كِر ْه َت أْن يَّطِلَع َعَليِه‬
‫الَّناُس » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فمن بالغته ﷺ الّناصعة وفصاحته الباهرة أّنه في هذا الحديث عّر ف «ُح سَن الُخ ُلق» بلفظ‬
‫وجيز يجمع كل المحاسن‪ ،‬وعّر ف «اإلثم» بتعريف يجمع كل اآلثام في سطر واحد‪.‬‬
‫وأسألك باهلل‪ :‬لو ُعرض هذا السؤال على غير الّنبي المعصوم ﷺ أفصح َم ن َتكّلم وقيل له‪ :‬ما‬
‫البر؟ وما اإلثم؟ فهل يهتدي لهذا الجواب البليغ الموجز الفصيح الجامع الّشامل؟! كاّل وربي! ال‬
‫يهتدي لذلك إاّل محمد ﷺ‪.‬‬
‫وانظر لقوله ﷺ لّم ا سأله ُعقبة بن عامر (رضي هللا عنه)‪ :‬ما الّنجاة؟‪ ،‬فقال له ﷺ‪« :‬أمِس ْك‬
‫عليَك لساَنَك ‪ ،‬وليسْعَك بيُتك‪ ،‬وابِك على خطيئِتَك » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫شرح هذا الحديث بعض العلماء في درس كامل‪ ،‬وآخرون في عشـرات الّص فحات‪ ،‬وقد قاله‬
‫ﷺ على البديهة‪ ،‬فهو وحي ُيوحى إليه‪ ،‬لم ُيحّضر له‪ ،‬ولم ُيِك ّد ذهنه في استخراج درره‪ ،‬وإّنما جرى‬
‫سليقة من فمه الّطاهر‪ ،‬وعلى لسانه الّطيب الُم بارك‪.‬‬
‫هذه الفواصل الّثالث هي التي ُتنجي اإلنسان من غضب الّديان‪ ،‬وُتوصله إلى رضوان‬
‫الّر حمن‪ ،‬فقوله‪« :‬كَّف عليك لسانك»‪َ ،‬أوَج ز لفظ في أدب الّلسان وتعلم الّص مت على اإلطالق‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬وليسعك بيتك»‪ ،‬تحمل معاني العزلة عن الّشر‪ ،‬والخلوة بكل نافع مفيد‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬وابك على خطيئتك»‪ ،‬فيها االنكسار‪ ،‬واألسف‪ ،‬والّندم على الّذنب‪ ،‬والّتوبة من‬
‫المعصية‪ ،‬وزجر الّنفوس عن الغّي ‪ ،‬وكّف الّناس عن اآلثام‪ ،‬فصلى هللا وسلم عليه ما أبلغ قيله! وما‬
‫أحسن تفصيله!‬
‫إن الحديث عن كلماته الموجزة المعجزة الباهرة يحتاج لمجلدات‪ ،‬ونكتفي بذكر بعضها‬
‫باختصار كقوله ﷺ‪« :‬الِّد يُن الَّنِص يَح ُة‪ُ .‬قْلنا‪ِ :‬لَم ْن ؟ قاَل ‪ :‬هلل وِلِك تاِبِه وِلَر سوِلِه وَألِئَّم ِة الُم ْسِلِم‬
‫وعاَّم ِتِه ْم » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬الُّظْلُم ُظُلماٌت َيوَم الِقياَم ِة » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬الّناُس َم عاِد ُن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪َ« :‬دْع ما َيريُبَك ‪ ،‬إلى ما ال َيريُبَك ؛ فإَّن الِّص دَق ُطَم أنينٌة‪ ،‬وإَّن الَكِذ َب ريبٌة» [رواه‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬الُم ستشاُر ُم ؤتمٌن » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬إنما األعمال بالنّيات» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪« :‬ال ُيْؤ ِم ُن أَح ُدُكْم ‪ ،‬حّتى ُيِح َّب ألِخ يِه ما ُيِح ُّب ِلَنْفِسِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقوله ﷺ‪ُ« :‬كُّلُكْم راٍع‪ ،‬وُكُّلُكْم َم ْس ؤوٌل عن َر ِعَّيِتِه » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من كلماته العطرة الجامعة الكافية الّشافية ﷺ‪.‬‬
‫واسمع لحّبات الّدر التي تناثرت من فمه الّشريف ﷺ‪:‬‬
‫عن أنس بن مالك(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّن الّنبَّي ﷺ كاَن ِفي َسَفٍر ‪ ،‬وكاَن ُغالٌم َيْح ُدو بِه َّن ُيقاُل‬
‫له‪ :‬أْنَج َشُة‪َ ،‬فقاَل الّنبُّي ﷺ‪ُ :‬ر َو ْيَدَك يا أْنَج َشُة َسْو َقَك بالَقواِر ير» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول لسلمة بن األكوع (رضي هللا عنه) بعد أن طارد بعض المنتهبين‪َ« :‬م َلْك َت فأْس ِج ْح »‬
‫[ُم تفق عليه]‪ ،‬يعني‪« :‬قدرت عليهم فاعف عنهم»‪.‬‬
‫ويقول ﷺ في الّر د على من أشار إليه من الّص حابة بقتل رأس المنافقين عبدهللا ابن ُأبّي بن‬
‫سلول‪« :‬ال َيَتَح َّد ُث الَّناُس أَّن ُم َح َّم ًدا َيْقُتُل أْصَح اَبُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول ﷺ يوم ُح نين وقد فّر كثير من الّناس‪ ،‬وثبت هو ﷺ‪« :‬أنا الَّنبُّي ال َكِذ ْب ‪ ،‬أنا ابُن عبِد‬
‫الُم َّطِلْب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويكتب ﷺ رسالة إلى هرقل فيقول فيها‪« :‬أسِلْم تسَلْم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فأعمل ذهنك في هاتين الكلمتين تجدها َح َو ت كل ما ُيمكن أن ُيقال في هذا الباب‪ ،‬فُسبحان من‬
‫أعطاه جوامع الكلم!‪.‬‬
‫وانظر إلى وصّيته ﷺ لمعاذ (رضي هللا عنه) وهو يشير إلى لسانه ويقول‪ُ« :‬كّف عليك‬
‫هذا»! هذه العبارة وحدها تكفي عن آالف المحاضرات‪ ،‬وآالف الُخ طب‪ ،‬وآالف الّر سائل‪.‬‬
‫ويقول ﷺ عن فضل الجود والعطاء وذّم مسألة الّناس‪« :‬اليد الُعليا خيٌر من اليد الُّسفلى»‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫انتهى الكالم عند هذا‪ ،‬فال شرح وال مزيد فوق هذا الّر قي البياني‪ ،‬واإلقناع الّلفظي‪.‬‬
‫واآلن ارجع البصر كرتين إلى هذا الكالم الّنافذ المؤثر الحاّر الّص ادق المنبعث من الّضمير‬
‫الحّي ‪ ،‬المنسكب من القلب الّطاهر وكأّنه زّخ ات الغيث على األرض الجدباء‪ ،‬أو تدفق الّنهر العْذب‬
‫الّز الل البارد على الّص حراء‪.‬‬
‫لقد رزق هللا نبّيه عليه الّص الة والّسالم البيان في أبهى ُح لله‪ ،‬وأجمل صوره‪ ،‬وفتح عليه‬
‫بفيض رّباني من الحديث الُم بهر المعجز‪.‬‬
‫انظر لهذا الحديث المليء بالقواعد الكلّية في الّشريعة مع ُح سن الّترتيب‪ ،‬وقوة اإلقناع‪،‬‬
‫وجمال العرض‪ ،‬وضرب المثل‪ ،‬في بالغة تسلب األرواح‪ ،‬وتسبي القلوب‪ ،‬فعن النعمان بن بشير‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬سِم ْعُت َر سوَل هللا ﷺ يقوُل‪ :‬إَّن الَح الَل َبِّيٌن ‪ ،‬وإَّن الَح راَم َبِّيٌن ‪ ،‬وبْيَنُه ما‬
‫ُم ْش َتِبهاٌت ال َيْعَلُم ُه َّن َكِثيٌر ِم َن الّناِس ‪َ ،‬فَم ِن اَّتقى الُّشُبهاِت استبَر أ ِلِديِنِه ‪ ،‬وِع ْر ِض ِه ‪ ،‬وَم ن وَقَع في‬
‫الُّشُبهاِت وَقَع في الَح راِم ‪ ،‬كالّر اِع ي َيْر عى َحْو َل الِح مى‪ُ ،‬يوِش ُك أْن َيْر َتَع ِفيِه ‪ ،‬أال وإَّن ِلُكِّل َم ِلٍك ِح َم ى‪،‬‬
‫أال وإَّن ِح َم ى هللا َم حاِر ُم ُه‪ ،‬أال وإَّن في الَجَسِد ُم ْض َغًة‪ ،‬إذا َص َلَح ْت َص َلَح الَجَسُد ُكُّلُه‪ ،‬وإذا َفَسَدْت َفَسَد‬
‫الَجَسُد ُكُّلُه‪ ،‬أال وهي الَقْلُب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ما هذا الكالم الذي ُيذعن له الفكر‪ ،‬ويبهج الخاطر‪ ،‬حتى صار هذا الحديث قاعدة كلّية من‬
‫قواعد الّدين؟! وهو من األربعين الّنووية‪ ،‬وأصل من أصول الّشريعة في أسطر معدودة‪.‬‬
‫وانظر إلى بالغته وفصاحته في ُدعائه ﷺ‪ ،‬وُح سن تنسيقه‪ ،‬وجمال ترتيبه‪ ،‬وبديع تقسيماته‪،‬‬
‫وروعة إشراقاته‪ ،‬كقوله ﷺ‪« :‬اللهَّم إِّني أُعوُذ بَك ِم َن اَلهِّم والَح َز ِن ‪ ،‬والَعْج ِز والَكَسِل ‪ ،‬والُبْخ ِل ‪،‬‬
‫والُجْبِن ‪ ،‬وَض َلِع الَّد ْيِن ‪ ،‬وَغَلَبِة الِّر جاِل » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫باهلل عليكم! هل يستطيع أي زعيم‪ ،‬أو كاتب‪ ،‬أو خطيب‪ ،‬أو شاعر‪ ،‬أن يقول مثل هذا الّدعاء‬
‫الُم عجز‪ ،‬الُم فحم‪ ،‬الُم بارك‪ ،‬الُم ؤثر؟!‬
‫لقد جمع هذا الحديث كل أسباب الّسعادة الّدنيوية واألخروّية‪ ،‬فسبحان من بالحق أنطقه‪،‬‬
‫وأعانه على إبالغ الّر سالة بأجمل بيان وصّدقه!‪.‬‬
‫ويقول عليه الّص الة والّسالم في دعاء الّليل كما جاء في «صحيح مسلم»‪« :‬الَّلُه َّم َر َّب‬
‫ِج ْبَر اِئيَل ‪َ ،‬و ِم يَكاِئيَل ‪ ،‬وإْس َر اِفيَل ‪َ ،‬فاِط َر الَّسَمَو اِت َو األْر ِض ‪َ ،‬عاِلَم الَغْيِب َو الَّشَه اَد ِة‪َ ،‬أْنَت َتْح ُكُم بْيَن‬
‫ِعَباِد َك ِفيما َكاُنوا فيه َيْخ َتِلُفوَن ‪ ،‬اْه ِدِني ِلما اْخ ُتِلَف فيه ِم َن الَح ِّق بإْذِنَك ‪ ،‬إَّنَك َتْهِدي َم ن َتَشاُء إلى‬
‫ِص َر اٍط ُم ْس َتِقيٍم »‪.‬‬
‫ما هذه الّنصاعة‪ ،‬والبراعة‪ ،‬والفصاحة‪ ،‬والبالغة في دعائه لرّبه؟! هنا تجد مع جمال الكلمة‬
‫وُح سن العبارة قمة الّطاعة وذّر وة العبودّية هلل رّب العالمين‪.‬‬
‫وال أنسى في عمري أحد العلماء وهو يحدثنا في مجلٍس عن بالغته ﷺ وفصاحته‪ ،‬ثم يسوق‬
‫لنا دعاءه ﷺ في الّليل كما جاء في «الّص حيحين»‪« :‬الَّلُه َّم لَك الَح ْم ُد أْنَت ُنوُر الَّسَمَو اِت واألْر ِض ‪،‬‬
‫وَلَك الَح ْم ُد أْنَت َقِّيُم الَّسَمَو اِت واألْر ِض ‪ ،‬وَلَك الَح ْم ُد أْنَت َر ُّب الَّسَمَو اِت واألْر ِض وَم ن ِفيِه َّن ‪ ،‬أْنَت‬
‫الَحُّق ‪ ،‬وَو ْعُدَك الَحُّق ‪ ،‬وَقْو ُلَك الَحُّق ‪ ،‬وِلَقاُؤَك الَحُّق ‪ ،‬والَج َّنُة َحٌّق ‪ ،‬والَّناُر َحٌّق ‪ ،‬والَّساَعُة َحٌّق ‪ ،‬الَّلُه َّم‬
‫لَك أْس َلْم ُت ‪ ،‬وِبَك آَم ْنُت ‪ ،‬وَعَلْيَك َتَو َّكْلُت ‪ ،‬وإَلْيَك أَنْبُت ‪ ،‬وِبَك َخ اَص ْم ُت ‪ ،‬وإَلْيَك َح اَكْم ُت ‪َ ،‬فاْغ ِفْر لي ما‬
‫َقَّد ْم ُت وأَّخ ْر ُت ‪ ،‬وأْس َر ْر ُت وأْع َلْنُت ‪ ،‬أْنَت إَلِه ي ال إَلَه إاَّل أْنَت »‪.‬‬
‫وإليك الحديث الذي رواه البخاري‪ ،‬وهو دليل لفظي بذاته على نبّو ة سيد ولد آدم ﷺ‪ ،‬اسمع‪،‬‬
‫وأنصت‪ ،‬واقرأ‪« :‬اللهَّم َأْنَت َر ِّبي‪ ،‬ال ِإَله ِإاّل َأْنَت ‪َ ،‬خ َلْقَتني وَأَنا َعْبُدَك ‪ ،‬وَأَنا على عْهِد َك ووْعِد َك ما‬
‫اْس َتَطْعُت ‪َ ،‬أُعوُذ ِبَك ِم ْن َشِّر ما صَنْعُت ‪َ ،‬أبوُء َلَك ِبِنْعمِتَك عَلَي ‪ ،‬وَأُبوُء بَذْنبي َفاْغ ِفْر لي‪َ ،‬فِإَّنُه ال يْغِفُر‬
‫الُّذُنوِب ِإاَّل َأْنَت »‪.‬‬
‫وأنا أتركك لتتأمل الفقرات والفواصل‪ ،‬وتعيد وتبدي في كل كلمة‪ ،‬وتسأل نفسك‪ :‬هل يقول‬
‫هذا شخص عادي مهما بلغ في البالغة‪ ،‬وامتلك من الفصاحة؟‬
‫وكان إذا صعد ﷺ المنابر تكلم بداهًة بما أذهل الجمهور‪ ،‬واستمال الجموع‪ ،‬وأنصتت له‬
‫القبائل‪ ،‬وكان ﷺ قبل أن يتكلم طويَل الّص مت مّم ا أكسبه جاللة ومهابة‪ ،‬وحالوة ونجابة‪ ،‬فال يتكلم‬
‫حتى تشتاق لحديثه األرواح‪ ،‬وتشخص إلى شخصه األبصار‪ ،‬وقد صانه هللا من طريقة الّثرثارين‬
‫والمكثرين‪ ،‬فكان ذا منطق نبوّي معصوم‪ ،‬ذا حديث بنور الّر سالة مرسوم‪.‬‬
‫كالمه شريعة‪ ،‬وقوله وحي‪ ،‬وحديثه ُسّنة ُم طّه رة‪ ،‬كل لفظة من ألفاظه دّر ة في عقد المّلة‬
‫المحمدية‪ ،‬وكل جملة من جمله لؤلؤة في تاج الّنبوة الخالدة‪ ،‬ال يوجد في حديثه ﷺ ُم عاظلة في‬
‫األلفاظ‪ ،‬وال هزال في المعنى‪ ،‬وال نفرة‪ ،‬وال اضطراب‪ ،‬فهو ُم تمّيز الحدود‪ ،‬حسن الّسبك‪ ،‬قوي‬
‫الّداللة‪ ،‬ظاهر البرهان‪ ،‬ليس فيه عجز وال تقصير‪ ،‬وال وهن وال ضعف‪.‬‬
‫إّنه أعظم بياٍن تكّلم به بشر‪ ،‬وكان ﷺ إذا خطب مأل الّز مان والمكان واإلنسان إقناًعا‪،‬‬
‫وإعجاًبا‪ ،‬وإيماًنا‪ ،‬وإذا تكّلم على المنبر عال صوته‪ ،‬واشتّد غضبه‪ ،‬واحمّر ت عيناه‪ ،‬كأّنه ُم نذر جيش‬
‫يقول‪ :‬صّبحكم ومّساكم‪.‬‬
‫وانظر إلى الخطبة الّتاريخية العالمّية الّر بانية التي ألقاها ﷺ في يوم عرفة في حجة الوداع‪،‬‬
‫خطبة ما دّو ى في األرض مثلها‪ ،‬وما ُسِم ع في العالم ما يشبهها‪ ،‬تكّلم عن توحيد الباري جَّل في‬
‫ُعاله‪ ،‬وعن العدل والمساواة واإلخاء‪ ،‬وفضل الّتقوى‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وحقوق المرأة‪ ،‬والمال‬
‫العام‪ ،‬وحفظ الّدماء واألموال واألعراض‪ ،‬ثم استشهد الّناس وقال‪َ« :‬قْد َتَر ْك ُت ِفيُكْم ما َلْن َتِض ُّلوا‬
‫َبْعَد ُه إِن اْع َتَص ْم ُتْم به‪ِ ،‬ك َتاُب هللا‪َ ،‬و َأْنُتْم ُتْس َأُلوَن َعِّني‪َ ،‬فما َأْنُتْم َقاِئُلوَن ؟ قالوا‪َ :‬نْش َه ُد أَّنَك قْد َبَّلْغَت‬
‫َو َأَّدْيَت َو َنَصْح َت ‪َ ،‬فقاَل بإْصَبِعِه الَّسَّباَبِة ‪َ ،‬يْر َفُعَه ا إلى الَّسَم اِء َو َيْنُكُتَه ا إلى الَّناِس ‪ :‬اللهَّم اْش َه ْد‪ ،‬اللهَّم‬
‫اْش َه ْد» َثاَل َث َم َّر اٍت‪[ .‬رواه مسلم]‪ .‬بصوت ُيجلجل في الفضاء‪ ،‬ويصعد إلى الّسماء‪ ،‬ويهّز األرجاء‪،‬‬
‫فيرتجف المكان‪ ،‬ويقف الّز مان‪ ،‬وينبهراإلنسان‪.‬‬
‫وجاء في «صحيح ُم سلم» َعِن اْبِن َعَّباٍس قال‪ :‬إَّن «ِض ماًدا» َقِد َم َم َّكَة‪َ ،‬و كاَن ِم ن َأْز ِد َشُنوَء َة‪،‬‬
‫َو كاَن َيْر ِقي ِم ن هِذه الِّر يِح‪َ ،‬فَسِم َع ُسَفهاَء ِم ن َأْه ِل َم َّكَة يقولوَن ‪ :‬إَّن ُمَحَّم ًدا َم ْج ُنوٌن ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬لو َأِّني َر َأْيُت‬
‫هذا الَّر ُجَل ‪َ ،‬لَعَّل هللا َيْش ِفيِه على َيَد َّي ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَلِقَيُه‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬يا ُم َح َّم ُد‪َ ،‬أِّني َأْر ِقي ِم ن هِذه الِّر يِح‪ ،‬وإَّن هللا‬
‫َيْش ِفي على َيَد َّي َم ن شاَء ‪َ ،‬فهْل َلَك ؟‪َ ،‬فقاَل َر سوُل هللا ﷺ‪ :‬إَّن الَح ْم َد هلل‪َ ،‬نْح َم ُدُه َو َنْس َتِع يُنُه‪َ ،‬م ن َيْهِدِه‬
‫هللا فال ُمِض َّل له‪َ ،‬و َم ن ُيْض ِلْل فال هاِد َي له‪َ ،‬و َأْش َه ُد َأْن ال إَلَه إاّل هللا‪َ ،‬و ْح َد ُه ال َشِر يَك له‪َ ،‬و أَّن ُم َح َّم ًدا‬
‫َعْبُدُه َو َر سوُلُه‪َ ،‬أّم ا َبْعُد‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فقاَل ‪َ :‬أِع ْد َعَلَّي َكِلماِتَك َهُؤالِء ‪ ،‬فأعاَد ُهَّن عليه َر سوُل هللا ﷺ‪َ ،‬ثالَث‬
‫َمّر اٍت‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فقاَل ‪ :‬لَقْد َسِم ْعُت َقْو َل الَكَه َنِة ‪َ ،‬و َقْو َل الَّسَح َر ِة‪َ ،‬و َقْو َل الُّشَعراِء ‪َ ،‬فما َسِم ْعُت ِم ْثَل َكِلماِتَك‬
‫َهُؤالِء ‪َ ،‬و لَقْد َبَلْغَن ناُعوَس الَبْح ِر ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فقاَل ‪ :‬هاِت َيَدَك ُأباِيْعَك على اإلْس الِم ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فباَيَعهُ» ‪.‬‬
‫فانظر إلى ضماد األزدي جاء لُيعالج الّنبي ﷺ من الجنون على حّد زعمه‪ ،‬وما هي إاّل‬
‫كلمات نبوّية ُم باركات‪ ،‬طّيبات‪ ،‬طاهرات‪ ،‬تطرق أذنه‪ ،‬فيتحّو ل من كافر إلى مؤمن‪ ،‬ومن غاٍو إلى‬
‫راشد‪ ،‬ومن ضال إلى ُم هتد‪.‬‬
‫وهل عرف العالم افتتاحية في الخطابة كهذه االفتتاحية الُم عجزة‪ ،‬الُم تناسقة‪ ،‬المُؤ ّثرة‪ ،‬التي‬
‫تحمل كل معاني الّتقديس هلل‪ ،‬والحمد والّشكر والّثناء‪ ،‬في ترتيب عجيب‪ ،‬وفي أسلوب غريب‪ ،‬وفي‬
‫انتظام جميل؟! فصلى هللا وسلم عليه‪ ،‬ما أدمغ كالمه! وما أعذب حديثه! وما أحسن قوله!‪.‬‬
‫ُسبحان من كسا كالم نبّيه المعصوم ﷺ جلباب القبول‪ ،‬وسكب فيه من الحالوة والّطالوة ما‬
‫يسبي العقول‪ ،‬فكأنه زّخ ات الغيث المدرار‪ ،‬أو عقود اللؤلؤ على صدور األبكار‪ ،‬قوة إقناع‪ ،‬وبراعة‬
‫إمتاع‪ ،‬يقطف لك ثمار الُخ طب‪ ،‬كقطف الزّر اع ألذ الُّر طب‪.‬‬
‫ومّم ا ُيجّم ل قوله ﷺ وُيحّليه‪ ،‬وُيطّه ره وُيزّكيه؛ الّص دق البّيُن الواضح وضوح الّشمس في‬
‫رابعة الّنهار‪ ،‬واإلخالص الُم تدّفق من فمه الّشريف تدّفق األنهار‪.‬‬
‫وإّنني أدعو في هذا الفصل القائمين على المدارس والجامعات والمعاهد في بالد اإلسالم إلى‬
‫االهتمام بالميراث الُم قّدس من تركته ﷺ‪ ،‬وحديثه الّشـريف‪ ،‬وُسّنته الُم طّه رة‪ ،‬ليثقفوا الجيل‪ ،‬ويدّر بوا‬
‫األبناء والبنات على تفّه م كالمه ﷺ‪ ،‬والتمتع بألفاظه الّشريفة الُم نيفة؛ ألن قراءة حديثه عبادة‪،‬‬
‫وُم طالعة ألفاظه طاعة‪ ،‬وُم تابعة قوله ُسّنة‪ ،‬واالقتداء به نجاة‪ ،‬والتعّلق بميراثه فوز كبير‪.‬‬
‫فصلى هللا وسّلم صالًة وسالًم ا كاملين دائمين على من أفحم بحديثه الُشعراء والُح كماء‬
‫والبلغاء والفصحاء‪ ،‬والخاصة والعامة‪ ،‬والّص غار والكبار‪ ،‬فهو صاحب البالغة اآلسرة‪ ،‬والفصاحة‬
‫الباهرة‪ ،‬والُسّنة العاطرة‪.‬‬
‫كلي خجل وأنا أمدح بالغة الّنبّي المعصوم ﷺ‪ ،‬وكلي حياء وأنا أشيد بفصاحة هذا اإلمام‬
‫العظيم‪ ،‬ولكن حسبي أّني خادم في بالط مجده‪ ،‬وعامل بسيط في ديوان عظمته‪ ،‬تتعّطر حروفي‬
‫بمسك عطره‪ ،‬وتتطهر كلماتي بغيث قطره‪ ،‬وتتشـّر ف عباراتي بطيب ذكره‪.‬‬
‫وأاَن الذي حبروفِه وحديثِه‬
‫أكُس و َح ديِثي هبجًة ومجاال‬
‫من عطر أنفاس احلبيب بالغيت‬
‫وبطيبها ألبستها سرابال‬
‫فكأّنه مجع الّنجوم قالئًد ا‬
‫صاغ الكواكب ابلبيان َمقاال‬
‫هتتّز أعواُد املنابر هيبة‬
‫واجلذع حّن من البيان وماال‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َزْوًج ا‬
‫رسوُلنا ﷺ هو األسوة الحسنة‪ ،‬والقدوة المباركة للمؤمنين والمؤمنات في كّل أحوالهم‪ ،‬وال بد‬
‫للقدوة أن ُيمارس الحياة الطبيعّية التي ُيمارسها الّناس‪ ،‬وأن يعيش أدوارها وأطوارها‪ ،‬ومنها الّز واج‬
‫كما قال تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد َأْر َسْلَنا ُر ُسًال ِم ْن َقْبِلَك َو َج َعْلَنا َلُهْم َأْز َو اًج ا َو ُذِّر َّيًة} [الرعد‪ :‬اآلية ‪.]38‬‬
‫فتزّو ج عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وأنجب‪ ،‬وتعامل مع زوجاته بالبّر واإلكرام‪ ،‬والعدل‬
‫واالحترام‪ ،‬وُح سن الّر عاية‪ ،‬وجميل الوالية‪ ،‬ليكون أسوًة للعالمين‪ ،‬وقدوًة للّناس أجمعين‪ ،‬فكان البار‬
‫الواصل عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وكان لزواجه ِح كم عظيمة‪ ،‬وأسرار جليلة‪ ،‬لتكون سيرته ﷺ آية‬
‫للسائلين‪ ،‬وطريًقا واضًح ا للسالكين؛ وألن حياته الّز وجية ﷺ كانت امتثااًل لقول الباري ُسبحانه‪:‬‬
‫{َو ِم ْن آَياِتِه َأْن َخ َلَق َلُكْم ِم ْن َأْنُفِس ُكْم َأْز َو اًج ا ِلَتْس ُكُنوا ِإَلْيَه ا َو َج َعَل َبْيَنُكْم َمَو َّدًة َو َر ْح َم ًة} [الروم‪ :‬اآلية‬
‫‪.]21‬‬
‫تزّو ج ﷺ أولى زوجاته خديجة (رضي هللا عنها) وهو في الخامسة والعشـرين وهي في‬
‫األربعين‪ ،‬وكانت ثّيًبا تعمل في الّتجارة‪ ،‬وكانت الحصيفة‪ ،‬والعاقلة‪ ،‬والّسديدة‪ ،‬والمشيرة‪،‬‬
‫والُم جاهدة‪ ،‬والصابرة‪ ،‬والُم حتسبة‪ ،‬والوفية‪.‬‬
‫أسلمت أّو ل الّنساء‪ ،‬ووقفت معه ﷺ حتى أرسل هللا جبريل‪ ،‬فبّلغها عن رّبها الّسالم‪ ،‬وبّشرها‬
‫ببيت في الجّنة من قصب؛ ال َص خب فيه وال نَص َب ‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪« :‬أتى‬
‫جبريُل الّنبَّي ﷺ فقال‪ :‬يا رسوَل هللا‪ ،‬هذه خديجُة قد َأَتْت ‪ ،‬معها إناٌء فيه ِإداٌم أو طعاٌم أو شراٌب ‪ ،‬فإذا‬
‫هي َأَتْتَك فاَقرْأ عليها السالَم ِم ن رِّبها ومِّني‪ ،‬وِبِّش ْر َها ببيٍت في الجنِة ِم ن َقَص ٍب؛ ال َص َخ َب فيه وال‬
‫نصَب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ولّم ا ماتت (رضي هللا عنها) عاش ﷺ الحزن ُكّله‪ ،‬حتى ُسّم ي عاُم وفاتها بعام الحزن‪ ،‬ثم‬
‫تزوج سودة بنت زمعة وهي من السابقات إلى اإلسالم وصديقة خديجة‪ ،‬ثم تزّو ج من عائشة (رضي‬
‫هللا عنها) الّشابة الّذكّية الفطنة التي صارت فقيهًة ُم فتيًة لُألّم ة‪ ،‬وعاش معها أجمل الحياة‪ ،‬ثم تزوج‬
‫ﷺ من عّدة زوجات وكّلهَّن ثّيبات إاّل عائشة‪ ،‬فكانت البكر الوحيدة بين زوجاته‪ ،‬وذلك لحكمة تبليغ‬
‫الّدين لُألّم ة‪ ،‬وبيان األحكام الخاصة باألسرة المسلمة؛ ألن حياته الخاّص ة الّشخصية ال تّطلع عليها‬
‫إاّل نساؤه‪ ،‬وال بد لهذه الحياة الخاّص ة أن تعَيها األمة‪ ،‬وأن تصل إلى كاّفة الّناس‪ ،‬وال يكون ذلك إاّل‬
‫عن طريق الّنساء‪.‬‬
‫ورغم التزاماته ﷺ الكثيرة‪ ،‬ومشاغله العديدة‪ ،‬إاّل أّن ذلك كّله لم يُح ْل بينه وبين حرصه على‬
‫حقوق زوجاته‪ ،‬فكان أفضَل زوٍج في الّتاريخ‪.‬‬
‫زوٌج عادٌل رفيق‪َ ،‬و فٌّي رحيم‪ ،‬لطيٌف كريم‪ ،‬يحرص على إظهار حّبه لزوجاته رضي هللا‬
‫عنهّن ‪ ،‬وُيصّر ح بذلك‪.‬‬
‫وقصص ُح ّبه ﷺ لزوجاته كثيرة‪ ،‬ومنها ُح ّبه ألّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪ ،‬فعن‬
‫َأِبي ُعْثَم اَن ‪َ ،‬أَّن َر ُسوَل هللا ﷺ َبَعَث َعْم َر و ْبَن الَعاِص َعَلى َج ْيِش َذاِت الَّسالِس ِل ‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬فَأَتْيُتُه َفُقْلُت ‪:‬‬
‫َأُّي الَّناِس َأَح ُّب ِإَلْيَك ؟‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬عاِئَشُة»‪ُ ،‬قْلُت ‪ِ :‬م َن الِّر َج اِل ؟‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬أُبوَها»‪ُ ،‬قْلُت ‪ُ :‬ثَّم َم ْن ؟‪َ ،‬قاَل ‪:‬‬
‫«ُعَمُر »‪َ ،‬فَعَّد ِر َج ااًل ‪َ ،‬فَسَكُّت َم َخ اَفَة َأْن َيْج َعَلِني ِفي آِخ ِر ِه ْم ‪ُ[ .‬م تفق عليه]‬
‫وروى ابن حّبان أن رسول هللا ﷺ قال لعائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬أَم ا ترضْيَن أْن تكوني‬
‫زوجتي في الُّدنيا واآلِخ رِة؟‪ُ ،‬قْلُت ‪ :‬بلى وهللا‪ ،‬قال‪ :‬فأنِت زوجتي في الُّدنيا واآلِخ رِة»‪.‬‬
‫وكان يقول عليه الّص الة والّسالم عن خديجة‪« :‬إِّني قْد ُر ِز ْقُت ُحَّبَه ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا دخل على زوجاته دخل ضّح اًكا بّساًم ا ُم شرق الوجه‪ ،‬يمأل بيوتهّن أنًسا‬
‫وسروًر ا‪ ،‬فيسّلم عليهّن عند دخوله ويدعو لهّن بالخير‪ ،‬ومن ذلك ما رواه ابن عباس (رضي هللا‬
‫عنهما)‪ ،‬قال‪« :‬كان رسوُل هللا ﷺ إذا صَّلى الُّصبَح جَلس في ُم صاَّل ه وجَلس الَّناُس حوَله حَّتى تطُلَع‬
‫الَّشمُس ‪ ،‬ثَّم دَخ ل على ِنساِئه امرأًة امرأًة ُيسِّلُم عليهَّن ويدعو لهَّن فإذا كان يوُم إحداُهَّن جَلس‬
‫عنَدها» [رواه الطبراني]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيمازحهّن وُيدخل البهجة والّسرور على قلوبهّن ‪ ،‬ويستمع لحاجاتهّن وشكواهّن ‪،‬‬
‫ويصبر ويحلم وال يؤذي إحداهّن بكلمة أو بنظرة‪ ،‬وال ينتقص من قدرهّن ‪ ،‬بل يمدحهّن ويثني‬
‫عليهّن ‪ ،‬وُينصت لكالمهّن تمام اإلنصات‪ ،‬ويتبادل معهّن الّسمر والحديث والقصص الجميلة التي‬
‫تحمل الموعظة والحكمة والفائدة‪.‬‬
‫تقول عائشة (رضي هللا عنها) كما جاء في «الصحيحين»‪ُ« :‬كْنُت أْغ َتِسُل أَنا وَر سوُل ِهللا ﷺ‬
‫ِم ن إَناٍء َبْيِني وبْيَنُه واِح ٍد‪ ،‬فُيَباِد ُر ِني حَّتى أُقوَل ‪َ :‬دْع ِلي‪َ ،‬دْع ِلي»‪.‬‬
‫فانظر لُح سن عشرته ﷺ‪ ،‬وُلطفه‪ ،‬وتواضعه‪ ،‬وكريم أخالقه‪ ،‬وُنبله‪ ،‬وكرمه‪ ،‬مع أهله‪ ،‬حتى‬
‫في الُغسل ُم شاركة وُم الطفة‪.‬‬
‫وتقول (رضي هللا عنها) ‪« :‬كان نبُّي هللا ﷺ يستاُك فُيعطيني السواَك ألغسَله‪ ،‬فأبدُأ به‬
‫فأستاُك ‪ ،‬ثم أغسُله وأدفُعه إليه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وتقول أيًض ا (رضي هللا عنها) ‪« :‬كنُت أشرب وأنا حائض‪ ،‬ثَّم أناوله الَّنبي ﷺ‪ ،‬فيضع فاه‬
‫على موضع ِفَّي فيشرب‪ ،‬وأتعَّر ق الَعْر َق وأنا حائض‪ ،‬ثم أناوله الَّنبي ﷺ‪ ،‬فيضع فاه على موضع‬
‫ِفَّي » [رواه مسلم]‪ .‬والَعْر َق هو‪ :‬العظم الذي عليه بقية من لحم‪.‬‬
‫فتعامله ﷺ مع عائشة وهي حائض بهذا القرب واألنس وُح سن العشرة يدّل على كمال ُخ لقه‬
‫وُح سن رعايته ﷺ‪.‬‬
‫ومن صور ُم داعبته وُم ضاحكته لزوجاته ما ذكرته عائشة (رضي هللا عنها) فقالت‪« :‬قِدم‬
‫رسوُل هللا ﷺ‪ ،‬من غزوِة تبوٍك ‪ -‬أو خيبٍر ‪ -‬وفي سهوِتها ستٌر ‪ ،‬فَه َّبْت ريٌح ‪ ،‬فَكَشَفْت ناحيَة الِّس ْتِر ‪ ،‬عن‬
‫بناٍت لعائشَة ‪ُ -‬لَعٍب ‪ -‬فقال‪ :‬ما هذا يا عائشُة؟‪ ،‬قالت‪ :‬بناتي! ورأى بيَنُه َّن فرًسا له َج ناحاٍن ِم ن‬
‫ِر قاٍع‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا الذي أرى َو َسَطُه َّن ؟‪ ،‬قالت‪َ :‬فَر ٌس ‪ .‬قال‪ :‬وما هذا الذي عليه؟‪ ،‬قالت‪َ :‬ج ناحان‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرٌس له َج ناحاِن ؟‪ ،‬قالت‪ :‬أما َسِم ْعَت أّن لسليماَن خياًل لها أجنحًة؟‪ ،‬قالت‪ :‬فَض ِح َك حتى َر َأْيُت‬
‫نواجَذه!» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وانظر إلى هذا الّنبي الكريم واإلمام العظيم‪ ،‬لم تشغله أمور اُألمة وشؤون الّدولة عن الّتلطف‬
‫حتى في لعبة عائشة وسؤاله لها بأريحية ونفس رضَّية‪.‬‬
‫ولم يمنعه ﷺ ُحّب خديجة أن ُيحب عائشة‪ ،‬وال ُح ب عائشة أن ُيحب سواها‪ ،‬ولكن لكل زوجة‬
‫من زوجاته رضوان هللا عليهّن قدر في المحّبة‪.‬‬
‫أّم ا في العدل الذي يقدر عليه من نفقة‪ ،‬وكسوة‪ ،‬وُسكنى‪ ،‬وبيتوتة‪ ،‬وزيارة‪ ،‬فلم تشعر إحداُهن‬
‫بأّي ظلم أو نقص من حقوقها مثقال ذرة‪ ،‬بل تمّتعّن جميعهّن بعدله‪ ،‬ورحمته‪ ،‬وُح ّبه‪ ،‬وعطفه‪ ،‬ألّنه‬
‫سّيد العادلين‪ ،‬وإمام الُم نصفين‪.‬‬
‫فكان ﷺ يعدل بينهّن في كل شيء مهما دّق أو صغر‪ ،‬ومع ذلك يعتذر إلى رّبه إن مّيز‬
‫إحداهّن في الحّب ؛ ألّن الحّب من أعمال القلوب التي ال يتحّكم فيها اإلنسان‪ ،‬ولذلك قال ﷺ‪« :‬الَّلهَّم‬
‫هذا َقْس مي فيما أمِلُك ‪ ،‬فال تُلمني فيما تمِلُك وال أمِلُك » [رواه الخمسة]‪.‬‬
‫ولم ُيمّيز واحدة على األخرى بهدّية أو عطّية‪ ،‬تقول أم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪:‬‬
‫«كاَن رسوُل هللا ﷺ ال يفِّض ُل بعَض نا على بعٍض في الَقْس م‪ ،‬من ُم كِثِه ِع ندنا‪َ ،‬و كاَن قَّل يوٌم إاَّل َو هَو‬
‫يطوُف علينا جميًعا‪ ،‬فيدنو ِم ن كِّل امرأٍة من غيِر َم سيٍس ‪ ،‬حَّتى يبلَغ إلى اَّلتي هَو يوُم ها فيبيُت‬
‫عنَدها» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وعند سفره ﷺ كان يقرع بين نسائه‪ ،‬ويصطحب من يخرج سهمها في سفرته‪ ،‬ومن حرصه‬
‫على العدل حتى وهو في مرض موته لم تطب نفسه ﷺ بالبقاء عند عائشة إاّل بعد أن أذنت له‬
‫زوجاته بذلك‪ ،‬تقول عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬إَّن َر سوَل هللا ﷺ كاَن َيْس َأُل في َمَر ِض ِه الذي ماَت‬
‫ِفيِه ‪ :‬أْيَن أنا َغًدا؟ أْيَن أنا َغًدا؟ ُيِر يُد َيوَم عاِئَشَة‪ ،‬فأِذ َن له أْز واُج ُه َيكوُن َحْيُث شاَء ‪َ ،‬فكاَن في َبْيِت‬
‫عاِئَشَة حّتى ماَت ِع ْنَدها» [ُم تفق عليه]‪.‬فكان عدله سجّية ال كلفة فيه‪.‬‬
‫وحَّذر ﷺ من الميل إلى إحدى الّز وجات على حساب األخرى فقال‪َ« :‬م ن كاَنت له امرأتاِن ‪،‬‬
‫فماَل إلى إحداهما جاَء يوَم القيامِة وِش ُّقه مائل» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكان ﷺ الُم عّلم األسوة بأفعاله قبل أقواله‪ ،‬فلم يكن صّخ اًبا‪ ،‬وال غضوًبا‪ ،‬وال شرًسا‪ ،‬حماه هللا‬
‫من ذلك وصانه‪ ،‬ولم يكن فًظا غليًظا بل زّكاه رّبه‪ ،‬فقال ُسبحانه‪َ{ :‬فِبَم ا َر ْح َم ٍة ِم َن ِهَّللا ِلْنَت َلُهْم َو َلْو‬
‫ُكْنَت َفًّظا َغِليَظ اْلَقْلِب َالْنَفُّضوا ِم ْن َحْو ِلَك } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]159‬‬
‫فهو األسوة الحسنة‪ ،‬والمثل األعلى في كل ُخ ُلق نبيل شريف‪ ،‬ومن ذلك خدمته ألهله‪ ،‬وُح سن‬
‫ُم عاشرتهم‪ ،‬والُقرب منهم‪.‬‬
‫ولّم ا ُسئلت عائشة (رضي هللا عنها) ‪ :‬ما كان الّنبي ﷺ يصنع في بيته؟ فقالت‪ :‬كاَن َيكوُن في‬
‫ِم ْه َنِة أْه ِلِه ‪َ-‬تْعِني ِخ ْد َم َة أْه ِلِه ‪َ -‬فِإذا َح َض َر ِت الَّص الُة َخ َر َج إلى الَّص الِة‪[ .‬رواه البخاري]‪ ،‬وفي رواية‬
‫أخرى‪« :‬كان بشًر ا من البشِر ؛ َيْفِلي َثْو َبُه‪ ،‬وَيْح ِلُب شاَتُه‪ ،‬وَيْخ ُدُم َنْفَسُه»‪ .‬وفي رواية‪« :‬كان َيخيُط‬
‫ثوَبُه‪ ،‬ويخِص ُف نعَله‪ ،‬ويعمُل ما يعمُل الّر جاُل في بيوِتهم» [رواه أحمد وابن حّبان]‪.‬‬
‫كان ﷺ زوًج ا رفيًقا‪ ،‬لطيًفا‪ ،‬حليًم ا‪ ،‬رحيًم ا‪ ،‬يدعو لُح سن العشرة ولين الّتعامل‪ ،‬فيقول ﷺ كما‬
‫جاء في حديث سعد بن أبي وقاص(رضي هللا عنه)‪« :‬إَّنَك َم ْهما أْنَفْقَت ِم ن َنَفَقٍة‪ ،‬فأّنها َص َد َقٌة‪ ،‬حّتى‬
‫الُّلْقَم ُة اَّلتي َتْر َفُعها إلى ِفي اْم َر َأِتَك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫أي أّنه لو وضع الّر جل لقمة في فم زوجته لكان هذا من البّر الذي ُيؤجر عليه‪ ،‬ومن الّص دقة‬
‫التي ُتكتب له‪.‬‬
‫ولم يضرب ﷺ طيلة عشرته مع زوجاته واحدة منهّن ‪ ،‬ولم ُيحّقرها ولم يشتمها‪ ،‬بل كان‬
‫الّز وج الّر فيق الّر قيق‪ ،‬الّر حيم الحليم‪ ،‬فعن عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬ما َض َر َب َر سوُل هللا ﷺ‬
‫شيًئا َقُّط بَيِدِه ‪َ ،‬و ال اْم َر َأًة‪َ ،‬و ال خاِد ًم ا‪ ،‬إاّل َأْن ُيجاِه َد في َسبيِل هللا‪َ ،‬و ما ِنيَل منه شيٌء َقُّط‪َ ،‬فَيْنَتِقَم ِم ن‬
‫صاِح ِبِه ‪ ،‬إاّل َأْن ُيْنَتَه َك شيٌء ِم ن َم حاِر ِم هللا‪َ ،‬فَيْنَتِقَم هلل َعَّز َو َجَّل » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يغض الّطرف عن الُم عاتبة‪ ،‬ويصبر على الغيرة حين تبدر من إحدى زوجاته‪ ،‬فلّم ا‬
‫غارت عائشة (رضي هللا عنها) صبَر وكظم وتبّسم‪ ،‬وقال لضيوفه بكل لطف وسكينة‪« :‬غاَر ْت‬
‫ُأُّم ُكْم » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا مرضت إحدى زوجاته يجلس لُيمّر ضها‪ ،‬ويتلّطف بها‪ ،‬ويسألها عن حالها‪،‬‬
‫وَيظهر عليه التوّج ع لما أصابها حتى يكشف هللا ما بها‪ ،‬حتى إّن عائشة (رضي هللا عنها) حينما‬
‫حاضت في الحِّج دخل عليها ﷺ وهي َتبكي‪ ،‬فقال‪« :‬ما َلِك ؟! أُنِفْس ِت؟»‪ ،‬قالْت ‪ :‬نعْم ‪ ،‬قال‪« :‬إَّن هذا‬
‫أمٌر كَتبه ُهللا على بناِت آَد َم ‪ ،‬فاقضي ما َيقضي الحاُّج‪ ،‬غيَر أاّل َتطوفي بالبيِت» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وأرسلها ﷺ لتعتمر مع أخيها عبدالرحمن إلى الّتنعيم‪ ،‬وانتظرها ليجبر خاطرها ويشرح‬
‫صدرها‪ ،‬وتعود بعمرة مع حّج ها‪ ،‬فما أكرمه من زوج! وما ألطف هذه العشرة من عشرة! وما أجمل‬
‫هذا الُخ ُلق من ُخ ُلق!‪.‬‬
‫وروى الّنسائي عن أّم المؤمنين صفَّية (رضي هللا عنها) ‪« :‬أّنها َكاَنْت َمَع َر ُسوِل هللا ﷺ ِفي‬
‫َسَفٍر ‪َ ،‬و َكاَن َذِلَك َيْو َم َه ا‪َ ،‬فَأْبَطأْت ِفي اْلَم ِسيِر ‪َ ،‬فاْس َتْقَبَلَه ا َر ُسوُل هللا ﷺ َو ِه َي َتْبِك ي وتقول‪َ :‬ح َم ْلَتِني‬
‫َعَلى َبِع يٍر َبِط يٍء ‪َ ،‬فَجَعَل َر ُسوُل هللا ﷺ َيْم َسُح ِبَيَد ْيِه َعْيَنْيَه ا وُيْسِك ُتَه ا‪.»..‬‬
‫فجزاه هللا خير ما جزى نبًّيا عن أّم ته‪ ،‬ما أرحمه! وما ألطفه! وما أرّقه! وما أعذب عشرته!‪.‬‬
‫وعن أنس (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬خ َر ْج نا إلى الَم ِديَنِة َفَر َأْيُت َر سوَل هللا ﷺ ُيَح ِّو ي َلها وراَءُه‬
‫بَعباَءٍة‪ُ ،‬ثَّم َيْج ِلُس ِع ْنَد َبِع يِر ِه ‪َ ،‬فَيَض ُع ُر ْك َبَتُه‪َ ،‬فَتَض ُع َصِفَّيُة ِر ْج َلها على ُر ْك َبِتِه حّتى َتْر َكَب » [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫فتصّو ر هذا الفعل من رسول هللا ﷺ! كيف كان يمسك البعير‪ ،‬ويعين زوجه حتى تركب؟!‬
‫ولهذا الموقف مثال في عصرنا الحديث‪ ،‬وهو أن يقوم اإلنسان أمام الّناس فيفتح باب الّسيارة‬
‫لزوجته‪ ،‬وُيعينها ويجمع مالبسها حتى تجلس مطمئنًة‪ ،‬فباهلل من يفعل هذا اآلن أمام مٍأل من الّناس؟!‬
‫ولكن رسول الُه دى ﷺ أمام الجيش ُيعين صفية وُيرّكبها على البعير ُلطًفا وُح سن عشرة‪.‬‬
‫وكان ﷺ َيْج بر خواطر نسائه‪ ،‬ويراعي مشاعرهّن ‪ ،‬ويحرص على أاّل يكسر قلب واحدة‬
‫منهّن ‪ ،‬كما ورد عنه ﷺ في الّص حيح‪« :‬رفًقا بالقوارير!»‪.‬‬
‫وتقول عائشة (رضي هللا عنها) ‪ :‬إّن رسول هللا ﷺ كان يقول لها‪« :‬إِّني َأَلْع َلُم إذا ُكْنِت َعِّني‬
‫راِض َيًة‪ ،‬وإذا ُكْنِت َعَلَّي َغْض بى!‪ ،‬قاَلْت ‪َ :‬فُقلُت ‪ِ :‬م ن أْيَن َتْعِر ُف ذلَك ؟‪ ،‬فقاَل ‪ :‬أّم ا إذا ُكْنِت َعِّني راِض َيًة‪،‬‬
‫فإَّنِك َتُقوِليَن ‪ :‬ال وَر ِّب ُم َح َّم ٍد‪ ،‬وإذا ُكْنِت َعَلَّي َغْض بى‪ُ ،‬قْلِت‪ :‬ال وَر ِّب إْبراِه يَم ‪ .‬قاَلْت ‪ُ :‬قلُت ‪ :‬أَج ْل‪ ،‬وهللا‬
‫يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما أْه ُج ُر إاّل اْس َم َك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقد حفظ رسول هللا ﷺ للمرأة مكانتها ومنزلتها‪ ،‬وأعلَن إكرامها‪ ،‬ومن صور هذا اإلكرام‬
‫مشورته ﷺ لنسائه‪ ،‬فقد شاور أّم سلمة (رضي هللا عنها) يوم الحديبية‪ ،‬فكانت مشورتها بركًة وخيًر ا‬
‫عميًم ا للمسلمين‪ ،‬فقد أشارت عليه فقالت‪« :‬يا َنِبَّي هللا‪ ،‬أُتِح ُّب ذلَك ؟! اْخ ُر ْج ُثَّم ال ُتَكِّلْم أَح ًدا منهْم‬
‫َكِلَم ًة‪ ،‬حَّتى َتْنَح َر ُبْد َنَك ‪ ،‬وَتْدُعَو َح اِلَقَك َفَيْح ِلَقَك » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فلّم ا فعل ذلك ﷺ قام الّص حابة ُم سرعين وامتثلوا أمره ﷺ بعد أن تأّخ روا‪ ،‬وذلك ِلما أصابهم‬
‫من الهّم والحزن يوم الحديبّية لّم ا ظّنوا أّن شروط الّص لح ُم جحفة بهم‪.‬‬
‫وهل هناك أعظم مّم ا رواه أبو داود في تكريم المرأة؟! فعن عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪:‬‬
‫قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إَّن الِّنساَء شقائُق الِّر جاِل »‪.‬‬
‫فكان من هديه ﷺ الُيسر مع أهله‪ ،‬والّسهولة في الخطاب‪ ،‬والّتعامل والعشرة الحسنة‪ ،‬كما قال‬
‫جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما)‪« :‬كاَن َر سوُل هللا ﷺ َر جاًل َسْه اًل ‪ ،‬إذا َهِو َيِت الَّشْي َء ‪-‬يعني‬
‫عائشة(رضي هللا عنها) ‪ -‬تاَبَعها عليه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقد ضرب رسول هللا ﷺ أروع األمثلة في الوفاء مع زوجاته‪ ،‬ومن أجمل صور هذا الوفاء‬
‫وفاؤه لخديجة (رضي هللا عنها) ‪ ،‬اّلتي صحبته أّيام الشّدة‪ ،‬وليالي البعثة‪ ،‬يوم الكرب الّشديد‪ ،‬ويوم‬
‫األذى الُم ّر من كّفار قريش‪ ،‬فكان ﷺ يذكرها‪ ،‬ويدعو لها‪ ،‬ويحّن أليامها‪ ،‬وإذا ُأتي بالّشيء يقول‪:‬‬
‫«اْذَهُبوا بِه إلى ُفالنَة‪ ،‬فِإَّنها كاَنْت َص ِديَقَة خديجَة‪ ،‬اذهُبو إلى بيِت فالنَة فإَّنها كاَنْت ُتحُّب خديجَة»‬
‫[كما روى ذلك الُبخاري في األدب المفرد]‪.‬‬
‫فيا لعظمة هذه الّنفس الكبيرة الطاهرة الّنبوّية الّشريفة التي ُعمرت بالّص فاء‪ ،‬والّنقاء‪،‬‬
‫والوفاء! وكان ُيوصي ﷺ أصحابه فيقول كما جاء عند الترمذي وابن حّبان‪« :‬أكمُل المؤمنين إيماًنا‬
‫أحسُنهم ُخ لًقا‪ ،‬وخياُر كم خياُر كم لنسائهم»‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬أ واْس َتْو ُص وا بالنساِء خيًر ا‪ ،‬فإّنما ُهَّن َعَو اٌن‬
‫عنَدكم» أي أسيرات‪ ،‬وقال ﷺ‪َ« :‬خ يُر ُكْم َخ يُر ُكْم ألهِلِه ‪ ،‬وأنا َخ يُر ُكْم ألهِلي»‪.‬‬
‫ومما يدّل على ُح سن عشرته ألهله‪ ،‬وُلطفه بزوجاته‪ ،‬أّن أعظَم ُأمنية لكّل زوجة من زوجاته‬
‫أن ُيِط َّل عليها بطلعته البهّية زائًر ا‪ ،‬وأن يدخل بيتها حبيًبا‪.‬‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫قال يل احملبوُب َّملا زرُتُه‪:‬‬
‫مْن ببايب قلُت ابلباِب أان‬
‫قال يل‪ :‬أخطأت تعريف اهلوى‬
‫حينما فَّرقت فيه بْيَنَنا‬
‫ومضـى عاٌم فلَّم ا جئُتُه‬
‫أطُرُق الباب عليه ُموِه نا‬
‫قال يل‪ :‬مْن أنَت ؟ قلُت ‪ :‬أْنُظْر فما‬
‫َّمث إاَّل أنَت ابلباِب ُه نا‬
‫قال يل‪ :‬أحسنَت تعريَف اهَلوى‬
‫وَعَرْفَت اُحلَّب فادُخ ْل اَي أاَن‬
‫وقد دعا ﷺ إلى َج بر خاطر المرأة‪ ،‬وغض الّطرف عن تقصيرها‪ ،‬والّنظر إلى الجوانب‬
‫المشرقة في عشرتها‪ ،‬فقال‪« :‬ال َيْفَر ْك ُم ْؤ ِم ٌن ُم ْؤ ِم َنًة‪ ،‬إْن َكِر َه منها ُخُلًقا َر ِض َي منها آَخ َر » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وبهذا تدوم العشرة‪ ،‬وتستمر الحياة الّز وجية‪ ،‬ويصلح الحال؛ ألن طبيعة الحياة الّز وجية‬
‫ُم تقّلبة‪ ،‬تمّر أحياًنا بأيام جميلة‪ ،‬وأخرى تتخللها المرارة واألسى‪.‬‬
‫فعلى اإلنسان الواعي العاقل المّتزن المؤمن أن يلزم أمًر ا واحًدا في مواجهة مشكالت الحياة‬
‫الّز وجية‪ ،‬أال وهو تقوى رّب العالمين‪ ،‬واّتباع هدي سّيد المرسلين ﷺ‪ ،‬الذي كان تعامله مع زوجاته‬
‫أرقى‪ ،‬وأرفق‪ ،‬وأرّق الّتعامل على اإلطالق‪.‬‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َأًبـ ـ ــا‬
‫رسول هللا ﷺ هو والد المؤمنين‪ ،‬وأبو المسلمين‪ ،‬كما ُذكر في قراءة ُأبي بن كعب (رضي هللا‬
‫عنه)‪( :‬الَّنِبُّي َأْو َلى ِباْلُم ْؤ ِم ِنيَن ِم ْن َأْنُفِس ِه ْم َو ُهَو َأٌب َلُه ْم )‪ .‬وعند أبي داود قال ﷺ‪« :‬إَّنما َأنا َلُكم‬
‫بمنزلِة الوالِد»‪.‬‬
‫فهو لُألمة الوالد الّر ّباني‪ ،‬واألب الّر وحاني‪ ،‬واإلمام القدوة لكل جيل‪ ،‬والّنبي األسوة لكل‬
‫فاضل ونبيل‪ ،‬وهو مصدر الحنان واإللهام‪ ،‬ومنبع الجود واإلكرام‪ ،‬عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬على‬
‫تعاقب األعوام‪ ،‬ومرور األيام‪.‬‬
‫أّم ا األبّو ة المنفية في قوله تعالى‪َ{ :‬م ا َكاَن ُمَحَّم ٌد َأَبا َأَح ٍد ِم ْن ِر َج اِلُكْم َو َلِك ْن َر ُسوَل ِهَّللا}‬
‫[األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]40‬‬
‫فالمقصود بها أبوة الّنسب‪ ،‬ولقد تزّو ج ﷺ وأنجب وعاش أًبا ألسرته الّشريفة كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َو َلَقْد َأْر َسْلَنا ُر ُسًال ِم ْن َقْبِلَك َو َج َعْلَنا َلُهْم َأْز َو اًج ا َو ُذِّر َّيًة} [الرعد‪ :‬اآلية ‪.]38‬‬
‫فُر زق ﷺ البنين والبنات وماتوا جميًعا في حياته إاّل فاطمة (رضي هللا عنها) ‪ ،‬فكان أكرم‬
‫أب في العالم‪ ،‬وأرأف وأحّن والد في الّدنيا‪ُ ،‬ر غم ما كان سائًدا من اعتقادات لدى الجاهلّية الجهالء‪،‬‬
‫والوثنّية الّشوهاء‪ ،‬من وأد البنات أحياء‪ ،‬والفرح والُبشرى إن كان المولود ذكًر ا‪ ،‬والُح زن واألسى‬
‫إن كان أنثى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و ِإَذا ُبِّش َر َأَح ُدُهْم ِباُألْنَثى َظَّل َو ْج ُه ُه ُم ْس َو ًّدا َو ُهَو َكِظ يٌم * َيَتَو اَر ى ِم َن‬
‫اْلَقْو ِم ِم ْن ُسوِء َم ا ُبِّش َر ِبِه َأُيْم ِس ُكُه َعَلى ُهوٍن َأْم َيُدُّسُه ِفي الُّتَر اِب َأَال َساَء َم ا َيْح ُكُم وَن } [النحل‪ :‬اآلية‬
‫‪.]58‬‬
‫أّم ا هو ﷺ فكان أّو ل من أكرم البنات‪ ،‬وفرح واستبشر بميالدهّن ‪ ،‬وآنسهّن ‪ ،‬والطفهّن ‪ ،‬وأكرم‬
‫عيشتهّن ‪ ،‬وكان نعم األب الحاني ببناته‪ ،‬والوالد الّر فيق بأسرته‪ ،‬الودود إليهم‪ ،‬الُم تلّطف معهم‪.‬‬
‫ومن لطيف أبّو ته ﷺ وُح سن تربيته اختياره ألبنائه وبناته أجمل األسماء‪ ،‬على الّر غم من أّن‬
‫األسماء الغريبة المتوحشة كانت هي السائدة في المجتمع‪ ،‬فسّم ى ﷺ‪ :‬القاسم‪ ،‬وعبدهللا‪ ،‬وإبراهيم‪،‬‬
‫وزينب‪ ،‬ورقّية‪ ،‬وأّم كلثوم‪ ،‬وفاطمة‪ .‬ولّم ا ُو لد لفاطمة ولدها األّو ل سّم اه‪ :‬الحسن‪ ،‬وسّم ى الّثاني‪:‬‬
‫الُح سين‪ ،‬وسّم ى الّثالث‪ُ :‬م حسًنا‪ ،‬ألّنه ال يختار إاّل األحسن‪ ،‬وال ينتقي إاّل األجمل ﷺ‪.‬‬
‫وألّن الّز واج من حكمة هللا وآياته في خلقه كما قال تعالى‪َ{ :‬و ِم ْن آَياِتِه َأْن َخ َلَق َلُكْم ِم ْن‬
‫َأْنُفِس ُكْم َأْز َو اًج ا ِلَتْس ُكُنوا ِإَلْيَه ا َو َج َعَل َبْيَنُكْم َمَو َّدًة َو َر ْح َم ًة ِإَّن ِفي َذِلَك َآلَياٍت ِلَقْو ٍم َيَتَفَّكُر وَن } [الروم‪:‬‬
‫اآلية ‪.]21‬‬
‫كان ﷺ أّو ل من امتثل لهذا‪ ،‬واهتم بزواج بناته‪ ،‬وتيسير مهورهن‪ ،‬واختيار الّز وج الُكفء‬
‫لهّن ‪.‬‬
‫فزّو ج زينب (رضي هللا عنها) من أبي العاص بن الّر بيع (رضي هللا عنه) وهو ابن خالتها‬
‫هالة بنت خويلد‪ ،‬وكان من رجال مكة المعدودين عقاًل ‪ ،‬وأمانة‪ ،‬وقد أثنى عليه الّنبي ﷺ فقال‪:‬‬
‫«حَّد َثني َفَص َد َقِني‪ ،‬وَو َعدِني َفَو َفى لي» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ألّنه وعد الّنبي أن يعود إلى مكة‪ ،‬بعد غزوة بدر‪ ،‬ويبعث إليه بزينب ابنته‪ ،‬فصدق فيما وعد‪،‬‬
‫ووّفى بما قال‪ ،‬ومن لطيف إسالمه (رضي هللا عنه) وصدقه أّنه لّم ا عاد من الّشام استجار بزينب‬
‫فأجارته عند الّنبي وقبل ﷺ شفاعتها‪ ،‬وأعادها له بالعقد األّو ل بعد إسالمه‪ ،‬فانظر حرصه ﷺ على‬
‫سعادة ابنته‪ ،‬وجمع الّشمل‪ ،‬وَعَم ارة البيوت‪ ،‬وجبر القلوب‪.‬‬
‫وأّم ا ُر قّية (رضي هللا عنها) فقد اختار لها ﷺ أمير المؤمنين الخليفة الّر اشد الجواد الحيي‬
‫عثمان بن عفان (رضي هللا عنه)‪ ،‬فلما ُتوّفيت زّو جه ﷺ بأختها أّم كلثوم‪ ،‬ولذلك ُسمي عثمان‪( :‬ذا‬
‫الّنورين)؛ ألّنه تزّو ج بابنتي رسول هللا ﷺ‪ ،‬ولم ُيعرف في الّتاريخ رجل تزّو ج ابنتي نبي إاّل عثمان‬
‫بن عفان(رضي هللا عنه)‪.‬‬
‫وأّم ا فاطمة (رضي هللا عنها) فقد زّو جها ﷺ من أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي‬
‫طالب (رضي هللا عنه)‪ ،‬أّو ل من أسلم من الّشباب‪ ،‬ومنزلته من الّنبي كمنزلة هارون من موسى‪،‬‬
‫وكانت أحّب بناته إليه ﷺ‪ ،‬وهي الوحيدة التي بقيت بعد وفاته‪.‬‬
‫ومن حقك أن تعجب لهذا األب العظيم والّنبي الكريم على كثرة أعماله وجليل أشغاله من‬
‫أعباء الّدعوة‪ ،‬وُم هّم ات تبليغ الّر سالة‪ ،‬إاّل أنه تعاهد بناته بالّز يارة بعد زواجهّن ‪ ،‬فحرص كل‬
‫الحرص على زيارة ابنته فاطمة‪ ،‬فإن لم يزرها زارته‪ ،‬ولم تكن زيارة عادية‪ ،‬بل باحتفاء وترحيب‬
‫وإكرام‪ ،‬فُيقّبل جبينها كّلما زارته‪ ،‬وُيجلسها مكانه‪ ،‬وُتقّبل جبينه كلما زارها وُتجلسه مكانها‪ ،‬وُيقبل‬
‫عليها وُتقبل عليه‪ ،‬كما صّح عن أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬ما رأيُت أحًدا َأْش َبَه‬
‫َسْم ًتا وَد اًّل وَهْد ًيا برسوِل هللا في قياِم ها وقعوِدها من فاطمَة بنِت رسوِل هللا ﷺ‪ ،‬قالت‪ :‬وكانت إذا‬
‫َد َخ َلْت على الّنبِّي ﷺ قام إليها فَقَّبَلها وَأْج َلَسها في َم ْج ِلِسِه وكان النبُّي ﷺ إذا دخل عليها قامت من‬
‫َم ْج ِلِسها فَقَّبَلْتُه وَأْج َلَسْتُه في َم ْج ِلِسها» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فمن مّنا يفعل هذا مع أبنائه مع قّلة أعمالنا وأشغالنا واهتماماتنا بجانب أعماله وأشغاله‬
‫واهتماماته ﷺ؟!‬
‫وَم ْن ِم ن الّز عماء أو الّر ؤساء أو القادة يجمع الناس ويَقف على المنبر ليقول لهم عن ابنته‬
‫فاطمة‪« :‬إنما هي َبْض َعٌة ِم ِّني‪ُ ،‬يِر يُبِني َم ا َأَر اَبَه ا‪َ ،‬و ُيْؤ ِذيِني َم ا آَذاَها» [ُم تفق عليه]‪ ،‬أي‪ :‬قطعة من‬
‫قلبه‪ ،‬وهذا غاية الّشفقة والّر حمة والحنان من هذا الّنبي الكريم‪ ،‬واألب العظيم البنته‪.‬‬
‫إّن مشاعره ﷺ تجاه بناته ُم لئت باالحترام والّتوقير‪ ،‬والحّب والّر حمة‪ ،‬يفرح لفرحهّن ‪،‬‬
‫ويحزن لحزنهّن ‪ ،‬وأحياًنا يخصهّن ببعض األسرار لزيادة االعتناء واالحتفاء‪ .‬فقد خص فاطمة‬
‫بحديث وسر‪ ،‬كما قالت عائشة (رضي هللا عنها) ‪َ« :‬أْقَبَلْت َفاِط َم ُة َتْم ِشي َكأَّن ِم ْش َيَتَه ا َم ْش ُي الَّنبِّي‬
‫ﷺ‪َ ،‬فقاَل الَّنبُّي ﷺ‪َ :‬مْر َحًبا باْبَنتي‪ُ ،‬ثَّم أْج َلَسَه ا عن َيِم يِنِه ‪ ،‬أْو عن ِش َم اِلِه ‪ُ ،‬ثَّم أَسَّر إَلْيَه ا َح ِديًثا َفَبَكْت ‪،‬‬
‫َفُقلُت َلَه ا‪ِ :‬لَم َتْبِك يَن ؟ ُثَّم أَسَّر إَلْيَه ا َح ِديًثا َفَض ِح َكْت ‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬ما َر َأْيُت َكالَيوِم َفَر ًح ا أْقَر َب ِم ن ُح ْز ٍن ‪،‬‬
‫َفَسَأْلُتَه ا َعَّم ا قاَل ‪َ ،‬فقاَلْت ‪ :‬ما ُكْنُت ُأِلْفِش َي ِس َّر َر سوِل هللا ﷺ‪ ،‬حَّتى ُقِبَض الَّنبُّي َص َّلى ُهللا عليه وسَّلَم ‪،‬‬
‫َفَسَأْلُتَه ا‪َ ،‬فقاَلْت ‪ :‬أَسَّر إَلَّي ‪ :‬إَّن ِج ْبِر يَل كاَن ُيَعاِر ُض ِني الُقْر آَن ُكَّل َسَنٍة َمَّر ًة‪ ،‬وإَّنه َعاَر َض ِني الَعاَم‬
‫َمَّر َتْيِن ‪ ،‬واَل ُأَر اُه إاَّل َح َض َر أَجِلي‪ ،‬وإَّنِك أَّو ُل أْه ِل َبْيتي َلَح اًقا بي‪َ .‬فَبَكْيُت ‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬أَم ا َتْر َض ْيَن أْن َتُكوِني‬
‫َسِّيَد َة ِنَساِء أْه ِل الَج َّنِة ‪-‬أْو ِنَساِء الُم ْؤ ِم ِنيَن ؟ َفَض ِح ْك ُت لذلَك » [ُم تفق عليه]‪ ،‬في جلسة واحدة ُيحييها‬
‫ﷺ بـ «الّترحيب»‪ ،‬وُيخاطبها بـ«ابنتي»‪ ،‬وُيجلسها بـ«القرب منه»‪ ،‬وُيفضي لها بـ«الحديث»‪،‬‬
‫وُيتحفها بـ«البشارة»‪.‬‬
‫وكان ﷺ ال يبخل على بناته بالمال‪ ،‬بل يعينهن على حسب الُقدرة‪ ،‬واستدّل الُعلماء بقوله ﷺ‪:‬‬
‫«َيا َفاِط َم َة بْنَت ُم َح َّم د‪َ ،‬سِليِني ما ِش ْئِت ِم ن َم اِلي‪ ،‬ال ُأْغ ِني َعْنِك ِم َن هللا شيًئا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وفي قوله‪َ« :‬سِليِني ما ِش ْئِت ِم ن َم اِلي» أعظم رسالة في كرمه مع بناته ﷺ‪.‬‬
‫حّتى في أصعب المواقف لم ينس ﷺ زيارة بناته والّسؤال عنهّن ‪ ،‬والحفاوة بهّن وكريم‬
‫رعايتهّن ‪ ،‬فلّم ا خرج لبدر في ُم حاربة كفار قريش ترك مع ابنته رقية زوجها ُعثمان بن عفان‬
‫ُيمّر ضها‪ ،‬وأعطاه سهًم ا‪ ،‬من مغانم بدر‪ ،‬وأجره على هللا‪.‬‬
‫وحينما ذهبت إليه فاطمة تشكو الّتعب‪ ،‬وما تلقى في يدها من الّر حى‪ ،‬وتسأله خادًم ا فلم تجده‬
‫في بيته‪ ،‬فأخبرت أّم المؤمنين عائشة بذلك‪ ،‬ولّم ا عاد ﷺ أخبرته عائشة‪ ،‬فذهب األب الحنون والوالد‬
‫الّر حيم والّنبي الكريم ﷺ ُم باشرة إلى ابنته فاطمة دون تأخير أو تسويف للّسؤال عنها واالطمئنان‬
‫عليها‪ ،‬ويصف لنا هذا المشهد زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي هللا عنه) فيقول‪:‬‬
‫«َفَج اَء َناﷺ وقْد أَخ ْذَنا َم َض اِج َعَنا‪َ ،‬فَذَهْبَنا َنُقوُم ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬عَلى َم َكاِنُكما َفَج اَء َفَقَعَد َبْيِني وبْيَنَه ا‪ ،‬حَّتى‬
‫وَجْدُت َبْر َد َقَد َم ْيِه عَلى َبْط ِني‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬أاَل أُدُّلُكما عَلى َخ ْيٍر مَّم ا َسَأْلُتَم ا؟ إَذا أَخ ْذُتما َم َض اِج َعُكما‪-‬أْو‬
‫أَو ْيُتما إلى ِفَر اِش ُكما‪َ-‬فَسِّبَح ا َثاَل ًثا وَثاَل ِثيَن ‪ ،‬واْح َم َدا َثاَل ًثا وَثاَل ِثيَن ‪ ،‬وَكِّبَر ا أْر َبًعا وَثاَل ِثيَن ‪َ ،‬فهو َخ ْيٌر‬
‫َلُكما ِم ن َخ اِد ٍم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فلم يجد ﷺ خادًم ا فعّو ضها بأعظم من ذلك‪ ،‬وهو ذكر هللا عند الّنوم بهذه الّص يغة الواردة‪،‬‬
‫وجمع ﷺ بين الّشفقة والّر حمة‪ ،‬والّداللة على الخير‪ ،‬والبّر بابنته وزوجها‪.‬‬
‫ومن شفقة فاطمة على أبيها وبّر ها به‪ ،‬ما قامت به لّم ا ُج رح ﷺ يوم أحد‪ ،‬فَكاَنْت َتْغِس ُل الَّدَم ‪،‬‬
‫َو كاَن َعِلُّي بُن َأِبي طاِلٍب َيْس ُكُب َعَلْيها بالِم َج ِّن ‪َ ،‬فَلّم ا َر َأْت فاِط َم ُة أَّن الماَء ال َيِز يُد الَّدَم إاّل َكْثَر ًة‪،‬‬
‫«َأَخ َذْت ِقْط َعَة َح ِص يٍر فأْح َر َقْتُه حّتى صاَر َر ماًدا‪ُ ،‬ثَّم َأْلَص َقْتُه بالُج ْر ِح‪ ،‬فاْس َتْم َسَك الَّد ُم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ووصل بّر ه ولطفه ﷺ بأحفاده الحسن والحسين أبناء علي وفاطمة‪ ،‬وكذلك أمامة بنت زينب‬
‫وأبي العاص (رضي هللا عنهم) جميًعا‪ ،‬يقول ُبريدة(رضي هللا عنه)‪« :‬كان رسوُل هللا يخُطُبنا إذ جاء‬
‫الَحَسُن والُحَسْيُن عليهما قميصاِن أحمراِن يمشياِن ويعُثراِن ‪ ،‬فنَز ل رسوُل هللا ﷺ ِم ن الِم نبِر‬
‫فحَم لهما فوَض عهما َبْيَن يَد ْيِه » [رواه الخمسة]‪.‬‬
‫فدعا ﷺ بقوله وفعله إلى العطف والبّر والحنان باألبناء والبنات‪ ،‬ونهى عن الجفاء والغلظة‬
‫معهم‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬قَّبَل َر سوُل هللا ﷺ الَحَسَن بَن َعِلًّي وِع ْنَد ُه األْقَر ُع بُن‬
‫َح اِبٍس الَّتِم يِم ُّي َج اِلًسا‪َ ،‬فَقاَل األْقَر ُع‪ :‬إَّن لي َعَشَر ًة ِم َن الَو َلِد ما َقَّبْلُت منهْم أَح ًدا‪َ ،‬فَنَظَر إَلْيِه َر سوُل‬
‫هللا ﷺ ُثَّم َقاَل ‪َ :‬م ن ال َيْر َح ُم ال ُيْر َح ُم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وذات يوم َأَخ َذ الَحَسُن بُن َعِلٍّي (رضي هللا عنهما)‪َ ،‬تْم َر ًة ِم ن َتْم ِر الَّصَدَقِة ‪َ ،‬فَج َعَلَه ا في ِفيِه ‪،‬‬
‫َفقاَل الّنبُّي ﷺ‪ِ« :‬ك ْخ ِك ْخ ‪ِ ،‬لَيْط َر َحَه ا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬أما َشَعْر َت أَّنا ال َنْأُكُل الَّص َد َقَة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فمع بّر ه ورحمته ﷺ بسبطه وقف عند األمر الّشرعي‪ ،‬وأبى أن يأكل من الّص دقة ألّنها ال‬
‫تحل ألهل البيت‪.‬‬
‫وعن عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما) أّن الّنبي ﷺ كاَن ُيَعِّو ُذ الَحَسَن والُح َسْيَن ‪ ،‬ويقوُل‪:‬‬
‫إَّن َأباُكما كاَن ُيَعِّو ُذ بها إْس ماِع يَل وإْس حاَق ‪َ :‬أُعوُذ بَكِلماِت هللا الّتاَّم ِة ‪ِ ،‬م ن ُكِّل شيطاٍن وهاَّم ٍة‪ ،‬وِم ْن‬
‫ُكِّل َعْيٍن الَّم ٍة » [رواه البخاري]‪« ،‬الهاَّم ُة»‪ُ :‬كُّل َذاِت ُسٍّم َيْقُتُل‪ ،‬و«الَعْين الاَل َّم ة»‪َ :‬أُّي َعْينٍ ُتِص يُب‬
‫ِبُسوٍء ‪.‬‬
‫حّتى في الّص الة المفروضة كان يصطحب ﷺ بعض أحفاده رحمة بهم وشفقة عليهم‪ ،‬فعن‬
‫شداد بن الهاد الّليثي (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬خ َر َج َعَلْيَنا َر ُسوُل هللا ﷺ ِفي ِإْح َدى َص اَل َتِي الَعِش ِّي‬
‫َو ُهَو َح اِم ٌل َحَسًنا َأْو ُحَسْيًنا‪َ ،‬فَتَقَّد َم َر ُسوُل هللا ﷺ َفَو َض َعُه‪ ،‬ثَّم كَّبَر للصالِة‪ ،‬فصَّلى‪َ ،‬فَسَج َد بيَن‬
‫َظْهراَنْي صالِته َسْج دًة أطاَلها‪َ ،‬فَر َفْعُت َر ْأِس ي َو ِإَذا الَّص ِبُّي على َظْه ِر َر ُسوِل هللا ﷺ َو ُهَو َساِج ٌد‪،‬‬
‫َفَر َجْعُت ِإلى ُسُج وِدي‪ ،‬فلَّم ا قَض ى َر ُسوُل هللا ﷺ الَّص الَة َقاَل الَّناُس ‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا ِإَّنَك َسَج ْدَت بيَن‬
‫َظهراَني صالِتك َسْج َد ًة َأَطْلَتَه ا َح َّتى َظَنَّنا َأَّنُه َقْد َح َد َث َأْم ٌر ‪َ ،‬أْو َأَّنُه ُيوَح ى ِإَلْيَك ‪َ ،‬قاَل ‪ُ :‬كُّل َذِلَك َلم َيُكْن ‪،‬‬
‫َو َلِك َّن اْبِني ارتَح لني‪َ ،‬فَكِر ْه ُت َأْن ُأَعِّج َلُه َح َّتى يقضَي َح اَج َتُه»[رواه أحمد]‪.‬‬
‫ولم يخّص ﷺ بُح به وبّر ه البنين دون البنات‪ ،‬فقد وصل ُح ّبه وحنانه لحفيدته أمامة بنت زينب‬
‫وَأِبي اْلَعاِص (رضي هللا عنهم)‪ ،‬يقول أبو َقَتاَدَة اَأْلْنَص اِر ُّي (رضي هللا عنه)‪َ« :‬ر َأْيُت النبَّي ﷺ َيُؤ ُّم‬
‫الَّناَس ‪ ،‬وُأَم اَم ُة بْنُت أِبي الَعاِص ‪ -‬وهي اْبَنُة َز ْيَنَب بْنُت النبِّي ﷺ عَلى َعاِتِقِه ‪َ ،‬فِإَذا َر َكَع وَض َعَه ا‪ ،‬وإَذا‬
‫َر َفَع ِم َن الُّسُج وِد أَعاَد َها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ووصل عطف أبّو ته ﷺ لألطفال كافة‪ ،‬ذكوًر ا وإناًثا‪ ،‬من أبنائه وبناته وأحفاده وأطفال‬
‫الجيران وغير الجيران‪ ،‬فكان أًبا للجميع‪ ،‬يستقبله األطفال في كّل مرة يدخل فيها المدينة فيحتضنهم‪،‬‬
‫وُيقّبلهم‪ ،‬وُيردفهم معه على دابته‪ ،‬فعن أنس (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬م ا َر َأْيُت َأَح ًدا َكاَن َأْر َح َم ِباْلِعَياِل‬
‫ِم ْن َر ُسوِل هللا ﷺ» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن جابر بن َسُم رة (رضي هللا عنه) قال‪َ :‬ص َّلْيُت مع َر سوِل هللا ﷺ َص اَل َة اُألوَلى‪ُ ،‬ثَّم َخ َر َج‬
‫إلى َأْه ِلِه َو َخ َر ْج ُت معُه َفاْس َتْقَبَلُه ِو ْلَداٌن ‪َ ،‬فَج َعَل َيْم َسُح َخَّدْي َأَح ِدِه ْم َو اِح ًدا َو اِح ًدا‪ ،‬قاَل ‪َ« :‬و َأَّم ا َأَنا َفَمَسَح‬
‫َخ ِّدي‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَو َجْدُت ِلَيِدِه َبْر ًدا‪َ ،‬أْو ِر يًح ا َكَأَّنَم ا َأْخ َر َجَه ا ِم ْن ُج ْؤ َنِة َعَّطاٍر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وعن عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬أَّن َر سوَل هللا ﷺ كان ُيْؤ تى بالِّص ْبياِن َفَيْدُعو لهْم » [ُم تفق‬
‫عليه]‪ ،‬وقال أبو موسى األشعري(رضي هللا عنه)‪ُ« :‬و ِلَد لي ُغالٌم َفأتْيُت بِه النبَّي ﷺ َفَسَّم اُه‬
‫إبراهيَم ‪َ ،‬فَح َّنَكُه ِبَتْم َر ٍة‪ ،‬ودعا لُه ِبالَبَر َكِة » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وُيواصل األب الّر حيم ﷺ لطفه وبّر ه ببناته حتى بعد وفاتهّن ‪ ،‬فقد قام على غسلهّن ‪،‬‬
‫وتكفينهّن ‪ ،‬والّص الة عليهّن ‪ ،‬ودفنهّن ‪ ،‬وكان يقف على قبورهّن ويدعو لهّن ‪ ،‬فَعْن ُأِّم َعِط ِّيَة اَألْنَص اِر َّيِة‬
‫(رضي هللا عنها) َقاَلْت ‪َ :‬دَخ َل َعَلْيَنا َر ُسوُل هللا ﷺ ِح يَن ُتُو ِّفَيِت اْبَنُتُه‪َ ،‬فَقاَل ‪« :‬اْغ ِس ْلَنَه ا َثاَل ًثا‪َ ،‬أْو َخ ْم ًسا‬
‫َأْو َأْك َثَر ِم ن ذلَك ‪ ،‬إْن َر َأْيُتَّن َذِلَك بَم اٍء وِس ْد ٍر ‪ ،‬واْج َعْلَن في اآلخرِة كاُفوًر ا‪ ،‬أو شيًئا مْن َكاُفوٍر ‪َ ،‬فِإَذا‬
‫َفَر ْغ ُتَّن فَآِذ َّنِني»‪َ ،‬فَلَّم ا َفَر ْغ َنا آَذَّناُه َفَأْع َطاَنا ِح ْقَو ُه – أي‪ :‬إزاره ‪َ -‬فَقاَل ‪َ« :‬أْش ِع ْر َنَه ا ِإَّياُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫و«أشعرنها»‪ :‬من اإلشعار‪ ،‬وهو إلباس الّثوب الذي يلي بشرة اإلنسان‪ ،‬وُيسَّم ى شعاًر ا؛ ألّنه يالمس‬
‫شعر الجسد‪ ،‬وابنته هي‪« :‬زينب»‪ ،‬كما جاء في رواية مسلم‪ ،‬وكان يقف ﷺ على قبرهّن ويدعو لهّن‬
‫مثلما فعل مع ابنته رقّية (رضي هللا عنها) لّم ا عاد ﷺ من بدر وقد ماتت‪ ،‬فخرج إلى بقيع الغرقد‪،‬‬
‫ووقف على قبرها يدعو لها بالّر حمة والغفران‪.‬‬
‫وهنا درس لمن ابتاله هللا بفقد أبنائه أو بناته أن يتذّكر أّن اإلمام المعصوم أكرم الخلق على‬
‫هللا قد فقد جميع بناته وأوالده قبل وفاته إاّل فاطمة‪.‬‬
‫وكان من ُسنته أّنه عند وفاة ابنه أو ابنته يحزن الحزن الّطبيعي‪ ،‬وتذرف عيناه ﷺ‪ ،‬يقول‬
‫أنس بن مالك (رضي هللا عنه) في خبر وفاة أّم كلثوم (رضي هللا عنها) ‪« :‬شهدنا بنًتا لرسول هللا ﷺ‬
‫ورسول هللا ﷺ جالٌس على القبر‪َ ،‬فَر َأْيُت َعْيَنْيِه َتْدمعاِن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وهذه دموع رحمة وشفقة وليست دموع تسخط أو اعتراض على قضاء هللا وقدره‪.‬‬
‫وبكى ﷺ على الكبار من أبنائه وعلى الّص غار‪ ،‬ففي حديث أنس (رضي هللا عنه) قال‪:‬‬
‫«َد َخ ْلَنا مع َر سوِل هللا ﷺ عَلى َأِبي َسْيٍف الَقْيِن ‪ ،‬وكاَن ِظ ْئًر ا ِإِل ْبَر اِه يَم عليه الَّساَل ُم ‪ ،‬فأَخ َذ َر سوُل هللا‬
‫ﷺ إْبَر اِه يَم ‪َ ،‬فَقَّبَلُه‪ ،‬وَشَّم ُه‪ُ ،‬ثَّم َد َخ ْلَنا عليه َبْعَد ذلَك وإْبَر اِه يُم َيُج وُد بَنْفِسِه ‪َ ،‬فَجَعَلْت َعْيَنا َر سوِل هللا‬
‫ﷺ َتْذِر َفاِن ‪َ ،‬فقاَل له عبُد الَّر ْح َمِن بُن َعْو ٍف (رضي هللا عنه)‪ :‬وَأْنَت يا َر سوَل هللا؟ َفقاَل ‪ :‬يا اْبَن َعْو ٍف‬
‫إَّنَه ا َر ْح َم ٌة‪ُ ،‬ثَّم َأْتَبَعَه ا بُأْخ َر ى‪َ ،‬فقاَل ﷺ‪ :‬إَّن الَعْيَن َتْد َمُع ‪ ،‬والَقْلَب َيْح َز ُن ‪ ،‬واَل َنُقوُل إاَّل ما َيْر َض ى َر ُّبَنا‪،‬‬
‫وإَّنا بِفَر اِقَك يا إْبَر اِه يُم َلَم ْح ُز وُنوَن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وفاضت شفقته ورحمته ﷺ وحزنه على أحفاده الّص غار‪ ،‬فعن أسامة بن زيد (رضي هللا‬
‫عنهما) قال‪ُ« :‬كَّنا ِع ْنَد النبِّي ﷺإْذ َج اَء ُه َر سوُل إْح َدى َبَناِتِه ‪َ ،‬يْدُعوُه إلى اْبِنَه ا في الَم ْو ِت‪َ ،‬فقاَل النبُّي‬
‫ﷺ‪ :‬اْر ِج ْع إَلْيَه ا فأْخ ِبْر َها أَّن هلل ما أَخ َذ وله ما أْع َطى‪ ،‬وُكُّل شيٍء ِع ْنَد ُه بَأَج ٍل ُمَسًّم ى‪َ ،‬فُمْر َها َفْلَتْص ِبْر‬
‫وْلَتْح َتِس ْب ‪ ،‬فأَعاَدِت الَّر ُسوَل أَّنَه ا قْد أْقَسَم ْت َلَتْْأِتَيَّنَه ا‪َ ،‬فَقاَم النبُّي ﷺوَقاَم معُه َسْعُد بُن ُعَباَدَة‪ ،‬وُم َعاُذ بُن‬
‫َجَبٍل ‪َ ،‬فُدِفَع الَّص ِبُّي إَلْيِه وَنْفُسُه َتَقْعَقُع َكأَّنَه ا في َشٍّن ‪َ ،‬فَفاَض ْت َعْيَناُه‪َ ،‬فقاَل له َسْعٌد‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬ما‬
‫هذا؟ قاَل ‪ :‬هِذه َر ْح َم ٌة َجَعَلَه ا ُهللا في ُقُلوِب ِعَباِدِه ‪ ،‬وإَّنما َيْر َح ُم ُهللا ِم ن ِعَباِدِه الُّر َح َم اَء » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫في زحمة أشغاله‪ ،‬وكثرة أعماله‪ ،‬يعتذر البنته بلطف في عدم الحضور عند وفاة ابنها‪ ،‬فتقسم‬
‫عليه لمنزلتها عنده‪ ،‬وعلمها وتأّكدها من جميل رحمته وعظم رفقه‪ ،‬فيقوم ُم سرًعا‪ ،‬ويجبر كسرها‪،‬‬
‫ويتلّطف بخاطرها‪ ،‬ويحضر المشهد‪ ،‬وتسيل دموعه شفقة ورحمة بحفيده ﷺ‪.‬‬
‫إّن ما زرعه هللا من عاطفة في اآلباء ألبنائهم وبناتهم هو أمر فطري في اإلنسان‪ ،‬لكن لم‬
‫ُيحّقق الكمال البشرّي فيه إاّل رسولنا ﷺ؛ ألّن أبوته أبوة نبوية‪ ،‬ورحمة إلهية‪ ،‬لم تقتصر على بناته‬
‫وأبنائه الذين من صلبه فقط‪ ،‬بل وصلت لكل أبناء وبنات اُألّم ة‪ ،‬فقد وسعهم ببّر ه‪ ،‬وحباهم بُلطفه‪،‬‬
‫ورعاهم بحنانه‪ ،‬وما ُنقل لنا من سيرة أبوته ُيعّد مفخرة للبشرّية إلى يوم الّدين‪ ،‬وشرف لإلنسانية إلى‬
‫يوم يبعثون‪ ،‬فال زال بّر ه بأبنائه وبناته من أّم ته باقًيا إلى قيام الّساعة؛ ألّن كل طفل في العالم يفتق‬
‫لسانه بال إله إاّل هللا محمد رسول هللا‪ ،‬أو ُيصلي أو يصوم‪ ،‬أو يحّج أو يتصّدق؛ فإّنما هو بفضل هللا‪،‬‬
‫ثم ببر هذا الّنبي الكريم المعصوم‪ ،‬وهو ﷺ الذي ألهم اآلباء البّر والّر حمة ببناتهم وأبنائهم والّشفقة‬
‫عليهم‪ ،‬وحسن تربيتهم‪ ،‬وجميل رعايتهم‪ ،‬والّنبع الذي يرتوون ِم نه ُح ًّبا وحناًنا‪ ،‬والّنور الذي أضاء‬
‫حياتهم عد وبًّر ا‪ ،‬بوصايا ثابتة وُسنن صحيحة باقيٍة حتى يرث هللا األرض والّسماوات‪:‬‬
‫أسبلُت يف حِّب الّرسوِل ُعيوين‬
‫شوًقا إليه وما قضيُت ديوين‬
‫اي أهل (طيبة) ما قضيُت مآريب‬
‫يف روضِة احلرم الّش ـريِف ُش ُج وين‬
‫لكن سأغسل ابلّصالة مدامعي‬
‫صّلوا على خري الورى املأموِن‬
‫ما غاَب عن ابيل وكيف يغيب َمْن‬
‫كّح لُت من ِذكرى ُه داه جفون‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َعاِبًد ا‬
‫أعظم الّناس عبادة هلل هو رسول هللا ﷺ‪ ،‬فهو أتقى الخليقة لرّبه‪ ،‬وأكثرهم طاعة وعبودية‬
‫لمواله‪ ،‬ومفهوم العبادة أوسع مّم ا يتصوره الكثيُر من الّناس الذين يحصرون العبادة في الّص الة‬
‫والّز كاة والّص يام والحج والعمرة ونحوها‪ ،‬وال شك أّن هذه من أصول العبادات‪ ،‬وأركان الّطاعات‪،‬‬
‫ولكن كل الحياة في مفهوم الكتاب والسنة عبادة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و َم ا َخ َلْقُت اْلِج َّن َو اِإل ْنَس ِإَّال ِلَيْعُبُدوِن }‬
‫[الذاريات‪ :‬اآلية ‪.]56‬‬
‫فالعبادة هي كل ما ُيحّبه هللا ويرضاه من األقوال واألعمال‪ ،‬الّظاهرة والخفّية‪ ،‬وتشمل أركان‬
‫اإلسالم‪ ،‬وأركان اإليمان‪ ،‬وركن اإلحسان‪ ،‬وأعمال القلوب‪ ،‬والبر‪ ،‬والّص لة‪ ،‬وُح سن الُخ ُلق‪ ،‬والكرم‪،‬‬
‫واإليثار‪ ،‬والتواضع‪ ،‬واألمر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن الُم نكر‪ ،‬ونفع الّناس‪ ،‬وكّف األذى عنهم‪،‬‬
‫والّر حمة بهم‪ ،‬وبالحيوان والّطيور أيًض ا‪ ،‬كل ذلك عبادة‪ ،‬وما يدخل في إصالح البيئة من إماطة‬
‫األذى‪ ،‬وإصالح الُطرق‪ ،‬وإزالة ما يؤذي الّناس في مجالسهم وطرقاتهم عبادة‪.‬‬
‫وإمام العابدين هو رسول رّب العالمين ﷺ‪ ،‬فهو من عّلم األمة كيف تعبد رّبها‪ ،‬وهو الذي‬
‫عّبد الناس لموالهم وخالقهم‪ ،‬وأي عبادة ال تأتي من طريقه ولم ُيعّلمها هو فهي باطلة ومردودة كما‬
‫قال ﷺ‪َ« :‬م ن َعِم َل َعماًل ليَس عليه أْم ُر نا َفهو َر ٌّد» [ُم تفق عليه]‪ ،‬فهو ﷺ الذي عّلمنا جميع العبادات‬
‫من صالة‪ ،‬وصيام‪ ،‬وحج‪ ،‬وزكاة‪ ،‬وأدعية‪ ،‬وأذكار‪ ،‬وكل شأن من شؤون العبادة‪ ،‬وكان ﷺ يقول‪:‬‬
‫«َص ُّلوا َكَم ا َر َأْيُتُم وِني أصِّلي» [رواه البخاري]‪ ،‬ويقول ﷺ‪ِ« :‬لَتْأُخ ُذوا َم ناِس َكُكْم » [رواه مسلم]‪،‬‬
‫ويقول ﷺ‪َ« :‬أما َو هللا‪ ،‬إِّني َألْتَقاُكْم هلل‪َ ،‬و َأْخ َشاُكْم له» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فكانت حياته ﷺ كلها عبادة‪ :‬صالته‪ ،‬وصيامه‪ ،‬وصدقته‪ ،‬وحّج ه‪ ،‬وُعمرته‪ ،‬ودعوته‪ ،‬بل‬
‫نومه ويقظته‪ ،‬وطعامه وشرابه‪ ،‬وأنفاسه‪ ،‬ولحظاته‪ ،‬ونظراته‪ ،‬وعباراته‪.‬‬
‫فهو الذي عّلم الخلق عبادة الخالق‪ ،‬ودّل العباد على عبادة المعبود‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيخبر الّناس حتى في ُم باحاتهم ولذائذهم أّنهم إذا قصدوا بها طاعة رّبهم تحولت‬
‫بتلك الّنية الصالحة لعبادة‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬وإَّنَك َلْن ُتْنِفَق َنَفَقًة َتْبَتِغ ي بَه ا وْج َه هللا إاَّل ُأِج ْر َت ‪ ،‬حَّتى ما‬
‫َتْج َعُل في ِفي اْم َر َأِتَك » [ُم تفق عليه]‪ ،‬أي ما تطعمه امرأتك ُيعّد مع النّية عبادة‪.‬‬
‫وجاء في «صحيح مسلم» عن أبي ذر الغفاري (رضي هللا عنه) أَّن َناًسا ِم ن َأْص َح اِب النبِّي‬
‫ﷺ قالوا للنبِّي‪« :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬ذَهَب َأْه ُل الُّد ُثوِر باُألُج وِر ‪ُ ،‬يَص ُّلوَن كما ُنصِّلي‪َ ،‬و َيُص وُم وَن كما‬
‫َنُص وُم ‪َ ،‬و َيَتَص َّد ُقوَن بُفُضوِل َأْم َو اِلهْم ‪ .‬قاَل ‪َ :‬أَو ليَس قْد َجَعَل هللا َلُكْم ما َتَّص َّد ُقوَن ؟ إَّن بُكِّل َتْس ِبيَحٍة‬
‫َص َد َقًة‪َ ،‬و ُكِّل َتْك ِبيَر ٍة َص َد َقًة‪َ ،‬و ُكِّل َتْح ِم يَد ٍة َص َد َقًة‪َ ،‬و ُكِّل َتْهِليَلٍة َص َد َقًة‪َ ،‬و َأْم ٌر بالَم عروِف َص َد َقٌة‪َ ،‬و َنْه ٌي‬
‫عن ُم ْنَكٍر َص َد َقٌة‪ ،‬وفي ُبْض ِع َأَح ِدُكْم َص َد َقٌة‪ .‬قالوا‪ :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬أَيأتي َأَح ُدَنا َشْه َو َتُه َو َيكوُن له ِفيَه ا‬
‫َأْج ٌر ؟‪ ،‬قاَل ‪َ :‬أَر َأْيُتْم لو َو َض َعَه ا في َح َر اٍم َأكاَن عليه ِفيَه ا ِو ْز ٌر ؟ َفَكذلَك إَذا َو َض َعَه ا في الَح اَل ِل كاَن له‬
‫َأْج ٌر »‪ ،‬فجماع الّر جل لزوجته إذا قصد به إعفاف نفسه وإعفافها كان صدقة‪.‬‬
‫فانظر التساع مفهوم العبادة في حياته ﷺ‪ ،‬حيث كانت دعوته تقوم على الّتوازن والّشمول في‬
‫حياة اإلنسان فيقول ﷺ‪« :‬إَّن ِلَر ِّبَك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وِلَنْفِس َك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وَأِلْه ِلَك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬فأْع ِط ُكَّل ِذي‬
‫َح ٍّق َح َّقُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وفتح ﷺ أبواب الحياة كلها‪ ،‬فجعلها عبادة هلل‪ ،‬فكان نظره عبًر ا‪ ،‬وصمته تفكًر ا‪ ،‬وحديثه‬
‫تذكًر ا‪ ،‬فالفكر والّنظر والّلسان والجوارح كلها في عبادة رّب العالمين‪ .‬وعبادة التفّكر هي عبادة‬
‫األنبياء‪ ،‬وسلوة األتقياء‪ ،‬وسبيل االهتداء‪ ،‬والكون هو الكتاب المفتوح‪ ،‬والعالم المشروح آليات هللا‬
‫البّينات‪ ،‬نقرأ فيه أحرف الّص مدانية‪ ،‬وعبارات الوحدانّية‪.‬‬
‫ولقد غلط المالحدة غلًطا بّيًنا في فصل هذا الكون عن هللا عّز وجل‪ ،‬فهم يتحدثون عن المادة‬
‫التي تراها العين‪ ،‬ونسوا الخالق الحكيم المصور ال إله إاّل هو‪ ،‬وال رّب سواه‪.‬‬
‫ومن يقرأ سيرة نبّينا ﷺ وقد أتى باآليات البّينات التي تربط اإلنسان بالكون وخالقه‪،‬‬
‫فالّدالالت في الكتاب المسطور تقودك إلى حقيقة الكون المنظور‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬أَلْم َتَر َأَّن َهَّللا ُيَسِّبُح َلُه‬
‫َم ْن ِفي الَّسَم اَو اِت َو اَألْر ِض َو الَّطْيُر َص آَّفاٍت ُكٌّل َقْد َعِلَم َص َالَتُه َو َتْس ِبيَح ُه َو ُهَّللا َعِليٌم ِبَم ا َيْفَعُلوَن }‬
‫[النور‪ :‬اآلية ‪ ،]41‬فالتفّكر عبادة أمرنا هللا تعالى بها جّل في عاله‪ ،‬قال ُسبحانه‪ِ{ :‬إَّن ِفي َخ ْلِق‬
‫الَّسَم اَو اِت َو اَألْر ِض َو اْخ ِتَالِف الَّلْيِل َو الَّنَه اِر َآلَياٍت ُِأل وِلي اَألْلَباِب} [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ ]190‬وكان‬
‫عليه الّص الة والّسالم يجعل من نظره اعتباًر ا‪ ،‬فهو سّيد الُم تدبرين والُم تفكرين‪ ،‬بل هو الذي عّلم‬
‫األّم ة عبودية الّتفكر في آالء هللا‪ ،‬وفي خلق هللا‪ ،‬وفي آيات هللا‪ ،‬والقرآن العظيم الذي أتى به ﷺ‪،‬‬
‫وبّلغه اُألّم ة؛ كُّله دعوة إلى التأمل في الكون‪ ،‬والتفّكر في جالل العظمة‪ ،‬وفي أحرف القدرة‪ ،‬وأسطر‬
‫ُص ْنع الباري سبحانه‪.‬‬
‫والقرآن ينادينا إلى تكرار الّنظر في ملكوت هللا من حولنا‪ُ{ :‬قِل اْنُظُر وا َم اَذا ِفي الَّسَم اَو اِت‬
‫َو اَألْر ِض } [يونس‪ :‬اآلية ‪ ،]101‬ويقول سبحانه‪َ{ :‬و َكَأِّين ِم ْن آَيٍة ِفي الَّسَم اَو اِت َو اَألْر ِض َيُم ُّر وَن‬
‫َعَلْيَه ا َو ُهْم َعْنَه ا ُم ْعِر ُضوَن } [يوسف‪ :‬اآلية ‪.]105‬‬
‫بل القرآن ينادي بالتدّبر‪ ،‬والتفّكر‪ ،‬واالعتبار‪ ،‬وأخذ الّدروس في الّسماء‪ ،‬واألرض‪،‬‬
‫والّشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والّنجوم والجبال‪ ،‬والكواكب والّتالل‪ ،‬والحدائق الغّناء‪ ،‬والبساتين الفيحاء‪،‬‬
‫والبحار واألنهار‪ ،‬والثمار واألشجار‪ ،‬فكان ﷺ يعيش هذه العبودية بقلبه‪ ،‬وروحه‪ُ ،‬م سافًر ا وُم قيًم ا‪،‬‬
‫حااًل وُم رتحاًل ‪ ،‬وكان يجمع ﷺ بين كتابين‪ :‬الكتاب المنظور في الكون‪ ،‬والكتاب المسطور في‬
‫القرآن‪ ،‬الكتاب المفتوح في آيات هللا المعروضة في خلقه‪ ،‬والكتاب المشروح في القرآن العظيم‪.‬‬
‫وتتعدد هذه العبادة منه في أجمل الّص ور إلى أن تصل إلى نفع اإلنسان‪ ،‬ونفع الحيوان‬
‫والّطيور والحشرات‪ ،‬ففي «الّص حيحين» عن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أَّن َر سوَل هللا ﷺ قاَل ‪:‬‬
‫«َبْينا َر ُجٌل َيْم ِشي‪ ،‬فاْش َتَّد عليه الَعَطُش ‪َ ،‬فَنَز َل بْئًر ا‪َ ،‬فَشِر َب ِم ْنها‪ُ ،‬ثَّم َخ َر َج فإذا هو بَكْلٍب َيْلَه ُث َيْأُكُل‬
‫الَّثرى ِم َن الَعَطِش ‪ ،‬فقاَل ‪ :‬لَقْد َبَلَغ هذا ِم ْثُل الذي َبَلَغ بي‪َ ،‬فمَأَل ُخ َّفُه‪ُ ،‬ثَّم أْم َسَكُه بِفيِه ‪ُ ،‬ثَّم َر ِقَي ‪َ ،‬فَسقى‬
‫الَكْلَب ‪َ ،‬فَشَكَر هللا له‪َ ،‬فَغَفَر له‪ ،‬قالوا‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬وإَّن لنا في الَبهاِئِم أْج ًر ا؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬في ُكِّل َكِبٍد َر ْط َبٍة‬
‫أْج ٌر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فكل ما يقوم به المسلم من إحسان إلى البهائم والعجماوات حتى الّنمل والّنحل والطيور فيه‬
‫أجر ومثوبة‪.‬‬
‫ومنهجه ﷺ في العبادة يجمعه قول هللا تعالى‪ُ{ :‬قْل ِإَّن َص َالِتي َو ُنُسِك ي َو َم ْح َياَي َو َمَم اِتي ِهَّلِل‬
‫َر ِّب اْلَعاَلِم يَن } [األنعام‪ :‬اآلية ‪ ،]162‬فهل أبقت هذه اآلية من صور العبادات ومشاهد الطاعات‬
‫شيًئا؟!‬
‫إّن رسولنا ﷺ يسير على هدي رّباني في يومه وليلته‪ ،‬وقد ُألفت ُكتٌب ومجلدات في عباداته‬
‫اليومّية النهارية والّليلّية‪ ،‬فقد كانت كل حركة من حركاته ﷺ‪ ،‬وكل سكنٍة‪ ،‬وكل لحظٍة‪ ،‬وكل لفظٍة‬
‫تصدر منه عبادة‪.‬‬
‫وعبادته لرّبه تقوم على اإلخالص لخالقه ومواله‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والّتوازن‪ ،‬واالعتدال‪،‬‬
‫والمداومة‪ ،‬فكان ﷺ سيد الُم خلصين‪ ،‬وإمام الُم خبتين والمتبتلين‪ ،‬وكان يلزم االقتصاد والوسط في‬
‫عبادته‪ ،‬فال إفراط وال تفريط‪ ،‬وكان يقول ﷺ‪« :‬إَّياُكم والُغُلَّو » [رواه أحمد]‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬إَّن الِّديَن‬
‫ُيْس ٌر ‪ ،‬وَلْن ُيَشاَّد الِّديَن أَح ٌد إاَّل َغَلَبُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان أحّب العمل إليه ﷺ ما داوم عليه صاحبه وإن قّل ‪ ،‬وكان ﷺ إذا عمل عماًل داوم عليه‪،‬‬
‫وكان يعيش الّتوازن في عبادته ﷺ‪ ،‬وفي حياته عموًم ا‪ ،‬فال يخل بحق على حساب حق‪ ،‬فللصالة‬
‫وقت‪ ،‬وللقرآن خلوة‪ ،‬وللتهّج د زمان‪ ،‬ولألهل حٌّق ‪ ،‬وللُم سلمين نصيٌب ‪ ،‬فحياته ﷺ حديقة غّناء من‬
‫العبادة لرّبه ومواله‪ ،‬كاملة ُم كّم لة‪ ،‬تامة ُم تممة‪ ،‬فتجد فيها الّص الة الخاشعة‪ ،‬والّتالوة المتدّبرة‪،‬‬
‫والّذكر الحاضر‪ ،‬والموعظة البليغة‪ ،‬والّدرس النافع‪ ،‬والّص دقة الُم تقّبلة‪ ،‬والبّر والّص لة‪ ،‬والجهاد في‬
‫سبيل هللا‪ ،‬وتعليم الجاهل‪ ،‬واألمر بالمعروف والّنهي عن الُم نكر‪ ،‬وإقامة العدل بين الّناس‪ ،‬ورفع‬
‫المظالم‪ ،‬والّر حمة بالمساكين واأليتام والفقراء واألرامل‪ ،‬وتجهيز الجيوش‪ ،‬وحفظ المال العام‪،‬‬
‫ورعاية مصالح العباد‪ ،‬وبناء الّدولة اإلسالمّية‪ ،‬إلى غير ذلك من حقول الحياة المختلفة‪.‬‬
‫ولقد حّو ل ﷺ الحياة كّلها إلى عبادة هلل‪ ،‬فكل خطوة من خطواته‪ ،‬وكلمة من كلماته‪ ،‬وإشارة‬
‫من إشاراته‪ ،‬وعبارة من عباراته‪ ،‬عبادة لمواله وطاعة لخالقه‪ ،‬حتى مزاحه ﷺ مع األطفال‪،‬‬
‫وُم داعبته ألهله‪ ،‬وُم الطفته ألصحابه‪ ،‬عبادة لمواله‪ ،‬يحتسب أجرها وبّر ها عند هللا؛ ألنه عليه‬
‫الّص الة والّسالم معصوم ال ينطق عن الهوى‪ ،‬وال يتصّر ف تصرَف بشٍر عادٍّي‪ ،‬بل إماٍم مرسٍل‬
‫معصوٍم بالّنبوة‪ ،‬مجتبى من هللا‪ ،‬مختار لهداية الّناس‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬ج اَء‬
‫َثاَل َثُة َر ْه ٍط إلى ُبُيوِت أْز َو اِج الَّنبِّي ﷺ يسَألون عن عبادِة الَّنبِّي ﷺ فلَّم ا ُأخِبُر وا كأَّنهم تقاُّلوها فقالوا‪:‬‬
‫وأيَن نحُن ِم ن الَّنبِّي ﷺ؟! قد ُغِفر له ما تقَّدم ِم ن ذنِبه وما تأَّخ ر؟! قال أحُدهم‪ :‬أَّم ا أنا فإِّني ُأصِّلي‬
‫الَّليَل أبًدا وقال اآلَخ ُر ‪ :‬أنا أصوُم الَّدهَر وال ُأفِط ُر وقال اآلَخ ُر ‪ :‬أنا أعتِز ُل الِّنساَء وال أتزَّو ُج أبًدا‪،‬‬
‫فجاء رسوُل هللا ﷺ فقال‪ :‬أْنُتُم اَّلِذيَن ُقلُتْم َكَذا وَكَذا؟ أَم ا وهللا إِّني ألخشاكم ِهلل وأتقاكم له وَأْتَقاُكْم له‪،‬‬
‫َلِكِّني أُص وُم وُأْفِط ُر وُأصِّلي وأرُقُد وَأَتَز َّو ُج الِّنَساَء ‪ ،‬فَم ن َر ِغ َب عن ُسَّنتي فليَس ِم ِّني» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫صّو ر لنا رسول هللا ﷺ أّن الحياة ُكّلها سجدة هلل‪ ،‬حتى ما نتلذذ ونتنعم به في حياتنا جعله‬
‫عبادة هلل‪ ،‬فأكلنا للّطعام اللذيذ‪ ،‬وُشربنا للماء البارد‪ ،‬ولباسنا للّثوب الجديد الجميل‪ ،‬ونومنا الهاني‪،‬‬
‫كلها بالنّية تتحّو ل إلى طاعة‪ ،‬وكأّننا في صالة دائمة لرّب لعالمين‪ ،‬وهذه هي هداية الّنبّو ة‪ ،‬وبركة‬
‫الّر سالة التي أكرمنا هللا بها عن طريق نبّيه المصطفى‪ ،‬وخليله الُم جتبى محمد بن عبدهللا ﷺ‪.‬‬
‫وإذا ظّن اإلنسان أّن عبادته فقط في صالته‪ ،‬وصيامه‪ ،‬وحّج ه‪ ،‬فإّنه صاحب فهم قاصر‬
‫للعبادة؛ ألنه حّدها بحد قليل‪ ،‬وقصرها على صور محدودة‪ ،‬بل الّص حيح أّن حياة الُم سلم والُم سلمة‬
‫من أّو لها آلخرها‪ ،‬في ليلها ونهارها‪ ،‬وسّر ها وعالنيتها‪ ،‬وسّر ائها وضّر ائها‪ ،‬وشّدتها ورخائها‪ ،‬مع‬
‫النّية الصادقة عبادة هلل عّز وجل‪ ،‬وطاعة له تبارك اسمه وتعالى قدره‪ ،‬ففي «الصحيحين» أّنه ﷺ‬
‫كان إَذا َص َّلى َقاَم حَّتى َتَفَّطَر ِر ْج اَل ُه‪ ،‬قاَلْت َعاِئَشُة‪« :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬أَتْص َنُع هذا‪َ ،‬و َقْد ُغِفَر لَك ما َتَقَّد َم‬
‫ِم ن َذْنِبَك َو ما َتَأَّخ َر ؟!‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬يا َعاِئَشُة َأفال َأُكوُن َعْبًدا َشُكوًر ا»‪.‬‬
‫لقد أمر هللا نبّيه ﷺ بمناجاته لياًل ويتلذذ بمناجاة مواَل ه وخالِقه‪ ،‬فقال له سبحانه‪َ{ :‬و ِم َن الَّلْيِل‬
‫َفَتَه َّج ْد ِبِه َناِفَلًة َلَك َعَسى َأْن َيْبَعَثَك َر ُّبَك َم َقاًم ا َم ْح ُم وًدا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]79‬فكما يقوم ُم تبتاًل في‬
‫ليله ُم تشّر ًفا بعبادة مواله يشّر فه هللا على رؤوس الخالئق بأن يقيمه المقام المحمود مقام الّشفاعة‬
‫الُكبرى‪.‬‬
‫ويقول له ربه‪َ{ :‬و اْسُج ْد َو اْقَتِر ْب } [العلق‪ :‬اآلية ‪ ،]19‬وفي هاتين الكلمتين يطوف الخيال‬
‫البشري إذ إنهما تجمعان كل معاني الوالية واإلخبات والّتذلل والخضوع من سّيد ولد آدم ﷺ هلل رّب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫فبالسجود وهو ُم نخفض يعلو مرتفًعا إلى مواله وخالقه‪ ،‬ويقول له سبحانه‪َ{ :‬و اْعُبْد َر َّبَك َح َّتى‬
‫َيْأِتَيَك اْلَيِقيُن } [الحجر‪ :‬اآلية ‪ ،]99‬إّنه اّتصال مباشر‪ ،‬واستمرار في العبادة حتى الّنهاية‪ ،‬ليس هناك‬
‫فراغ‪ ،‬ولذلك يقول تعالى‪َ{ :‬فِإَذا َفَر ْغ َت َفاْنَص ْب } [الشرح‪ :‬اآلية ‪ ،]8‬إذا فرغت من أعمالك‬
‫وأشغالك ومهام الّدعوة فانصب واتعب في عبادة رّبك وموالك‪.‬‬
‫ويخاطبه رّبه وخالقه قائاًل ‪َ{ :‬و َتَبَّتْل ِإَلْيِه َتْبِتيًال} [المزمل‪ :‬اآلية ‪ ،]8‬أي‪ :‬انقطع إليه انقطاًعا‬
‫عاًّم ا وخاًص ا‪ ،‬تبّتل بقلبك وجوارحك‪ ،‬وسرك وعالنيتك‪ ،‬فكان يقوم ﷺ ُم تبّتاًل لرّبه‪ُ ،‬م نطرًح ا له‬
‫بالّسجود‪ ،‬كما حكت عائشة (رضي هللا عنها) وقد مرت عليه ﷺ وهو ساجد مخبت يبكي في سجوده‪،‬‬
‫فتضع كفها في الظالم على قدميه وهما منصوبتان وقد سافرت روحه ‪ -‬بأبي هو وأمي ﷺ ‪ -‬إلى‬
‫مواله وخالقه ويقول في سجوده‪« :‬اللُه َّم َأُعوُذ ِبِر َضاَك ِم ْن َسَخ ِط َك ‪َ ،‬و ِبُم َعاَفاِتَك ِم ْن ُعُقوَبِتَك ‪َ ،‬و َأُعوُذ‬
‫ِبَك ِم ْنَك ُأْح ِص ي َثَناًء َعَلْيَك َأْنَت َكَم ا َأْثَنْيَت َعَلى َنْفِس َك » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فباهلل إذا كان هذا هو سيد ولد آدم المعصوم الذي غفر هللا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬يقول‬
‫هذا الّتضرع وهذا الّتذلل‪ ،‬وهذا الخضوع لرّبه‪ ،‬فماذا علينا نحن سوى التأسي به‪.‬‬
‫وفي «صحيح مسلم» عن عائشة (رضي هللا عنها) أّنه كان ﷺ إَذا َقاَم ِم َن الَّلْيِل اْفَتَتَح َص اَل َتُه‪:‬‬
‫«اللُه َّم ! َر َّب َجْبَر اِئيَل ‪َ ،‬و ِم يَكاِئيَل ‪َ ،‬و ِإْس َر اِفيَل ‪َ ،‬فاِط َر الَّسَم اَو اِت َو اَأْلْر ِض ‪َ ،‬عاِلَم اْلَغْيِب َو الَّشَه اَد ِة‪َ ،‬أْنَت‬
‫َتْح ُكُم َبْيَن ِعَباِد َك ِفيَم ا َكاُنوا ِفيِه َيْخ َتِلُفوَن ‪ ،‬اْه ِدِني ِلَم ا اْخ ُتِلَف ِفيِه ِم َن اْلَح ِّق ِبِإْذِنَك ‪ِ ،‬إَّنَك َتْهِدي َم ْن‬
‫َتَشاُء ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْس َتِقيٍم »‪.‬وال تدري مَّم تعجب؟! هل من طول صالته ﷺ؟! أم من إخباته‪،‬‬
‫وخشوعه‪ ،‬وانكساره لمواله؟ أم من ُح سن كالمه‪ ،‬وبليغ دعائه‪ ،‬وجميل عبادته لمواله وربه وخالقه؟!‬
‫وعن أنٍس (رضي هللا عنه) قال‪« :‬كاَن َر سوُل هللا ﷺ ُيْفِط ُر‬
‫َيُص وَم منه‪ ،‬وَيُص وُم حّتى َنُظَّن َأْن ال ُيْفِط َر منه شيًئا‪ ،‬وكاَن ال َتشاُء‬
‫َر َأْيَتُه‪ ،‬وال ناِئًم ا إاّل َر َأْيَتُه» [رواه البخاري‪ ،‬ومسلم مختصًر ا]‪.‬‬
‫ِم َن الَّشْه ِر حّتى َنُظَّن َأْن ال‬
‫َأْن َتراُه ِم َن الَّلْيِل ُم َصِّلًيا إاّل‬
‫فيا أيها العالم‪ ،‬واألمير‪ ،‬والوزير‪ ،‬والمهندس‪ ،‬والطبيب‪ ،‬والجندي‪ ،‬والفاّل ح‪ ،‬واإلعالمي‪،‬‬
‫والخّياط‪ ،‬والنّج ار‪ ،‬والكاتب‪ ،‬والشاعر! أنتم في عبادة متى ما نويتم الخير وقصدتم ما عند هللا‪ ،‬فهنيًئا‬
‫لكم باألجر‪ ،‬وُقّر ة عين لكم بالمثوبة‪ ،‬وتذكروا قول نبيكم المختار ﷺ‪« :‬إَّنما األْعماُل بالِّنّياِت‪ ،‬وإَّنما‬
‫ِلُكِّل اْم ِر ٍئ ما َنوى» متفق عليه‪ ،‬والزموا ُسّنته ﷺ بال إفراط وال تفريط‪ ،‬وال غلو وال جفاء‪ ،‬فإّنه ال‬
‫فالح وال نجاح إاّل في اتباع هديه ولزوم ُسّنته‪ ،‬واالقتصاد في الّسنة خير من االجتهاد في البدعة‪،‬‬
‫«اَتبعوا وال َتبتدعوا فقْد ُكفيُتْم »‪ ،‬وخير االّتباع هو اّتباع سيد المرسلين‪ ،‬وإمام العابدين‪ ،‬ﷺ في‬
‫األولين‪ ،‬وﷺ في اآلخرين‪ ،‬وﷺ إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫ماذا أقول وأنت أكرُم من سجْد‬
‫وأبُّر من عرف اإللَه ومن عبْد‬
‫عّلمتنا أّن احلياة أبسرها‬
‫تسبيحٌة هلل يف طول األمْد‬
‫سافرَت ابألرواح يف ملكوته‬
‫ُس بحانه فالنفُس هتتُف اي صمْد‬
‫يف كل موقع ذرٍة من خلقِه‬
‫نتلو معاين (قل هو هللا أحْد )‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَص ّلًيا‬
‫كانت الّص الة في حياة الّنبي ﷺ حاضرة ماثلة أمام عينيه‪ ،‬يحّثه الوحي عليها دائًم ا‪ ،‬وُيذّكره‬
‫بها رّبه في كل آٍن ‪ ،‬في أوقات الّشدة والّر خاء‪ ،‬وفي السّر اء والضّر اء‪ ،‬يقول سبحانه‪َ{ :‬و َأِقِم الَّص َالَة‬
‫َطَر َفِي الَّنَه اِر َو ُز َلًفا ِم َن الَّلْيِل ِإَّن اْلَحَسَناِت ُيْذِهْبَن الَّسِّيَئاِت َذِلَك ِذ ْك َر ى ِللَّذاِك ِر يَن } [هود‪ :‬اآلية ‪،]114‬‬
‫وذلك في أوقات ُم حّددة‪ ،‬ومواعيد قائمة‪ ،‬يلتقي فيها الّنبي الكريم برّبه الّر حمن الّر حيم؛ ليناجيه‪،‬‬
‫ويتزّو د من معارفه‪ ،‬ويذوق حالوة عبادته وطاعته‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬أِقِم الَّص َالَة ِلُدُلوِك الَّشْم ِس ِإَلى‬
‫َغَسِق الَّلْيِل َو ُقْر آَن اْلَفْج ِر ِإَّن ُقْر آَن اْلَفْج ِر َكاَن َم ْش ُه وًدا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪.]78‬‬
‫فالّص الة محطات خمس على مدار الّليل والّنهار‪ُ ،‬كّلما فترت الّنفس أو خملت أو كسلت أو‬
‫ابتعدت؛ جاءت الّص الة بفيضها اإللهي‪ ،‬وغيثها الّر باني‪ ،‬لتواصل الّنفُس رحلتها إلى موالها‪،‬‬
‫وتستمر في سفرها إلى بارئها‪ ،‬يقول رب العالمين لنبّيه ﷺ‪ِ{ :‬إَّن الَّص َالَة َكاَنْت َعَلى اْلُم ْؤ ِم ِنيَن ِك َتاًبا‬
‫َم ْو ُقوًتا} [النساء‪ :‬اآلية ‪ ،]103‬فهي معلومة في أوقاتها بإلزام إلهّي ‪ ،‬وواجب رّباني‪.‬‬
‫وأوحى هللا إلى موسى عليه الّسالم‪ِ{ :‬إَّنِني َأَنا ُهَّللا َال ِإَلَه ِإَّال َأَنا َفاْعُبْدِني َو َأِقِم الَّص َالَة ِلِذ ْك ِر ي}‬
‫[طه‪ :‬اآلية ‪ ،]14‬فجاءت الّص الة بعد الّتوحيد ُم باشرة‪.‬‬
‫وقد مدح هللا نبيه إسماعيل فقال عنه‪َ{ :‬و َكاَن َيْأُمُر َأْه َلُه ِبالَّص َالِة َو الَّز َكاِة َو َكاَن ِع ْنَد َر ِّبِه‬
‫َم ْر ِض ًّيا} [مريم‪ :‬اآلية ‪.]55‬‬
‫وكان رسولنا ﷺ يراقب دخول الوقت مراقبة الُم ستهام العاشق التائق لقدوم حبيبه‪ ،‬ولحظة‬
‫التواصل بخالقه جّل في ُعاله‪ ،‬فصارت صالته ﷺ جنته في ُدنياه‪ .‬ومن اهتمامه ﷺ بالّص الة بّين ُح كم‬
‫من نسيها‪ ،‬وُح كم صالة بعيد الّدار عن المسجد‪ ،‬وُح كم صالة المريض وأهل األعذار‪ ،‬ليكون الُم سلم‬
‫عارًفا بأحكام هذه الفريضة التي تتكرر عليه في اليوم والليلة خمس مرات‪َ ،‬قاَل ﷺ‪َ« :‬م ن َنِس َي َص الًة‬
‫َفْلُيَصِّلها ِإذا َذَكَر ها‪ ،‬ال َكّفاَر َة َلها ِإاّل ذلَك » [متفق عليه]‪.‬‬
‫فالّص الة ال تسقط مع الّنسيان ولكنها حاضرة في حياة اإلنسان؛ ألّنها الّطاقة التي ال تنتهي‪،‬‬
‫والمعين اّلذي ال ينضب‪ ،‬والّز اد إلى يوم المعاد‪.‬‬
‫وحين سأل رجٌل الّنبَّي ﷺ‪ :‬هل يجد له رخصة في الّص الة في المنزل لُبعد داره عن المسجد؟‬
‫فقال ﷺ‪« :‬هل َتسمُع ‪ :‬حَّي على الَّص الِة حَّي على الفالِح؟ قاَل ‪ :‬نَعم‪ .‬قاَل ‪ :‬فحَّي هاًل ‪ .‬ولم ُيرِّخ ص َلُه»‬
‫[َر َو اُه أبو داود النسائي]‪.‬‬
‫فأمر ﷺ كل ُم سلم أن ُيجيب داعي هللا؛ ألن ارتفاع األذان معناه اإلعالن بوجوب اإلقبال على‬
‫الواحد الدّيان‪ ،‬وكأّنه يقول‪ :‬اترك أشغالك وأعمالك‪ ،‬وتعال إلى أكرم األكرمين‪ ،‬وأرحم الراحمين‬
‫ُسبحانه‪.‬‬
‫وقد يّسر ﷺ على المريض صالته ِليؤديها على الحالة التي يستطيع‪ ،‬يقول عمران بن‬
‫الحصين(رضي هللا عنه)‪« :‬كاَنْت ِبي َبواِس يُر ‪َ ،‬فَسَأْلُت الّنبَّي ﷺ َعِن الَّص الِة‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬ص ِّل قاِئًم ا‪ ،‬فإْن‬
‫َلْم َتْس َتطْع َفقاِع ًدا‪ ،‬فإْن َلْم َتْس َتِط ْع َفعلَى َج ْنٍب» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فالّص الة ال تسقط في أّي زمان وال أّي مكان‪ ،‬وال تسقط بأّي حال من األحوال؛ ألّنها العبادة‬
‫التي ُتصاحب الُم سلم حضًر ا وسفًر ا‪ ،‬وِح اًّل وترحااًل ‪ ،‬ولياًل ونهاًر ا‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا قام للصالة استقبل القبلة ورفع يديه حذو أذنيه وكأّنها تحية لملك الملوك سبحانه‬
‫وتعالى؛ ليستفتح صالته بهذا اإلجالل ويقول‪« :‬هللا أكبر»‪ ،‬واختيار «ُهللا أكبر» سواء في أّو ل األذان‬
‫أو في أّو ل الصالة له مقصد عظيم‪ ،‬وهو الّتذكير بعظمة هللا وعلو شأنه عّز وجل‪ ،‬وأّنه سبحانه‬
‫المقّدم على كل شيء في الدنيا‪ ،‬وأّنه أكبر من كّل ما يشغلنا عن عبادته تقّدس اسمه‪ ،‬فكأّن المصلي‬
‫يقول‪ :‬هللا أكبر من األهل والمال والولد‪ ،‬بل من الّدنيا وما فيها‪.‬‬
‫ثم يضّم ﷺ يده اليمنى على اليسرى فوق صدره‪ ،‬وهي ضّم ة العبد المسكين المنكسر الخائف‬
‫الوجل بين يدي ملك الملوك‪ ،‬وكأّنها وقفة األسير الذي ال يملك حواًل وال قوة في موقف الخوف‬
‫والوجل‪ ،‬ووضع اليدين على الّص در فيه الّسكون والخشوع والخضوع للواحد القّه ار‪.‬‬
‫وكان يأتي ﷺ بدعاء االستفتاح وهو كالمقدمة وكالتوطئة لمناجاة هللا عّز وجل‪ ،‬ثم يقرأ ﷺ‬
‫سورة الفاتحة وهي «الّص الة» كما سّم اها رّبنا عّز وجل في الحديث القدسي الذي [رواه مسلم] عن‬
‫أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪ :‬يقول هللا تعالى‪َ« :‬قَسْم ُت الَّص الَة َبْيِني وبْيَن‬
‫َعْبِدي ِنْص َفْيِن ‪ ،‬وِلَعْبِدي ما َسَأَل ‪ ،‬فإذا قاَل الَعْبُد‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َر ِّب اْلَعاَلِم يَن } ‪ ،‬قاَل هللا َتعالى‪َ :‬ح ِم َدِني‬
‫َعْبِدي‪ ،‬وإذا قاَل ‪{ :‬الَّر ْح َم اِن الَّر ِح يِم } ‪ ،‬قاَل ُهللا َتعاَلى‪ :‬أْثَنى َعَلَّي َعْبِدي‪ ،‬وإذا قاَل ‪َ{ :‬م اِلِك َيْو ِم الِّديِن }‬
‫‪ ،‬قاَل ‪َ :‬م َّجَدِني َعْبِدي‪-‬وقاَل َم َّر ًة‪َ :‬فَّو َض إَلَّي َعْبِدي ‪ -‬فإذا قاَل ‪ِ{ :‬إَّياَك َنْعُبُد َو ِإَّياَك َنْس َتِع يُن } قاَل ‪ :‬هذا‬
‫َبْيِني وبْيَن َعْبِدي‪ ،‬وِلَعْبِدي ما َسَأَل ‪ ،‬فإذا قاَل ‪{ :‬اْه ِد َنا الِّص َر اَط اْلُم ْس َتِقيَم ِص َر اَط اَّلِذيَن َأْنَعْم َت َعَلْيِه ْم‬
‫َغْيِر اْلَم ْغُضوِب َعَلْيِه ْم َو َال الَّض اِّليَن } قاَل ‪ :‬هذا ِلَعْبِدي وِلَعْبِدي ما َسَأَل »‪.‬‬
‫ولعل الّسبب في افتتاح الّص الة بسورة الفاتحة أّنها أعظم سورة في القرآن‪ ،‬وأّنها الكافية‬
‫والّشافية وأّم القرآن‪ ،‬وهي ذكر ودعاء وتالوة ورقية‪ ،‬وفيها الّثناء والحمد والّتمجيد هلل وسؤاله جّل‬
‫في عاله‪ ،‬واالعتراف بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته إلى غير تلك المعاني الجليلة‪.‬‬
‫يقرأ ﷺ بعد الفاتحة ما تيّسر من القرآن‪ ،‬ثم يقول‪« :‬هللا أكبر»‪ ،‬راكًعا‪ ،‬والّتكبير مالزم‬
‫للّر كوع والّسجود وحركات الّص الة؛ ألن فيه تعظيًم ا للرّب جّل في ُعاله‪ ،‬فإذا ركع كانت هيئته ﷺ‬
‫هيئة العبد الُم نكسر لرّبه؛ ولهذا حسن أن يقول ﷺ في الركوع‪« :‬سبحان ربي العظيم»‪.‬‬
‫فانظر كيف عّظم رّبه في الّر كوع؛ ألّنه لما انكسر وانحنى تذكر عظمة هللا‪ ،‬فأشاد بهذه‬
‫العظمة وقّدس هللا بها‪ ،‬ولهذا يقول ﷺ‪« :‬فأّم ا الُّر ُكوُع َفَعِّظ ُم وا فيه الَّر َّب عَّز وجَّل » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ثم يرفع ﷺ من الّر كوع ويقول‪َ« :‬سِم َع هللا ِلَم ن َحِم َد ُه‪َ ،‬ر َّبنا َو َلَك الَح ْم ُد»‪ ،‬إلى آخر الّدعاء‪،‬‬
‫فهو موقف يستحق فيه الّر ب الحمد جّل في عاله‪ ،‬فهو الذي هدى عبده لهذه المناجاة وعّلمه هذه‬
‫الّص الة‪ ،‬ويرفع يديه إذا رفع من الّر كوع‪ ،‬وهي تدخل في معنى الّتحية واإلجالل هلل رّب العالمين‪.‬‬
‫بعد الّر فع من الّر كوع يخّر ساجًدا ويقول‪« :‬هللا أكبر»‪ ،‬وهيئة الّسجود أعظم صورة يظهر‬
‫فيها إكرام هللا لإلنسان‪ ،‬فترفعه عند مواله وتدنيه منه؛ ولذلك ُأمر المالئكة بالّسجود آلدم لكرامته‬
‫على هللا‪ ،‬قال ﷺ‪َ« :‬أّم ا الُّسُج وُد فاْج َتِه ُدوا في الُّدعاِء ‪َ ،‬فَقِم ٌن أْن ُيْس َتجاَب َلُكْم » [رواه مسلم]‪ ،‬أي‪:‬‬
‫(َحِر ّي وجدير أن ُيجاب دعاؤكم)‪ ،‬وهيئة الّسجود على األرض‪ ،‬ووضع الوجه بما فيه الجبهة‬
‫واألنف واليدان والركبتان والقدمان فيها من المسكنة والضعف واالستكانة والخشوع والخضوع‬
‫واالنكسار هلل ما يفوق الوصف؛ فلّم ا كان العبد في حال انخفاض وَهِو ٍّي إلى األسفل ناسب أن يقول‪:‬‬
‫«ُسْبحاَن َر ِّبَي األْعلى» فالعلو هلل‪ ،‬والعظمة له سبحانه‪ ،‬واالنحدار والّضعف والهزال واالنكسار‬
‫للعبد‪ ،‬ثم يقول‪« :‬هللا أكبر» رافًعا من الّسجود‪ ،‬ويقول بين السجدتين‪« :‬اللهَّم اْغ ِفْر ِلي‪َ ،‬و اْر َح ْم ِني‪،‬‬
‫َو َعاِفِني‪َ ،‬و اْه ِدِني‪َ ،‬و اْر ُز ْقِني» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وفي التشهد يقرأ التحّيات بصيغتها المشروعة المعهودة‪ ،‬واضًعا يديه على ركبتيه ُم شيًر ا‬
‫بسّبابته اليمنى يحركها إشارة لوحدانية هللا‪ ،‬وإفراده بالعبودّية جّل في عاله في جلسة مسكنة وانكسار‬
‫وخضوع واستسالم وانقياد ألمر هللا‪ ،‬جلوس عبد بائس فقير مستكين متضّر ع أمام ملك الملوك يرجو‬
‫رحمته‪ ،‬ويخاف عذابه‪.‬‬
‫ثم يختم ﷺ صالته بـ‪« :‬الّسالم عليكم» مرتين ألّنها تحية االنصراف‪ ،‬وكأّنه يودع تلك‬
‫الفريضة العظيمة‪ ،‬ويلقي الّسالم على الحضور من المالئكة والمؤمنين الذين شاركوه في الّص الة‪،‬‬
‫فيا له من ختام ما أجمله! ختامه مسك‪ ،‬وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‪.‬‬
‫وكان ﷺ يقول بعد السالم مباشرة‪« :‬أستغفر هللا‪ ،‬أستغفر هللا‪ ،‬أستغفر هللا» [رواه ُم سلم]‪،‬‬
‫وإّنما بدأ باالستغفار ليعلن االنكسار أمام الملك الجبار‪ ،‬وكأّنه يعتذر من أّي تقصير في الّص الة‪ ،‬أو‬
‫كأّن لسان الحال يقول‪ :‬مهما أحسنا في صالتنا أو خشعنا فيها فإّننا مقصرون نستغفرك من التقصير‬
‫حّتى في الطاعات‪ ،‬ثم يأتي باألدعية التي ُتقال بعد الّص الة‪ ،‬والتي لكل منها سٌّر ومقصود ومناسبة‪.‬‬
‫إّن صالته ﷺ هي الّص الة الخاشعة التي ُتزيل الهموم‪ ،‬وُتذهب الغموم‪ ،‬وتطرد األحزان‪،‬‬
‫وتكشف الكربات‪.‬‬
‫وهي الّشارحة للصدر‪ ،‬والُم طهرة للّذنب‪ ،‬فَعْن أِبي ُهَر يَر َة (رضي هللا عنه) َقاَل ‪« :‬أَّن َر سوَل‬
‫هللا ﷺ َد َخ َل الَم ْس ِج َد َفَد َخ َل َر ُجٌل ‪َ ،‬فَص َّلى‪َ ،‬فَسَّلَم عَلى النبِّي ﷺ‪َ ،‬فَر َّد وقاَل ‪ :‬اْر ِج ْع َفَص ِّل ‪ ،‬فإَّنَك َلْم‬
‫ُتَص ِّل ‪َ ،‬فَر َجَع ُيَصِّلي كما َص َّلى‪ُ ،‬ثَّم َج اَء ‪َ ،‬فَسَّلَم عَلى النبِّي ﷺ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬اْر ِج ْع َفَص ِّل ‪ ،‬فإَّنَك َلْم ُتَص ِّل َثاَل ًثا‪،‬‬
‫َفقاَل ‪ :‬والذي َبَعَثَك بالَح ِّق ما ُأْح ِس ُن َغْيَر ُه‪َ ،‬فَعِّلْم ِني؟‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬إَذا ُقْم َت إلى الَّص اَل ِة َفَكِّبْر ‪ُ ،‬ثَّم اْقَر ْأ ما‬
‫َتَيَّسَر معَك ِم َن الُقْر آِن ‪ُ ،‬ثَّم اْر َكْع حَّتى َتْط َم ِئَّن َر اِكًعا‪ُ ،‬ثَّم اْر َفْع حَّتى َتْعِدَل َقاِئًم ا‪ُ ،‬ثَّم اْسُج ْد حَّتى َتْط َم ِئَّن‬
‫َساِج ًدا‪ُ ،‬ثَّم اْر َفْع حَّتى َتْط َم ِئَّن َج اِلًسا‪ ،‬واْفَعْل ذلَك في َص اَل ِتَك ُكِّلَه ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وَم ن يطالع سيرة الحبيب ﷺ يجد في الّص الة سًّر ا عجيًبا‪ ،‬فهي انقطاع عن المشاغل‬
‫والُم لهيات والمزعجات في الحياة الّدنيا‪ ،‬وتبّتل للحّي القيوم‪ ،‬وهي راحة للُم ّتقين‪ ،‬وُأنس للُم فلحين‪،‬‬
‫وال ُيحافظ عليها إاّل من عّم ر هللا قلبه باإليمان‪ ،‬وشرح صدره لإلسالم‪ ،‬ولهذا ال تجد ُم خاًّل بالصالة‬
‫إاّل وقد اختلت أحواله‪ ،‬وفسدت أعماله‪ ،‬ورذلت أقواله‪.‬‬
‫وبالُم قابل ال تجد من حافظ عليها بخشوعها وآدابها وسننها إاّل وقد أسعده رّبه‪ ،‬ورضَي عنه‬
‫مواله‪ ،‬وتسهّلت أموره‪ ،‬وتيّسرت أرزاقه‪ ،‬ونال مطلوبه‪ ،‬وظفر بمرغوبه‪ ،‬فهو من فالح إلى فالح‪،‬‬
‫ومن نجاح بعد نجاح‪ ،‬ألّنه أخذ برأس الحبل‪ ،‬وعمود الّدين‪ ،‬وناصية الملة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و ْأُم ْر َأْه َلَك‬
‫ِبالَّص َالِة َو اْص َطِبْر َعَلْيَه ا َال َنْس َأُلَك ِر ْز ًقا َنْح ُن َنْر ُز ُقَك َو اْلَعاِقَبُة ِللَّتْقَو ى} [طه‪ :‬اآلية ‪.]132‬‬
‫وخطاب هللا لرسوله ﷺ هو خطاب لكل مسلم ومسلمة إلى يوم الّدين‪ ،‬فمن أقام الّص الة وحافظ‬
‫عليها وصبر على أدائها بحقوقها ضمن هللا له رزًقا حالاًل وعاقبة حميدة‪ ،‬وهل بعد هذا المطلب من‬
‫مطلب؟! وبعد هذه األمنية من أمنية؟!‬
‫لقد عّلمنا ﷺ أّن الّص الة تجتمع فيها كل معاني ومقاصد اإلسالم بأسره‪ ،‬بل إّن دالالت أركان‬
‫اإلسالم موجودة في الّص الة‪:‬‬
‫ففيها أنواع األذكار من الّتكبير والّتحميد والّتسبيح والّتهليل واالستغفار والّص الة على الّنبي‬
‫ﷺ‪ ،‬وأنواع الّتقديس والمناجاة وتالوة القرآن‪ ،‬والّدعاء بأنواعه‪.‬‬
‫وفيها معنى االستسالم والوحدانية واالنقياد ألمر هللا وتحقيق اإليمان‪.‬‬
‫وفيها القيام‪ ،‬والّر كوع‪ ،‬والّسجود‪ ،‬والجلوس‪.‬‬
‫وفيها معنى الّص يام‪ ،‬فإّنه َيحرم األكل والشرب في الّص الة حتى تنتهي‪.‬‬
‫وفيها معنى الحج فإّنه يستقبل بقلبه البيت‪ ،‬وتطوف روحه حول العرش وكأّنه يطوف‬
‫بالكعبة‪.‬‬
‫وفيها معنى الّص دقة؛ ألن الّتسبيح والّتحميد والّتهليل والّتكبير صدقات ُيتصدق بها كما قال‬
‫ﷺ‪ُ« :‬كُّل َتْس ِبيحٍة صدَقٌة‪ ،‬وُكُّل َتحِم يَد ٍة َص َد َقٌة‪َ ،‬و ُكُّل َتْهِليَلٍة َص َد َقٌة‪ ،‬وُكُّل َتْك ِبيرٍة صدَقٌة» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وفيها معنى الجهاد فقد ضّح ى بوقته‪ ،‬وضحى بذهنه‪ ،‬وضحى بروحه‪ ،‬وهو يقف في محراب‬
‫ذي العرش العظيم وقد أسلم روحه لخالقه‪ ،‬ومال بقلبه نحو مواله‪.‬‬
‫وفيها معنى الّز هد فإّنه انقطع عن العالم‪ ،‬وترك األهل والمال‪ ،‬ووّدع المنصب والوظيفة‪،‬‬
‫وأتى إلى رّبه ُم قباًل بقلبه‪ُ ،‬م عرًض ا عن الّدنيا وما فيها‪.‬‬
‫وفي الّص الة معنى اإلخالص؛ ألّن فيها مناجاة بين العبد ورّبه‪ ،‬وأسرار ال يّطلع عليها إاّل هللا‬
‫سبحانه؛ كالّطهارة والوضوء فإّنه لوال مراقبة هللا لصّلى بدونهما‪ ،‬وقد يصلي وحده ال يراه إاّل هللا‪،‬‬
‫ويصلي في الّليل الّدامس حيث ال يطلع على حالته إاَّل ربه ومواله‪.‬‬
‫وفي الّص الة معنى اإليمان‪ ،‬فإّن من حافظ على الّص الة ال بد أن يؤمن باهلل ومالئكته وكتبه‬
‫ورسله واليوم اآلخر والقدر خيره وشره‪.‬‬
‫وفيها معنى اإلحسان وهو أن تعبد هللا كأّنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإّنه يراك‪ ،‬وأعظم ُم عين‬
‫على ذلك «الصالة»‪.‬‬
‫واستمع لقوله ﷺ‪« :‬وُجِع َلت ُقَّر ُة َعيني في الَّص الِة» [رواه أحمد]‪ .‬وِقْف طوياًل عند هذه‬
‫الجملة اآلسرة‪ ،‬األّخ اذة‪ ،‬المؤّثرة منه ﷺ عن الّص الة‪ ،‬وكررها واستشعرها تجدها اختصرت المشهد‬
‫كّله؛ ألّنها عبارة تدل على مدى ما كان يعيشه ﷺ من لّذة وشوق وُم تعة‪ ،‬وهو في صالته بين يدي‬
‫مواله ُيناجيه‪ ،‬ويستغفره ويستهديه‪.‬‬
‫«وُجِع َلت ُقَّر ُة َعيني في الَّص الِة» [صحيح النسائي] فحسب دون غيرها‪ ،‬فلم يقلها في ابن أو‬
‫بنت‪ ،‬أو زوجة أو صديق‪ ،‬أو مال أو دنيا‪ ،‬إّنما في الّص الة فقط‪.‬‬
‫«وُجِع َلت ُقَّر ُة َعيني في الَّص الِة» لما َتحمله من شعور داخلي‪ ،‬وحنين روحي‪ ،‬وأثر نفسي‪،‬‬
‫فال تقّر عينه‪ ،‬وال تهدأ روحه‪ ،‬وال يستقر فؤاده‪ ،‬وال ينشرح صدره‪ ،‬إاّل بالّص الة‪.‬‬
‫«وُجِع َلت ُقَّر ُة َعيني في الَّص الِة»‪ ،‬لك أن تسافر مع هذه العبارة‪ ،‬وتتأملها بكل ما أوتيت من‬
‫فهم وإدراك لتعلم أّن الّص الة في حياة المسلم مدد من اليقين‪ ،‬وغوث من الفتوحات‪ ،‬ومعين ال ينضب‬
‫من البركات‪ ،‬ونهر دافق صاف عذب من اإلشراق والطمأنينة والّسكينة؛ ألّن الّص الة تجمع كل‬
‫مقاصد اإلسالم ومعانيه‪ ،‬فقّر ة عين للمّص لين‪ ،‬وُطوبى للساجدين‪ ،‬وهنيًئا للمتبتلين الّطائعين‪.‬‬
‫صاليت لريّب زاُد قليب وقويت‬
‫وطوُق جنايت يف املصائب والَك ْر ِب‬
‫ُأزيح هبا عيّن اهلموم وأحنين‬
‫جالاًل لرّب الكون يغفر يل ذنيب‬
‫هي اُألنس واإلميان والفأل والّرضا‬
‫وطاقة روحي يف املسرية والّد رِب‬
‫وُقّرة عني املصطفى ونعيمُه‬
‫وجّنته يف عامل الّش ِّح واجلدِب‬
‫لقد عّلمنا ﷺ أّن الّص الة تهذيب للنفس‪ ،‬وردع لها عن خطرات إبليس‪ ،‬وخطوات الشيطان‬
‫ووساوسه‪ ،‬ولهذا قال تعالى عنها‪َ{ :‬و َأِقِم الَّص َالَة ِإَّن الَّص َالَة َتْنَه ى َعِن اْلَفْح َشاِء َو اْلُم ْنَكِر َو َلِذ ْك ُر ِهَّللا‬
‫َأْك َبُر َو ُهَّللا َيْعَلُم َم ا َتْص َنُعوَن } [العنكبوت‪ :‬اآلية ‪ ،]45‬فأّنها إذا ُص ليت بخضوع وخشوع كانت زاجرة‬
‫للنفس عن هواها‪ ،‬وحامية للقلب عن الّضالل والغواية‪ ،‬ومحّص نة للجوارح عن الفواحش‬
‫والمنكرات‪.‬‬
‫في الّص الة تدريب على الّنظام واالنضباط‪ ،‬لما اشتملت عليه من الّترتيب والّتناسق العجيب‬
‫ال يمكن أن يتهيأ بحال إاّل بوحي من هللا‪ ،‬فمنذ أن يدخل اإلنسان في صالته ال يجوز له أن يلتفت‬
‫يمنة وال يسرة‪ ،‬وال يعبث في صالته‪ ،‬وال يفكر في غير ما يقرأ‪ ،‬وال يلغو وال يتكلم بكالم خارج‬
‫الّص الة‪ ،‬وال يأكل وال يشرب‪ ،‬وال يضحك وال يستهزئ‪ ،‬وإّنما قنوط وخشوع‪ ،‬وعكوف للقلب على‬
‫ما يحبه هللا‪ ،‬وإقبال بالّنفس على ذكر هللا ومناجاته وجميل خطابه ولطيف سؤاله جّل في ُعاله‪.‬‬
‫والّص الة ُم رّتبة لألوقات‪ ،‬وُم نّظمة لشؤون الحياة‪ ،‬يقول ابن مسعود (رضي هللا عنه)‪ :‬سألُت‬
‫َر ُسول هللا ﷺ‪َ :‬أُّي اْلَعَم ِل َأْفَض ُل؟‪َ ،‬قاَل ‪« :‬الَّص اَل ُة ِلَو ْقِتَه ا» َقاَل ‪ُ :‬قْلُت ُثَّم أٌّي ؟‪َ ،‬قاَل ‪ِ« :‬بُّر اْلَو اِلَد ْيِن »‬
‫َقاَل ‪ُ :‬قْلُت ‪ُ :‬ثَّم َأٌّي ؟‪َ ،‬قاَل ‪« :‬اْلِج َه اُد ِفي َسِبيِل هللا» [ُم تفق عليه]‪ ،‬فانظر إلى تقديمه ﷺ «الَّص اَل ُة‬
‫ِلَو ْقِتَه ا» في أّو ل األعمال‪ ،‬فهي ُم قدمة الّطاعات‪ ،‬وأجّل العبادات‪ ،‬وأفضل الُقربات‪ ،‬وقّر ة عيٍن لمن‬
‫حافظ عليها في وقتها‪.‬‬
‫وعن عبدهللا ابن عمر (رضي هللا عنهما) قال‪ :‬قال َر ُسول هللا ﷺ‪ُ« :‬بِنَي اإلْس الُم على َخ ْم ٍس ‪:‬‬
‫َشهاَد ِة أْن ال إَلَه إاّل هللا وأَّن ُم َح َّم ًدا َر سوُل هللا‪ ،‬وإقاِم الَّص الِة‪ ،‬وإيتاِء الَّز كاِة‪ ،‬والَح ِّج‪ ،‬وَص ْو ِم‬
‫َر َم ضاَن » [ُم تفق عليه]‪ ،‬فالّص الة عمود اإلسالم‪ ،‬وهي الّتالية للّتوحيد مباشرة‪ ،‬وهي التي ُتصاحب‬
‫اإلنسان لياًل ونهاًر ا‪ ،‬حضًر ا وسفًر ا‪ ،‬صحًة ومرًض ا‪ ،‬ال ينفك عنها ُم سلم وال مسلمة إاّل بُعذر شرعي‪.‬‬
‫وعّلمنا ﷺ أّن الّص الة نور في الحياة‪ ،‬ونور في القبر‪ ،‬ونور على الّص راط‪ ،‬وهي برهان‬
‫صدق العبد في إيمانه‪ ،‬وهي دليله على خلوصه من الّنفاق ونجاته من الكفر‪ ،‬وهي حبل الّسالمة‪،‬‬
‫وطوق الّنجاة‪ ،‬وقارب األمان‪ ،‬والمكفرة للسيئات‪ ،‬كما قال ﷺ لمن ارتكب حًّدا‪َ« :‬هْل َح َض ْر َت الَّص اَل َة‬
‫َمَعَنا؟» َقاَل ‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬قاَل ﷺ‪َ« :‬قْد ُغِفَر َلَك » [ُم تفق عليه]‪ ،‬وهي التي تغسل الخطايا‪ ،‬وتمسح الّذنوب‪،‬‬
‫وتساقط المعاصي‪ ،‬كما وصفها رسولنا ﷺ في صورة رائعة جميلة آسرة حيث يقول ﷺ‪َ« :‬أَر َأْيُتْم لو‬
‫أَّن َنْه ًر ا بباِب َأَح ِدُكْم َيْغَتِسُل منه ُكَّل َيوٍم َخ ْم َس َمّر اٍت‪ ،‬هْل َيْبقى ِم ن َد َر ِنِه شيٌء ؟‪ ،‬قالوا‪ :‬ال َيْبقى ِم ن‬
‫َد َر ِنِه شيٌء ‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فذلَك َم َثُل الَّص َلواِت الَخ ْم ِس ‪َ ،‬يْم ُح و هللا بِه َّن الَخ طايا» [ُم تفق عليه]‪ ،‬بهذا المثل‬
‫الجميل الرائع المؤّثر المصور لنفع الّص الة وفائدتها ُيقّدم لنا ﷺ درًسا عظيًم ا عن أثر الّص الة في‬
‫حياة الُم سلم‪ ،‬أّنها كالّنهر العذب‪ ،‬الّص افي‪ ،‬الّز الل‪ ،‬الذي ينغمس فيه اإلنسان كل يوم خمس مرات‬
‫فيزيل أوساخه‪ ،‬وُيذهب أدرانه ليخرج طّيًبا‪ ،‬نظيًفا‪ ،‬طاهًر ا من ذنوبه وخطاياه‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ أّن الّص الة ُقرة عين الموّح دين‪ ،‬وبهجة نفس العابدين‪ ،‬وكهف األمان لكل خائف‪،‬‬
‫وسفينة الّنجاة لكل ُم ذنب‪ ،‬وهي الّطهارة والكّفارة واإلنارة‪َ ،‬قاَل ﷺ‪« :‬الَّص َلواُت الَخ ْم ُس ‪ ،‬والُج ْم َعُة‬
‫إلى الُج ْم َعِة ‪َ ،‬و َر َم ضاُن إلى َر َم ضاَن ‪ُ ،‬م َكِّفراٌت ما بْيَنُه َّن ِإذا اْج َتَنَب الَكباِئَر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأخبرنا ﷺ أّن كثرة الّسجود ترفع درجات العبد عند هللا‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬عَلْيَك بَكْثَر ِة الُّسُج وِد هلل‪،‬‬
‫فإَّنَك ال َتْسُج ُد هلل َسْج َد ًة‪ ،‬إاّل َر َفَعَك هللا بها َد َر َج ًة‪ ،‬وحَط َعْنَك بها َخ ِط يَئًة» [رواه مسلم]‪ ،‬وقال ﷺ‪:‬‬
‫«اَل َيَتَو َّض ُأ َر ُجٌل ُم ْسِلٌم فُيْح ِس ُن الُو ُضوَء فُيَصِّلي َص الًة إاّل َغَفَر هللا له ما بْيَنُه وبْيَن الَّص الِة اَّلتي‬
‫َتِليها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫لقد بشرنا الحبيب ﷺ أن الخطوات إلى المسجد ترفع الّدرجات وتحط الخطايا‪ ،‬فقال ﷺ‪:‬‬
‫«َم ن َتَطَّه َر في َبْيِتِه ‪ُ ،‬ثَّم َم َشى إلى َبْيٍت َم ن ُبُيوِت هللا ِلَيْقِض َي َفِر يَض ًة ِم ن َفَر اِئِض هللا‪َ ،‬كاَنْت َخ ْط َو َتاُه‬
‫إْح َداُهما َتُح ُّط َخ ِط يَئًة‪َ ،‬و اُألْخ َر ى َتْر َفُع َد َر َج ًة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ بعظيم أجر الّص الة‪ ،‬وما فيها من طهارات وكّفارات فقال ﷺ‪« :‬ما ِم ِن اْم ِر ٍئ‬
‫ُمْسِلٍم َتْح ُض ُر ُه َص الٌة َم ْكُتوَبٌة فُيْح ِس ُن ُو ُضوَء ها وُخ ُشوَعها وُر ُكوَعها‪ ،‬إاَّل كاَنْت َكّفاَر ًة ِلما َقْبَلها ِم َن‬
‫ُّذ‬
‫الُّذُنوِب ما َلْم ُيْؤ ِت َكِبيَر ًة‪ ،‬وذلَك الَّد ْه َر ُكَّلُه» [رواه مسلم]‪ ،‬وفيه بيان أّن الّطهور والّص الة من أعظم‬
‫الكّفارات‪ ،‬وأجل العبادات‪ ،‬فمن حرص على الوضوء والّص الة كّفر هللا ذنوبه‪ ،‬وطّه ر أردانه‪ ،‬ورفع‬
‫درجته‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ أّن من ثمار الّص الة وكثرة الّسجود الفوز بمرافقته ﷺ في الجّنة‪ ،‬فعن ربيعة بن‬
‫كعب األسلمي (رضي هللا عنه) قال‪ُ« :‬كْنُت أِبيُت مع َر سوِل ِهللا ﷺ فأَتْيُتُه بَو ُضوِئِه وَح اَجِتِه َفقاَل‬
‫ِلي‪َ :‬سْل َفُقلُت ‪ :‬أْس َأُلَك ُمَر اَفَقَتَك في الَج َّنِة ‪ .‬قاَل ‪ :‬أْو غيَر ذلَك ُقلُت ‪ :‬هو َذاَك ‪ .‬قاَل ‪ :‬فأِعِّني عَلى َنْفِس َك‬
‫بَكْثَر ِة الُّسُج وِد » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ أّن الّضيافة ُتعّد في الجّنة لكل ُم صل يذهب إلى المسجد ويعود منه‪ ،‬فقال ﷺ‪:‬‬
‫«َم ن َغدا إلى الَم ْس ِج ِد وراَح‪ ،‬أَعَّد هللا له ُنُز َلُه ِم َن الَج َّنِة ُكَّلما َغدا أْو راَح» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ بأّن من حافظ على صالة الفجر حفظه هللا‪ ،‬فَقاَل ﷺ‪َ« :‬م ْن َص َّلى َص الَة الُّص بِح‬
‫َفُه َو ِفي ِذ َّم ِة هللا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فمن أراد أن يحفظه هللا ويتواّل ه فلُيحافظ على الّص الة‪ ،‬خاصة صالة الفجر في وقتها‪ ،‬فأّنها‬
‫من الحصون الحصينة‪ ،‬والحروز القوّية المتينة‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ أّن من حافظ على صالة الفجر والعصر فاز بالجنة‪ ،‬فَقاَل ﷺ‪َ« :‬م ن َص ّلى الَبْر َد ْيِن‬
‫َد َخ ل الَج َّنةَ» [ُم تفق عليه]‪ ،‬و«البردان» هما الفجر والعصر‪ ،‬وإّنما أّكد عليهما ﷺ ألّنهما يأتيان في‬
‫وقت كسل وخمول وراحة‪.‬‬
‫وبشرنا ﷺ أّن الّص الة تمحو الخطايا‪ ،‬وترفع الدرجات‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬أال أُدُّلُكْم‬
‫ُهللا به الَخ طايا‪ ،‬وَيْر َفُع به الَّد َر جاِت؟ قاُلوا َبَلى يا َر سوَل هللا‪ ،‬قاَل ‪ :‬إْس باُغ الُو ُضوِء‬
‫وَكْثَر ُة الُخ طا إلى الَم ساِج ِد‪ ،‬واْنِتظاُر الَّص الِة َبْعَد الَّص الِة‪َ ،‬فَذِلُكُم الِّر باُط‪َ ،‬فَذِلُكُم الِّر باُط» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫عَلى ما َيْم ُح و‬
‫عَلى الَم كاِر ِه ‪،‬‬
‫فالّص الة هي الكنز الذي ال ينتهي‪ ،‬والحبل الذي ال ينقطع‪ ،‬والحصن الذي ال ينهدم‪ ،‬أّنها بّر‬
‫األمان‪ ،‬وساحل الّنجاة‪ ،‬ولّذة الّر وح؛ ولهذا وقف ﷺ أمام عواصف الُّدنيا‪ ،‬ومكائد األعداء‪ ،‬وتآمر‬
‫األحزاب‪ ،‬وتكالب الخصوم‪ ،‬بقوة يقينه‪ ،‬وعظيم إيمانه‪ ،‬وفزعه إلى الّص الة في كل كرٍب وخطٍب‪.‬‬
‫وأخبرنا ﷺ أّن الّص الة عهد وميثاق‪ ،‬والتزام ومبدأ‪ ،‬وعقد إيمانّي بين العبد وبين رّبه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«بْيَن الَّر ُج ِل وبْيَن الِّش ْر ِك واْلُكْفِر َتْر ُك الَّص الِة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فالّص الة شعار الّدين‪ ،‬وعالمة اإلسالم‪ ،‬والحاجز بين اإليمان والُكفر‪ ،‬وهي الفارقة بين‬
‫الُم وّح دين والُم لحدين‪ ،‬وعالمة إيمان اإلنسان ودليل إسالمه‪ ،‬وُبرهان تصديقه برسالة رّبه‪ ،‬فعن‬
‫ُبريدة (رضي هللا عنه) عن الّنبي ﷺ قال‪« :‬الَعْهُد اَّلذي بيَننا وبيَنُه ُم الَّص الُة‪ ،‬فَم ن تَر َكها فقد كفَر »‬
‫[رواه الترمذي]‪ .‬وفي هذا الحديث ‪ -‬كما قال بعض الُم فسرين ‪ -‬أن العهد الذي بين هللا وبين العبد هو‬
‫الصالة كما قال تعالى‪َ{ :‬ال َيْم ِلُكوَن الَّشَفاَعَة ِإَّال َمِن اَّتَخ َذ ِع ْنَد الَّر ْح َم اِن َعْه ًدا} [مريم‪ :‬اآلية ‪،]87‬‬
‫فمن حافظ على الصالة بعد التوحيد‪ ،‬فقد أتى بالعهد والميثاق‪ ،‬وأحضر الّدليل والبرهان‪ ،‬على صحة‬
‫اإليمان‪ ،‬ومن حافظ عليها كانت له نوًر ا‪ ،‬ونجاًة‪ ،‬وُبرهاًنا يوم القيامة‪ ،‬كما َقاَل ﷺ‪« :‬من حافظ على‬
‫الّص الِة كانت له نوًر ا وبرهاًنا ونجاًة يوَم القيامِة ‪ ،‬ومن لم يحافْظ عليها لم يكْن له نوٌر وال برهاٌن‬
‫وال نجاٌة‪ ،‬وكان يوَم القيامِة مع فرعوَن وهاماَن وقاروَن وُأَبِّي بِن خَلٍف » [رواه أحمد]‪ .‬وعن معاذ‬
‫بن جبل (رضي هللا عنه) قال‪َ :‬بَعَثِني َر سوُل هللا ﷺ فقاَل ‪« :‬إَّنَك َتْأتي َقْو ًم ا ِم ن أْه ِل الِك تاِب‪ ،‬فاْدُعُه ْم‬
‫إلى َشهاَد ِة أَّن ال إَلَه إاَّل ُهللا وَأِّني َر سوُل هللا‪ ،‬فإْن ُهْم أطاُعوا لذلَك ‪ ،‬فأْع ِلْم ُه ْم أَّن َهللا اْفَتَر َض عليهم‬
‫َخ ْم َس َص َلواٍت في ُكِّل َيوٍم وَلْيَلٍة» [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫فانظر كيف رّتب ﷺ األعمال؟ وكيف تدّر ج في الّتعليم؟ وكيف بدأ باألهم فالُم هم؟ وقد سّن‬
‫الّص الة بعد الشهادتين لعظمهما في اإلسالم‪ ،‬وأحياًنا تنفرد الّشهادتان في كثير من األحاديث؛ ألن‬
‫الّتوحيد والّص الة مالزمان للمسلم والمسلمة في كل وقت وآن‪ ،‬وكل مكان وزمان‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{اَّلِذيَن ُهْم َعَلى َص َالِتِه ْم َداِئُم وَن } [المعارج‪ :‬اآلية ‪.]23‬‬
‫وعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال َر ُسول هللا ﷺ‪« :‬إَّن أّو َل ما ُيحاَسُب به العبُد يوَم‬
‫القيامِة من عمِله صالُته‪ ،‬فإن َص ُلَح ْت فقد َأْفَلَح وَأْنَج ح‪ ،‬وإن َفَسَدْت فقد خاب وَخ ِس َر ‪ ،‬فإن اْنَتَقص‬
‫من فريضتِه شيء‪ ،‬قال الّر ُّب عّز وجّل ‪ :‬اْنُظروا! هل لَعْبِدي من َتَطُّو ٍع؟ فُيَكِّم ُل بها ما انَتَقص من‬
‫الفريضِة ‪ ،‬ثم يكوُن سائُر عمِله على ذلك» [رواه الترمذي]‪ .‬وهذا الحديث يدلك على أن َم ن نجح في‬
‫الحفاظ على صالته‪ ،‬فقد أفلح عند رّبه‪ ،‬ونجا من الهالك‪ ،‬وسلم من العقوبة‪ ،‬ونال الحظوة عند‬
‫مواله‪ ،‬والجّنة عند خالقه‪ ،‬وسكن بصالته دار السالم‪ ،‬وجاور بها الملك العاّل م‪ ،‬فطوبى للُم صّلين‪،‬‬
‫وهنيًئا لهم‪ ،‬جعلنا هللا وإياكم مّم ن داوَم عليها‪ ،‬وحفظها حتى يلقى رّبه‪.‬‬
‫وعّلمنا ﷺ أّن الصالة صلة بين العبد ومواله‪ ،‬وهي أكبر عون على دفع المعضالت‪ ،‬وكشف‬
‫الُكربات‪ ،‬ولهذا كان ﷺ ال يذهب حزنه وال غّم ه وال كربه إاّل بالّص الة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و اْس َتِع يُنوا‬
‫ِبالَّص ْبِر َو الَّص َالِة َو ِإَّنَه ا َلَكِبيَر ٌة ِإَّال َعَلى اْلَخاِشِعيَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]45‬‬
‫وكانت الّص الة ُقّر ة عينه ﷺ‪ ،‬وراحة روحه‪ ،‬وبهجة خاطره‪ ،‬إليها يسكن بعد متاعب الحياة‪،‬‬
‫وإذا َح َز َبُه أمر أو حضره كرب قال‪« :‬يا ِبالُل ‪ ،‬أِر ْح نا بالَّص الِة» [رواه أحمد]‪ .‬فيدخل ﷺ في صالته‬
‫فينسى الّدنيا بما فيها‪ ،‬وينقطع عن العالم بما فيه‪ ،‬وهو ساكن‪ ،‬خاشع‪ُ ،‬م تبّتل‪ُ ،‬يناجي رّبه‪ ،‬ويلتجئ إلى‬
‫إلهه وبارئه‪ ،‬يدعوه ويرتجيه‪ُ ،‬م خبت القلب‪ُ ،‬م طمئن الّنفس‪ ،‬ساكن األعضاء‪ ،‬خاشع الّر وح‪ُ ،‬م طرًقا‪،‬‬
‫ُم تدّبًر ا‪ُ ،‬م تأّم اًل ‪ُ ،‬م تفّكًر ا‪ ،‬قد دخل في محراب العبودية‪ ،‬ورهن نفسه بين يدي خالقه‪ ،‬فقل لي برّبك‪:‬‬
‫هل في العالم أحد أخشى منه لرّبه‪ ،‬أو أعلم منه بمواله؟!‬
‫«يا ِبالُل ‪ ،‬أِر ْح نا بالَّص الِة»‪ ،‬إّن هذه العبارة للّنبي ﷺ استوقفتني ُم تأّم اًل ‪ ،‬وهّز تني ُم تفكًر ا‪ ،‬فقد‬
‫كان يقولها ﷺ إذا اشتّد به خطب‪ ،‬أو صعب عليه أمر‪.‬‬
‫وكان ﷺ يجلس أحياًنا مع أهله وأصحابه وأحبابه لكنه يتوق لوقت الّص الة ويحن لموعدها‬
‫فينادي‪« :‬يا ِبالُل ‪ ،‬أِر ْح نا بالَّص الِة»‪ ،‬وكأن الحياة كّلها تعب‪ ،‬حتى َم سّر اتها‪ ،‬وُم بهجاتها‪ ،‬وجمالياتها‪،‬‬
‫ال راحة فيها‪ ،‬إاّل في الصالة‪ ،‬وكأّن الحياة عناٌء ودموٌع وبكاٌء لكن جملة «أِر ْح نا بالَّص الِة» تنهي‬
‫المشّقة‪ ،‬وتقضي على الّتعب‪ ،‬وُتنسي األسى‪ ،‬وتبدد الهموم والغموم‪ ،‬يقول الشاعر‪:‬‬
‫وقل ِلبالل العزم من قلِب صادق‬
‫أرحَنا هبا إن كنت حًق ا ُمصلَيا‬
‫توّضْأ مباء الّتوبة اليوم خُم لًص ا‬
‫به َت ْر َق أبواب اجلنان الّثمانَيا‬
‫أي إنسان في هذه الحياة ليس في دفتر اهتماماته «أِر ْح نا بالَّص الِة»‪ ،‬فلن يعيش سعيًدا‪ ،‬مهما‬
‫جمع من المال والّدور‪ ،‬وملك من الحدائق والقصور‪ ،‬وأحرز من المناصب‪ ،‬وترّقى في المراتب‪،‬‬
‫فإّنه سوف يبقى ُم فلًسا من الّسكينة‪ ،‬فقيًر ا من الطمأنينة‪ ،‬صفًر ا من السعادة‪ُ ،‬م حّطًم ا في إرادته‪ ،‬فاشاًل‬
‫في حياته‪ُ ،‬م نتكًسا في أفكاره؛ ألّنه ال يملك طاقَة ووقوَد وكنَز ‪« :‬أِر ْح نا بالَّص الِة»‪.‬‬
‫ما أصعب الحياة! وما أشقها! وما أتعبها! إذا لم يكن فيها محطة «أِر ْح نا بالَّص الِة»‪ .‬إّن الحياة‬
‫الّدنيا كصحراء جرداء‪ ،‬مليئة باألحزان‪ ،‬واآلهات‪ ،‬والغصص‪ ،‬إذا لم يكن فيها بستان «أِر ْح نا‬
‫بالَّص الِة»‪.‬‬
‫فهّيا بنا لنقتدي برسولنا وحبيبنا ﷺ في كل يوم خمس مرات فيقول كل مّنا لقلبه‪« :‬أِر ْح نا‬
‫بالَّص الِة»‪.‬‬
‫وحتى في سكرات موته ﷺ كان يتوق ويشتاق لموعد الّص الة‪ ،‬يتلّفت ويسأل بحنان‪ ،‬ولهفة‪،‬‬
‫وشوق للقاء مواله‪ ،‬في صالة خاشعة ُم تبّتلة‪ُ ،‬تسافر فيها روحه إلى المأل األعلى‪ ،‬وتصعد في ملكوت‬
‫الّسماوات واألرض‪ ،‬وتسبح في معارج القبول‪ ،‬وتطير في آفاق القداسة والُطهر‪ ،‬وتسجد في محراب‬
‫ملك الملوك جّبار الّسماوات واألرض‪ ،‬أرحم الّر احمين وأكرم األكرمين‪.‬‬
‫عن َعاِئَشَة (رضي هللا عنها) قالت‪َ« :‬ثُقَل النبُّي ﷺ َفَقاَل ‪َ :‬أَص َّلى الَّناُس ؟ ُقْلَنا‪ :‬اَل ‪ُ ،‬هْم‬
‫َيْنَتِظ ُر وَنَك ‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬ض ُعوا لي َم اًء في الِم ْخ َض ِب‪َ .‬قاَلْت ‪َ :‬فَفَعْلَنا‪َ ،‬فاْغ َتَسَل ‪َ ،‬فَذَهَب ِلَيُنوَء َفُأْغ ِم َي عليه‪ُ ،‬ثَّم‬
‫أَفاَق ‪َ ،‬فَقاَل ﷺ‪َ :‬أَص َّلى الَّناُس ؟ ُقْلَنا‪ :‬اَل ‪ُ ،‬هْم َيْنَتِظ ُر وَنَك يا َر سوَل هللا‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬ض ُعوا لي َم اًء في‬
‫الِم ْخ َض ِب‪َ .‬قاَلْت ‪َ :‬فَقَعَد َفاْغ َتَسَل ‪ُ ،‬ثَّم َذَهَب ِلَيُنوَء َفُأْغ ِم َي عليه‪ُ ،‬ثَّم أَفاَق ‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬أَص َّلى الَّناُس ؟ ُقْلَنا‪ :‬اَل ‪،‬‬
‫ُهْم َيْنَتِظ ُر وَنَك يا َر سوَل هللا‪َ ،‬فَقاَل ‪َ :‬ض ُعوا لي َم اًء في الِم ْخ َض ِب‪َ ،‬فَقَعَد‪َ ،‬فاْغ َتَسَل ‪ُ ،‬ثَّم َذَهَب ِلَيُنوَء‬
‫َفُأْغ ِم َي عليه‪ُ ،‬ثَّم أَفاَق َفَقاَل ‪َ :‬أَص َّلى الَّناُس ؟ َفُقْلَنا‪ :‬اَل ‪ُ ،‬هْم َيْنَتِظ ُر وَنَك يا َر سوَل هللا‪ ،‬والَّناُس ُعُكوٌف في‬
‫الَم ْس ِج ِد‪َ ،‬يْنَتِظ ُر وَن النبَّي عليه الَّساَل ُم ِلَص اَل ِة الِع َشاِء اآلِخ َر ِة‪ ،‬فأْر َسَل النبُّي ﷺ إلى أِبي َبْك ٍر بَأْن‬
‫ُيَصِّلَي بالَّناِس ‪َ ...‬فَص َّلى أبو َبْك ٍر ِتلَك األَّياَم ‪ُ ،‬ثَّم إَّن النبَّي ﷺ وَج َد ِم ن َنْفِسِه ِخ َّفًة‪َ ،‬فَخ َر َج بْيَن َر ُج َلْيِن‬
‫أَح ُدُهما الَعَّباُس ‪ِ -‬لَص اَل ِة الُّظْه ِر وَأُبو َبْك ٍر ُيَص ِّلي بالَّناِس ‪َ ،‬فَلَّم ا َر آُه أبو َبْك ٍر َذَهَب ِلَيَتَأَّخ َر ‪ ،‬فأْو َم َأ إَلْيِه‬‫النبُّي ﷺ بَأْن ال َيَتَأَّخ َر ‪َ ،‬قاَل ‪ :‬أْج ِلَساِني إلى َج ْنِبِه ‪ ،‬فأْج َلَساُه إلى َج ْنِب أِبي َبْك ٍر ‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬فَجَعَل أبو َبْك ٍر‬
‫ُيَصِّلي وهو َيْأَتُّم بَص اَل ِة النبِّي ﷺ‪ ،‬والَّناُس بَص اَل ِة أِبي َبْك ٍر ‪ ،‬والنبُّي ﷺَقاِع ٌد» [ُم تفق عليه]‪ .‬وفي‬
‫رواية للبخاري‪ :‬أن َعاِئَشَة (رضي هللا عنها) إّنما حدثت بهذا الحديث لّم ا تذاكروا عندها الُم واَظبِة‬
‫َعَلى الَّص الِة َو الَّتْعِظ يَم َلَه ا‪ ،‬أرادت أن ُتبّين قدر الّص الة عند الّنبي ﷺ حتى في شّدة مرضه‪.‬‬
‫وكانت الّص الة آخر وصاياه ﷺ وهو يرتحل من الّدنيا‪ ،‬فعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه)‬
‫قال‪« :‬كانت عاَّم ُة َو صَّيِة رسوِل هللا ﷺ حين حَض رَه الموُت ‪« :‬الصالَة وما مَلَكْت أيماُنكم‪ ،‬الصالَة‬
‫وما مَلَكْت أيماُنكم‪ ،‬حتى جَعَل رسوُل هللا ﷺ ُيَغرِغ ُر بها َص دُر ه‪ ،‬وما َيكاُد َيفيُض بها ِلساُنه» [رواه‬
‫أحمد]‪ .‬فهل بعد هذا االهتمام من اهتمام؟! وهل بعد هذه الّنصيحة من نصيحة؟!‬
‫مسكين الذي ال ُيصّلي‪ ،‬لقد انقطعت روحه عن مصدر القوة والمدد‪ ،‬والعون والّسداد‪،‬‬
‫وانفصل عن منبع العّز ة والغنى‪ ،‬والّشرف واإلسعاد‪ ،‬وانفصمت حباله فأصبح في مهوى الفقر‬
‫الّر وحي‪ ،‬والضعف الّنفسي‪ ،‬وصار يعيش اإلفالس‪ ،‬واإلحباط‪ ،‬واالنهيار الداخلي‪ ،‬وضيق الّص در‪،‬‬
‫تائًه ا في عالم الّضياع ودنيا الّنسيان واإلهمال؛ ألّنه لم يذق حالوة مناجاة الباري‪ ،‬ولم تطف روحه‬
‫حول العرش‪ ،‬ولم تسبح نفسه في ملكوت السماوات واألرض‪.‬‬
‫إّن الّص الة أعظم طاقة إيجابية في الّدنيا؛ ألّنها نهر الّر ضا واإللهام‪ ،‬وروضة اليقين والفأل‪،‬‬
‫وجامعة اإلنجاز واالمتياز‪ ،‬ولُيبّشر من ُيحافظ عليها بأّن هللا لن ُيضّيعه‪ ،‬ولن ُيخزيه أبًدا‪ ،‬فهو بعناية‬
‫هللا محفوظ‪ ،‬وبعين رعايته ُم حاط‪ ،‬وفي دار واليته ساكن‪َ{ ،‬ر ِّب اْج َعْلِني ُم ِقيَم الَّص َالِة َو ِم ْن ُذِّر َّيِتي‬
‫َر َّبَنا َو َتَقَّبْل ُدَعاِء } [إبراهيم‪ :‬اآلية ‪.]40‬‬
‫عليك صالة رّبك كل حني‬
‫وتسليم من الّرب األجِّل‬
‫تقول إذا دهاك الكرب يوًما‬
‫«أرحنا ابلصالة» فُقم ُنصِّل‬
‫فتدخل يف رايض األنس ُح ًّبا‬
‫وتسعد ابلّتحّلي والّتجلي‬
‫ُتناجي الواحد الداّي ن شوًقا‬
‫فرتقى الّروح يف أعلى حَم ِّل‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَتَه ِّج ًد ا‬
‫رسولنا ﷺ ُم نذ فجر دعوته‪ ،‬وإشراق رسالته حريٌص على قيام الّليل حضًر ا وسفًر ا‪ ،‬ممتثاًل‬
‫أمر رّبه سبحانه وتعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اْلُم َّز ِّم ُل * ُقِم الَّلْيَل ِإَّال َقِليًال} [المزمل‪ :‬اآلية ‪ ،]2 -1‬فيقف بين يدي‬
‫هللا‪ ،‬باكًيا‪ُ ،‬م تبتاًل ‪ ،‬ساكًنا‪ ،‬خاشًعا‪ ،‬وقد سافرت نفسه إلى العالم العلوي‪ ،‬وعبرت روحه الّسبع الّشداد‬
‫نحو خالقه‪ُ ،‬يصّلي وُيناجي رّبه‪ ،‬ويدعو مواله‪.‬‬
‫يقرأ أحياًنا في الّر كعة الواحدة سورة البقرة‪ ،‬والّنساء‪ ،‬وآل عمران‪( ،‬حسب تريب مصحف‬
‫عبدهللا بن مسعود راوي الحديث)‪ ،‬ويركع نحًو ا من ذلك‪ ،‬ويرفع قريًبا من ذلك‪ ،‬ويسجد قريًبا من‬
‫ذلك؛ ألّن رّبه جّل في عاله يقول له‪َ{ :‬و ِم َن الَّلْيِل َفَتَه َّج ْد ِبِه َناِفَلًة َلَك َعَسى َأْن َيْبَعَثَك َر ُّبَك َم َقاًم ا‬
‫َم ْح ُم وًدا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]79‬أي تهّج د بكتاب هللا‪ ،‬واتله آناء الّليل‪ ،‬عسى أن يثيبك هللا على هذا‬
‫القيام في الّدنيا‪ ،‬قياًم ا محموًدا يوم العرض األكبر‪ ،‬وهو قيام الّشفاعة الكبرى‪ ،‬القيام الذي يحمدك فيه‬
‫األولون واآلخرون‪ ،‬ويغبطك فيه الّناس أجمعون‪ ،‬مقام الّشرف والمجد والسؤدد؛ ألن الجزاء من‬
‫جنس العمل‪.‬‬
‫فكان ﷺ يقوم الّليل الّطويل في خشوع وانقطاع إلى مواله‪ ،‬وتبّتل إلى خالقه‪ ،‬وسجود كّله‬
‫نجوى وشكوى للعزيز الغّفار‪ ،‬وعبودية وانكسار للواحد القّه ار‪ ،‬وانطراح على عتبات العبودّية‪،‬‬
‫ُم ستميًح ا المواهب الرّبانية‪ ،‬سائاًل العطايا اإللهية‪ُ ،‬م عّبًر ا عن مشاعره ﷺ‪ ،‬وما تكتنزه نفسه الّشريفة‬
‫الّطاهرة من ُح ب لمواله‪ ،‬ومن شوق لمناجاة خالقه جّل في ُعاله‪ ،‬كما يقول عبدهللا بن رواحة (رضي‬
‫هللا عنه)‪:‬‬
‫َو ِفيَنا َرُس وُل هللا َيْت ُلو ِكَتاَبُه‬
‫ِم‬
‫ِط‬
‫ِإَذا اْنَش َّق َمْع ُروٌف َن الَف ْج ِر َس ا ُع‬
‫َأَرااَن اهُل َد ى َبْع َد الَعَم ى َفُقُلوُبَنا‬
‫ِق‬
‫ِه ِق‬
‫ِب ُمو َناٌت َأَّن َما َقاَل َوا ُع‬
‫ِبيُت ايِف ْن ُه َع ِف اِش ِه‬
‫َي َجُي َج َب ْن َر‬
‫ِك‬
‫ِج‬
‫ِإَذا اْسَت ْث َق َلْت اِب ُملْش ـِر َني اَملَض ا ُع‬
‫كان قيام الّليل ُقّر َة عينه ﷺ‪ ،‬وبهجة نفسه‪ ،‬وسلوَة روحه‪ ،‬وعزاَء ه بعد يوم طويل ملؤه البذل‬
‫والعطاء والّتضحية؛ ولهذا كان له ﷺ قْو متاِن ‪ :‬األولى‪ :‬قومة للتزّو د من الّطاعة‪ ،‬وطلب المدد للّدعوة‪،‬‬
‫وهي قيام الّليل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اْلُم َّز ِّم ُل * ُقِم الَّلْيَل ِإَّال َقِليًال} [المزمل‪ :‬اآلية ‪.]2 -1‬‬
‫والثانية‪ :‬قومة للّدعوة وتبليغ الّر سالة بعد أخذ العّدة والمدد والقوة من قيام الّليل‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اْلُم َّدِّثُر * ُقْم َفَأْنِذ ْر } [المدثر‪ :‬اآلية ‪.]2 -1‬‬
‫فقيامه في الّليل للعبادة والخلوة برّبه‪ ،‬وقيامه في الّنهار لنشر رسالة هللا وتبليغ دينه‪ ،‬فصّلى‬
‫هللا وسلم عليه ما أطيب ليله ونهاره!‪.‬‬
‫واستحضْر بقلبك هذه الّص ورة الفريدة الجميلة التي ترويها لنا أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا‬
‫عنها) لّم ا فقدت الّنبي ﷺ من فراشه‪ ،‬فقامت تلتمسه فوجدته ُم نطرًح ا ساجًدا ناصًبا قدميه يدعو هللا في‬
‫سجوده‪ ،‬ويقول‪« :‬اللهَّم أعوُذ ِبِر ضاَك ِم ْن َسَخ ِط َك ‪َ ،‬و ِبُم َعاَفاِتَك ِم ْن ُعُقوَبِتَك ‪َ ،‬و ُأعوُذ ِبَك ِم ْنَك اَل‬
‫ُأْح َص ي َثَناًء عَلْيَك ‪َ ،‬أْنَت َكَم ا َأْثَنْيَت َعَلى َنْفِس َك » [رواه مسلم]‪ ،‬يتهّج د ﷺ وهو في غاية االستغراق‪،‬‬
‫واالنقطاع‪ ،‬إلى رّبه جّل في ُعاله‪.‬‬
‫وتصف (رضي هللا عنها) قيامه ﷺ فتقول‪ُ« :‬يَصِّلي أربًعا‪ ،‬فال تْس َأْل عن ُحْسِنهَّن وُطوِلهَّن ‪،‬‬
‫ثَّم يَصِّلي أربًعا‪ ،‬فال تْس َأْل عن ُحْسِنهَّن وُطوِلهَّن ‪ ،‬ثَّم يَصِّلي ثالًثا» [ُم تفق عليه]‪ .‬وُسئلت (رضي هللا‬
‫عنها) ‪« :‬كيف كانت قراءة الّنبي ﷺ بالّليل؟ أكاَن ُيِس ُّر بالقراءِة أم َيجَه ُر ؟‪ ،‬قالْت ‪ :‬كَّل ذلَك كان َيفَعُل ‪،‬‬
‫ُر َّبما أَسَّر ‪ ،‬وُر َّبما جَه َر » [رواه الخمسة]‪ ،‬وقالت (رضي هللا عنها) ‪« :‬كاَن ﷺ َيُقوُم ِم َن الَّلْيِل حّتى‬
‫َتَتَفَّطَر َقَدماُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعند الطبراني في «األوسط» قال رسوُل هللا ﷺ‪« :‬واعَلم أَّن شَر َف المؤمِن قياُم الَّليِل ‪،‬‬
‫وعَّز ُه استغناُؤ ُه عِن الّناِس »‪ ،‬فإّن هذا القيام مدد روحي‪ ،‬وطاقة نفسّية قوية ُيعين هللا بها العبد على‬
‫أمور الّنهار‪.‬‬
‫وكان يتزّو د ﷺ بقيام الّليل لمواجهة متاعب الحياة كما فعل في ليلة بدر‪ ،‬يقول علُّي بن أبي‬
‫طالب (رضي هللا عنه)‪« :‬ما كان ِفيَنا َفاِر ٌس يوم َبْد ٍر َغْيُر الِم ْقَداِد‪َ ،‬و َلَقْد َر َأْيُتَنا وما ِفيَنا إاّل َناِئٌم ‪ ،‬إاّل‬
‫َر ُسوَل هللا ﷺ َتْح َت َشَج َر ٍة يصلي ويبكي حتى َأْصَبَح» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫لقد كان قيام الّليل زاده ﷺ في حِّله وترحاله‪ ،‬وكان جلسًة ُر وحّية رّبانية يمأل بها نفسه سروًر ا‬
‫وعبودّية وإخباًتا لرّبه‪ ،‬حيث ُيناجي وقتها مواله ويدعوه ويتبّتل إليه ويثني عليه وُيسّبحه ويحمده‬
‫وُيكّبره ويستغفره ُم متثاًل أمره سبحانه‪َ{ :‬و ِم َن الَّلْيِل َفاْسُج ْد َلُه َو َسِّبْح ُه َلْيًال َطِو يًال} [اإلنسان‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]26‬بعيًدا عن أعين الّناس‪ ،‬وتشويش العامة‪ ،‬وصخب البشر‪ ،‬وضوضاء الّنهار‪.‬‬
‫فإذا سكن الليل‪ ،‬وأقبل بظالمه‪ ،‬وغّطى العالم بعباءته‪ ،‬توّج ه ﷺ إلى مصاله‪ ،‬متوضًئا‪،‬‬
‫طاهًر ا‪ ،‬لُيْسِلم روحه إلى مواله‪ ،‬فتعرج في درجات العبودّية‪ ،‬فيجد عليه الصالة والسالم من الّسكينة‬
‫واألمن الّنفسي‪ ،‬وانشراح الّص در‪ ،‬وهدوء البال‪ ،‬وسعادة الّر وح‪ ،‬ما يفوق الوصف وما ال يصل إليه‬
‫الخيال‪.‬‬
‫حتى إّن الّنشاط والقوة التي يجدها ﷺ في نهاره كانت بسبب قيام الّليل‪ ،‬هّللف كم من ليلة‬
‫أظلمت عليه ﷺ شق ظالمها بدعواته الّص اعدة نحو عرش الرحمن!‬
‫وهلل كم من ليلة غّطت الكون بعباءتها الّسوداء أنار دياجيها بتالواته ودعواته وتبّتالته إلى‬
‫رّبه تقّدست أسماؤه!‪.‬‬
‫إذا ما تسّلى العاشقون بلهوهم‬
‫بوصِل فالٍن أو هبجر فالِن‬
‫جعلت حديثي يف الّد جى ذكر خالقي‬
‫فيهتّز يف ُدنيا الّس جود كياين‬
‫ُتسافر روحي يف الوجود طليقًة‬
‫يطوف جبّنات اخللود جناين‬
‫فأنسى مهومي يف احلياة وأرتقي‬
‫ويلهج يف مدح املليك لساين‬
‫وكان ﷺ يبدأ تهُّج ده بركعتين خفيفتين كما قالت َعاِئَشُة (رضي هللا عنها) ‪« :‬كان رسول هللا‬
‫ﷺ إذا قام من الَّلْيِل ِلُيَص َّلَي اْفَتَتَح َص الَتُه ِبَر ْك َعَتْيِن َخ ِفيَفَتْيِن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وتأّم ل قول حذيفة (رضي هللا عنه) حين يصف تهّج د الّنبي ﷺ فيقول‪َ« :‬ص َّلْيُت مع الّنبِّي ﷺ‬
‫َذاَت َلْيَلٍة‪َ ،‬فاْفَتَتَح الَبَقَر َة‪َ ،‬فُقلُت ‪َ :‬يْر َكُع ِع ْنَد الِم َئِة ‪ُ ،‬ثَّم َم َض ى‪َ ،‬فُقلُت ‪ُ :‬يَصِّلي بَه ا في َر ْك َعٍة‪َ ،‬فَم َض ى‪،‬‬
‫َفُقلُت ‪َ :‬يْر َكُع بَه ا‪ُ ،‬ثَّم اْفَتَتَح الِّنَساَء ‪َ ،‬فَقَر َأَها‪ُ ،‬ثَّم اْفَتَتَح آَل ِع ْم َر اَن ‪َ ،‬فَقَر َأَها‪َ ،‬يْقَر ُأ ُم َتَر ِّس اًل ‪ ،‬إَذا َمَّر بآَيٍة‬
‫ِفيَه ا َتْس ِبيٌح َسَّبَح‪ ،‬وإَذا َمَّر بُسَؤاٍل َسَأَل ‪ ،‬وإَذا َمَّر بَتَعُّو ٍذ َتَعَّو َذ‪ُ ،‬ثَّم َر َكَع ‪َ ،‬فَجَعَل يقوُل ‪ُ :‬سْبَح اَن َر ِّبَي‬
‫الَعِظ يِم ‪َ ،‬فكاَن ُر ُكوُعُه َنْح ًو ا ِم ن ِقَياِم ِه ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ :‬سِم َع ُهللا ِلَم ن َحِم َد ُه‪َ ،‬ر َّبَنا وَلَك الَح ْم ُد‪ُ ،‬ثَّم َقاَم َطِو ياًل‬
‫َقِر يًبا مَّم ا َر َكَع ‪ُ ،‬ثَّم َسَج َد‪َ ،‬فقاَل ‪ُ :‬سْبَح اَن َر ِّبَي األْع َلى‪َ ،‬فكاَن ُسُج وُدُه َقِر يًبا ِم ن ِقَياِم ِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫هذه ركعة واحدة فقط من صالته في الّليل عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬فُسبحان من أعانه على قيام‬
‫الّليل الطويل! مع أعباء الّر سالة‪ ،‬وُم قابلة الّناس‪ ،‬والمنافحة عن الّدين‪ ،‬ومناظرة الخصوم‪ ،‬والقيام‬
‫بشؤون البيت واألمة‪ ،‬والعناية بأبواب البّر واإلحسان واإلصالح التي بلغ فيها أرقى المقامات‪ ،‬وأجّل‬
‫الّدرجات بأبي هو وأمي ﷺ‪.‬‬
‫وعن عائشة (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬كاَن الّنبي ﷺ ُيَصِّلي ِم َن الَّلْيِل ِتْسَع َر َكَعاٍت ِفيِه َّن‬
‫الِو ْتُر ‪َ ،‬و كاَن ُيَصِّلي َلْياًل َطِو ياًل َقاِئًم ا‪َ ،‬و َلْياًل َطِو ياًل َقاِع ًدا‪َ ،‬و كاَن إَذا َقَر َأ َو هو َقاِئٌم َر َكَع َو َسَج َد َو هو‬
‫َقاِئٌم ‪ ،‬وإَذا َقَر َأ َقاِع ًدا َر َكَع َو َسَج َد َو هو َقاِع ٌد‪َ ،‬و كاَن إَذا َطَلَع الَفْج ُر َص َّلى َر ْك َعَتْيِن » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فانظر كيف نّو ع ﷺ في العبادة؛ ليكون أدعى للّنشاط ولطرد الملل‪ ،‬وكان إذا تهّج د من الّليل‬
‫حمد هللا حمًدا كثيًر ا‪ ،‬وأثنى عليه بأنواع الّثناء‪ ،‬ومّج ده بأسمى ألفاظ الّتمجيد‪ ،‬فكان يقول‪« :‬الَّلُه َّم لَك‬
‫الَح ْم ُد أْنَت ُنوُر الَّسَمَو اِت واألْر ِض ‪ ،‬وَلَك الَح ْم ُد أْنَت َقِّيُم الَّسَمَو اِت واألْر ِض ‪ ،‬وَلَك الَح ْم ُد أْنَت َر ُّب‬
‫الَّسَمَو اِت واألْر ِض وَم ن ِفيِه َّن ‪ ،‬أْنَت الَحُّق ‪ ،‬وَو ْعُدَك الَحُّق ‪ ،‬وَقْو ُلَك الَحُّق ‪ ،‬وِلَقاُؤَك الَحُّق ‪ ،‬والَج َّنُة‬
‫َحٌّق ‪ ،‬والَّناُر َحٌّق ‪ ،‬والَّنِبُّيوَن َحٌّق ‪ ،‬والَّساَعُة َحٌّق ‪ ،‬الَّلُه َّم لَك أْس َلْم ُت ‪ ،‬وِبَك آَم ْنُت ‪ ،‬وَعَلْيَك َتَو َّكْلُت ‪ ،‬وإَلْيَك‬
‫أَنْبُت ‪ ،‬وِبَك َخ اَص ْم ُت ‪ ،‬وإَلْيَك َح اَكْم ُت ‪َ ،‬فاْغ ِفْر لي ما َقَّد ْم ُت وما أَّخ ْر ُت ‪ ،‬وما أْس َر ْر ُت وما أْع َلْنُت ‪ ،‬أْنَت‬
‫إَلِه ي ال إَلَه إاَّل أْنَت » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫هذا وهو الذي غفر له ما تقّدم من ذنبه وما تأخر ﷺ‪ ،‬وهو إمام األبرار‪ ،‬وصفوة األخيار‪،‬‬
‫والّنبي المختار ‪ -‬عليه الّص الة والّسالم ‪ -‬ما تعاقب الّليل والّنهار‪.‬‬
‫وكان عليه الّص الة والّسالم يحث أصحابه على قيام الّليل وُيبّين لهم فضائله‪ ،‬ويقول‪َ« :‬أْفَض ُل‬
‫الَّص الِة َبْعَد الَّص الِة الَم ْكُتوَبِة ؛ الَّص الُة في َجْو ِف الَّلْيِل » [رواه مسلم]؛ ألّنها تأتي بعد الخلود للراحة‪،‬‬
‫وبعد االستسالم للّنوم‪ ،‬فال ينبعث في تلك الّساعة إاّل مؤمن صادق اإليمان‪ ،‬كما قال رب العالمين‪،‬‬
‫عن أوليائه الُم ّتقين‪ ،‬وأّو لهم وإمامهم وسّيدهم إلى يوم الدين‪ُ ،‬م حمد ﷺ‪َ{ :‬تَتَج اَفى ُج ُنوُبُهْم َعِن‬
‫اْلَم َض اِج ِع َيْدُعوَن َر َّبُهْم َخ ْو ًفا َو َطَم ًعا} [السجدة‪ :‬اآلية ‪.]16‬‬
‫وبّشر ﷺ المتهجدين بالّليل فقال‪َ« :‬م ن َتعاَّر ِم َن الَّلْيِل (أي‪ :‬استيقظ)‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل ُهللا وْح َد ُه‬
‫ال َشِر يَك له‪ ،‬له الُم ْلُك وله الَح ْم ُد‪ ،‬وهو على ُكِّل شيٍء َقِديٌر ‪ ،‬الَح ْم ُد هلل‪ ،‬وُسْبحاَن هللا‪ ،‬وال إَلَه إاَّل‬
‫هللا‪ ،‬وُهللا َأْك َبُر ‪ ،‬وال َحْو َل وال ُقَّو َة إاَّل باهلل‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬اللُه َّم اْغ ِفْر ِلي‪ ،‬أْو َدَعا؛ اْس ُتِج يَب له‪ ،‬فإْن َتَو َّض َأ‬
‫وَص َّلى ُقِبَلْت َص اَل ُتُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يكثر من االستغفار في تهّج ده‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬كاُنوا َقِليًال ِم َن الَّلْيِل َم ا َيْهَجُعوَن *‬
‫َو ِباَألْس َح اِر * ُهْم * َيْس َتْغِفُر وَن *} [الذاريات‪ :‬اآلية ‪ ،]18 - 17‬فهو إمام المستغفرين‪ ،‬وقدوة‬
‫العابدين‪ ،‬وأسوة المتهجدين‪ .‬وفي «الّص حيحين» أّنه ﷺ َطَر ق علَّي بن أبي طالب وفاطمة لياًل فقال‪:‬‬
‫«َأال ُتَصِّلياِن ؟»‪.‬‬
‫فانظر إلى حرصه ﷺ على ابنته وصهره (رضي هللا عنهما) ليقوما ويتهجدا وُيصليا صالة‬
‫الّليل لما فيها من عظيم البركة واألجر والمثوبة‪.‬‬
‫وأوصى ﷺ الّر جل والمرأة أن يعين كل منهما صاحبه على قيام الّليل‪ ،‬وهو من الّتعاون على‬
‫البّر والتقوى‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬رِح َم هللا رُج اًل قام ِم ن الليِل فصَّلى‪ ،‬وأيَقَظ امرأَته فصَّلْت ‪ ،‬فإْن أَبْت نَض َح‬
‫في َو جِه ها الماَء ‪ ،‬رِح َم ُهللا امرأًة قامْت ِم ن الليِل فصَّلْت ‪ ،‬وأيَقظْت َز وَج ها‪ ،‬فإْن أَبى نَضحْت في‬
‫َو جِه ه الماَء » [رواه أبو داود]‪ ،‬ورش الّر جل وجه زوجته لتستيقظ لقيام الّليل هو من باب الّتعاون‬
‫على البّر والّتقوى‪ ،‬وهذا الّنضح يكون بُلطف‪ ،‬وليس بعنف‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحث على قيام الّليل بصورة بليغة فيقول‪َ« :‬يْعِقُد الَّشْيَطاُن عَلى َقاِفَيِة َر ْأِس َأَح ِدُكْم‬
‫إَذا هو َناَم َثاَل َث ُعَقٍد َيْض ِر ُب ُكَّل ُعْقَد ٍة‪َ :‬عَلْيَك َلْيٌل َطِو يٌل ‪َ ،‬فاْر ُقْد‪َ .‬فِإِن اْس َتْيَقَظ َفَذَكَر َهللا‪ ،‬اْنَح َّلْت ُعْقَد ٌة‪،‬‬
‫فإْن َتَو َّض َأ اْنَح َّلْت ُعْقَد ٌة‪ ،‬فإْن َص َّلى اْنَح َّلْت ُعْقَد ٌة‪ ،‬فأْصَبَح َنِشيًطا َطِّيَب الَّنْفِس وإاَّل َأْصَبَح َخ ِبيَث‬
‫الَّنْفِس َكْس اَل َن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فهل بعد هذه الّص ورة الُم شرقة الُم عّبرة الُم ؤثرة من توضيح أو شرح لفضل قيام الّليل؟! إّن‬
‫الُم سلم وهو في أكثر حاالته كساًل إذا قرأ هذا الحديث وكّر ره‪ ،‬يجد في نفسه من الهّم ة والّنشاط ما‬
‫يدعوه إلى أن يقوم الليل‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحّذر من الّتهاون في قيام الّليل أو تركه‪ ،‬ومن ذلك قوله ﷺ لعبدهللا ابن عمرو بن‬
‫العاص (رضي هللا عنهما)‪« :‬يا َعْبَدهللا‪ ،‬ال َتُكْن ِم ْثل ُفالٍن كاَن َيُقوُم الَّلْيَل َفَتَر َك ِقياَم الَّلْيِل » [ُم تفق‬
‫عليه]؛ ألن عبدهللا بن عمرو بن العاص من العلماء‪ ،‬فنّبهه ﷺ إلى فضل قيام الليل‪.‬‬
‫وجعل ﷺ قيام الّليل من أفضل الخصال الّنبيلة التي ُيمدح بها اإلنسان فقال‪ِ« :‬نْعَم الَّر جُل عبُد‬
‫هللا َلو كاَن ُيَصِّلي ِم َن الَّلْيِل !» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ بفضل قيام الّليل ولو بالقليل فقال‪« :‬إذا أيقَظ الَّر جُل َأهَلُه مَن الَّليِل فصَّليا أو صّلى‬
‫َر كعتيِن جميًعا ُكتبا في الّذاكريَن والّذاكراِت» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وحث ﷺ على توخي ساعة االستجابة في صالة الّليل والحرص عليها‪ ،‬فقال‪« :‬إّن في الّليلة‬
‫لساعًة ال ُيوافقها رجٌل مسلٌم ‪ ،‬يسأل َهللا خيًر ا من أمر الّدنيا واآلخرة‪ ،‬إاّل أعطاه ُهللا إياه‪ ،‬وذلك كَّل‬
‫ليلة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وفي حديث صحيح رواه الّترمذي والنسائي قال ﷺ‪« :‬أقرُب ما يكوُن الرُّب من العبِد في‬
‫جوِف الّليِل اآلخِر ‪ ،‬فإِن استطعَت أن تكوَن مَّم ن يذكُر َهللا في تلَك الساعِة فكْن »‪ .‬وقد أخبر ﷺ بوقت‬
‫النزول اإللهي في الثلث األخير فقال‪َ« :‬يْنِز ُل هللا إلى الَّسماِء الُّد ْنيا ُكَّل َلْيَلٍة ِح يَن َيْم ِض ي ُثُلُث الَّلْيِل‬
‫اآلخر‪ ،‬فَيقوُل ‪ :‬أنا الَم ِلُك ‪ ،‬أنا الَم ِلُك ‪َ ،‬م ن ذا الذي َيْدُعوِني فأْس َتِج يَب له!؟ َم ن ذا الذي َيْس َأُلِني‬
‫َفُأْع ِط َيُه!؟ َم ن ذا الذي َيْس َتْغِفرِني فأْغ ِفَر له!؟ فال َيزاُل َكذلَك حّتى ُيِض يَء الَفْج ُر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬أْفُشوا الَّسالَم ‪َ ،‬و َأْط ِع ُم وا الَّطَعاَم ‪َ ،‬و ِص ُلوا اَأْلْر َح اَم ‪َ ،‬و َص ُّلوا َو الَّناُس ِنَياٌم َتْد ُخ ُلوا‬
‫اْلَج َّنَة ِبَساَل ٍم » [رواه أحمد]‪ ،‬فهذا فيه مع بذل الّسالم للعالم‪ ،‬وإطعام الطعام‪ ،‬العبادة الخاّص ة بالمسلم‬
‫في ليله؛ ألّن هذه الخلوة الّر بانية هي أصدق ما يكون في العبودية‪ ،‬حيث ال يراه إاّل هللا‪.‬‬
‫فكان رسولنا ﷺ يجد راحته وأنسه في قيام الّليل‪ ،‬والّشوق لمناجاة ربه‪ ،‬وتعفير الوجه‬
‫الّشريف لمرضاة خالقه وإلهه‪ ،‬والّتذلل والّتلّذذ باإلخبات لملك الملوك‪ ،‬ال إله إال هو‪.‬‬
‫ومن تالميذ مدرسة النبّو ة‪ ،‬وأعالم جامعة الّر سالة الُم حّم دية‪ ،‬اإلمام عبدهللا بن الُم بارك حيث‬
‫يقول عن قيام الّليل‪:‬‬
‫إَذا َما اَّلليُل أظَلَم َك اَبُد وه‬
‫فيسفُر عنهُم وهُم ركوُع‬
‫أَطاَر اَخلوُف نوَمُه ُم َفَق اُموا‬
‫َوأهُل األمِن يِف الّدَنيا ُه ُج وُع‬
‫ُهلم حَت َت الَّظالِم َو ُه ْم ُسُج وٌد‬
‫ِم‬
‫أِنٌني نُه َتنَف رُج الُّضُلوُع‬
‫ُخ ر ابلَّنهاِر ِلُطوِل صمٍت‬
‫َو ٌس‬
‫عليِه م مْن سكينتهْم خشوُع‬
‫وقد أثنى هللا سبحانه تعالى على القانت في تهّج ده‪ ،‬فقال عّز وجل‪َ{ :‬أَّم ْن ُهَو َقاِنٌت آَناَء الَّلْيِل‬
‫َساِج ًدا َو َقاِئًم ا َيْح َذُر اآلِخ َر َة َو َيْر ُج و َر ْح َم َة َر ِّبِه ُقْل َهْل َيْس َتِو ي اَّلِذيَن َيْعَلُم وَن َو اَّلِذيَن َال َيْعَلُم وَن ِإَّنَم ا‬
‫َيَتَذَّكُر ُأوُلو اَألْلَباِب} [الزمر‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫فانظر كيف قرن تعالى قيام الّليل بالعلم؛ ألّن العلم الّنافع هو الذي يحملك على التهّج د‬
‫والعبودية هلل رّب العالمين تقّدس اسمه‪.‬‬
‫ومن فضائل الّتهجد واألجور الُم ترتبة على هذا العمل الجليل التي بّينها لنا رسولنا ﷺ قوله‪:‬‬
‫«َعَلْيُكْم ِبِقَياِم الَّلْيِل ‪َ ،‬فِإَّنُه َد ْأُب الَّص الِح يَن َقْبَلُكْم ‪َ ،‬و ُهَو ُقْر َبٌة ِإَلى َر ِّبُكْم ‪َ ،‬و َم ْك َفَر ٌة ِللَّسِّيَئاِت‪َ ،‬و َم ْنَه اٌة‬
‫ِلِإلْثِم » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يطيل القيام بالقراءة‪ ،‬ويطيل الّر كوع بالّتسبيح‪ ،‬ويطيل الّر فع بالحمد والّثناء‪ ،‬ويطيل‬
‫الّسجود بالّتسبيح والّدعاء‪ ،‬هّللف تلك الحياة! حياة العبودّية واإلنابة والخشوع والخضوع للواحد‬
‫القّه ار‪.‬‬
‫لقد حثنا ﷺ أن نكون حال قيام الّليل في يقظة وانتباه ال في حالة نعاس أو فتور فقال ﷺ‪« :‬إذا‬
‫َنَعَس أَح ُدُكْم في الَّص الِة َفْلَيْر ُقْد حَّتى َيْذَهَب عْنه الَّنْو ُم ‪ ،‬فإَّن أَح َدُكْم إذا َص َّلى وهو ناِع ٌس َلَعَّلُه َيْذَهُب‬
‫َيْس َتْغِفُر ‪َ ،‬فَيُسُّب َنْفَسُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبّين ﷺ أّن من غلبه الّنوم والّتعب فلم َيعد يفهم ما يقرأ من القرآن فعليه االسترخاء والّنوم‬
‫حتى ينشط‪ِ« :‬إذا َقاَم َأحُدُكْم ِم َن الَّلْيِل َفاستعجَم الُقرآُن َعَلى ِلَساِنِه ‪َ ،‬فَلم َيْد ِر َم ا يُقوُل ‪َ ،‬فْليْض َطِج ْع »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫إّن أجمل هيئة للُم سلم هي هيئة الّسجود هلل رّب العالمين‪ ،‬فكيف إذا كان الّسجود في صالة‬
‫الّليل خالًيا برّبه؛ ال يشاهده بشر‪ ،‬وال يراه أحد‪ ،‬إاّل الواحد األحد‪ ،‬وروحه تسبح في عالم الملكوت‬
‫وهو ساجد‪ ،‬وتطوف حول العرش بالّدعاء واإلخبات والّتضرع والّسؤال واالستغفار واإللحاح‬
‫واالعتراف بالّذنب‪ .‬فإذا أردت أن تقترب من اإلله المعبود فبادر بالّسجود‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و اْسُج ْد‬
‫َو اْقَتِر ْب }‪ ،‬وإذا أردت أن تعلو فانخفض ساجًدا‪ ،‬وإذا أردت أن ترتفع فاهبط ومّر غ أنفك بالّتراب‬
‫خضوًعا للملك الوّهاب‪ُ ،‬تفّتح لك األبواب‪ ،‬وَتنال موفور الّثواب‪ ،‬وتنجو من العذاب‪.‬‬
‫ُقلت عن تهّج ده ﷺ‪:‬‬
‫وقوفَك يِف احملراب تبكي وختشُع‬
‫ِط‬
‫وعيناَك من فر احملّبة تدمُع‬
‫ُتثري ُش جون الّنفس تعصف ابحلَش ا‬
‫وَتطرُق أمساع الوجود وتقرُع‬
‫سجودَك اي خري الربّية قصٌة‬
‫من الّصدق والّتسليم ُتروى وُتْسَمُع‬
‫فُروحَك يف جّو الّصالة طليقٌة‬
‫ُتسافر والّد مع الّس خي ُيشّيُع‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ ُمَتَص ِّد ًقا‬
‫أّو ل الُم تصدقين‪ ،‬وإمام الباذلين‪ ،‬وسّيد الُم نفقين‪ ،‬هو رسول رّب العالمين‪ ،‬محمد بن عبدهللا‬
‫ﷺ‪ ،‬وهو أّو ل من امتثل ألمر خالقه حين قال تعالى‪َ{ :‬لْيَس اْلِبُّر َأْن ُتَو ُّلوا ُو ُج وَهُكْم ِقَبَل اْلَم ْش ِر ِق‬
‫َو اْلَم ْغِر ِب َو َلِك َّن اْلِبَّر َم ْن آَم َن ِباِهَّلل َو اْلَيْو ِم اآلِخ ِر َو اْلَم َالِئَكِة َو اْلِك َتاِب َو الَّنِبِّييَن َو آَتى اْلَم اَل َعَلى ُح ِّبِه‬
‫َذِو ي اْلُقْر َبى َو اْلَيَتاَم ى َو اْلَم َساِكيَن َو اْبَن الَّسِبيِل َو الَّساِئِليَن َو ِفي الِّر َقاِب} [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]177‬‬
‫وشّج ع ﷺ الّنفوس على البذل والعطاء‪ ،‬فقال‪« :‬الَّص َدقُة ُتطفئ الخطيئَة كما ُيطفُئ الماُء‬
‫الَّناَر » [رواه الترمذي]‪ ،‬وَج اَء إليه َر ُج ٌل َفقاَل ‪« :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬أُّي الَّص َد َقِة َأْع َظُم َأْج ًر ا؟‪ ،‬قاَل ‪َ :‬أْن‬
‫َتَص َّد َق وَأْنَت َصِح يٌح َشِح يٌح َتْخ َشى الَفْقَر ‪ ،‬وَتْأُم ُل الِغ َنى‪ ،‬واَل ُتْم ِه ُل حَّتى إَذا َبَلَغِت الُح ْلُقوَم ‪ُ ،‬قْلَت ‪:‬‬
‫ِلُفاَل ٍن َكَذا‪ ،‬وِلُفاَل ٍن َكَذا وقْد كاَن ِلُفاَل ٍن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ودعا ﷺ إلى الّص دقة وحّث عليها‪ ،‬وأخبر أّنها من أعظم العبادات‪ ،‬وأجّل القربات‪ ،‬ونّبه على‬
‫عظم أجرها في خطبه‪ ،‬ومواعظه‪ ،‬ودروسه‪ ،‬حتى الّنساء دعاهّن ﷺ إلى الّص دقة‪ ،‬وأخبر بأّنها‬
‫كّفارة‪ ،‬فقال‪« :‬يا َم ْعَشَر الِّنساِء ‪َ ،‬تَص َّدْقَن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫بل إّنه ﷺ جعل أنواع المعروف مهما قّلت من الصدقة‪ ،‬فقال‪« :‬تبُّسُم َك في وْج ِه أخيَك َلَك‬
‫صدقٌة‪ ،‬وأمُر َك بالمعروِف وَنهُيَك عِن المْنكِر صدقٌة‪ ،‬وإرشاُدَك الَّر جَل في أرِض الَّض الِل َلَك صدقٌة‪،‬‬
‫وبصُر َك للَّر جِل الَّر ديِء البصِر َلَك صدقٌة‪ ،‬وإماطُتَك الحجَر والَّشْو َك والعظَم عِن الَّطريِق َلَك صدقٌة‪،‬‬
‫وإفراُغَك من دلِو َك في دلِو أخيَك َلَك صدقٌة» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫لقد جعل ﷺ كل حياة المؤمن صدقة‪ ،‬وكل تصّر ف طّيب وعمل مبرور صدقة ُم تقّبلة عند هللا‬
‫عّز وجل‪ ،‬فاإلصالح بين الناس لك صدقة؛ ألّنك أطفأت نار الخصام‪ ،‬فجزاؤك ثواب الملك العاّل م‪،‬‬
‫ومساعدتك لرجل يركب دابته أو سيارته صدقة؛ ألّنك عاونته وساعدته ووقفت معه ليؤدي مهام‬
‫يومه‪ ،‬وتلّفظك بالعبارة الجميلة لك صدقة‪ ،‬وكأَّن حروَف حديثك الحسن ذهٌب تنثره على الفقراء‪،‬‬
‫فأجر الكالم كأجر المال عند ذي الجالل‪ ،‬وخطواتك إلى بيت هللا صدقات ُم تقّبلة عند ملك الملوك‪،‬‬
‫وكأّن كَّل خطوة ديناٌر ُتنفقه على مسكين‪ ،‬وإزالتك األذى عن الّطريق‪ ،‬وإزاحة كل ما يؤذي الّناس‬
‫لك صدقة‪ ،‬وقس على ذلك كل ما تقوم به من نفقات على أهلك‪ ،‬وصلة ألقاربك‪ ،‬ورحمة بالفقراء‪،‬‬
‫وُلطٍف بالمساكين‪ ،‬وبشاشة للوافد‪ ،‬وبسمة راضية للزائر‪ ،‬ألّنك هلل‪ ،‬ومن هللا‪ ،‬وإلى هللا‪ ،‬فتصّدق‬
‫بروحك‪ ،‬وفكرك‪ ،‬وقلمك‪ ،‬وعلمك‪ ،‬ومالك‪ ،‬ووقتك‪ ،‬ليقبلك هللا في عباده الّص الحين‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫(رضي هللا عنه) أّن رسول هللا ﷺ قال‪« :‬كُّل ُسالَم ى من الّناِس عليه صدقٌة‪ ،‬كَّل يوٍم تطُلُع فيه‬
‫الشمُس ؛ يعدُل بيَن االثنيِن صدقٌة‪ ،‬ويعيُن الّر جَل على دابِته فيحمُل عليها‪ ،‬أو يرفُع عليها متاَعه‬
‫صدقٌة‪ ،‬والكلمُة الطيبُة صدقٌة‪ ،‬وكُّل خطوٍة يخُطوها إلى الصالِة صدقٌة‪ ،‬ويميُط األَذى عن الطريِق‬
‫صدقٌة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فانظر إلى هذا الّتوجيه الّنبوي الكريم‪ ،‬وكيف جعل ﷺ الّنفقة على األهل من أعظم الّص دقات‪،‬‬
‫وأبّر الُقربات‪ ،‬لتدرك عظمة هذا الّنبي الكريم في توجيهه لألمة‪ ،‬وفي ترتيب األولويات في حياة‬
‫المسلم‪ .‬قال ﷺ‪ِ« :‬ديناٌر أْنَفْقَتُه في َسبيِل هللا‪ ،‬وِديناٌر أْنَفْقَتُه في َر َقَبٍة‪ ،‬وِديناٌر َتَص َّد ْقَت به عَلى‬
‫ِم ْسِك يٍن ‪ ،‬وِديناٌر أْنَفْقَتُه عَلى أْه ِلَك ‪ ،‬أْع َظُم ها أْج ًر ا الذي أْنَفْقَتُه عَلى أْه ِلَك » [رواه مسلم]‪ .‬فكان عليه‬
‫الّص الة والّسالم يبدأ أهله ببره‪ ،‬وصدقته‪.‬‬
‫ويقول سعد بن أبي وقاص(رضي هللا عنه)‪َ« :‬ج اَء َنا َر سوُل هللا َيُعوُدِني ِم ن وَج ٍع اْش َتَّد بي‪،‬‬
‫َز َم َن َحَّجِة الَو َداِع‪َ ،‬فُقلُت ‪َ :‬بَلَغ بي ما َتَر ى‪ ،‬وَأَنا ُذو َم اٍل ‪ ،‬واَل َيِر ُثِني إاَّل اْبَنٌة ِلي‪ ،‬أَفَأَتَص َّد ُق ِبُثُلَثْي‬
‫َم اِلي؟ َقاَل ‪ :‬ال‪ُ ،‬قلُت ‪ :‬بالَّشْط ِر ؟ َقاَل ‪ :‬ال‪ُ ،‬قلُت ‪ :‬الُّثُلُث ؟ َقاَل ‪ :‬الُّثُلُث َكِثيٌر ‪ ،‬أْن َتَدَع وَر َثَتَك أْغ ِنَياَء َخ ْيٌر ِم ن‬
‫أْن َتَذَر ُهْم َعاَلًة َيَتَكَّفُفوَن الَّناَس ‪ ،‬وَلْن ُتْنِفَق َنَفَقًة َتْبَتِغ ي بَه ا وْج َه هللا إاَّل ُأِج ْر َت َعَلْيَه ا‪ ،‬حَّتى ما َتْج َعُل‬
‫في ِفي اْم َر َأِتَك » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فانظر إلى حكمته ومنهجه الّشرعي المعتدل‪ ،‬فلم يأمر ﷺ سعًدا (رضي هللا عنه) بإنفاق ماله‬
‫كّله‪ ،‬بل أوصاه باالعتدال والوسطّية‪ ،‬ولم ينس ﷺ الورثة‪ ،‬بل نّبه سعًدا على أمر هام وخطير وهو‬
‫أاّل يصل الحال بورثته إلى سؤال الناس بعد أن ُيذهب مالهم في الّص دقة‪ ،‬فإّن من أعظم الّص دقات‬
‫الّنفقة على األهل واألقارب‪ ،‬فأعطاه ﷺ مجااًل للبّر والّص دقة‪ ،‬وأمره أن يبقي عليه أكثر ماله لورثته‪.‬‬
‫ولقد بّشرنا ﷺ‪ ،‬بفضائل كثيرة‪ ،‬ومنافع عديدة للّص دقة‪ ،‬ومنها أّنها ُتضاعف لصاحبها أضعاًفا‬
‫كثيرًة كما بلغنا ﷺ عن رّب العالمين صورة الّص دقة التي تطبع في الذاكرة مشهد الخضرة والّنماء‬
‫والّسنابل وهي تتمايل مكتنزة بالحبوب‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬م َثُل اَّلِذيَن ُيْنِفُقوَن َأْم َو اَلُهْم ِفي َسِبيِل ِهَّللا َكَم َثِل‬
‫َح َّبٍة َأْنَبَتْت َسْبَع َسَناِبَل ِفي ُكِّل ُسْنُبَلٍة ِم َئُة َح َّبٍة َو ُهَّللا ُيَض اِع ُف ِلَم ْن َيَشاُء َو ُهَّللا َو اِس ٌع َعِليٌم } [البقرة‪ :‬اآلية‬
‫‪.]261‬‬
‫فانظر إلى هذا المثل الجميل الرائع‪ :‬أرض صّم اء‪ ،‬بكماء‪ ،‬جامدة‪ ،‬تلقي فيها حبة‪ ،‬فتنبت‬
‫الحّبة سبع سنابل‪ ،‬في كل سنبلة مئة حبة‪ ،‬فكيف بمن يتعامل مع أكرم األكرمين‪ ،‬وأرحم الراحمين‪،‬‬
‫وأجود األجودين؟! كيف ُيضاعف صدقتك إلى أن تبلغ سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة جوًدا‬
‫وكرًم ا منه سبحانه وتعالى؟! وانظر إلى ُسنبلة القمح‪ ،‬وجمالها‪ ،‬وُح سنها‪ ،‬وهي تنحني أمامك كأّنها‬
‫تشكر خالقها وموالها لما حّم لها من الخير‪ ،‬ولُتذّكرك بصدقتك يوم تتصّدق‪ ،‬وإنفاقك يوم ُتنفق‪.‬‬
‫وعّلمنا ﷺ أّن الّص دقة إقراض هلل‪ ،‬قرًض ا ُم ضاعًفا عنده جّل في عاله‪ ،‬وهو سبحانه الغني‬
‫الحميد‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن اْلُم َّص ِّدِقيَن َو اْلُم َّص ِد َقاِت َو َأْقَر ُض وا َهَّللا َقْر ًض ا َحَسنًا ُيَض اَعُف َلُهْم َو َلُهْم‬
‫َأْج ٌر َكِر يٌم } [الحديد‪ :‬اآلية ‪ ،]18‬وقال تعالى‪َ{ :‬م ْن َذا اَّلِذي ُيْقِر ُض َهَّللا َقْر ًض ا َحَسنًا َفُيَض اِع َفُه َلُه‬
‫َأْض َعاًفا َكِثيَر ًة َو ُهَّللا َيْقِبُض َو َيْبُسُط َو ِإَلْيِه ُتْر َجُعوَن } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]245‬‬
‫وتصّو ر أّنك إذا تصّدقت فقد أقرضت غنًّيا كريًم ا‪ ،‬هو الذي رزقك المال كّله‪ ،‬ويعّو ضك‬
‫أضعافه‪ ،‬ولهذا قرن هللا الصدقة الُم تقّبلة بتالوة القرآن‪ ،‬وإقام الّص الة‪ ،‬فقال ُسبحانه‪ِ{ :‬إَّن اَّلِذيَن َيْتُلوَن‬
‫ِك َتاَب ِهَّللا َو َأَقاُم وا الَّص َالَة َو َأْنَفُقوا ِم َّم ا َر َز ْقَناُهْم ِسًّر ا َو َعَالِنَيًة َيْر ُج وَن ِتَج اَر ًة َلْن َتُبوَر * ِلُيَو ِّفَيُهْم‬
‫ُأُج وَر ُهْم َو َيِز يَدُهْم ِم ْن َفْض ِلِه ِإَّنُه َغُفوٌر َشُكوٌر } [فاطر‪ :‬اآلية ‪.]30 - 29‬‬
‫فانظر إلى مسألتين في الّص دقة هنا‪ ،‬وهما قوله سبحانه‪ِ{ :‬م َّم ا َر َز ْقَناُهْم } فالفضل فضله‬
‫والّر زق رزقه‪ ،‬وقوله سبحانه‪ِ{ :‬سًّر ا َو َعَالِنَيًة} ‪ ،‬فهو حٌّث على أن تتصّدق في كل وقت وكل آٍن‬
‫بالقليل والكثير‪ ،‬وفي السّر والعلن‪.‬‬
‫وقال رسول هللا ﷺ‪« :‬ال َحَسَد إاَّل في اْثَنَتْيِن ‪َ :‬ر ُجٌل آتاُه ُهللا الُقْر آَن َفهو َيُقوُم به آناَء الَّلْيِل ‪،‬‬
‫وآناَء الَّنهاِر ‪ ،‬وَر ُجٌل آتاُه ُهللا مااًل ‪َ ،‬فهو ُيْنِفُقُه آناَء الَّلْيِل ‪ ،‬وآناَء الَّنهاِر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬م ن َتَص َّد َق بَعْد ِل َتْم َر ٍة ِم ن َكْسٍب َطِّيٍب‪ ،‬واَل َيْقَبُل هللا إاَّل الَّطِّيَب ‪ ،‬وإَّن هللا َيَتَقَّبُلَه ا‬
‫بَيِم يِنِه ‪ُ ،‬ثَّم ُيَر ِّبيَه ا ِلَص اِح ِبِه ‪ ،‬كما ُيَر ِّبي َأَح ُدُكْم َفُلَّو ُه‪ ،‬حَّتى َتُكوَن ِم ْثَل الَجَبِل » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫في هذا الحديث صورتان‪ :‬صورة الّتمرة في الضآلة والقّلة‪ ،‬وصورة الجبل في العظمة‬
‫والكثرة‪ ،‬فاإلنسان يعطي القليل وهللا ُيثيبه بالكثير‪.‬‬
‫ولم يترك ﷺ لإلنسان فسحة في ترك الّص دقة‪ ،‬وفتح له أبواًبا كثيرة إلى درجة أّنه إذا كّف أذاه‬
‫عن الّناس كتب هللا له أجر صدقة‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬علَى ُكِّل ُمْسِلٍم َص َد َقٌة‪ .‬قالوا‪ :‬فإْن َلم َيِج ْد؟ قاَل ‪َ :‬فَيْعَم ُل‬
‫َيْس َتِط ْع أْو َلْم َيْفَعْل؟ قاَل ‪ :‬فُيِع يُن ذا الحاَجِة الَم ْلُه وَف ‪.‬‬
‫قاَل ‪ :‬بالَم عروِف ‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإْن َلْم َيْفَعْل؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬فُيْم ِسُك َعِن‬
‫بَيَد ْيِه َفَيْنَفُع َنْفَسُه وَيَتَص َّد ُق ‪ .‬قالوا‪ :‬فإْن َلْم‬
‫قالوا‪ :‬فإْن َلْم َيْفَعْل؟‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَيْأُمُر بالَخ ْيِر أْو‬
‫الَّشِّر فإَّنه له َص َد َقٌة» [ُم تفق عليه]‪ ،‬ومعنى الحديث‪ :‬افعل الخير مهما قّل ‪ ،‬فإن لم تستطع فكّف عن‬
‫الشّر مهما قّل ‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪« :‬الَّص َد َقُة ُبْر هاٌن » [رواه مسلم]‪ ،‬أي‪ :‬دليل على قوة إيمان صاحبها؛ ألّنه ال يبذل‬
‫المال إاّل من آمن باهلل عّز وجل‪ ،‬وصّدق بوعده ووعيده‪ ،‬وتيقن أّن هناك جزاًء وثواًبا عند هللا في‬
‫اآلخرة‪ ،‬فبذَل المال لما يرجو من الّثواب عند ذي الجالل‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن الُم تصدق الذي يبذل ماله وينفقه لوجه هللا الكريم هو من أولياء هللا تعالى ومن‬
‫أهل الجّنة‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬أْه ُل الجَّنِة َثالَثٌة‪ُ :‬ذو ُسْلطاٍن ُم ْقِس ٌط ُم َتَصِّدٌق ُمَو َّفٌق » [رواه مسلم]؛ ألن‬
‫المتصّدق متيّقن من أن هناك عوًض ا وخلًفا من أكرم األكرمين‪ ،‬ينتظره يوم الّدين‪ ،‬فمن صدق إيمانه‪،‬‬
‫وصح يقينه‪ ،‬زاد عطاؤه في هذه الّدنيا‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ صاحب الّص دقة بأّنه ينعم بظل هللا يوم القيامة‪ ،‬يوم ال ظل إاّل ظله سبحانه‪ ،‬فقال‬
‫عليه الّص الة والّسالم‪َ« :‬سْبَعٌة ُيِظ ُّلُه ُم هللا َيوَم الِقياَم ِة في ِظ ِّلِه ‪َ ،‬يوَم ال ِظ َّل ِإاّل ِظ ُّلُه ‪ »...‬وذكر منهم‪:‬‬
‫«َو َر ُجٌل َتَص َّد َق ِبَص َد َقٍة فأْخ فاها حّتى ال َتْعَلَم ِش ماُلُه ما َص َنَعْت َيِم يُنُه» [ُم تفق عليه]‪ .‬وقال ﷺ‪« :‬كُّل‬
‫امرٍئ في ظِّل صدقِتِه حّتى يفصَل بيَن الّناِس » [رواه أحمد]‪ ،‬فيا لها من ُبشرى للُم تصّدقين! ويا له‬
‫من أجر للُم نفقين الباذلين! بّشر به خير المرسلين‪ ،‬وخاتم النبيين‪.‬‬
‫وبّشرنا رسولنا أَّن هللا عّز وجل يخلف على المتصّدق‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬قاَل هللا عَّز وجَّل ‪ :‬أْنِفْق‬
‫ُأْنِفْق َعَلْيَك » [ُم تفق عليه]‪ ،‬وهذا ضمان من هللا بالعوض‪ ،‬وانظر إلى هذا الّضمان أتى من هللا‬
‫مباشرة في حديث قدسي‪ ،‬ولم يأت فقط من رسول هللا ﷺ؛ ألن الخلف على الّص دقة وعد موّثق من‬
‫أرحم الّر احمين وأكرم األكرمين‪.‬‬
‫وأرشدنا ﷺ إلى أّن الّص دقة سبب لنماء المال‪ ،‬وزيادة البركة‪ ،‬وعموم الخيرات‪ ،‬وْعٌد من‬
‫رّب األرض والّسماوات‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬الَّشْيَطاُن َيِع ُدُكُم اْلَفْقَر َو َيْأُمُر ُكْم ِباْلَفْح َشاِء َو ُهَّللا َيِع ُدُكْم َم ْغِفَر ًة‬
‫ِم ْنُه َو َفْض ًال َو ُهَّللا َو اِس ٌع َعِليٌم } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]268‬فهذا وعد أكيد‪ ،‬من الحميد المجيد‪ ،‬بزيادة الخير‬
‫لمن تصّدق‪ ،‬والبركة لمن أنفق‪ ،‬فتجد المنفق والمتصدق ينفق القليل‪ ،‬ولكن يبارك له فيه بصالح‬
‫ذريته‪ ،‬وصحة جسمه‪ ،‬واستقامة أحواله وأموره‪.‬‬
‫جربوا الّص دقة امتثااًل لرب العالمين‪ ،‬واقتداء بسيد المتصّدقين‪ ،‬وإمام المنفقين‪ ،‬فلن تخسروا‬
‫أبًدا‪ ،‬بل ستجدون الّظفر واألجر‪ ،‬والّنماء والبركة في حياتكم؛ ألّن الّص دقة ُطهرة للمال‪ ،‬وسعة في‬
‫الّر زق‪ ،‬وانشراح في الّص در‪ ،‬وزيادة في الّثواب‪ ،‬وإرضاء للّر ب‪.‬‬
‫عّلمنا ﷺ أّن الصدقة ُتطفئ غضب الّر ب‪ ،‬وتدفع ميتة السوء‪ ،‬فالمال الذي ينفقه المتصّدق‬
‫يدافع هللا به عن الُم تصّدق‪ ،‬ويقيه من األزمات والعثرات والّنكبات‪ ،‬فعن أنس بن مالك قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا ﷺ‪« :‬إّن الّص دقة لُتْط ِفئ غَض ب الرّب ‪ ،‬وتدفع ميتة الُّسوء» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن الصدقة طريق لغفران الّذنوب‪ ،‬وتكفير الّسيئات‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬إْن ُتْبُدوا‬
‫الَّصَدَقاِت َفِنِع َّم ا ِه َي َو ِإْن ُتْخ ُفوَها َو ُتْؤ ُتوَها اْلُفَقَر اَء َفُه َو َخْيٌر َلُكْم َو ُيَكِّفُر َعْنُكْم ِم ْن َسِيَئاِتُكْم َو ُهَّللا ِبَم ا‬
‫َتْعَم ُلوَن َخ ِبيٌر } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]271‬‬
‫وانظر إلى هذه اآلية الباهرة المباركة التي يحث فيها رّب العالمين على الّص دقة‪ ،‬ويأمر أن‬
‫تكون من أطيب ما يكون؛ ألّن هللا طيب ال يقبل إاّل طّيًبا‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا َأْنِفُقوا ِم ْن‬
‫َطِّيَباِت َم ا َكَسْبُتْم َو ِم َّم ا َأْخ َر ْج َنا َلُكْم ِم َن اَألْر ِض َو َال َتَيَّمُم وا اْلَخ ِبيَث ِم ْنُه ُتْنِفُقوَن َو َلْس ُتْم ِبآِخ ِذيِه ِإَّال َأْن‬
‫ُتْغِم ُض وا ِفيِه َو اْع َلُم وا َأَّن َهَّللا َغِنٌّي َح ِم يٌد} [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]267‬‬
‫فكما أّنك ال تختار لحبيبك في الّدنيا إاّل أفضل الهدايا‪ ،‬وأجمل الهبات‪ ،‬وأحسن األعطيات‪،‬‬
‫فباهلل عليك إذا كان ذو الجالل واإلكرام هو الذي يتقّبل هذه الهدية‪ ،‬ويأخذ هذا القرض منك؛ فكيف ال‬
‫تسعى أن يكون من أجود ما يكون من مالك؟! سواء كان نقًدا‪ ،‬أو ثماًر ا‪ ،‬أو غير ذلك من الخيرات‪،‬‬
‫وبّين ُسبحانه وتعالى أّنه لو ُأهدي إليك خبيث من المتاع ورديء من السلعة فلن تقبل ذلك‪ ،‬إاّل أن‬
‫ُتغمض عينيك وُتجامل وتغض الّطرف‪ ،‬فكيف بمن يتعامل مع الجواد‪ ،‬الكريم‪ ،‬الُم تعالي؟!‪ ،‬وانظر‬
‫كيف ختم اآلية بلفتة عجيبة‪ ،‬وقفلة شائقة مؤثرة‪َ{ :‬و اْع َلُم وا َأَّن َهَّللا َغِنٌّي َح ِم يٌد} ‪ ،‬فهو (َغِنٌّي ) عن من‬
‫تولى وأعرض‪ ،‬فعنده خزائن الّسماوات واألرض‪ ،‬و(َحِم يٌد) أي يحمد ويشكر لمن أقبل وأعطى‪ ،‬فإن‬
‫أقبلت فأبشر بالحمد والّشكر والّثواب الجزيل‪ ،‬وإن أدبرت فاهلل غنّي عني وعنك وعن البشرّية‬
‫جمعاء‪.‬‬
‫وبّين ﷺ أّن الّص دقة دواء ناجع لألمراض‪ ،‬وأّنها شفاء بإذن هللا‪ ،‬وأّنها طريق للعافية‪ ،‬فقال‬
‫ﷺ‪« :‬داووا مرضاكم بالصدقة»‪[ ،‬حّسنه األلباني في صحيح الجامع]‪ ،‬وبّين أيًض ا أّن الّص دقَة حجاٌب‬
‫من الّنار‪ ،‬وستٌر من العذاب‪ ،‬ووقايٌة من غضب الباري جّل في عاله‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬م ِن اْس َتطاَع ِم نُكم‬
‫أْن َيْس َتِتَر ِم َن الّناِر ولو بِش ِّق َتْم َر ٍة‪َ ،‬فْلَيْفَعْل » وفي رواية‪« :‬اتقوا الّنار ولو بشق تمرة» [ُم تفق‬
‫عليه]‪ .‬فدعا ﷺ إلى البذل ولو بالقليل‪ ،‬وأخبر بأن هذا العطاء وهذه الصدقة ستار واق من عذاب هللا‬
‫وغضبه‪.‬‬
‫فهل يتأخر مسلم في سبب نجاته إذا كان سبب هذه الّنجاة شيء بسيط يستطيعه‪ ،‬ككسرة خبز‪،‬‬
‫أو شربة ماء‪ ،‬أو حفنة تمر‪ ،‬أو كلمة طيبة‪ ،‬أو بسمة رائقة؟!‬
‫وبّشرنا ﷺ بأّن الّص دقة عمل مستمر أجره حتى بعد الوفاة‪ ،‬فقال‪ِ« :‬إذا ماَت اإلْنساُن اْنَقَطَع‬
‫عْنه َعَم ُلُه ِإاّل ِم ن َثالَثٍة‪ِ :‬إاّل ِم ن َص َد َقٍة جاِر َيٍة‪َ ،‬أْو ِع ْلٍم ُيْنَتَفُع ِبِه ‪َ ،‬أْو َو َلٍد صاِلٍح َيْدُعو له» [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫فانظر إلى استمرار آثار الّص دقة حتى بعد وفاة صاحبها‪ ،‬الّص يام والّص الة والحج‪ ،‬وكثير من‬
‫العبادات تنقطع إاّل الّص دقة فأّنها تبقى تدّر على صاحبها‪ ،‬وُتمطر عليه شآبيب الّر ضوان والّر حمة‬
‫حتى بعد موته‪.‬‬
‫ومن صور هذه الّص دقة التي أخبر بها نبّينا المعصوم ﷺ الّص دقة الجارية كالتصّدق ببناء‬
‫المساجد حيث إّن كل من صّلى فيها‪ ،‬وتعّبد وذكر هللا وتال كتابه‪ ،‬كان لصاحب المسجد وبانيه مثل‬
‫أجورهم‪ ،‬وكذلك الّتصدق بالعلم النافع الذي ُيتعلم‪ ،‬من تأليف كتاب‪ ،‬أو تعليم طاّل ب يتوارثون علمه‬
‫بعده‪ ،‬كل ذلك من الّص دقات الجارية المتقبلة عند هللا‪ ،‬حتى الولد الّص الح يدخل في عموم الّص دقة؛‬
‫ألّنه من كسب أبيه ووارث والده‪ ،‬وسبب في صدقات جارية ودعاء موصول لوالده بعد وفاته‪ ،‬ولهذا‬
‫أقول‪ :‬من خصائص الّص دقة أّنها دائمة مستمرة حتى بعد الموت الذي تنقطع به األعمال واآلجال‪.‬‬
‫ومن أجمل بشارات سّيد البريات ﷺ‪ ،‬ومن الحفاوة بأهل الصدقة واالعتناء بهم أّن هللا‬
‫خصص لهم باًبا من أبواب الجّنة‪ ،‬كما قال ﷺ‪َ« :‬م ن كاَن ِم ن أْه ِل الَّص َد َقِة ‪ُ ،‬دِع َي ِم ن باِب الَّص َد َقِة »‬
‫[ُم تفق عليه]‪ ،‬فلهم مدخل خاص للتكريم‪ ،‬وباب معروف لهم يدخلون منه جزاًء وفاًقا على بذلهم‬
‫وصدقتهم في الحياة الّدنيا‪ ،‬فهنيًئا للُم تصّدقين‪ ،‬وطوبى للباذلين‪.‬‬
‫لقد دعا ﷺ للصدقة بفعله‪ ،‬فكان الُم تصّدق األّو ل‪ ،‬وبذل علمه ﷺ من ميراث نبّو ته على الكبير‬
‫والّص غير‪ ،‬والّر جل والمرأة‪ ،‬وصدقة العلم المحمدي أفضل صدقة في العالم‪ ،‬فكان ُيعّلم‪ ،‬وُيفتي‪،‬‬
‫وُيدّر س‪ ،‬ليله ونهاره‪ ،‬حّله وترحاله‪.‬‬
‫وتصّدق ﷺ بطعامه فكان أجود الناس في ضيافته‪ ،‬يكرم ويرحب بالجميع‪ ،‬حتى أكل على‬
‫مائدته المسلم والُم شرك‪ ،‬والمنافق‪ ،‬واليهودي‪ ،‬والّر جل والمرأة‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬والشيخ الكبير‬
‫والّطفل الّص غير‪ ،‬وتصّدق بنومه ﷺ فكان يسامر الوافد‪ ،‬ويؤانس الّضيف‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫ُمَت َّيٌم ابلَّنَد ى لو َقاَل سائُلُه‬
‫َه ْب يل مجيَع َك َرى َعْيَنْيَك مل َيَنِم‬
‫وتصّدق ﷺ بمتاع الّدنيا من إبل وغنم وخيل وثياب وطعام‪ ،‬ال يمسك شيًئا‪ ،‬بل كانت يده‬
‫ُم رسلة بالخير أشّد من الريح إرسااًل وسرعة‪ ،‬فلم يبق عنده ذهب وال فضة‪ ،‬وال طعام وال لباس‪ ،‬إاّل‬
‫وأنفقه وتصّدق منه‪ ،‬وعن عائشة (رضي هللا عنها) ‪َ ،‬أَّنُه ْم َذَبُح وا َشاًة‪ ،‬فقاَل الَّنِبُّي ﷺ‪َ :‬م ا َبِقَي‬
‫ِم نها؟‪ ،‬قالت‪َ :‬م ا َبِقَي ِم نها إاّل َكِتُفَه ا‪َ ،‬قاَل ‪َ« :‬بِقي ُكُّلَه ا َغيَر َكِتِفَه ا» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وتصّدق ﷺ بأخالقه‪ ،‬ففاض على اُألّم ة بِح لمه‪ ،‬وكرمه‪ ،‬وسماحته‪ ،‬وُيسره‪ ،‬فكأنه ُيعطي‬
‫األرواح عطاًء ‪ ،‬ألنها تبتهج برؤيته‪ ،‬وتسعد بالعيش معه‪ ،‬لعظيم سماحته‪ ،‬وجليل لطفه‪ ،‬وكبير‬
‫رحمته‪ ،‬كما وصفه رّبه تعالى‪َ{ :‬و َم ا َأْر َسْلَناَك ِإَّال َر ْح َم ًة ِلْلَعاَلِم يَن } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪ ،]107‬والتصّدق‬
‫بالِح لم‪ ،‬والعفو‪ ،‬والّص فح‪ ،‬والمسامحة‪ ،‬والّلطف‪ ،‬قد يكون أعظم من الّتصّدق بالمال‪.‬‬
‫وتصّدق ﷺ بجاهه الّشريف‪ ،‬ومنصبه المنيف‪ ،‬فشفع في حقن الّدماء‪ ،‬وحفظ األنفس‪،‬‬
‫وصيانة األعراض‪ ،‬وهي من أعظم صدقاته عليه الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫وتصّدق ﷺ بوقته فجعله هلل في عبادة رّبه‪ ،‬وإصالح األمة وهدايتها‪ُ ،‬يعّلم هذا‪ ،‬وُيفتي هذا‪،‬‬
‫وُيرّبي هذا‪ ،‬وينصح هذا‪ ،‬ويتألف هذا‪ ،‬ويجبر خاطر هذا‪ ،‬ويعِّز ي هذا‪ ،‬ويواسي هذا‪ ،‬وُيبارك لهذا‪،‬‬
‫فوقته ما بين ُم شاركة‪ ،‬وُم باركة‪ ،‬وتعاون‪ ،‬وإصالح‪ ،‬وتعليم‪ ،‬وتزكّية‪ ،‬وتربّية‪ ،‬وجهاد‪ ،‬وأمر‬
‫بمعروف‪ ،‬ونهي عن ُم نكر‪ ،‬وهل هناك أعظم من هذه الصدقة؟!‪ ،‬أّنها أعظم من التصّدق بقناطير‬
‫الّذهب والفضة‪ ،‬وكنوز الآللئ والجواهر‪.‬‬
‫بل إّنه ﷺ كان ُيعطي وينفق ويتصدق بطيب نفس‪ ،‬وانشراح خاطر‪ ،‬وسرور وجه‪ ،‬ويسعد‬
‫بذلك وكأّنه هو المستفيد والمنتفع بهذا العطاء‪ُ ،‬ر غم أّنه هو الُم تصدق والُم عطي ﷺ‪:‬‬
‫أنت الذي بذل احلياة رخيصًة‬
‫ونشـرت كّل فضيلة يف الناِس‬
‫أْس َخ ى من الغيث العميم إذا َمَهى‬
‫يسقي البسيطة روضها والقاِس ي‬
‫ال زال جوُدَك للقيامِة واِكًف ا‬
‫أنت اُملقَّدم يف الّندى والباِس‬
‫ُس بحان من مجع املكارم كّلها‬
‫يف شخص أمحد طّيب األغراِس‬
‫َحُمَّم ٌد ﷺ َص اِئًم ا‬
‫كان رسول هللا ﷺ والّص حابة من بعده رضوان هللا عليهم يحتفون حفاوة كبيرة بشهر الّص يام‪،‬‬
‫شهر رمضان المبارك‪ ،‬وكان ﷺ ُيبّشر أصحابه فيقول‪ِ« :‬إَذا جاَء َر َم ضاُن ُفِّتَح ْت أْبواُب الَج َّنِة ‪،‬‬
‫وُغِّلَقْت أْبواُب الَّناِر ‪ ،‬وُصِّفَدِت الَّشياِط يُن »[ُم تفق عليه]‪ ،‬وكان من هديه ﷺ أّنه ال يبدأ صوم رمضان‬
‫إاّل ِبُر ؤيٍة ُمَح َّققٍة‪ ،‬أو بشهادِة شاهٍد‪َ ،‬فِإْن لم َيُكْن أكمَل ِع َّدَة شعبان ثالثيَن ‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن الّص يام من أركان اإلسالم الخمس‪ ،‬فقال‪ُ« :‬بِنَي اإلْس الُم على َخ ْم ٍس ‪َ ،‬شهاَد ِة أْن‬
‫ال إَلَه إاّل هللا وأَّن ُم َح َّم ًدا َعْبُدُه وَر سوُلُه‪ ،‬وإقاِم الَّص الِة‪ ،‬وإيتاِء الَّز كاِة‪ ،‬وَح ِّج الَبْيِت‪ ،‬وَص ْو ِم‬
‫َر َم ضاَن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وفي صيام الفريضة كان ﷺ ُيبّيت النّية من الّليل قبل طلوع الفجر كما روت عنه أّم المؤمنين‬
‫حفصة (رضي هللا عنها) ‪« :‬من لم يبِّيِت الِّص ياَم مَن الَّليِل فال صياَم َله» [رواه أبو داود]‪ ،‬وهذا في‬
‫صيام الفريضة وليس الّنافلة‪ ،‬وكان ﷺ ُيبّيت الّنية في القلب ولم يرد عنه أّنه تلّفظ بها‪.‬‬
‫وحرص ﷺ على أن يتسّح ر‪ ،‬وحّث أصحابه على ذلك فقال‪َ« :‬تَسَّح ُر وا فإَّن في الَّسُح وِر‬
‫َبَر َكًة» [ُم تفق عليه]؛ ألّن في الّسحور إعانًة للّص ائم على صومه‪ ،‬وُشكًر ا هلل على نعمه‪ .‬وفيه ُم خالفة‬
‫ألهل الكتاب كما قال ﷺ‪َ« :‬فْصُل ما بْيَن ِص ياِم نا َو ِص ياِم َأْه ِل الِك تاِب‪َ ،‬أْك َلُة الَّسَح ر» [رواه مسلم]؛‬
‫ألّن وقت الّسحر وقت دعاٍء واستغفار وذكر هلل‪ ،‬وهو في الّثلث األخير من الليل‪ ،‬حين النزول‬
‫اإللهي‪ ،‬إذ يقول رّب العّز ة والجالل في الحديث القدسي‪َ« :‬م ن َيْدُعوِني فأْس َتِج يَب له؟! من َيْس َأُلِني‬
‫َفُأْع ِط َيُه؟! َم ن َيْس َتْغِفرِني فأْغ ِفَر له؟!» [ُم تفق عليه]‪ ،‬ويقول تعالى‪َ{ :‬و ِباَألْس َح اِر * ُهْم * َيْس َتْغِفُر وَن‬
‫*} [الذاريات‪ :‬اآلية ‪ ،]18‬وقال عّز وجل‪َ{ :‬و اْلُم ْس َتْغِفِر يَن ِباَألْس َح اِر } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪.]17‬‬
‫وكان يفصل ﷺ بين الّسحور وأذان الفجر بمقدار قراءة خمسين آية‪ ،‬كما أخبر زيد بن‬
‫ثابت(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّنُه ْم َتَسَّح ُر وا مع الّنبِّي ﷺ‪ُ ،‬ثَّم قاُم وا إلى الَّص الِة‪ ،‬قيل‪َ :‬كْم بْيَنُه ما؟‪ ،‬قال‪:‬‬
‫َقْد ُر َخ ْم ِسيَن أْو ِسِّتيَن ‪َ .‬يْعِني آَيًة» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫فتصّو ر هذا الجواب الفصيح‪ ،‬الناضج‪ ،‬المؤثر‪ ،‬حيث حسب (رضي هللا عنه) األوقات‬
‫باآليات‪ ،‬وما ذلك إاّل لصفاء تلك القلوب الّطاهرة‪ ،‬وسفرها إلى بارئها‪ ،‬وتعّلقها بموالها‪ ،‬ثم يذهب ﷺ‬
‫إلى المسجد لصالة الفجر‪ ،‬حيث ينتظر أصحابه هذا اإلمام العظيم والمعلم الكريم ﷺ‪ ،‬فيصلي بهم‬
‫صالة الفجر بعد أداء الركعتين التي يقول عنهما‪َ« :‬ر ْك َعَتا الَفْج ِر َخ ْيٌر ِم َن الُّد ْنَيا َو ما ِفيَه ا» [رواه‬
‫مسلم]‪ ،‬فيؤمهم في صالة الفجر بعد ليل من العبادة‪ ،‬والّذكر واالستغفار ُم ستقبلين يوًم ا من الّص يام‪،‬‬
‫للملك العاّل م فيتلو عليهم من قرآن الفجر‪َ{ :‬و ُقْر آَن اْلَفْج ِر ِإَّن ُقْر آَن اْلَفْج ِر َكاَن َم ْش ُه وًدا} [اإلسراء‪:‬‬
‫اآلية ‪.]78‬‬
‫ومن هديه ﷺ في الّص يام أّنه كان يحافظ على المضمضة واالستنشاق وهو صائم‪ ،‬ومنع من‬
‫الُم بالغة في ذلك فقال‪« :‬أسبِغ الوضوَء ‪ ،‬وخِّلْل بيَن األصابِع‪ ،‬وبالغ في االستنشاِق إاّل أن تكوَن‬
‫صائما» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحرص على الّسواك حتى وهو صائم ويقول‪َ« :‬لْو ال أْن أُشَّق على ُأَّم ِتي‪َ ،‬ألَمْر ُتُه ْم‬
‫بالِّسواِك ِع ْنَد ُكِّل َص الٍة» [ُم تفق عليه]‪ ،‬فالّسواك للصائم وغير الصائم عند الوضوء والّص الة‪ ،‬وفي‬
‫كل األوقات قبل الّز وال وبعده‪.‬‬
‫وكان ُيدركه ﷺ الفجر وهو جنب فيغتسل ويصوم‪ ،‬فعن عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬أن‬
‫َر سوُل هللا ﷺ كان ُيْد ِر ُكُه الَفْج ُر في َر َم ضاَن َو هو ُج ُنٌب ‪ِ ،‬م ن غيِر ُح ُلٍم َفَيْغَتِسُل َو َيُص وم» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫وذكر ﷺ آداب الّص يام وُسننه ومستحباته‪ ،‬ومكروهاته‪ ،‬ونواقضه في أحاديث كثيرة وقصص‬
‫شائقة حتى بّين للّناس البيان الّشافي الكافي‪.‬‬
‫أّم ا إفطاره ﷺ فكان ُيفطر قبل أن ُيصّلي المغرب على تمرات‪ ،‬فإن لم يجد حسا حسوات من‬
‫ماء‪ ،‬فعن أنِس بِن ماِلٍك (رضي هللا عنه) قاَل ‪« :‬كاَن الَّنبُّي ﷺ ُيفطُر قبَل أن يصِّلَي على ُر َطباٍت‪ ،‬فإن‬
‫لم َتُكن ُر َطباٌت فُتَم ْيراٌت ‪ ،‬فإن لم َتُكن ُتَم ْيراٌت ‪َ ،‬ح سا حَسواٍت ِم ن ماٍء » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيعّج ل الفطر عند غروب الّشمس ويقول‪« :‬إذا غاَبِت الَّشْم ُس ِم ن ها ُهنا‪َ ،‬و جاَء‬
‫الَّلْيُل ِم ن ها ُهنا‪ ،‬فَقْد َأْفَطَر الّص اِئُم » [ُم تفق عليه]‪ ،‬ويتحقق ذلك بعد غروب قرص الّشمس مباشرة‪،‬‬
‫وحّث ﷺ على الّتعجيل بالفطر فقال‪« :‬قال ُهللا عّز وجل‪ :‬إن َأَح َّب عباِدي ِإَلَّى َأْع َج ُلُه م ِفْط ًر ا» [رواه‬
‫الّترمذي]‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬ال َيزاُل الّناُس بَخ ْيٍر ما َعَّج ُلوا الِفْط َر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحّث على الّدعاء عند اإلفطار ويقول‪« :‬إّن للصائم عند ِفْط ِر ه لدعوًة ما ُتَر ّد»‬
‫[رواه ابن ماجه]‪ ،‬وكان ﷺ يقول عند إفطاره‪َ« :‬ذَهَب الَّظَم ُأ‪ ،‬واْبَتَّلِت الُعُر وُق ‪َ ،‬و َثَبَت اَألْج ُر ِإْن َشاَء‬
‫ُهللا» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وفي رمضان كان يْعُظم ُج وده ﷺ ويزداد كرمه‪ ،‬فعن ابن عباس (رضي هللا عنهما) قال‪:‬‬
‫«كاَن َر سوُل هللا ﷺ أْج َو َد الّناِس ‪ ،‬وكاَن أْج َو َد ما َيكوُن في َر َم ضاَن ِح يَن َيْلقاُه ِج ْبِر يُل ‪ ،‬وكاَن َيْلقاُه‬
‫في ُكِّل َلْيَلٍة ِم ن َر َم ضاَن فُيداِر ُسُه الُقْر آَن ‪َ ،‬فَلَر سوُل هللا ﷺ أْج َو ُد بالَخ ْيِر ِم َن الِّر يِح الُمْر َسَلِة » [ُم تفق‬
‫عليه]‬
‫فانظر إلى قوله‪« :‬وكاَن َيْلقاُه في ُكِّل َلْيَلٍة ِم ن َر َم ضاَن فُيداِر ُسُه الُقْر آَن »‪ ،‬فيه فضل مدارسة‬
‫القرآن في رمضان وتالوته في الّليل أفضل من الّنهار‪ ،‬وأن تالوته مع الغير أكثر نفًعا‪.‬‬
‫ونجد في هديه ﷺ في صيام رمضان ملمًح ا جمياًل يقوم على أربع مسارات‪ ،‬وهي‪ :‬مسار‬
‫الّص يام حيث إّنه ُيهّذب الّر وح وُيصّفي الجسم‪ ،‬ومسار ُم دارسة القرآن مع جبريل حيث إّنه يرتقي‬
‫بالّر وح وينير العقل‪ ،‬ومسار الّص دقة وكثرة الجود حيث أّنها تشرح الخاطر وتبهج الّنفس‪ ،‬ومسار‬
‫االعتكاف وفيه خلوة مع الباري‪ ،‬واعتزال عن فضول الُم باحات‪ ،‬واالنصراف إلى قضاء األوقات‬
‫في أجّل الطاعات‪.‬‬
‫وقد حّث ﷺ على صيام الّنوافل واإلكثار من الّص يام دون إدخال مشقة على الّنفس‪ ،‬فعن أبي‬
‫سعيد الخدري (رضي هللا عنه) أّن النبي ﷺ قال‪َ« :‬م ن صاَم َيْو ًم ا في َسبيِل هللا‪ ،‬باَعَد هللا َو ْج َه ُه َعِن‬
‫الّناِر َسْبِع يَن َخ ِر يًفا» [ُم تفق عليه]‪ ،‬فكان يصوم األيام الفاضلة كيوم عرفة ويوم عاشوراء وهما من‬
‫األوقات الُم حّبة‪ ،‬قال عنها ﷺ‪ِ« :‬ص ياُم َيوِم َعَر َفَة‪َ ،‬أْح َتِس ُب على هللا َأْن ُيَكِّفَر الَّسَنَة اَّلتي َقْبَلُه‪،‬‬
‫والَّسَنَة اَّلتي َبْعَد ُه‪َ ،‬و ِص ياُم َيوِم عاُشوراَء ‪َ ،‬أْح َتِس ُب على هللا َأْن ُيَكِّفَر الَّسَنَة اَّلتي َقْبَلُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ُيكثر من صيام شهر شعبان‪ ،‬فعن َعاِئَشَة (رضي هللا عنها) ‪َ ،‬قاَلْت ‪َ« :‬كاَن َر ُسوُل هللا‬
‫ﷺ َيُص وُم َح َّتى َنُقوَل ‪ :‬اَل ُيْفِط ُر ‪َ ،‬و ُيْفِط ُر َح َّتى َنُقوَل ‪ :‬اَل َيُص وُم ‪َ ،‬فَم ا َر َأْيُت َر ُسوَل هللا ﷺ اْس َتْك َم َل ِص َياَم‬
‫َشْه ٍر ِإاّل َر َم َض اَن ‪َ ،‬و َم ا َر َأْيُته َأْك َثَر ِص َياًم ا ِم ْنُه ِفي َشْعَباَن » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪ِ« :‬إَذا َكاَن الِّنْص ُف ِم ْن َشْعَباَن َفَأْم ِسُكوا َعن الَّص ْو ِم َح َّتى َيُكوَن َر َم َضاُن » [رواه‬
‫أحمد]‪ ،‬ولهذا ُيستحب أن يفطر اإلنسان قبل رمضان أياًم ا ليفصل بين صيام الّنافلة وصيام الفريضة‪.‬‬
‫وكان ﷺ يصوم األيام البيض ويحّث على صيامها‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪:‬‬
‫َأْو َص اِني َخ ِليِليﷺ بَثاَل ٍث‪ ،‬ومنها‪ِ« :‬ص َياِم َثاَل َثِة َأَّياٍم ِم ن ُكِّل َشْه ٍر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يصوم يومي االثنين والخميس؛ ألن األعمال ُترفع فيهما فيقول‪« :‬إنهما يومان‬
‫ُتعرُض فيهما األعماُل على رِّب العالمين فُأِح ُّب أن ُيعَر ض عملي وأنا صائٌم » [رواه الّنسائي]‪ ،‬وعن‬
‫عائشة (رضي هللا عنها) أَّن الَّنبَّي ﷺ كاَن َيتحّر ى صياَم االثنيِن والَخميِس ‪[ .‬رواه الّترمذي]‪ ،‬وقال ﷺ‬
‫عن يوم االثنين‪« :‬ذاَك َيْو ٌم ُو ِلْدُت ِفيِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن ُيطالع هدي الّنبي ﷺ في صيام الّنوافل يجد المنهج القويم المعتدل المتوازن‪ ،‬فليس بالذي‬
‫يدع صيام الّنوافل كما يفعل كثير من الناس‪ ،‬وليس بالذي ينهمك في كثرة الّص يام حتى يضعف‬
‫جسمه عن كثير من الطاعات‪ ،‬بل كان يوازن بين هذا وذاك‪ ،‬ويعتدل في تلبية المطالب الّدينية‬
‫والّدنيوية‪ ،‬فعن أنس (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬كاَن َر ُسوُل هللا ﷺ ُيْفِط ُر ِم َن الَّشْه ِر َح َّتى َنُظَّن َأْن اَل‬
‫َيُص وَم ِم ْنُه‪َ ،‬و َيُص وُم َح َّتى َنُظَّن َأْن اَل ُيْفِط َر ِم ْنُه َشْيًئا» [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫وربما عقد النّية ﷺ في صيام الّنافلة في أثناء الّنهار‪ ،‬تقول عائشة (رضي هللا عنها) ‪َ« :‬د َخ َل‬
‫َعَلَّي الّنبُّي ﷺ ذاَت َيوٍم ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬هْل ِع ْنَدُكْم شيٌء ؟ َفُقْلنا‪ :‬ال‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإِّني إَذْن صاِئٌم ‪ُ ،‬ثَّم َأتانا َيْو ًم ا آَخ َر ‪،‬‬
‫َفُقْلنا‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ُ ،‬أْه ِد َي َلنا َحْيٌس ‪َ .‬فقاَل ‪َ :‬أِر يِنيِه ‪َ ،‬فلَقْد َأْصَبْح ُت صاِئًم ا فأَكَل » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن صيام الّدهر كله‪ ،‬لتبقى حياة المسلم في دائرة االعتدال والتوّسط والّتوازن الذي‬
‫نزل به كتاب هللا‪ ،‬وأتت به سّنة نبّيه ﷺ‪ ،‬ونهى كذلك عن الوصال في الّص يام‪ ،‬وهو أن يصوم‬
‫اإلنسان يومين أو أكثر دون أن يفطر بينهما لياًل ‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه)‪ ،‬عن الّنبي ﷺ‬
‫قال‪َ« :‬نهى َر سوُل هللا ﷺ َعِن الِو صاِل ‪َ ،‬فقاَل َر ُجٌل ِم َن الُم ْسِلِم يَن ‪ :‬فإَّنَك يا َر سوَل هللا‪ُ ،‬تواِص ُل ‪ ،‬قاَل‬
‫َر سوُل هللا ﷺ‪َ :‬و َأُّيُكْم ِم ْثِلي؟ إِّني َأِبيُت ُيْط ِع ُم ِني َر ِّبي َو َيْسِقيِني» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويقول بعض العلماء في هذا‪ ،‬ليس طعاًم ا وال شراًبا حسًّيا‪ :‬ألّنه لو كان الّطعام والّشراب‬
‫المعروف لما كان صائًم ا بأبي هو وأمي ﷺ! ولكّنه طعام وشراب من نوع آخر من الحكمة‬
‫والمعارف الرّبانية‪ ،‬والمذاقات الوجدانية‪ ،‬والّلطائف اإللهية‪ ،‬التي ُتشبع روحه‪ ،‬وُترضي فؤاده ﷺ‪.‬‬
‫وقد أنكر على عبدهللا بن عمرو (رضي هللا عنهما) مواصلة الصيام‪ ،‬وقال له‪ُ« :‬قْم وَنْم ‪ ،‬وُص ْم‬
‫وَأْفِط ْر ‪ ،‬فإَّن ِلَجَسِد َك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وإَّن ِلَعْيِنَك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وإَّن ِلضيفك َعَلْيَك َح ًّقا‪ ،‬وإَّن ِلَز ْو ِج َك َعَلْيَك‬
‫َح ًّقا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن من أعدل الّص يام صيام داود عليه الّسالم لمن أراد أن يكثر من صيام الّنافلة‬
‫فقال ﷺ‪« :‬كاَن َيُص وُم َيْو ًم ا‪َ ،‬و ُيْفِط ُر َيْو ًم ا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫لقد عّلمنا رسولنا ﷺ أّن الّص يام مدرسة لتدريب الَّنفس على ترك الّشهوات والمغريات‪ ،‬فال‬
‫ُيحَّو ل شهر رمضان إلى شهر لهٍو ولعب‪ ،‬وإّنما شهر صبر وجد واجتهاد‪َ ،‬قاَل ﷺ‪« :‬والِّص َياُم ُج َّنٌة‪،‬‬
‫َو ِإَذا َكاَن َيْو ُم َص ْو ِم َأَح ِدُكْم َفال َيْر ُفْث َو ال َيْص َخ ْب ‪َ ،‬فِإْن َساَّبُه َأَح ٌد َأْو َقاَتَلُه‪َ ،‬فْلَيُقْل ِإِّني اْم ُر ٌؤ َص اِئٌم »‬
‫[ُم تفق عليه]‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬الِّص َياُم ِنْص ُف الَّصْبرِ» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فمن خالل الّص يام صبر على الجوع والعطش وسائر الملّذات والّشهوات مّم ا يعين على‬
‫تحّم ل متاعب الحياة‪ ،‬وليس هناك أفضل من الّص يام في تعّلم الّص بر واالحتمال كما قال ﷺ‪« :‬الِّص ياُم‬
‫ُج َّنٌة» [ُم تفق عليه]‪ ،‬فهو حصن حصين للمؤمن من المعاصي في الّدنيا‪ ،‬ومن العذاب في اآلخرة‪.‬‬
‫وبالّص يام يصل اإلنسان إلى مراتب الّص ابرين كما قال ﷺ‪« :‬وَم ن يتصَّبْر ُيصِّبره هللا‪ ،‬وما ُأعطي‬
‫أحٌد عطاًء خيًر ا وأْو َسع ِم ن الّص بر» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن أسرار الّص يام الجليلة التي أرشدنا إليها رسولنا ﷺ تحقيق معنى العبودّية واالنقياد هلل‬
‫رّب العالمين‪ ،‬واستسالم اإلنسان وخضوعه لمواله‪ ،‬وطاعته لرّبه‪ ،‬بترك طعامه وشرابه وشهوته‬
‫وقًتا من الّنهار‪.‬‬
‫والّص يام أكبر ُم عين على ترك الحرام‪ ،‬واجتناب اآلثام‪ ،‬وَتقوى الملك العاّل م‪ ،‬تحقيًقا لقول‬
‫الباري سبحانه‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا ُكِتَب َعَلْيُكُم الِّص َياُم َكَم ا ُكِتَب َعَلى اَّلِذيَن ِم ْن َقْبِلُكْم َلَعَّلُكْم َتَّتُقوَن }‬
‫[البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]183‬فالّص يام من أعظم أسباب الّتقوى؛ ألنه ُينّقي الّر وح‪ ،‬وُيصّفي الّنفس من‬
‫مالذها‪ ،‬ويخرجها من شهواتها األرضّية‪ ،‬فتصعد في سّلم الكمال‪.‬‬
‫وعّلمنا ﷺ بصيامه األمانة وحفظ العهد؛ ألّن الّص يام سر بين الّص ائم ورّبه‪ ،‬فقد يخلو اإلنسان‬
‫بين الجدران‪ ،‬ويختبئ بين الحيطان‪ ،‬فال يردعه عن األكل والّشراب ومزاولة اللذة إاّل الخوف من‬
‫الّر حمن‪ ،‬وبالّص يام ُيدافع الّشيطان؛ ألّنه يجري في الّدم‪ ،‬والدّم يتوّلد من الطعام والّشراب فإذا امتنع‬
‫الّص ائم من طعامه وشرابه ضّيق مجرى الّشيطان‪ ،‬فقّل ضرره‪ ،‬وُكسر شّر ه‪.‬‬
‫والّص يام يُعين على كّف الّنفس عن الّشهوات كشهوة الغريزة الجنسّية؛ ألّنها لو لم ُتنّظم‬
‫وُتضبط دّم رت صاحبها‪ ،‬وأوقعته في اإلثم‪ ،‬ولهذا قال ﷺ‪« :‬يا َم ْعَشَر الَّشباِب! َم ِن اْس َتطاَع ِم ْنُكُم‬
‫الباَء َة َفْلَيَتَز َّو ْج ‪ ،‬فإَّنه َأَغُّض ِلْلَبَص ِر ‪َ ،‬و َأْح َص ُن ِلْلَفْر ِج‪َ ،‬و َم ن َلْم َيْس َتِط ْع َفعليه بالَّص ْو ِم ‪ ،‬فإَّنه له ِو جاٌء »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وألهمنا رسولنا ﷺ أّن الّص يام عن الّطعام والّشراب لفترة زمنّية محددة طريق إلى الّص حة‬
‫فقال‪َ« :‬م ا مَأل آدمٌّي وعاًء شًّر ا ِم ْن َبطٍن ‪ِ ،‬بَحْس ِب ابِن آدَم ُأُكاَل ٌت ُيِقْم َن ُص لَبُه‪ ،‬فإْن كاَن ال محالَة‪،‬‬
‫فُثُلٌث لطعاِم ِه ‪ ،‬وثلٌث لشراِبِه ‪ ،‬وثلٌث لَنَفِسِه » [رواه الّترمذي]‪.‬‬
‫وأثبتت ذلك الّدراسات العلمّية حيث قال أحد كبار األطباء‪« :‬إَّن كثيرين ِم ن الّناس َيحِفرون‬
‫قبوَر هم بأسنانهم»؛ ألّن كثرة إدخال الطعام على الطعام‪ ،‬وتكاتف الّشحوم والّدهون في األجسام‪،‬‬
‫ُينهك البدن‪ ،‬ويقضي على الّص حة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و ُكُلوا َو اْش َر ُبوا َو َال ُتْس ِر ُفوا ِإَّنُه َال ُيِح ُّب‬
‫اْلُم ْس ِر ِفيَن } [األعراف‪ :‬اآلية ‪.]31‬‬
‫وعّلمنا ﷺ أّن الّص وم ال يتم إاّل بكّف الّلسان وسائر الجوارح عن المعاصي واآلثام فقال‪:‬‬
‫«َم ن َلْم َيَدْع َقْو َل الُّز وِر والَعَم َل به؛ فليَس هلل حاَج ٌة في أْن َيَدَع َطعاَم ُه وَشراَبُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ونهى ﷺ عن الّر فث وهو الكالم الفاحش‪ ،‬فقال‪ِ« :‬إذا َأْصَبَح َأَح ُدُكْم َيْو ًم ا صاِئًم ا‪ ،‬فال َيْر ُفْث‬
‫َو ال َيْج هْل‪َ ،‬فِإِن اْم ُر ٌؤ شاَتَم ُه‪َ ،‬أْو قاَتَلُه‪َ ،‬فْلَيُقْل‪ :‬إِّني صاِئٌم ‪ ،‬إِّني صاِئٌم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبّين ﷺ أن المقصود من الّص يام تهذيب الّنفس وإقامتها على أمر هللا‪ ،‬وليس المقصود منه‬
‫الجوع والعطش‪ ،‬بل ما يترتب على ذلك من كسر الّنفس عن الّشهوة وتطويعها ألمر هللا عّز وجل؛‬
‫ولهذا أخبرنا ﷺ أّن من الّص ائمين من ليس له أجر في صيامه فقال‪ُ« :‬ر َّب صائٍم ليس لُه من صياِم ِه‬
‫إال الجوُع» [رواه النسائي] ‪.‬‬
‫ألن الّص يام مدرسة روحّية‪ ،‬وتربية إيمانّية فيها تأهيل للّنفس‪ ،‬وإخضاعها لمرضاة هللا‪،‬‬
‫وتعويدها االنتهاء عن الّذنوب والخطايا‪.‬‬
‫ومن أسرار الّص يام التي أخبرنا بها نبّينا ﷺ أّنه ُيعّر ف اإلنسان بنعمة هللا عليه في طعامه‬
‫وشرابه وملذاته التي ُيحرم منها ساعات من اليوم فيشعر بجوع الجائعين‪ ،‬وظمأ الظامئين‪ ،‬وبؤس‬
‫البائسين‪ ،‬الذين ال يجدون طعاًم ا وال شراًبا في أكثر األوقات‪ ،‬فيواسيهم‪ ،‬ويجود عليهم بما أنعم هللا‬
‫عليه‪ ،‬وحينها ُيجدد شكره لُم سدي الّنعمة سبحانه؛ ولذلك كان رسول هللا ﷺ يدعو الّناس إلى تفطير‬
‫الصائمين وإطعام المساكين‪ ،‬فيقول‪َ« :‬م ْن َفَّطَر َص ائًم ا‪ ،‬كاَن َلُه ِم ْثُل َأْج ِر ِه َغْيَر َأَّنُه َيْنُقُص ِم ْن أْج ر‬
‫الَّص ائِم شيًئا» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وَعْن ُأِّم عَم اَر َة اَألْنصاِر َّيِة (رضي هللا عنها) ‪« :‬أَّن النبَّي‬
‫َفقاَل ‪ُ :‬كلي‪َ ،‬فقاَلت‪ِ :‬إِّني صائمٌة‪ ،‬فقاَل رسوُل هللا ﷺ‪ِ :‬إَّن الَّص ائَم‬
‫حَّتى َيْفَر ُغوا‪َ ،‬و ُر َّبما َقاَل ‪َ :‬ح َّتى َيْش َبُعوا» [رواُه الترمذّي ]‪.‬‬
‫ﷺ دَخ َل َعَلْيها‪ ،‬فقَّد َم ْت ِإَلْيِه َطَعاًم ا‪،‬‬
‫ُتصِّلي َعَلْيِه الَم الِئَكُة ِإذا ُأِكَل ِع ْنَد ُه‬
‫وَعْن َأنٍس (رضي هللا عنه)‪َ :‬أَّن النبَّي ﷺ َج اَء ِإلى َسْعِد ْبِن ُعَباَدَة (رضي هللا عنه)‪َ ،‬فَج اَء‬
‫ِبُخ ْبٍز َو َز ْيٍت َفَأَكَل ‪ُ ،‬ثَّم قاَل الّنبُّي ﷺ‪َ« :‬أْفَطَر ِع ندُكْم الَّص ائموَن ‪ ،‬وَأَكَل َطَعاَم ُكْم اَألْبَر اُر ‪َ ،‬و َص َّلْت َعَلْيُكُم‬
‫الَم الِئَكُة»‪[ .‬رواُه أُبو داود]‪.‬‬
‫وقد بّين ﷺ بقوله وفعله وحاله ثمرات الّص يام للمؤمنين‪ ،‬وبّشرهم بأعظم بشارة اختص بها‬
‫الّص يام من بين العبادات كما قال ﷺ‪« :‬قاَل هللا َعّز َو َجَّل ‪ُ :‬كُّل َعَم ِل اْبِن آَد َم له‪ ،‬إاَّل الِّص َياَم ‪ ،‬فإَّنه لي‬
‫وَأَنا أْج ِز ي به‪ ،‬والِّص َياُم ُج َّنٌة‪ ،‬وإَذا كاَن َيْو ُم َص ْو ِم أَح ِدُكْم فال َيْر ُفْث واَل َيْص َخ ْب ‪ ،‬فإْن َساَّبُه أَح ٌد أْو‬
‫َقاَتَلُه‪َ ،‬فْلَيُقْل إِّني اْم ُر ٌؤ َص اِئٌم والذي َنْفُس ُم َح َّم ٍد بَيِدِه ‪َ ،‬لُخ ُلوُف َفِم الَّص اِئِم أْط َيُب ِع ْنَد هللا ِم ن ِر يِح‬
‫الِم ْسِك ‪َ .‬و ِللَّص اِئِم َفْر َح َتاِن َيْفَر ُحُه َم ا‪ :‬إَذا أْفَطَر َفِر َح بِفْط ِر ِه ‪ ،‬وإَذا َلِقَي َر َّبُه َفِر َح بَص ْو ِم ِه » [ُم تفق‬
‫عليه]‪ ،‬فقوله ﷺ «إاَّل الِّص َياَم ‪ ،‬فإَّنه لي» يدل داللة واضحة على أن الّص يام سٌّر بين العبد وبين رّبه ال‬
‫يطلع عليه إال هللا بخالف كثيٍر من العبادات الظاهرة كالصالة والزكاة والحج‪ ،‬فقد يخلو اإلنسان‬
‫بنفسه بعيًدا عن األنظار‪ ،‬فيأكل ويشرب دون علم أحد من الّناس سوى الملك العاّل م‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ الّص ائمين بجوائز غالية خّص هم هللا بها‪ ،‬منها‪ :‬قبول الّدعاء‪ ،‬فقد قال ﷺ‪« :‬ثالثة ال‬
‫ُتَر ّد َدعوتهم» وَذَكر منهم‪« :‬الصائم َح َّتى ُيْفِط ر» [رواه أحمد]‪ ،‬وهذا يعني أّن الّص يام ِم ن أسباب‬
‫إجابة الّدعاء‪ ،‬وعن َعْبِدهللا ْبِن َعْم ِر و ْبِن اْلَعاِص (رضي هللا عنهما) قال‪َ :‬قاَل َر ُسوُل هللا ﷺ‪ِ« :‬إَّن‬
‫ِللَّص اِئِم ِع ْنَد ِفْط ِر ِه َلَدْع َو ًة َم ا ُتَر ُّد » [رواه ابن ماجه]‪ ،‬فالّص ائم ُم نكسر القلب‪ ،‬وهللا عند الُم نكسرة‬
‫قلوبهم‪ ،‬وقد جاع الّص ائم وظمئ وتعب في مرضاة رّبه‪ ،‬وحينها تخشع نفسه‪ ،‬ويرق قلبه وتنكسر‬
‫روحه‪ ،‬فيكون قريًبا من مواله وخالقه‪.‬‬
‫والّدعاء وقت أداء العبادة من أسباب اإلجابة خاصة إذا كان في الفريضة‪ ،‬فصيام الفريضة‬
‫أعظم أجًر ا من الّنافلة‪ ،‬وهو أحرى بإجابة دعوة الّداعي‪ ،‬وفي أثناء العبودّية ومزاولة الّطاعة يقترب‬
‫القلب من الّر ب؛ ولهذا حّثنا عليه الّص الة والّسالم أن ندعو رّبنا ونحن صائمون‪.‬‬
‫وانظر لهذه الّلفتة العجيبة‪ ،‬والّلطيفة الّنادرة الباهرة منه ﷺ‪ ،‬وهي ُبشرى ُتزّف للّص ائمين في‬
‫قوله ﷺ‪ِ« :‬للَّص اِئِم َفْر َح َتاِن َيْفَر ُحُه َم ا‪ :‬إَذا أْفَطَر َفِر َح بفطره‪ ،‬وإَذا َلِقَي َر َّبُه َفِر َح بَص ْو ِم ِه »‪ُ[ .‬م تفق‬
‫عليه]‪ ،‬فهناك لحظة فرح‪ ،‬وساعة انتصار عند اإلفطار ال يجدها إاّل الّص ائم الّص ادق‪ ،‬يفرح ألّن هللا‬
‫أعانه على الّص وم‪ ،‬ويفرح أن أمهله ُسبحانه يوًم ا آخر ليصوم لمواله‪ ،‬ويفرح ألّنه جاع وظمئ‬
‫لمرضاة خالقه ورازقه‪ ،‬ويفرح برزق رّبه من الّطعام والّشراب‪ ،‬ويفرح الفرحة الكبرى إذا لقي رّبه‪،‬‬
‫إذ أطاعه جّل في عاله‪ ،‬فما أجملها من نفحات رّبانية!‪ ،‬وما أعظمها من مواهب إلهية!‪.‬‬
‫وورد عنه ﷺ ثالثة أحاديث عن شهر الصيام‪( ،‬شهر رمضان المبارك)‪ ،‬كل حديث منها‬
‫خير من الّدنيا وما فيها‪ ،‬وكّلها في «الّص حيحين»‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه)‪ :‬أن النبي ﷺ‬
‫قال‪َ« :‬م ن َقاَم َر َم َض اَن إيَم اًنا واْح ِتَساًبا‪ُ ،‬غِفَر له ما َتَقَّد َم ِم ن َذْنِبِه »‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬من صام رمضان‬
‫إيماًنا واحتساًبا ُغفر له ما تقّدم من ذنبه»‪ ،‬وقال‪« :‬من قام ليلة القدر إيماًنا واحتساًبا ُغفر له ما‬
‫تقّدم من ذنبه»‬
‫فباهلل أّي أجر أعظُم من هذا؟! وهل وقفت أمام هذه األحاديث الّثالثة موقف الُم عتبر‪ ،‬الُم تعظ‪،‬‬
‫الُم تدّبر‪ ،‬المسرور بنعمة هللا وعطائه‪ ،‬والّسعيد بهذه الُبشرى العظيمة‪ ،‬وهذه الهدّية الجليلة من أصدق‬
‫َم ن َنطق‪ ،‬وأتقى َم ن َتكّلم ﷺ؟!‬
‫وبّشر ﷺ الّص ائمين بأّن رّب العالمين خّص هم بباب من أبواب الجنة ال يدخل منه غيرهم‪،‬‬
‫ُيسمى باب الرّيان‪ ،‬كما جاء عن سهل بن سعد الساعدي أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬إَّن في الَج َّنِة باًبا ُيقاُل‬
‫له‪ :‬الَّر ّياُن ‪َ ،‬يْد ُخ ُل منه الَّص اِئُم وَن َيوَم الِقياَم ِة ‪ ،‬ال َيْد ُخ ُل منه أَح ٌد َغْيُر ُهْم ‪ُ ،‬يقاُل ‪ :‬أْيَن الّص اِئُم وَن ؟‬
‫َفَيُقوُم وَن ‪ ،‬ال َيْد ُخ ُل منه أَح ٌد َغْيُر ُهْم ‪َ ،‬فِإذا َد َخُلوا ُأْغ ِلَق َفَلْم َيْد ُخ ْل منه أَح ٌد» [ُم تفق عليه]‪ ،‬فانظر إلى‬
‫اشتقاق االسم من الّر واء؛ ألّنهم عطشوا في الدنيا‪ ،‬وظمئوا من أجل رضا رّبهم‪ ،‬وطاعة موالهم‪،‬‬
‫فعّو ضهم برٍّي في الجّنة حتى ُأطلق الّر ُّي على الباب‪ ،‬فصار من المبالغة اسمه «الَّر ّيان»‪ ،‬يدخل منه‬
‫الّص ائمون الذين ُعرفوا بكثرة الّص يام من فرائض ونوافل‪ ،‬ولهذا كان عليه الّص الة والّسالم يحّث‬
‫الّناس على الّص يام لما فيه من منافع دنيوية‪ ،‬وأجور أخروّية‪ ،‬ويذّكرهم دائًم ا بما أعّد هللا لهم من‬
‫تكريم‪ ،‬ومن نعيم مقيم‪:‬‬
‫لك هللا أنت البدر يف كل موسِم‬
‫ستبقى مدى األايم خري ُمعّلِم‬
‫ومن قبل صوم الّش هر قد كنت صائًم ا‬
‫مدى الّد هر عن زوٍر وهلٍو ومأِمث‬
‫وُصمت عن الّد نيا الّد نّيِة راغًبا‬
‫بفطٍر عظيٍم يف مقاٍم ك ِم‬
‫ُم ّر‬
‫ويِف رمضان العفو ُتذَك ر ابلّرَض ا‬
‫حُي ييَك عند الفطر ملياُر ُمسلِم‬
‫حممد ﷺ َح اًج ا‬
‫حّج ًة واحدًة‪ ،‬وكانت في العام العاشر من الهجرة‪ ،‬فحضر الُم هاجرون واألنصار‪ ،‬وأهل‬
‫الحاضرة والبادية‪ ،‬في َج ْم ٍع ِقيَل ‪ :‬إّنه قارب مئة وعشرين ألًفا‪ ،‬وخرج الّنبي ﷺ ِم ن المدينة نهاًر ا بعد‬
‫الّظهر بعد أْن صَّلى الظهَر بها أربًعا‪ ،‬وصَّلى العصر بذي الُح ليفة ركعتين‪ ،‬وأحرم ﷺ من ميقات ذي‬
‫الُح ليفة فتجّر د من مالبسه‪ ،‬واغتسل وارتدى اإلحرام‪ ،‬وهو رداء وإزار أبيضان نظيفان؛ ألن من‬
‫مقاصد اإلحرام تجّر َد الُم سلم من ملهيات الّدنيا وملّذاتها‪ ،‬والدخول في ُنسك العبادة‪.‬‬
‫ثم ركب ﷺ حتى استوت به راحلُته على البيداِء فحمَد َهللا‪ ،‬وسَّبح وكَّبر‪ ،‬ثم أهَّل بحٍّج وُعمرة‪،‬‬
‫إْذ إَّن الحاَّج يترك متاع الّدنيا وترفها وزينتها‪ ،‬فأشبهت هيئته َم ن لبس كفنه األبيض مفارًقا الّدنيا‬
‫مقباًل على مواله‪ ،‬وهيئة المسكين الضعيف الّذليل الّر اجي لغفران رّبه عّز وجل‪ ،‬وفيه استحضاُر‬
‫موقف الحشر حين يجمع هللا تعالى الخلق جميًعا‪ ،‬وكل منهم مشغول بنفسه‪.‬‬
‫ومن مقاصد لبس اإلحرام المساواُة بين المسلمين‪ ،‬والّتعبير عن الوحدة والّتآلف بين الجميع‪،‬‬
‫رئيًسا وَم رؤوًسا‪ ،‬غنًّيا وفقيًر ا‪ ،‬لباسهم واحد‪ ،‬ورّبهم واحد‪ ،‬ونبّيهم واحد‪ ،‬وكتابهم واحد‪ ،‬بلون‬
‫البياض الواحد‪ ،‬فأُل صفاء القلوب ونقائها من الحقد والبغضاء‪ ،‬والحسد والشحناء‪.‬‬
‫وكان إحرامه ﷺ مثل إحرام بالل بن رباح‪ ،‬وسلمان الفارسي‪ ،‬وصهيب الّر ومي‪ ،‬وعّم ار بن‬
‫ياسر‪ ،‬وبقية صحابته الكرام رضوان هللا عليهم‪ ،‬سواًء بسواء‪ ،‬الّلباس واحد‪ ،‬والقيمة واحدة‪ ،‬والشعار‬
‫واحد‪.‬‬
‫هذا هو دين اإلسالم‪ ،‬دين العدل والمساواة؛ ليعلم كّل مسلم أّنه ال يحّق له االفتخار على غيره‬
‫مهما ارتفع منصبه وبلغ جاهه‪ ،‬فالعبرة بتقوى هللا وإخالص العبادة له وحده جّل في ُعاله‪ ،‬وليس‬
‫باأللوان‪ ،‬وال باألنساب‪ ،‬وال باألموال‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ{ :‬إَّن َأْك َر َم ُكْم ِع ْنَد ِهَّللا َأْتَقاُكْم } [الحجرات‪ :‬اآلية‬
‫‪.]13‬‬
‫وقد أهّل ﷺ بالّتلبية‪ ،‬وهي توحيد ُم طلق لرّب العالمين‪ُ ،‬يخالف بها تلبية الُم شركين فقال‪:‬‬
‫«َلَّبْيَك اللهَّم َلَّبْيَك ‪َ ،‬لَّبْيَك ال َشِر يَك َلَك َلَّبْيَك ‪ِ ،‬إَّن اْلَح ْم َد والِّنْعَم َة لَك والُم ْلَك ‪ ،‬ال َشِر يَك َلَك »‬
‫وكان يرفع صوته ﷺ بالّتلبية؛ ألّنها إعالن الّتوحيد؛ وليحّر ك بها المشاعر‪ ،‬ويهّز بها‬
‫الّنفوس‪ .‬ويقول ﷺ ألصحابه‪َ« :‬أَتاِني ِج ْبِر يُل ‪َ ،‬فَأَم رِني َأْن آُمَر َأْصَح اِبي َأْن َيْر َفُعوا أْصواَتُه م ِباِإل ْهاَل ِل‬
‫َو الَّتْلِبَيِة » [رواه أبو داود]‪ .‬وقال جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنه) قال‪َ« :‬قِد ْم نا مع الَّنبِّي ﷺ ونحُن‬
‫نْصرُخ بالحِّج ُص َر اًخ ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫إّن في تلبيته عليه الّص الة والّسالم بهذه الجملة العظيمة‪َ« :‬لَّبْيَك اللهَّم َلَّبْيَك » انقياًدا هلل سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وإجابًة بعد إجابة‪ ،‬وإعالًنا من العبد أّنه مقيم على طاعة هللا‪ُ ،‬م قبٌل بروح اإلخالص والّتجّر د‬
‫والّتوحيد لخالقه ومواله‪ ،‬وفي الّتلبية أيًض ا معاني الُحّب ‪ ،‬فإّن الحبيب ُيجيب نداء حبيبه‪ ،‬وُيسرع إلى‬
‫تلبية دعوته بشوق ولهفة‪ ،‬وفي الّتلبية إفراد هللا باأللوهية والعبودية جّل في عاله‪.‬‬
‫«َلَّبْيَك ال َشِر يَك َلَك َلَّبْيَك » في الّتلبية إرغام للُم شركين‪ ،‬ودحض لمقولتهم المزّو رة‪ ،‬وإفكهم‬
‫وكذبهم وافترائهم‪ ،‬فقد أشركوا باهلل آلهة أخرى‪ ،‬فنّز ه الّنبي ﷺ رّبه عن كل شريك ونديد‪ ،‬وأعلن أّنه‬
‫وحده سبحانه الُم ستحق للعبادة‪ ،‬الُم تفّر د باأللوهية‪ ،‬ال إله إاّل هو‪ ،‬وال رّب سواه‪.‬‬
‫وانظر لقوله ﷺ في التلبية‪ِ« :‬إَّن اْلَح ْم َد َو الَّنْعَم َة َلَك َو ا ْلُم ْلَك ‪ ،‬ال َشِر يَك َلَك » فالحمد الذي هو‬
‫شكر هلل على الّنعم‪ ،‬هو نعمة من هللا سبحانه للعبد حيث وّفقه لها‪ ،‬والّنعمة التي منحها هللا عباده هي‬
‫منه‪ ،‬وله‪ ،‬وإليه تعود جّل في عاله‪ ،‬والُم لك كله‪ُ ،‬م لك الّدنيا واآلخرة‪ ،‬أّو له وآخره‪ ،‬للواحد األحد‪ ،‬ال‬
‫شريك له جّل في ُعاله‪.‬‬
‫ولّم ا قدم ﷺ إلى مكة دخل المسجد الحرام‪ ،‬فلّم ا حاذى الحجَر األسوَد‪ ،‬استلَم ه ﷺ؛ لُيعّلم الّناس‬
‫أَّن الحجَر ُيستَلُم وُيقَّبُل تعُّبًدا وتعظيًم ا ومحّبًة هلل عّز وجل‪ ،‬واِّتباًعا للنبِّي ﷺ‪ ،‬ال تبُّر ًكا وال استشفاًء‬
‫كما يتوّهم بعُض الّناس‪ ،‬ثم جعَل البيَت عن يساِر ه‪ ،‬وطاَف ﷺ على قدميه بالبيت سبعَة أشواط‪ ،‬ودعا‪،‬‬
‫وكّبر‪ ،‬وقّبل‪ ،‬وبكى‪ ،‬وصّلى بعد الّطواف‪.‬‬
‫ومن أسرار الّطواف أّنه طواف العبد ببيت سيده طلًبا لضيافته‪ ،‬ورفادته‪ ،‬ومغفرته‪،‬‬
‫ورحمته‪ ،‬وإظهاًر ا لدوام الحاجة إليه‪ ،‬فالمسكين الّضعيف إذا دار حول قصر الملك الكريم ‪-‬وهلل‬
‫المثل األعلى‪ -‬كان ذلك أدعى لتلبية حاجته وطلبه لشّدة مسكنته وكثرة ِترداده‪ ،‬فاجتمع في هذا المكان‬
‫رحمة الّر حمن‪ ،‬وُطهر المكان‪ ،‬وبركة الّز مان‪ ،‬وطواف أشرف إنساٍن عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬وكان‬
‫من دعائه ﷺ في الّطواف بين الّر كن اليماني والحجر األسود‪َ{ :‬ر َّبَنا آِتَنا ِفي الُّدْنَيا َحَسَنًة َو ِفي اآلِخ َر ِة‬
‫َحَسَنًة َو ِقَنا َعَذاَب الَّناِر } [البقرة‪ :‬اآلية ‪[ ]201‬رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ولّم ا انتهى ﷺ من سبعة أشواط وهي وتر؛ ألن هللا وتر ُيحب الوتر‪ ،‬أتى إلى مقام إبراهيم‪،‬‬
‫وقرأ قول الباري ُسبحانه‪َ{ :‬و اَّتِخ ُذوا ِم ْن َم َقاِم ِإْبَر اِه يَم ُم َص ّلًى } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]125‬اقتداًء بأبيه‬
‫الخليل إبراهيم عليه الّسالم‪ ،‬وإحياًء لسّنته‪ ،‬ثم صلى ركعتين‪ ،‬وقرأ فيهما سورتي (البراءة‪،‬‬
‫واإلخالص)‪ ،‬ففي الّر كعة األولى قرأ بعد الفاتحة سورة (الكافرون) وفيها التبرؤ من الّشرك وأهله‪،‬‬
‫وفي الّر كعة الثانية قرأ سورة (اإلخالص) وفيها إثبات الوحدانية هلل عّز وجل‪.‬‬
‫ثم مضى ﷺ إلى المسعى‪ ،‬فبدأ بالّص فا كما جاء في «صحيح مسلم» عن َج اِبر(رضي هللا‬
‫عنه) قال‪ُ« :‬ثَّم َخ َر َج ِم َن الَباِب إلى الَّص َفا‪َ ،‬فَلَّم ا َد َنا ِم َن الَّص َفا َقَر َأ‪ِ{ :‬إَّن الَّص َفا َو اْلَم ْر َو َة ِم ْن َشَعاِئِر‬
‫ِهَّللا(رضي هللا عنهما) [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]158‬وقال‪َ :‬أْبَد ُأ بما َبَد َأ ُهللا به َفَبَد َأ بالَّص َفا‪َ ،‬فَر ِقَي عليه‪ ،‬حَّتى‬
‫َر َأى الَبْيَت َفاْس َتْقَبَل الِقْبَلَة‪َ ،‬فَو َّح َد َهللا َو َكَّبَر ُه‪َ ،‬و قاَل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل ُهللا َو ْح َد ُه ال َشِر يَك له‪ ،‬له الُم ْلُك ‪َ ،‬و َلُه‬
‫الَح ْم ُد‪َ ،‬و هو عَلى ُكِّل شيٍء َقِديٌر ‪ ،‬ال إَلَه إاَّل ُهللا َو ْح َد ُه‪َ ،‬أْنَج َز َو ْعَد ُه‪َ ،‬و َنَص َر َعْبَد ُه‪َ ،‬و َهَز َم األْح َز اَب‬
‫َو ْح َد ُه‪ُ ،‬ثَّم َدَعا بْيَن ذلَك ‪ ،‬قاَل ‪ِ :‬م ْثَل هذا َثاَل َث َمَّر اٍت‪ُ ،‬ثَّم َنَز َل إلى الَمْر َو ِة‪ ،‬حَّتى إَذا اْنَصَّبْت َقَد َم اُه في‬
‫َبْط ِن الَو اِدي َسَعى‪ ،‬حَّتى إَذا َصِع َد َتا َم َشى‪ ،‬حَّتى َأَتى الَمْر َو َة‪َ ،‬فَفَعَل عَلى الَمْر َو ِة كما َفَعَل عَلى‬
‫الَّص َفا»‪.‬‬
‫وكان يرمل ﷺ بين العلمين في نفس المكان الذي رملت فيه هاجر أّم إسماعيل عليهما‬
‫الّسالم‪ ،‬والتي يقتدي بها ويَسَعى بسعيها الحّج اُج والُم عتمرون إلى يوم الدين‪.‬‬
‫وفي سعيه ﷺ استحضار لقصة هاجر وهي تبحث عن الماء بصبر‪ ،‬وتوكل على هللا‪ ،‬وجٍّد‪،‬‬
‫ومثابرة‪ ،‬فسعى ﷺ كما سعت‪ ،‬وهرول كما هرولت‪ ،‬إقامة لشعائر الّدين‪ ،‬وامتثااًل ألمر هللا تعالى‪،‬‬
‫وإحياء لروح المثابرة عند هاجر عليها الّسالم‪ ،‬فديننا يجمع بين الّسبب والّتوكل على هللا عّز وجل‪،‬‬
‫كما قال ﷺ لصاحب الّناقة‪« :‬اعِقلها وتوَّكْل» [رواه الترمذي]‪ ،‬فأكمل ﷺ سبعة أشواط ُيعد ذهابه‬
‫شوًطا ورجوعه شوًطا‪.‬‬
‫وفي سعيه ﷺ بين الّص فا والمروة إشارة إلى بذل الجهد والّسعي في مرضاة وامتثال أمر ذي‬
‫الجالل بال جدال‪ ،‬والّتشمير والهّم ة والهرولة إلى مراقي الّص عود في سلم العبودّية‪ ،‬وسلم الّر يادة‬
‫الدينّية والدنيوّية‪ ،‬وأن يسعى اإلنسان في مرضاة رّبه بجوارحه‪ ،‬وأن يكّد‪ ،‬وأن يجّد‪ ،‬وأن يجتهد‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪َ{ :‬و الَّساِبُقوَن الَّساِبُقوَن } [الواقعة‪ :‬اآلية ‪.]10‬‬
‫ثم جاء خير يوم طلعت عليه الّشمس يوم عرفة‪ ،‬فوقف ﷺ بالّناس الموقف العظيم في عرفة‪،‬‬
‫وأعلن العبودية هلل ظاهًر ا وباطًنا‪ ،‬وخطب بالّناس خطبًة عظيمًة ما سمع الّناس بمثلها‪ ،‬خطبًة شملت‬
‫القضايا العالمية التي تهم اإلنسان على مّر األيام‪ ،‬وتتابع األعوام إلى أن يرث هللا األرض وما عليها‬
‫في آخر الزمان‪ ،‬فتكّلم ﷺ عن مسألة الّتوحيد واإليمان باهلل تعالى‪ ،‬وأّنها القضية الكبرى‪ ،‬وتحّدث عن‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬وعن المساواة بين البشر‪ ،‬وأّنه ال فضل لعربّي على أعجمي‪ ،‬وال أبيض على أسود‬
‫إاّل بالتقوى‪ ،‬وأّن الّناس أمام العدالة سواسّية‪.‬‬
‫وتكّلم ﷺ عن المال العام‪ ،‬وحّر م الّر با‪ ،‬وتحّدث عن حقوق المرأة والّدفاع عنها‪ ،‬والوصّية‬
‫بكتاب هللا‪ ،‬وحفظ الّدماء واألعراض‪ ،‬فقال ﷺ كما جاء في «صحيح مسلم»‪« :‬إَّن ِد َم اَء ُكْم َو َأْم َو اَلُكْم‬
‫َح َر اٌم عَلْيُكم‪َ ،‬كُح ْر َم ِة َيوِم ُكْم هذا في َشْه ِر ُكْم هذا‪ ،‬في َبَلِدُكْم هذا‪َ ،‬أاَل ُكُّل شيٍء ِم ن َأْم ِر الَج اِهِلَّيِة َتْح َت‬
‫َقَد َم َّي َمْو ُضوٌع‪َ ،‬و ِد َم اُء الَج اِهِلَّيِة َمْو ُضوَعٌة‪َ ،... ،‬و َقْد َتَر ْك ُت ِفيُكْم ما َلْن َتِض ُّلوا َبْعَد ُه إِن اْع َتَص ْم ُتْم‬
‫به‪ِ ،‬ك َتاُب هللا‪َ ،‬و َأْنُتْم ُتْس َأُلوَن َعِّني‪َ ،‬فما َأْنُتْم َقاِئُلوَن ؟‪ ،‬قالوا‪َ :‬نْش َه ُد أَّنَك قْد َبَّلْغَت َو َأَّدْيَت َو َنَصْح َت ‪،‬‬
‫َفقاَل بإْصَبِعِه الَّسَّباَبِة َيْر َفُعَه ا إلى الَّسَم اِء ‪َ ،‬و َيْنُكُتَه ا إلى الَّناِس ‪ :‬اللهَّم اْش َه ْد‪ ،‬اللهَّم اْش َه ْد» َثاَل َث‬
‫َم َّر اٍت‪ ،‬ثم دعا ﷺ رّبه وتمْسكن وتذّلل‪ ،‬وأكثر من الّتضرع والخشية واإلنابة بكلمات مؤثّر ة من‬
‫الّدعاء تنصدع لها القلوب‪ ،‬وتخشع لها الّنفوس‪ ،‬وتدمع لها العيون‪.‬‬
‫وِلربنا الكريم في يوم عرفة هدايا ثمينة‪ ،‬ومواقف عظيمة ُيذّكر بها الحبيب ﷺ أّم ته‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫عتق الّر قاب يوم عرفة‪ :‬فقد قال ﷺ في ذلك‪« :‬ما ِم ن َيوٍم َأْك َثَر ِم ن َأْن ُيْعِتَق هللا فيه َعْبًدا ِم َن‬
‫الَّناِر ‪ِ ،‬م ن َيوِم َعَر َفة‪ ،‬وإَّنه َلَيْد ُنو‪ُ ،‬ثَّم ُيَباِه ي بِه ِم الَم اَل ِئَكَة‪ ،‬فَيقوُل ‪ :‬ما َأَر اَد َهُؤ اَل ِء ؟اشَه دوا مالئكتي‬
‫أني قد غفرُت لهم» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ عن أفضل ذكٍر يوم عرفة‪ ،‬فقال ﷺ كما ورد عند الترمذي‪« :‬خيُر الُّدعاِء دعاُء‬
‫يوِم عرفَة‪ ،‬وخيُر ما قلُت َأنا والَّنبُّيوَن من قبلي ‪:‬ال إَلَه إاّل هللا وحَد ُه ال شريَك َلُه‪َ ،‬لُه الملُك ‪ ،‬وَلُه‬
‫الحمُد‪َ ،‬و هَو على كِّل َشيٍء قديٌر »‪.‬‬
‫ومن الهدايا الّر بانية في هذا اليوم العظيم صوم يوم عرفة لغير الحاج‪ ،‬كما صّح عنه ﷺ عند‬
‫مسلم أّنه قال‪ِ« :‬ص ياُم َيوِم َعَر َفَة‪َ ،‬أْح َتِس ُب على هللا َأْن ُيَكِّفَر الَّسَنَة اَّلتي َقْبَلُه‪ ،‬والَّسَنَة اَّلتي َبْعَد ُه»‪.‬‬
‫أّم ا الحاج فال يصوم يوم عرفة اقتداًء بالّنبي ﷺ‪ ،‬فقد أفطر ﷺ يوم عرفة ليتقّو ى على أعمال‬
‫الحج‪ ،‬وفي «الّص حيحين» أّن الّناس اختلفوا يوم عرفة‪ :‬هل الّنبي ﷺ صائم أم ال؟ فأرسلت أّم الفضل‬
‫بنت الحارث (رضي هللا عنها) إليه ﷺ بَقَدِح َلَبٍن وهو واقف على بعيره فشربه‪ ،‬فتبّين من ذلك أّن‬
‫الُّسنة للحاج يوم عرفة أن ُيفطر ليكون أنشط له في أداء النُسك‪.‬‬
‫ثّم أفاض ﷺ إلى مزدلفة وعليه الّسكينة والوقار‪ ،‬وهو ُيخاطب الجموع قائاًل ‪« :‬أُّيها الّناُس‬
‫عَلْيُكم بالَّسِك يَنِة » [رواه البخاري]‪ ،‬تنبيًه ا على أّن هذا الّدين دين رفق وسكينة‪ ،‬وسماحة وهدوء‪،‬‬
‫وأّن فيه تربيًة على الّتواصل والّتعاون بين الّناس‪ ،‬وليس على الّتدافع والّتقاطع‪ ،‬وصّلى المغرب‬
‫والعشاء جمًعا وقصًر ا كما جاء عن جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما) أنه ﷺ َأَتى ُم ْز َد ِلَفَة‪َ ،‬فَص َّلى‬
‫بَه ا الَم ْغِر َب َو اْلِع َشاَء بَأَذاٍن َو اِح ٍد وإَقاَم تْيِن ‪َ ،‬و َلَّم ُيَسِّبْح بْيَنُه ما شيًئا‪ُ ،‬ثَّم اْض َطَجَع َر سوُل هللا ﷺ حَّتى‬
‫َطَلَع الَفْج ُر ‪َ ،‬و صَّلى الَفْج َر ‪ِ ،‬ح َتبَّيَن له الُّصْبُح‪ ،‬بَأَذاٍن وإَقاَم ٍة‪ُ ،‬ثَّم َر ِك َب الَقْص َو اَء ‪ ،‬حَّتى َأَتى الَم ْش َعَر‬
‫الَح َر اَم ‪َ ،‬فاْس َتْقَبَل الِقْبَلَة‪َ ،‬فَدَعاُه َو َكَّبَر ُه َو َهَّلَلُه َو َو َّح َد ُه‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقد ارتاح ﷺ في مزدلفة؛ ألّن أمامه في اليوم الّتالي عمٌل كثير في الحج من الّر مي والحلق‬
‫والّذبح والّطواف‪ ،‬ثم أمر ﷺ أن ُيلتقط له حصى الّر مي فُلِقطْت لُه سبُع حَص ياٍت مثل حَص ى الخْذِف ‪،‬‬
‫فجعَل ينفضهَّن في كِّفِه ويقوُل‪« :‬أمثاَل هؤالِء فارموا»‪ ،‬ثَّم قاَل ‪« :‬يا أُّيها الَّناُس إَّياكم والغلَّو في‬
‫الِّديِن ! فإَّنما أهلَك من كاَن قبَلكم الغلُّو في الِّديِن »‪[ ،‬رواه النسائي]‪ ،‬فذّم ﷺ الغلّو في كل عمل‪ ،‬وهو‬
‫تجاوز الحّد؛ ألن الّدين ُيبنى على الُيسر‪ ،‬واالعتدال‪ ،‬والوسّطية‪ ،‬بال إفراط وال تفريط‪.‬‬
‫ولّم ا وصل ﷺ إلى منى بدأ برمي الجمرات‪ ،‬فَعِن اْبِن َعَّباٍس (رضي هللا عنهما) ‪َ« :‬أَّن الَّنِبي‬
‫ﷺ َأْر َد َف اْلَفْض َل ‪َ ،‬فَأْخ َبَر اْلَفْض ُل َأَّنُه َلم َيَز ْل ُيَلِّبي َح َّتى َر َم ى اْلَج ْم َر َة» [ُم تفق عليه]‪ .‬وَعن ابن مسعود‬
‫(رضي هللا عنه)‪َ« :‬أَّنُه اْنَتَه ى ِإَلى اْلَج ْم َر ِة اْلُكْبَر ى فَجَعَل اْلَبْيَت َعْن َيَساِر ِه ‪َ ،‬و ِم ًنى َعْن َيِم يِنِه ‪َ ،‬و َر َم ى‬
‫ِبَسْبٍع‪َ ،‬و َقاَل ‪َ :‬هَكَذا َر َم ى اَّلِذي ُأْنِز َلْت َعَلْيِه ُسوَر ُة اْلَبَقَر ِة ﷺ» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وجاء في الرمي أيام التشريق بعد يوم النحر َعِن اْبِن ُعَمَر (رضي هللا عنهما) ‪« :‬أَّنه كاَن‬
‫َيْر ِم ي الَج ْم َر َة الُّد ْنَيا بَسْبِع َحَصَياٍت‪ُ ،‬يَكِّبُر عَلى إْثِر ُكِّل َحَص اٍة‪ُ ،‬ثَّم َيَتَقَّد ُم حَّتى ُيْس ِه َل ‪َ ،‬فَيُقوَم ُم ْس َتْقِبَل‬
‫الِقْبَلِة ‪َ ،‬فَيُقوُم َطِو ياًل ‪ ،‬وَيْدُعو وَيْر َفُع َيَد ْيِه ‪ُ ،‬ثَّم َيْر ِم ي الُو ْس َطى‪ُ ،‬ثَّم َيْأُخ ُذ َذاَت الِّش َم اِل َفَيْس َتِه ُل ‪ ،‬ويقوُم‬
‫ُم ْس َتْقِبَل الِقْبَلِة ‪َ ،‬فَيُقوُم َطِو ياًل ‪ ،‬وَيْدُعو وَيْر َفُع َيَد ْيِه ‪ ،‬ويقوُم َطِو ياًل ‪ُ ،‬ثَّم َيْر ِم ي َج ْم َر َة َذاِت الَعَقَبِة ِم ن‬
‫َبْط ِن الَو اِدي (الجمرة الكبرى)‪ ،‬واَل َيِقُف ِع ْنَد َها‪ُ ،‬ثَّم َيْنَص ِر ُف ‪ ،‬فَيقوُل ‪َ :‬هَكَذا َر َأْيُت النبَّي َص َّلى ُهللا‬
‫عليه وسَّلَم َيْفَعُلُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ومن مقاصد رمي الجمار إعالن الّتبرؤ من الّشيطان الّر جيم‪ ،‬وتلبيسه‪ ،‬ونزغاته‪ ،‬ووسوسته‪،‬‬
‫والبراءة منه ومن أتباعه‪ ،‬وفي ذكر الّتكبير عند كل رمية حصاة االعتراف أّنه ال قدرة لنا على‬
‫مواجهة الّشيطان واالنتصار عليه إاّل ُبقدرة الكبير الُم تعالي سبحانه‪ ،‬فعلى كّل من حّج ورمى الجمار‬
‫أن يرمَي الّشيطان من عمله وأخالقه وحياته‪ ،‬وأن يحاربه وأْتباعه باّتباع ُسَّنة الّنبي الكريم عليه‬
‫الّص الة والّسالم‪.‬‬
‫ثم حَلَق ﷺ رأسه‪ ،‬ودعا للمحِّلقين ثالًثا‪ ،‬وللمقَّص رين مرة واحدة تفاؤاًل أن تتساقط ذنوبهم‬
‫وخطاياهم مع شعرهم‪ ،‬ووّز ع شعره المبارك على أصحابه‪ ،‬وتقاسموا هذا الّشعر الّطاهر الُم بارك‪،‬‬
‫وليس هذا إاّل له ﷺ؛ لما جعل هللا فيه من بركة الّنبوة‪.‬‬
‫وكان الّناس يسألونه ﷺ فيجيب الجميع‪ ،‬فعن عبدهللا بن عمرو (رضي هللا عنهما) ‪« :‬أَّنُه‬
‫َشِه َد الّنبَّي ﷺ َيْخ ُطُب َيوَم الَّنْح ِر ‪َ ،‬فَقاَم إَلْيِه َر ُجٌل َفَقاَل ‪ُ :‬كْنُت أْح ِس ُب أَّن َكَذا َقْبَل َكَذا‪ُ ،‬ثَّم َقاَم آَخ ُر َفَقاَل ‪:‬‬
‫ُكْنُت أْح ِس ُب أَّن َكَذا َقْبَل َكَذا‪َ ،‬ح َلْقُت َقْبَل أْن أْنَح َر ‪َ ،‬نَح ْر ُت َقْبَل أْن أْر ِم َي ‪ ،‬وَأْش َباَه ذلَك ‪َ ،‬فَقاَل النبُّي ﷺ‪:‬‬
‫اْفَعْل واَل َح َر َج لهَّن ُكِّلِه َّن ‪َ ،‬فما ُسِئَل َيوَم ئٍذ عن شيٍء إاّل َقاَل ‪ :‬اْفَعْل واَل َح َر َج» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫هلّلف هذا الّدين ما أسهله وألطفه! وهلل ذاك الّنبي المجتبى‪ ،‬والّر سول المصطفى ﷺ ما أيسر‬
‫ُسّنته! وما أجمل سيرته! وما أرحمه بأّم ته!‬
‫َو َعِن الَبَر اِء بِن َعاِز ٍب (رضي هللا عنه) َقاَل ‪َ :‬خ َطَبَنا الَّنبُّي ﷺ َيوَم الَّنحِر فَقاَل ‪« :‬إَّن َأَّو َل َم ا‬
‫َنبَد ُأ ِبِه في َيوِم َنا َهَذا َأْن ُنَصِّلَي ‪ُ ،‬ثَّم َنْر ِج َع ‪َ ،‬فَنْنَح َر فَم ن َفَعَل ذلَك فَقْد أَص اَب ُسَّنَتَنا‪ ،‬وَم ن َذَبَح َقْبَل أْن‬
‫ُيَصِّلَي ‪ ،‬فإَّنما هو َلْح ٌم َعَّج َلُه ألْه ِلِه ليَس ِم َن الُّنُسِك في شيٍء » [ُم َّتَفٌق َعَليِه ]‪َ ،‬و َقاَل ﷺ‪ِ« :‬إَّن َأعَظَم‬
‫اَألَّياِم ِع نَد هللا َيوُم الَّنحِر ‪ ،‬ثم َيوُم الَقِّر » [َر َو اُه َأُبو َداُو د]‪ .‬ويوم (القّر ) هو اليوم الحادي عشر من أيام‬
‫ذي الحجة‪ ،‬وهو اليوم الذي يعقب يوم الّنحر‪ ،‬وأّو ل أيام التشريق‪ ،‬وُسّم ي يوم القّر بذلك؛ ألّن الحجاج‬
‫يقّر ون فيه؛ أي يستقرون في منى بعد أدائهم طواف اإلفاضة والّنحر‪َ ،‬و َقاَل َعَليِه الَّص الُة َو الَّسالُم ‪:‬‬
‫«َيوُم َعَر َفَة َو َيوُم الَّنحِر َو َأَّياُم الَّتشِر يِق ِع يُدَنا َأهَل اِإل سالِم ‪َ ،‬و ِه َي َأَّياُم َأكٍل َو ُشرٍب» [رواه َأُبو َداُو َد]‪.‬‬
‫ودعا ﷺ الّناس وحّثهم أن يأخذوا عنه مناسك الحج‪ ،‬فعن جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما)‬
‫قال‪َ« :‬ر َأْيُت الّنبَّي ﷺ َيْر ِم ي على راِح َلِتِه َيوَم الَّنْح ِر ‪ ،‬ويقوُل‪ِ« :‬لَتْأُخ ُذوا َعِّني مناِس َكُكْم ‪ ،‬فِإِّني اَل‬
‫َأْد ِر ي َلَعِّلي اَل َأُح ُّج بعَد حجتي هِذِه » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ونحر ﷺ مئة ناقة يوم النحر فداًء ألبيه إسماعيل‪ ،‬واقتداًء بأبيه إمام الموحدين‪ ،‬خليل‬
‫الرحمن‪ ،‬إبراهيم عليهم السالم‪ ،‬وامتثااًل لقول الباري عّز وجل‪َ{ :‬فَصِّل ِلَّر ِبَك َو اْنَح ْر } [الكوثر‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]2‬ولقوله تعالى‪ُ{ :‬قْل ِإَّن َص َالِتي َو ُنُسِك ي َو َم ْح َياَي َو َمَم اِتي ِهَّلِل َر ِّب اْلَعاَلِم يَن } [األنعام‪ :‬اآلية ‪،]162‬‬
‫والّنُسك هنا هو الّذبح تقّر ًبا هلل عّز وجل‪ ،‬وفي هذا الّنحر توسعة على الّنفس واألهل‪ ،‬وعلى الفقراء‬
‫والمساكين‪ ،‬وإظهار االستبشار بنعمة هللا عّز وجل‪ ،‬واالعتراف بها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َأَّم ا ِبِنْعَم ِة‬
‫َر ِّبَك َفَح ِّد ْث } [الضحى‪ :‬اآلية ‪]11‬‬
‫فعّلمنا نبّينا ﷺ أّن في الّنحر تطبيًقا فعلًيا ميدانًيا لما أخبر هللا به في كتابه‪ ،‬وقبول هديته‬
‫سبحانه في خلق األنعام‪ ،‬فأّنها ُخ لقت للطعام واالنتفاع‪ ،‬قال تعالى عن هذه النعم {َفُكُلوا ِم ْنَه ا َو َأْط ِع ُم وا‬
‫اْلَقاِنَع َو اْلُم ْعَتَّر َكَذِلَك َسَّخ ْر َناَها َلُكْم َلَعَّلُكْم َتْشُكُر وَن * َلْن َيَناَل َهَّللا ُلُح وُم َه ا َو َال ِد َم اُؤَها َو َلِك ْن َيَناُلُه‬
‫الَّتْقَو ى ِم ْنُكْم َكَذِلَك َسَّخ َر َها َلُكْم ِلُتَكِّبُر وا َهَّللا َعَلى َم ا َهَداُكْم َو َبِّش ِر اْلُم ْح ِسِنيَن } [الحج‪ :‬اآلية ‪.]37 - 36‬‬
‫والّذبح إّنما يكون لوجه هللا تعالى‪ ،‬وفي ذلك ُم خالفة للُم شركين الذين كانوا يذبحون لألنصاب‬
‫واألصنام‪ ،‬وصح عنه ﷺ أنه قال‪َ« :‬لَعَن ُهللا َم ْن َذَبَح ِلَغْيِر هللا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فذبح ﷺ تقّر ًبا هلل‪ ،‬وابتغاَء مرضاة هللا‪ ،‬وشكًر ا لنعمة هللا‪ ،‬وإظهاًر ا لشعائر الّدين‪ ،‬ومخالفة‬
‫المشركين‪ ،‬ولم ُيعرف أحد في الّتاريخ أكرم منه ﷺ‪ ،‬فقد نحر هديه مئة بدنة‪ ،‬باشر ﷺ منها ثالًثا‬
‫وستين إشارة إلى أّن عمَر ه ثالٌث وستون سنة‪ ،‬وأكمل علي (رضي هللا عنه) باقي المئة‪.‬‬
‫ومن الّلطائف التي رواها أبو داود وابن ماجه وذكرها ابن تيمية الجّد في كتاب «الُم نتقى»‬
‫أن اإلبل كانت تتسابق إليه ﷺ أّيها ينحر أواًل ‪ ،‬فُسبحان َم ن حّبب حتى الحيوان البهيم في الّنبي‬
‫الكريم‪ ،‬والّر سول العظيم عليه من هللا الّص الة والّتسليم! وبعد نحرها وّز ع ﷺ لحمها على الّناس‬
‫فأكلوا منها‪ ،‬وتصدقوا وتزّو دوا‪ ،‬فهو الّسابق في الجود والكرم‪ .‬ويكفيه تزكية رّبه له من فوق سبع‬
‫سماوات حيث قال سبحانه‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى ُخ ُلٍق َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪.]4‬‬
‫َوَيْق ُبُح ِم ن ِس َو اَك الفعل ِع ندي‬
‫وَت ْف َعُلُه َف َيْح ُسُن ِم ْنَك َذاَك‬
‫وأيام الحج للحاج أيام عيد وأكل وُشرب‪ ،‬فقد صح عنه ﷺ أّنه قال‪« :‬يوم عرفة ويوم الّنحر‬
‫وأيام الّتشريق عيدنا أهل اإلسالم وهي أيام أكٍل وشرب» [رواه أبو داود]‪ ،‬والمقصود أّن الحاج‬
‫ُيفطر فيها ليتفّر غ للعبادة‪ ،‬ويؤدي الُنسك بقوة‪ ،‬وأاّل يضعف أيام الحج‪ّ ،‬ألنها أيام ُج هد ومشّقة‪ ،‬هّللف ما‬
‫أيسر هذا الّدين! وما أعظم سماحته!‪ ،‬ولقد عّلمنا ﷺ أّن الحج أعظم مؤتمر عاَلمي وحضاري يجتمع‬
‫فيه المالييُن من البشر‪ ،‬باختالف لهجاتهم‪ ،‬وألوانهم‪ ،‬ولغاتهم‪.‬‬
‫ومن المواقف العظيمة والمشاهد الكريمة في حجة ﷺ‪ ،‬والتي نقلها العلماء‪ ،‬وأنصت لها‬
‫الحكماء‪ ،‬ووعاها الخطباء أّنه خطب يوم الّنحر ﷺ خطبة عظيمة ما سمع الناس بمثلها‪ ،‬وهي ميثاق‬
‫شرف عالمي في حفظ الدماء واألعراض واألموال‪ ،‬وهي رسالة للبشرية‪ ،‬وموعظة لإلنسانّية‪ ،‬فقد‬
‫هّز ﷺ الموقف‪ ،‬وألهب الجمَع ‪ ،‬وقد خشع الجميع وخضعوا‪ ،‬كّلهم آذان ُم نصتة‪ ،‬وقلوب صاغية‪،‬‬
‫وعقول متفّكرة‪ُ ،‬يناديهم ﷺ فيقول كما جاء في الحديث الّص حيح عن أبي بكرة (رضي هللا عنه)‪« :‬أُّي‬
‫َشْه ٍر هذا؟‪ُ ،‬قْلنا‪ :‬هللا وَر سوُلُه أْع َلُم ‪َ ،‬فَسَكَت حّتى َظنّنا أَّنه َسُيَسِّم يِه بغيِر اْسِم ِه ‪ ،‬قاَل ‪ :‬أليَس ُذو‬
‫الِح َّجِة ؟‪ُ ،‬قْلنا‪َ :‬بَلى‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأُّي َبَلٍد هذا؟‪ُ ،‬قْلنا‪ :‬هللا وَر سوُلُه أْع َلُم ‪َ ،‬فَسَكَت حّتى َظنّنا أَّنه َسُيَسِّم يِه بغير‬
‫اْسِم ِه ‪ ،‬قاَل ‪ :‬أليَس الَبْلَد َة؟!‪ُ ،‬قْلنا‪َ :‬بَلى‪ ،‬قاَل ‪ :‬فأُّي َيوٍم هذا؟ ُقْلنا‪ :‬هللا وَر سوُلُه أْع َلُم ‪َ ،‬فَسَكَت حّتى َظنّنا‬
‫أَّنه َسُيَسِّم يِه بغيِر اْسِم ِه ‪ ،‬قاَل ‪ :‬أليَس َيوَم الَّنْح ِر ؟!‪ُ ،‬قْلنا‪َ :‬بَلى‪ ،‬قاَل ‪ :‬فإَّن ِدماَء ُكْم وَأْم واَلُكْم وَأْعراَضُكْم‬
‫عَلْيُكم َح راٌم ‪َ ،‬كُح ْر َم ِة َيوِم ُكْم هذا‪ ،‬في َبَلِدُكْم هذا‪ ،‬في َشْه ِر ُكْم هذا‪ ،‬وَسَتْلَقْو َن َر َّبُكْم ‪َ ،‬فَسَيْس َأُلُكْم عن‬
‫أْعماِلُكْم ‪ ،‬أال فال َتْر ِج ُعوا َبْعِدي كفاًر ا‪َ ،‬يْض ِر ُب َبْعُضُكْم ِر قاَب َبْعٍض ‪ ،‬أال ِلُيَبِّلِغ الشاِه ُد الغاِئَب ‪َ ،‬فَلَعَّل‬
‫َبْعَض َم ن ُيَبَّلُغُه أْن َيكوَن أْو عى له ِم ن َبْعِض َم ن َسِم َعُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫فصارت هذه الخطبة البليغة الموجزة المعبرة المؤثرة اآلسرة ميثاًقا عالمًّيا وحّج ة على الناس‬
‫أجمعين في حفظ الّدماء إاّل بحق شرعّي ‪ ،‬كما تضمنت صيانة األموال واألعراض‪ ،‬وهذه شريعته‬
‫الُم باركة‪ ،‬وسيرته العطرة في حفظ األرواح والّدماء واألموال وسالمة اإلنسان‪ ،‬وصيانته والحفاظ‬
‫على حقوقه‪،‬ولك أن تقارن بين المشهد الّسابق وحال البشرية قبل مبعثه ﷺ من سفك الّدماء‪ ،‬ونهب‬
‫األموال‪ ،‬وانتهاك األعراض‪ ،‬وإهدار الحقوق في حياة كأّنها حياة البهائم كما قال تعالى‪َ{ :‬أْم َتْح َسُب‬
‫َأَّن َأْكَثَر ُهْم َيْس َم ُعوَن َأْو َيْعِقُلوَن ِإْن ُهْم ِإَّال َكاَألْنَعاِم َبْل ُهْم َأَض ُّل َسِبيًال} [الفرقان‪ :‬اآلية ‪.]44‬‬
‫وبعدَم ا رمى وحَلَق ونحَر ﷺ ذهب إلى مكة‪ ،‬فطاف ببيت هللا العتيق طواف اإلفاضة‪ ،‬وشرب‬
‫من ماء زمزم‪ ،‬ثم عاد إلى منى‪ ،‬فمكث أيام الّتشريق‪ ،‬ولم يصم ﷺ تلك األيام‪ ،‬بل كان ُم فطًر ا‪ ،‬وكان‬
‫يقول‪« :‬أياُم التشريِق أياُم أكٍل وشرٍب» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وورد أّنه ﷺ كان يخطب في كل يوم من أيام الّتشريق في منى‪ ،‬وكان يرمي الجمرات بعد‬
‫الّز وال عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬يرمي كل جمرة بسبع حصيات‪ ،‬ولم يتعّج ل ﷺ فهو سّيد الُم ّتقين‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى‪َ{ :‬فَم ْن َتَعَّجَل ِفي َيْو َم ْيِن َفَال ِإْثَم َعَلْيِه َو َم ْن َتَأَّخ َر َفَال ِإْثَم َعَلْيِه ِلَمِن اَّتَقى} [البقرة‪ :‬اآلية‬
‫‪.]203‬‬
‫ثم ارتحل ﷺ فطاف طواف الوداع بعد رحلة جميلة‪ ،‬رائعة‪ ،‬رّبانية‪ ،‬كلها عبادة للواحد األحد‬
‫الفرد الّص مد‪ ،‬وبّشر نبّينا الحجيج‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬م ن َحَّج هلل َفَلْم َيْر ُفْث ‪ ،‬وَلْم َيْفُسْق ‪َ ،‬ر َجَع َكَيوِم وَلَد ْتُه‬
‫ُأُّم ُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقد شَعر المسلمون أّن أجله ﷺ قد دنا لّم ا نزلت عليه يوم عرفة تلك اآلية العظيمة الُم حكمة‪:‬‬
‫{اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُكْم ِديَنُكْم َو َأْتَم ْم ُت َعَلْيُكْم ِنْعَم ِتي َو َر ِض يُت َلُكُم اِإل ْس َالَم ِدينًا} [المائدة‪ :‬اآلية ‪ ،]3‬وكأّنه‬
‫يوّدعهم الوداع األخير‪ ،‬وُسميت هذه الحجة بــ «حّج ة الوداع»‪ ،‬حيث وّدع ﷺ المؤمنين والمؤمنات‪،‬‬
‫وقال لهم كلمة ُم شجية‪ ،‬مؤّثرة‪ُ ،‬م بكية‪« :‬لعِّلي ال ألقاكم بعَد عامي هذا»‪ ،‬فبكى الجمع‪ ،‬وحّنت‬
‫القلوب‪ ،‬واهتّز ت األرواح‪ ،‬ثم قال كلمته البارعة الرائعة‪َ « :‬أُّيَه ا الَّناُس ‪ِ ،‬إَّنُكْم َم ْس ُئوُلوَن َعِّني‪َ ،‬فَم ا‬
‫َأْنُتْم َقاِئُلوَن ؟ فارتفعت األصوات من كل حدٍب ومن كّل صوٍب‪ ،‬ومن كل سهٍل ومن كل رابية‪ ،‬من‬
‫الُشعث والُغبر يهتفون‪َ« :‬نْش َه د َأَّنك َقْد َبَّلْغت َو َأَّد ْيت َو َنَصْح ت»‪َ،‬فَج َعَل ﷺ َيْر َفع سبابته ِإَلى الَّسَم اء‬
‫َو ُيَنِّك سَه ا َعَلْيِه ْم َو َيُقول‪َ« :‬الَّلُه َّم ِاْش َه ْد‪َ ،‬الَّلُه َّم ِاْش َه ْد‪َ ،‬الَّلُه َّم ِاْش َه ْد»‪ ،‬فاهتز المكان‪ ،‬والزمان‪ ،‬واإلنسان‪،‬‬
‫ووقف التاريخ ليشهد‪ ،‬وصارت هذه الكلمة عبر األيام تدوي في األمصار واألقطار‪ ،‬وتعبر القفار‬
‫والبحار‪ُ ،‬م علنًة صدق الّنبي ﷺ‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬فِإَذا َقَض ْيُتْم َم َناِس َكُكْم َفاْذُكُر وا َهَّللا َكِذ ْك ِر ُكْم آَباَء ُكْم َأْو َأَشَّد‬
‫ِذ ْك ًر ا َفِم َن الَّناِس َم ْن َيُقوُل َر َّبَنا آِتَنا ِفي الُّدْنَيا َو َم ا َلُه ِفي اآلِخ َر ِة ِم ْن َخ َالٍق } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]200‬‬
‫فعاد ﷺ من حّج ه وقد كُم َل الّدين‪ ،‬وتمّت الّنعمة‪ ،‬وقامت الّشريعة‪ ،‬وانتصر اإلسالم‪ ،‬ورسخ‬
‫اإليمان‪ ،‬وعّم الّتوحيد‪ ،‬وُز هق الباطل‪ ،‬وُدمغ الّشرك‪ ،‬وُسحقت الوثنّية‪ ،‬وُر فع لواء العدل‪ ،‬وعّم‬
‫األمن‪ ،‬وانتشر الّسالم‪ ،‬وُألغيت شعارات الجاهلية‪ ،‬ومذاهب الوثنّية‪ ،‬والعنصرّية القبلّية‪ ،‬وانطلقت‬
‫كتائب الّتوحيد بعد ذلك ُم شّر قة وُم غّر بة‪ ،‬تنشر كلمة الحق‪ ،‬كلمة اإلسالم والّسالم‪ ،‬كلمة العدل‬
‫والمساواة‪ ،‬كلمة الفوز بالجَّنة والّنجاة من الّنار‪ ،‬كلمة‪« :‬ال إلَه إاَّل ُهللا محَّم ٌد رسوُل هللا»‪ ،‬قال‬
‫سبحانه‪ُ{ :‬هَو اَّلِذي َأْر َسَل َر ُسوَلُه ِباْلُه َدى َو ِديِن اْلَح ِّق ِلُيْظ ِهَر ُه َعَلى الِّديِن ُكِّلِه َو َلْو َكِر َه اْلُم ْش ِر ُكوَن }‬
‫[الصف‪ :‬اآلية ‪.]9‬‬
‫أسأل هللا الحّي القّيوم‪ ،‬ذا الجالل واإلكرام‪ ،‬أن يجزيه عّنا خير ما جزى نبًّيا عن ُأّم ته‪ ،‬وأن‬
‫ُيبّلغه مّنا الّص الة والّسالم‪ ،‬الّز كيين الّطاهرين‪ ،‬الّدائمين إلى يوم الّدين‪.‬‬
‫قْف يف احلياِة ُمصّليا وُمسّلما‬
‫ألجِّل َمن لىّب الّنداَء وأحرَما‬
‫ابلبيت طاف وقبل ذلك روحه‬
‫طافت بعرش هللا يف ذاك احلَم ى‬
‫وسعى وكل حياته سعي إىل‬
‫مرضاة خالقِه ِجُم ًّدا ُمْق ِد ًما‬
‫وأتى لينحَر هديه فتسابقت‬
‫إبٌل إليه تكاد هتديه الّد َما‬
‫وكأمّن ا عرفات تعرف وجَه ه‬
‫وهللا ابهى ابحلجيج وكّرَما‬
‫حممد ﷺ اَت ِلًيا‬
‫كان من أجّل أعماله ﷺ تالوة القرآن ممتثاًل أمر رّبه تعالى‪َ{ :‬و َأْن َأْتُلَو اْلُقْر آَن } [النمل‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]92‬وقوله ُسبحانه‪{ :‬اْتُل َم ا ُأْو ِح َي ِإَلْيَك ِم َن اْلِك َتاِب} [العنكبوت‪ :‬اآلية ‪ ،]45‬فكانت قراءته ﷺ‬
‫للقرآن تالوًة آلياته‪ ،‬واهتداًء بهديه‪ ،‬واّتباًعا لتعاليمه‪ ،‬ودعوًة إليه‪ ،‬كما قال رّب العالمين‪َ{ :‬لَقْد َم َّن ُهَّللا‬
‫َعَلى اْلُم ْؤ ِم ِنيَن ِإْذ َبَعَث ِفيِه ْم َر ُسوًال ِم ْن َأْنُفِس ِه ْم َيْتُلو َعَلْيِه ْم آَياِتِه َو ُيَز ِّك يِه ْم َو ُيَعِّلُمُه ُم اْلِك َتاَب َو اْلِح ْك َم َة َو ِإْن‬
‫َكاُنوا ِم ْن َقْبُل َلِفي َض َالٍل ُم ِبيٍن } [آل عمران‪ :‬اآلية ‪ ،]146‬وأّو ل ما نزل عليه ﷺ من القرآن قول‬
‫الباري سبحانه‪{ :‬اْقَر ْأ ِباْس ِم َر ِّبَك اَّلِذي َخ َلَق } [العلق‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬فكان يقرأ ﷺ القرآن قراءة ُم تدّبر‪،‬‬
‫ُم تأّم ل‪ ،‬خاشع‪ُ ،‬م تبّتل‪ُ ،‬م نقطع إلى هذا الكتاب العظيم بقلبه ومشاعره‪ ،‬وأمره هللا سبحانه فقال‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫اْلُم َّز ِّم ُل * ُقِم الَّلْيَل ِإَّال َقِليًال * ِنْص َفُه َأِو اْنُقْص ِم ْنُه َقِليًال * َأْو ِز ْد َعَلْيِه َو َر ِّتِل اْلُقْر آَن َتْر ِتيًال} [المزمل‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]4-1‬فامتثل ﷺ أمر رّب العالمين‪.‬‬
‫وكان ﷺيتلو القرآن قائًم ا وقاعًدا وعلى جنبه‪ ،‬يقرؤه في الفريضة والّنافلة‪ ،‬ويقرؤه وحده‪،‬‬
‫ويقرؤه على الّناس‪ ،‬يعظ به‪ ،‬يقّص به‪ ،‬يفّسره‪ ،‬يستنبط منه؛ ألّن القرآن هو المرجعية الُكبرى له ﷺ‪،‬‬
‫فدروسه‪ ،‬ومواعظه‪ ،‬وخطبه‪ ،‬وفتاويه‪ ،‬وقضاياه‪ ،‬وقصصه‪ُ ،‬كّلها من القرآن‪ ،‬وكان ُيحّسن صوته ﷺ‬
‫بالقرآن ويقول‪« :‬ليَس ِم َّنا َم ن َلْم َيَتَغَّن بالقْر آِن » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ويقول البراء بن عازب(رضي هللا عنه)‪َ« :‬سِم ْعُت النبَّي ﷺ َيْقَر ُأ في الِع شاِء ‪َ{ :‬و الِّتيِن‬
‫َو الَّز ْيُتوِن } [التين‪ :‬اآلية ‪َ ،]1‬فما َسِم ْعُت أَح ًدا أْح َسَن َص ْو ًتا أْو ِقراَء ًة منه» [ُم تفق عليه]‪ ،‬ففي‬
‫الحديث ندٌب لتحسين الّص وت بالقرآن والّتغّني به‪ ،‬وأّن الّص حابة كانوا يجدون لّذًة في سماع تالوته‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫وسمع ﷺ أبا موسى األشعرّي (رضي هللا عنه) يتلو في الّليل‪ ،‬وقد ُأوتي صوًتا جمياًل حسًنا‬
‫عذًبا‪ ،‬فأنصت له ﷺ‪ ،‬وفي الّص باح قال له‪« :‬يا أبا ُم وسى‪ ،‬لَقْد ُأوِتيَت ِم ْز ماًر ا ِم ن َم زاِم يِر آِل داُو َد»‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويصف عوف بن مالك (رضي هللا عنه) تالوة الّنبي ﷺ فيقول‪ُ« :‬قمُت مَع رسوِل هللا ﷺ‬
‫ليلًة‪ ،‬فقاَم فقرَأ سورَة البقرِة‪ ،‬ال يمُّر بآيِة رحمٍة إاّل وقَف َفسأَل ‪ ،‬وال يمُّر بآيِة َعذاٍب إاّل وَقَف‬
‫فتعَّو َذ» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫فكان ﷺ يتلّذذ بتالوة القرآن‪ ،‬ويعيش معه بقلبه‪ ،‬ويحّث على تالوته وتدّبره ويقول‪« :‬اْقَر ُؤوا‬
‫الُقْر آَن فإَّنه َيْأتي َيوَم الِقياَم ِة َشِفيًعا َألْصحاِبِه ‪ ،‬اْقَر ُؤوا الَّز ْه راَو ْيِن ‪ :‬الَبَقَر َة وآَل ِع ْم راَن ‪ ،‬فإَّنُه ما‬
‫َتْأِتياِن َيوَم الِقياَم ِة َكأَّنُه ما َغماَم تاِن ‪ ،‬أْو َكأَّنُه ما َغياَيتاِن ‪ ،‬أْو َكأَّنُه ما ِفْر قاِن ِم ن َطْيٍر َص واَّف ‪ُ ،‬تحاّج اِن‬
‫عن أْصحاِبِه ما‪ ،‬اْقَر ُؤوا ُسوَر َة الَبَقَر ِة‪ ،‬فإَّن أْخ َذها َبَر َكٌة‪ ،‬وَتْر َكها َحْس َر ٌة‪ ،‬وال َتْس َتِط يُعها الَبَطَلُة»‬
‫[رواه مسلم]‪ ،‬فانظر إلى ُح سن وصفه ﷺ لبركة القرآن وآثاره وعاقبته المحمودة في الّدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وتقول أّم المؤمنين حفصة (رضي هللا عنها) ‪« :‬كاَن الّنبي ﷺ َيْقَر ُأ ِبالُّسوَر ِة فُيَر ِّتُلها حّتى‬
‫َتُكوَن َأْط َو َل ِم ن َأْط َو َل منها» [رواه مسلم]‪ ،‬فكانت قراءته ﷺ بترتيل وتمّعن وتدّبر‪ ،‬وليست هًّذا وال‬
‫هذرمة‪ .‬وتقول أّم سلمة أّم المؤمنين (رضي هللا عنها) ‪« :‬كاَن رسوُل هللا ﷺ يقِّط ُع قراءَتُه يقرأ‪:‬‬
‫(اْلَح ْم ُد هلل َر ِّب اْلعاَلِم يَن )‪ ،‬ثَّم يقُف ‪( ،‬الَّر ْح َم ِن الَّر ِح يِم ) ثَّم يقُف ‪َ ،‬و كاَن يقرؤها‪َ( :‬م ِلِك َيْو ِم الِّديِن ) [رواه‬
‫أبو داود]‪.‬‬
‫إّن هذه الّتالوة الّنبوية المتأنية هي الّطريق إلى الّتدّبر والّتفّكر في معاني هذا الكتاب العظيم‪.‬‬
‫وكان له ﷺ حزٌب من القرآن يقرؤه كّل يوم ِلعظم تعّلقه بكتاب هللا‪ ،‬وحّبه له‪ ،‬وشوقه لتالوته‪،‬‬
‫وروي عنه أّنه تأخر ﷺ عن وفد ثقيف فقالوا له‪« :‬يا رسول هللا لبثت عّنا الّليلة أكثر مّم ا كنت تلبث؛‬
‫فقال‪ :‬نعم طرأ علّي حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج من المسجد حّتى أقضيه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫كان يعيش عليه الّص الة والّسالم مع القرآن في حالة خشوٍع وخضوٍع‪ ،‬وتقُّر ٍب وانقياد‪،‬‬
‫ورغبٍة ورهبٍة‪ ،‬وخوف ورجاء‪ ،‬وُحٍب وإجالٍل ‪ ،‬وتعظيم وتقديس‪ ،‬كما قال تعالى واصًفا كتابه‬
‫العظيم‪ُ{ :‬هَّللا َنَّز َل َأْح َسَن اْلَح ِديِث ِك َتاًبا ُم َتَشاِبًه ا َم َثاِنَي َتْقَشِعُّر ِم ْنُه ُج ُلوُد اَّلِذيَن َيْخ َشْو َن َر َّبُهْم ُثَّم َتِليُن‬
‫ُج ُلوُدُهْم َو ُقُلوُبُهْم ِإَلى ِذ ْك ِر ِهَّللا َذِلَك ُهَدى ِهَّللا َيْه ِدي ِبِه َم ْن َيَشاُء َو َم ْن ُيْض ِلِل ُهَّللا َفَم ا َلُه ِم ْن َهاٍد}‬
‫[الزمر‪ :‬اآلية ‪ ،]23‬فكان القرآن أنيسه وجليسه ﷺ وربيع قلبه‪ ،‬ومائدته‪ ،‬وقّر ة عينه‪ ،‬معه لياًل‬
‫ونهاًر ا‪ِ ،‬ح اًل وترحااًل ‪ ،‬يقرؤه وهو راكب على داَّبته‪ ،‬كما قال عبدهللا بن ُم غفل(رضي هللا عنه)‪:‬‬
‫«َر َأْيُت َر سوَل هللا ﷺ َيوَم َفْتِح َم َّكَة على ناَقِتِه ‪ ،‬وهو َيْقَر ُأ ُسوَر َة الَفْتِح» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وقد ضمن هللا تعالى لنبّيه ﷺ أن ُيعينه على حفظ القرآن وعلى بيانه للّناس‪ ،‬فقال تعالى‪َ{ :‬ال‬
‫ُتَحِّر ْك ِبِه ِلَساَنَك ِلَتْعَج َل ِبِه * ِإَّن َعَلْيَنا َج ْم َعُه َو ُقْر آَنُه * َفِإَذا َقَر ْأَناُه َفاَّتِبْع ُقْر آَنُه * ُثَّم ِإَّن َعَلْيَنا َبَياَنُه}‬
‫[القيامة‪ :‬اآلية ‪.]19 - 16‬‬
‫وكان ﷺ إذا أقبل رمضان عظم اهتمامه بالقرآن كما قال عبدهللا بن عباس (رضي هللا عنهما)‬
‫‪« :‬كاَن ِج ْبِر يُل َيْلَقاُه في ُكِّل َلْيَلٍة ِم ن َر َم َض اَن ‪ ،‬فُيَداِر ُسُه الُقْر آَن » [رواه البخاري ومسلم]‪ ،‬وُسئلت أّم‬
‫المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪ :‬كيَف كانت قراءُتُه؟ أكاَن ُيِس ُّر بالقراءِة أم َيجَه ُر ؟‪ ،‬قاَلت‪:‬كُّل‬
‫ذِلك كاَن يفَعُل ‪ ،‬قد كاَن رَّبما أسَّر ‪ ،‬ورَّبما َجَه َر » [رواه أبو داود]‪ ،‬فكان ﷺ ُم يّسًر ا حتى في تالوته‪،‬‬
‫فرّبما جهر إذا وجد نشاًطا لذلك‪ ،‬ورّبما أسّر مراعاة للحال‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحّث المسلمين على تالوة القرآن وتدّبره‪ ،‬وينهى عن هجره‪ ،‬ويقول‪َ« :‬تعاَهُدوا‬
‫الُقْر آَن ‪َ ،‬فوالذي َنْفِسي بَيِدِه َو هل أَشُّد َتَفِّص ًيا (أي‪َ :‬تفُّلًتا) ِم َن اإلِبِل في ُعُقِلها» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ويحّث ﷺ على الّتزود من الّتالوة‪ ،‬وُيخبر أّن بكل حرف حسنة‪ ،‬والحسنة بعشر أمثالها‪،‬‬
‫فيقول ﷺ‪َ« :‬م ْن َقَر َأ َح ْر ًفا ِم ْن ِك َتاِب هللا َفَلُه ِبِه َحَسَنٌة‪َ ،‬و الَحَسَنُة ِبَعْش ِر َأْم َثاِلَه ا‪ ،‬اَل َأُقوُل ‪( :‬الم) َح ْر ٌف ‪،‬‬
‫َو َلِك ْن َأِلٌف َح ْر ٌف ‪َ ،‬و اَل ٌم َح ْر ٌف ‪َ ،‬و ِم يٌم َح ْر ٌف » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وقال ﷺ‪َ« :‬خ ْيُر ُكْم َم ن َتَعَّلَم الُقْر آَن وَعَّلَم ه» [رواه البخاري]‪ ،‬وهذه أعظم شهادة لحملة‬
‫القرآن ُيشّر فهم بها أصدق البشر‪ ،‬رسول الهدى ﷺ‪.‬‬
‫وقال عليه الّص الة والّسالم‪« :‬إَّن هللا َيْر َفُع بهذا الِك َتاِب َأْقَو اًم ا‪َ ،‬و َيَض ُع به آَخ ِر يَن » [رواه‬
‫مسلم]‪ ،‬ليس هناك إاّل االرتفاع أو االّتضاع‪ ،‬إّم ا أن ُيعمَل بالقرآن وُيّتبع فهناك العّز ة والّر فعة‪ ،‬وإّم ا‬
‫أن ُيعرض عنه وُيهمل فهي الذّلة والمهانة‪.‬‬
‫وكان ُيكّر م ﷺ أهل القرآن‪ ،‬ويوّقرهم‪ ،‬وُيشّر فهم‪ ،‬وُيقّر بهم منه‪ ،‬فَعْن َأَنِس ْبِن َم اِلٍك (رضي هللا‬
‫عنه)َقاَل ‪َ :‬قاَل َر ُسوُل هللا ﷺ‪ِ« :‬إَّن هلل َأْه ِليَن ِم َن الَّناِس ‪َ ،‬قاُلوا‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬م ْن ُهْم ؟‪َ ،‬قاَل ‪ُ« :‬هْم َأْه ُل‬
‫اْلُقْر آِن ‪َ ،‬أْه ُل هللا َو َخ اَّص ُتُه» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يقّدم أهل القرآن ويقول‪« :‬يؤُّم القوَم أقرُؤهم لكتاِب هللا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ولّم ا ُعرض عليه ﷺ ُشهداء ُأحد سأل‪ :‬أّيهم أكثر أخًذا للقرآن؟ فكان ُيقّدم األكثر حفًظا للقرآن‬
‫تجاه القبلة‪ ،‬فعن جابر بن عبدهللا (رضي هللا عنهما) ‪« :‬أَّن َر سوَل هللا ﷺ كاَن َيْج َمُع بْيَن الَّر ُج ل ِم ن‬
‫َقْتلى ُأُح ٍد في َثْو ٍب واِح ٍد‪ُ ،‬ثَّم يقوُل‪ :‬أُّيُه ْم أْك َثُر أْخ ًذا ِلْلُقْر آِن ؟ َفِإذا ُأِش يَر له إلى أَح ٍد َقَّد َم ُه في الَّلْح ِد»‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ أّن هللا يكّر م أهل القرآن في جناته ويرفع منزلتهم‪ ،‬فقال‪ُ« :‬يقاُل لصاِح ِب القرآِن اقرأ‬
‫وارَتِق ورِّتل كما كنَت ترِّتُل في الُّدنيا‪ ،‬فإَّن منزَلَك عنَد آخِر آيٍة تقرُؤها» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ونّو ه ﷺ بشرف أهل القرآن‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪« :‬بعث رسوُل هللا ﷺ‬
‫َبْعًثا‪ ،‬وهم ذو َعدٍد فاستقرأهم‪ ،‬فاستقرأ كَّل رجٍل منهم ما معه من القرآِن ‪ ،‬فأتى على رجٍل منهم من‬
‫َأحدِثهم ِس ًّنا‪ ،‬فقال‪ :‬ما معك يا فالُن ؟!‪ ،‬قال‪ :‬معي كذا وكذا‪ ،‬وسورُة البقرِة‪ ،‬قال‪ :‬أمعك سورُة‬
‫البقرِة؟!‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فاذهْب ‪ ،‬فأنت أميُر هم» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّن الّتنافس الّشريف والمسابقة الجليلة إّنما تكون في كتاب هللا تالوة وعماًل ‪ ،‬وهي‬
‫التي يغبط عليها صاحبها‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ال َحَسَد إاّل في اْثَنَتْيِن ‪َ :‬ر ُجٌل آتاُه هللا الُقْر آَن َفهو َيْتُلوُه آناَء‬
‫الَّلْيِل وآناَء الَّنهاِر ‪ ،‬وَر ُجٌل آتاُه هللا مااًل َفهو ُيْنِفُقُه آناَء الَّلْيِل وآناَء الَّنهاِر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وحّث ﷺ على بذل الجهد في إجادة تالوة القرآن على الوجه الذي يرضي هللا عّز وجل‪،‬‬
‫فقال‪« :‬اْلماِه ُر بالُقْر آِن مع الَّسَفَر ِة الِك راِم الَبَر رِة‪ ،‬والذي َيْقَر ُأ الُقْر آَن وَيَتَتْعَتُع ِفيِه ‪ ،‬وهو عليه شاٌّق ‪،‬‬
‫له أْج ران» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وبّشرنا ﷺ بقول الباري سبحانه‪ُ{ :‬قْل َنَّز َلُه ُر وُح اْلُقُدِس ِم ْن َر ِّبَك ِباْلَح ِّق ِلُيَثِّبَت اَّلِذيَن آَم ُنوا‬
‫َو ُهدًى َو ُبْش َر ى ِلْلُم ْسِلِم يَن } [النحل‪ :‬اآلية ‪ ،]102‬وذكر سبحانه هذه المّنة العظيمة في نزول الكتاب‬
‫العظيم على الّنبي الكريم فقال تعالى‪َ{ :‬أَو َلْم َيْك ِفِه ْم َأَّنا َأْنَز ْلَنا َعَلْيَك اْلِك َتاَب ُيْتَلى َعَلْيِه ْم ِإَّن ِفي َذِلَك‬
‫َلَر ْح َم ًة َو ِذ ْك َر ى ِلَقْو ٍم ُيْؤ ِم ُنوَن } [العنكبوت‪ :‬اآلية ‪.]51‬‬
‫لقد كان ُخ ُلقه ﷺ القرآن‪ ،‬كما وصفته أّم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) فقالت‪« :‬إَّن ُخ ُلَق‬
‫َنِبِّي هللا ﷺ كاَن الُقْر آَن » [رواه مسلم]‪ ،‬فتمّثل القرآن في شخصه الكريم ﷺ‪ ،‬وائتمر بأوامر القرآن‪،‬‬
‫وانتهى عن نواهي القرآن‪ ،‬وتأّدب بآداب القرآن‪ ،‬وتخّلق بأخالق القرآن‪.‬‬
‫كل خصلة جميلة في القرآن هي من آدابه وأخالقه ﷺ‪ ،‬فكان القرآن الحاكم على حياته‪،‬‬
‫وتصرفاته‪ ،‬ولحظاته‪ ،‬وحركاته‪ ،‬وسكناته‪.‬‬
‫لقد أحّل ﷺ حالل القرآن‪ ،‬وحّر م حرامه‪ ،‬وعمل بُم حكمه‪ ،‬وآمن بمتشابهه‪ ،‬وصّدق وعده‬
‫ووعيده‪ ،‬وبكى عند زواجره‪ ،‬واستبشر ببشائره‪ ،‬وأنس بقربه‪ ،‬وسعد بتالوته‪ ،‬فكان القرآن ربيع‬
‫قلبه‪ ،‬وقّر ة عينه‪ ،‬ولذة روحه‪ ،‬يتكلم بالقرآن‪ ،‬ويحكم بالقرآن‪ ،‬ويعظ بالقرآن‪ ،‬ويقص بالقرآن‪ ،‬ويفتي‬
‫بالقرآن؛ ألّنه كالم هللا الُم عجز المعصوم الذي قال عنه رّب العزة والجالل‪َ{ :‬ال َيْأِتيِه اْلَباِط ُل ِم ْن َبْيِن‬
‫َيَدْيِه َو َال ِم ْن َخ ْلِفِه َتْنِز يٌل ِم ْن َح ِك يٍم َح ِم يٍد} [فصلت‪ :‬اآلية ‪.]42‬‬
‫ولم يكن ﷺ له سوى كتاب واحد في صدره هو‪« :‬القرآن»‪ ،‬ليس عنده مكتبة‪ ،‬وال مصّنفات‪،‬‬
‫وال مجّلدات‪ ،‬وال مؤّلفات‪ ،‬وال رسائل‪ ،‬إّنما هذا الكتاب الُم عجز الُم قّدس الُم بارك‪ ،‬ولذلك قام ﷺ‬
‫بحقوق عبودية القرآن كّلها‪ ،‬فهو يتلوه حّق تالوته على الوجه الذي يحّبه هللا‪ ،‬ويتدّبره حق تدّبره على‬
‫ما يرضي رّبه تعالى‪ ،‬ويعّلمه الّناس كما أمره هللا بذلك‪ ،‬ويدعو إليه‪ ،‬ويستشفي به‪ ،‬وُيحّكمه في حياته‬
‫وحياة اُألّم ة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬ال َيْأِتيِه اْلَباِط ُل ِم ْن َبْيِن َيَدْيِه َو َال ِم ْن َخ ْلِفِه َتْنِز يٌل ِم ْن َح ِك يٍم َح ِم يٍد}‬
‫[المائدة‪ :‬اآلية ‪.]49‬‬
‫لقد أّدى الّنبي ﷺ حقوق القرآن كاملة ُم كّم لة‪ ،‬فكان القرآن الكريم الكتاب الوحيد مع الّنبي ﷺ‬
‫ومع أصحابه يوم فتحوا العقول‪ ،‬والقلوب‪ ،‬واألسماع‪ ،‬واألبصار‪ ،‬واألمصار‪ ،‬لقد دّكوا عروش‬
‫كسرى وقيصر بالقرآن‪ ،‬وفتحوا كنوز فارس والّر وم بالقرآن‪ ،‬وأّسسوا أعظم حضارة لإلنسان‬
‫بالقرآن‪ ،‬ونشروا العدل في العالم بالقرآن‪ ،‬وحرروا بالقرآن البشرّية من رّق الوثنّية وظلمة الجاهلّية‪.‬‬
‫ومن أعظم وصاياه ﷺ ألمته وصيته بالقرآن‪ ،‬قال طلحة بن مصرف‪َ :‬سَأْلُت َعْبَد هللا بَن أِبي‬
‫أْو َفى (رضي هللا عنهما) ‪« :‬آْو َص ى الّنبُّي ﷺ؟‪ ،‬فقاَل ‪ :‬ال‪َ ،‬فُقلُت ‪ :‬كيَف ُكِتَب عَلى الَّناِس الَو ِص َّيُة‬
‫وُأِم ُر وا بها وَلْم ُيوِص ؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬أْو َص ى بكِتاِب هللا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ودعا ﷺ للّتمسك بكتاب هللا واالعتصام به؛ ألّنه سفينة الّنجاة وقارب األمن فقال‪« :‬أنا تاِر ٌك‬
‫فيكم َثَقلْيِن ‪َ ،‬أَّو ُلهما كتاُب هللا‪ ،‬فيه الُه دى والّنوُر ‪ ،‬فُخ ذوا بكتاِب هللا‪ ،‬واسَتْم ِسكوا به» [رواه مسلم]‪،‬‬
‫وقال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا الَّناُس َقْد َج اَء ُكْم ُبْر َهاٌن ِم ْن َر ِّبُكْم َو َأْنَز ْلَنا ِإَلْيُكْم ُنوًر ا ُم ِبينًا * َفَأَّم ا اَّلِذيَن آَم ُنوا ِباِهَّلل‬
‫َو اْع َتَص ُم وا ِبِه َفَسُيْدِخ ُلُهْم ِفي َر ْح َم ٍة ِم ْنُه َو َفْض ٍل َو َيْه ِديِه ْم ِإَلْيِه ِص َر اًطا ُم ْس َتِقيًم ا} [النساء‪ :‬اآلية ‪.]174‬‬
‫وبّين ﷺ أّن كتاب هللا والعمل به والّتمسك به هو المخرج من الفتنة إذا حّلت باألمة كما في‬
‫حديث حذيفة (رضي هللا عنه) حين أخبره رسول هللا ﷺ بما سيحدث من اختالٍف وفرقة بعده‪ ،‬فقال‬
‫حذيفة‪« :‬يا رسول هللا! فما تأمُر ني إن أدركُت ذلك؟‪ ،‬قال‪ :‬يا حذيفُة تعَّلْم كتاَب هللا‪ ،‬واَّتبْع ما فيه‪.‬‬
‫(ثالَث مراٍت)» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫أّيها المؤمنون! عليكم بكتاب هللا عّز وجل تالوًة‪ ،‬وحفًظا‪ ،‬وتدّبًر ا‪ ،‬وعماًل ‪ ،‬واستشفاًء به‪،‬‬
‫وتحاكًم ا إليه‪ ،‬أّدوا حقوقه لُيخرج لكم كنوزه‪ ،‬وينثر لكم جواهره‪ ،‬ويفتح لكم بإذن هللا أبواب الخير‬
‫والّسعادة‪ ،‬واألمن والّسالم‪ ،‬والّتوفيق والّنجاح‪ ،‬ارتحلوا مع القرآن‪ ،‬واجعلوه جليسكم وأنيسكم‪ ،‬رّتلوه‬
‫في صلواتكم‪ ،‬وتهّج دوا به‪ ،‬وتغّنوا بآياته‪ ،‬وقفوا عند روائعه‪ ،‬وامتثلوا أمره‪ ،‬واجتنبوا نهيه‪ُ ،‬يحّص نكم‬
‫هللا به من كل داء‪ ،‬ويحفظكم به من كّل بالء‪.‬‬
‫وتذّكروا أّن لكم بكل حرٍف عشر حسنات‪ ،‬وأّنكم ُتناجون رّبكم بهذا الكالم الُم بارك‪ ،‬وما ُتُعِّبَد‬
‫هلل بأفضل من قراءة كالمه والعمل به‪.‬‬
‫جعلنا هللا وإّياكم مّم ن تال القرآن حّق تالوته‪ ،‬وتدّبره حّق تدّبره‪ ،‬وعمل به حّق عمله‪ ،‬وجعله‬
‫شفيًعا لنا يوم العرض‪ ،‬وشاهًدا لنا ال علينا‪ ،‬ويّسر به حسابنا‪ ،‬ويّم ن به كتابنا‪ ،‬وغفر به ذنوبنا‪،‬‬
‫وأصلح به عيوبنا‪ ،‬وأنار به قلوبنا‪ ،‬وأعاننا وإياكم على ذكره‪ ،‬وشكره‪ ،‬وُح سن عبادته‪ ،‬وصّلى هللا‬
‫وسّلم وبارك على َم ْن بعثه هللا بالقرآن‪ ،‬ورزقنا جواره في جّنات الّر ضوان‪.‬‬
‫مسعتك اي قرآن والّليل واجم‬
‫سريت هتّز الكون سبحان من أسَرى‬
‫فتحَنا بك الّد نيا فأشرَق نورها‬
‫وسران على األفالك منلؤها ذكرا‬
‫فسبحان من أوحى إىل خري خلقه‬
‫ومفتاح علم املصطفى كان يف(إِقَرا)‬
‫تاَل يف الّد جى آايتِه متدبًرا‬
‫وقام به يف الّناس ميلؤهم ُطهَرا‬
‫حممد ﷺ َذاِكًرا‬
‫ُيذّكرك ُكّل شيء في شمائله الّطاهرة‪ ،‬وسيرته العطرة‪ ،‬وأقواله وأفعاله ﷺ بذكر هللا تعالى‪،‬‬
‫فَم ن رآه ذكر هللا؛ ألّنه رسول هللا‪ ،‬وخليل هللا‪.‬‬
‫وهو أفضل الّذاكرين إلى يوم الّدين‪ ،‬وأعرف الّناس برّبه‪ ،‬وأعلمهم بمواله‪ ،‬فكان ذكُر ه ذكَر‬
‫ُم حٍّب عارٍف ‪ُ ،‬م خبٍت ُم نيٍب‪.‬‬
‫وهو الذي أتى بالّذكر‪ ،‬ونزل عليه‪ ،‬وهو أّو ل العاملين به‪ ،‬والُم بّلغين له‪ .‬وهو صاحب المحل‬
‫األسمى والّدرجة الُعليا في ذكر هللا تعالى‪.‬‬
‫أتى ﷺ بتعاليم الّذكر‪ ،‬وعّلم األمة كيف يذكرون هللا فيسبحون ويحمدون ويكبرون ويهللون‬
‫ويدعون‪ ،‬وكل ذاكر إلى يوم القيامة فإمامه رسول الُه دى ﷺ‪.‬‬
‫ذكر ﷺ رّبه بقلبه‪ ،‬فكان أطهر قلب ينبعث منه تقديس الباري‪ ،‬وذكر خالقه بروحه فكانت‬
‫أنقى روح تنطلق منها الّتسبيحات الُم باركات‪ ،‬وذكر مواله بلسانه فكان أبّر لسان وأصدق لسان تلّفظ‬
‫بتسبيح الواحد الّديان‪.‬‬
‫وماذا عساي أن أقول هنا؟ وبأي قلم أكتب؟ وبأي يٍد أخّط؟ وبأي فكر أملي؟! تتوقف هنا‬
‫عباراتي‪ ،‬وتتلعثم كلماتي‪ ،‬لعظمة مشهده ﷺ وهو ذاكر لرّبه‪ ،‬بعدما طالعُت نصوص الوحي كتاًبا‬
‫وسنة‪ ،‬وقرأُت هديه في األدعية واألذكار‪ ،‬باستمرار الّليل والّنهار‪ ،‬في اإلقامة واألسفار‪.‬‬
‫فهو الذي عّلم أّم ته ذكر خالقهم‪ ،‬وحّبب إليهم االسم األعظم (هللا)‪ ،‬فصار أطهر اسم تتلّفظ به‬
‫األفواه‪ ،‬وأقدس كلمة تدور على األلسنة‪ ،‬وأشرف عبارة تهتّز لها القلوب‪.‬‬
‫كانت صالته ﷺ وصيامه‪ ،‬وصدقته‪ ،‬وحجه‪ ،‬وتالوته‪ ،‬وصمته ونطقه‪ ،‬وسّر ه وعالنيته‪،‬‬
‫ولحظه ولفظه‪ ،‬وقيامه وقعوده‪ ،‬ويقظته ونومه‪ ،‬وطعامه وشرابه‪ ،‬وخطبه ومواعظه‪ ،‬وأمره ونهيه‪،‬‬
‫وكّل شأن من شؤون حياته ذكٌر هلل تعالى‪ ،‬بل كل عبارة تلّفظ بها‪ ،‬أو جملة قالها‪ ،‬أو حرف نطق به‬
‫فإّنما هو تقديس لمواله‪ ،‬أو تسبيح لخالقه‪ ،‬أو حمد للُم نعم سبحانه‪ ،‬أو تكبير وتعظيم له جّل شأنه‪ ،‬أو‬
‫داللة على طاعته‪ ،‬أو دعوة إلى توحيده وإرشاد إلى دينه‪ ،‬أو تحذير من معصيته‪ ،‬أو ترغيب في‬
‫جنته‪ ،‬أو ترهيب من ناره‪.‬‬
‫فصار كّل حديثه ﷺ ذكًر ا هلل‪ ،‬وكّل كالمه تسبيًح ا لمواله‪ ،‬تقول أّم المؤمنين َعاِئَشَة (رضي‬
‫هللا عنها) ‪َ« :‬كاَن الَّنِبُّي ﷺ َيْذُكُر هللا َعَلى ُكِّل َأْح َياِنِه » [رواه مسلم]‪ ،‬فكان ﷺ يذكر هللا دائًم ا وأبًدا‪،‬‬
‫قائًم ا‪ ،‬وقاعًدا‪ ،‬وعلى جنبه‪ ،‬في كل زمان ومكان‪:‬‬
‫ذكَر اإللَه فصّد قته دموعُه‬
‫أنفاسه ذكٌر ومهُس‬
‫أنينِه‬
‫وقيامُه وسجودُه وركوعُه‬
‫هتتُّز من خوف العظيِم ضلوعُه‬
‫وكان لذكره ﷺ صوٌر كثيرة سنعيش معها في هذا الفصل‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫تسبيحه ﷺ‪:‬‬
‫الّتسبيح هو تقديس هللا تبارك وتعالى وتنزيهه عن كّل ما ال يليق به جّل في عاله‪ ،‬فمعنى‪:‬‬
‫«سبحان هللا»‪ ،‬أي‪ُ :‬أنّز ه هللا وُأقّدسه عن كّل شريك أو نديد أو صاحبة أو ولد أو أّي وصف ال يليق‬
‫بذاته الُم قّدسة‪.‬‬
‫وصّح عنه ﷺ أّنه سّبح رّبه بصيغ عديدة منها قوله‪« :‬سبحان هللا»‪ ،‬و«سبحان هللا‬
‫وبحمده»‪ ،‬و«سبحان هللا العظيم وبحمده»‪ ،‬و«سبحان هللا وبحمده سبحان هللا العظيم»‪ ،‬و«ُسْبحاَن‬
‫هللا َو ِبَح ْم ِدِه ‪َ ،‬عَدَد َخ ْلِقِه ‪َ ،‬و ِر ضا َنْفِسِه ‪َ ،‬و ِز َنَة َعْر ِشِه ‪َ ،‬و ِم داَد َكِلماِتِه » [رواه مسلم]‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫صيغ الّتسبيح وأنواعه‪.‬‬
‫وأّم ا أجور الّتسبيح فقد بّشرنا بها ﷺ‪ ،‬وذكرها في أحاديث كثيرة‪ ،‬ومن ُيطالع هذه األجور‪،‬‬
‫ويقرأ هذا الّثواب تزداد عزيمته‪ ،‬وتقوى هّم ته على كثرة الّتسبيح‪ ،‬فعن سعد ابن أبي وقاص (رضي‬
‫هللا عنه) قال‪ُ :‬كَّنا ِع ْنَد َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فقاَل ‪َ« :‬أَيْعِج ُز َأَح ُدُكْم َأْن َيْك ِس َب ‪ُ ،‬كَّل َيوٍم َأْلَف َحَسَنٍة؟ َفَسَأَلُه‬
‫َساِئٌل ِم ن ُج َلَساِئِه ‪ :‬كيَف َيْك ِس ُب َأَح ُدَنا َأْلَف َحَسَنٍة؟ قاَل ‪ُ :‬يَسِّبُح ِم َئَة َتْس ِبيَح ٍة‪ ،‬فُيْكَتُب له َأْلُف َحَسَنٍة‪َ ،‬أْو‬
‫ُيَح ُّْط عْنه َأْلُف َخ ِط يَئٍة» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وفي «الّص حيحين» عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬م ن قاَل ‪ُ :‬سْبحاَن هللا َو ِبَح ْم ِدِه ‪ ،‬في َيوٍم ِم َئَة َمَّر ٍة ُح َّطْت‬
‫َخ طاياُه ولو كاَنْت ِم ْثَل َز َبِد الَبْح ِر »‪ ،‬وفي الّترمذي عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬م ن قاَل ‪ُ :‬سبحاَن هللا العظيِم‬
‫وبحمِدِه ‪ُ ،‬غِر َست َلُه َنخلٌة في الجَّنِة »‪ ،‬وقال ﷺ‪َ« :‬كِلَم تاِن َخ ِفيَفتاِن عَلى الِّلساِن ‪َ ،‬ثِقيَلتاِن في‬
‫الِم يزاِن ‪َ ،‬ح ِبيَبتاِن إلى الَّر ْح َم ِن ‪ُ ،‬سْبحاَن هللا وِبَح ْم ِدِه ‪ُ ،‬سْبحاَن هللا الَعِظ يِم » [ُم تفق عليه]‪ ،‬وعن‬
‫جويرية بنت الحارث (رضي هللا عنها) أَّن النبَّي ﷺ َخ َر َج ِم ن ِعنِد َها ُبْك َر ًة ِح يَن َص َّلى الُّصْبَح‪َ ،‬و هي‬
‫في َم ْس ِج ِد َها‪ُ ،‬ثَّم َر َجَع َبْعَد َأْن َأْض َح ى‪َ ،‬و هي َج اِلَسٌة‪َ ،‬فقاَل ‪« :‬ما ِز ْلِت على الحاِل اَّلتي فاَر ْقُتِك‬
‫َعَلْيها؟‪ ،‬قاَلْت ‪َ :‬نَعْم ‪ ،‬قاَل النبُّي ﷺ‪ :‬لَقْد ُقلُت َبْعَد ِك َأْر َبَع َكِلماٍت‪َ ،‬ثالَث َمّر اٍت‪ ،‬لو ُو ِز َنْت بما ُقْلِت ُم ْنُذ‬
‫الَيوِم َلَو َز َنْتُه َّن ‪ُ« :‬سْبحاَن هللا َو ِبَح ْم ِدِه ‪َ ،‬عَدَد َخ ْلِقِه ‪َ ،‬و ِر ضا َنْفِسِه ‪َ ،‬و ِز َنَة َعْر ِشِه ‪َ ،‬و ِم داَد َكِلماِتِه »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫«سبحان هللا» هي أّو ل الكلمات األربع‪ ،‬ألّن الّتخلية قبل الّتحلية‪ ،‬والّتنزيه قبل المدح‪ ،‬فُتقّدم‬
‫«ُسبحان هللا»‪ ،‬ثم يأتي بعدها الحمد لُيضاف الّنفي واإلثبات فُينفى عن هللا عّز وجل كل نقص‪ ،‬وُيثبت‬
‫له كّل كمال؛ ولذلك ُقرن الّتسبيح والّتحميد بسبحان هللا وبحمده‪ ،‬وُقرنت أحيانا بـ«ُسْبحاَن هللا‬
‫وِبَح ْم ِدِه ‪ُ ،‬سْبحاَن هللا الَعِظ يِم »‪.‬‬
‫وأكثر كلمة وردت في الكتاب والُّسنة هي كلمة التسبيح‪ ،‬وردت بالماضي‪َ« :‬سَّبح»‪،‬‬
‫والُم ضارع‪ُ« :‬يسّبح»‪ ،‬واألمر‪َ« :‬سِّبح»‪ ،‬والمصدر‪« :‬تسبيح» و«ُسْبَح اَن »‪ ،‬ولم يرد في أّي نوع‬
‫من أنواع الّذكر ما ورد في الّتسبيح‪ ،‬بل أخبر ﷺ أّن الكون كّله ُيسّبح كما قال هللا تعالى‪ُ{ :‬تَسِّبُح َلُه‬
‫الَّسَم اَو اُت الَّسْبُع َو اَألْر ُض َو َم ْن ِفيِه َّن َو ِإْن ِم ْن َشْي ٍء ِإَّال ُيَسِّبُح ِبَح ْم ِدِه َو َلِك ْن َال َتْفَقُه وَن َتْس ِبيَحُهْم ِإَّنُه‬
‫َكاَن َح ِليًم ا َغُفوًر ا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]44‬فالكائنات كّلها ُتسّبح باريها‪ ،‬والكون كّله ُيسّبح خالقه‪ ،‬وقد‬
‫روى ُم سلم عن أبي ذر أَّن َر ُسوَل هللا ﷺ ُسِئَل ‪َ:‬أُّي الَكالِم َأْفَض ُل ؟‪ ،‬قاَل ‪ :‬ما اْص َطفى هللا َلِم الِئَكِتِه ‪َ ،‬أْو‬
‫ِلِع باِدِه ‪ُ« :‬سْبحاَن هللا َو ِبَح ْم ِدِه »‪.‬‬
‫وأخبرنا ﷺ أّن كّل مخلوق ُيسّبح كما قال تعالى‪َ{ :‬أَلْم َتَر َأَّن َهَّللا ُيَسِّبُح َلُه َم ْن ِفي الَّسَم اَو اِت‬
‫َو اَألْر ِض َو الَّطْيُر َص آَّفاٍت ُكٌّل َقْد َعِلَم َص َالَتُه َو َتْس ِبيَح ُه َو ُهَّللا َعِليٌم ِبَم ا َيْفَعُلوَن } [النور‪ :‬اآلية ‪،]41‬‬
‫فلكل كائن صالة تخّص ه‪ ،‬هللا أعلم بها جّل في عاله‪.‬‬
‫وقد روى أحمد في «مسنده»‪ ،‬والنسائي في «الكبرى» أّن نوًح ا عليه السالم قال البنه‪:‬‬
‫«أوصيك بسبحاَن هللا وبحمِده‪ ،‬فأّنها صالُة الخلِق ‪ ،‬وبهما ُيرزُق الخلُق »‪َ{ ،‬و ِإْن ِم ْن َشْي ٍء ِإَّال ُيَسِّبُح‬
‫ِبَح ْم ِدِه َو َلِك ْن َال َتْفَقُه وَن َتْس ِبيَحُهْم ِإَّنُه َكاَن َح ِليًم ا َغُفوًر ا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ .]44‬وأعظم عمل للمالئكة‬
‫هو الّتسبيح‪ ،‬قال تعالى‪ُ{ :‬يَسِّبُح وَن الَّلْيَل َو الَّنَه اَر َال َيْفُتُر وَن } [األنبياء‪ :‬اآلية ‪ ،]20‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫{َو َتَر ى اْلَم َالِئَكَة َح آِّفيَن ِم ْن َحْو ِل اْلَعْر ِش ُيَسِّبُح وَن ِبَح ْم ِد َر ِّبِه ْم } [الزمر‪ :‬اآلية ‪ ،]75‬فذكر سبحانه‬
‫أجّل عباداتهم‪ ،‬وأعظم طاعاتهم‪ ،‬وتوّسلوا له ُسبحانه بأعظم عمل يعملونه‪ ،‬وأجّل طاعة يتقربون بها‬
‫إليه‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و ِإْذ َقاَل َر ُّبَك ِلْلَم َالِئَكِة ِإِّني َج اِع ٌل ِفي اَألْر ِض َخ ِليَفًة َقاُلوا َأَتْج َعُل ِفيَه ا َم ْن ُيْفِسُد‬
‫ِفيَه ا َو َيْسِفُك الِّد َم اَء َو َنْح ُن ُنَسِّبُح ِبَح ْم ِدَك َو ُنَقِّد ُس َلَك } [البقرة‪ :‬اآلية ‪.]30‬‬
‫وأخبرنا ﷺ أّن رّب العالمين نّز ه نفسه ُسبحانه في مواطن كثيرة‪ ،‬فقال تعالى‪ُ{ :‬سْبَح اَن ِهَّللا‬
‫َو َتَعاَلى َعَّم ا ُيْش ِر ُكوَن } [القصص‪ :‬اآلية ‪ ،]68‬فعند ذكر اتخاذ الّنديد أو الّشريك أو إضافة الّص احبة‬
‫هلل أو الولد‪ ،‬أو وصٍف ال يليق به تقّدس وتبارك ُيذكر الّتنزيه والتسبيح‪ ،‬فكأّن الُم سّبح يقول‪ُ :‬أنّز هك يا‬
‫رّبي وُأقّدسك عن هذه جميًعا وُأثبت لك صفات الكمال‪ ،‬والجمال‪ ،‬والجالل‪.‬‬
‫مواطن تسبيحه ﷺ‪:‬‬
‫كان رسوُل هللا ﷺ إذا استفتح الَّص الَة قال‪ُ« :‬سبحاَنك اللهَّم وبَح ْم ِدك‪ ،‬وتباَر ك اسُم ك‪ ،‬وتعالى‬
‫َج ُّدك‪ ،‬وال إلَه َغيُر ك» [رواه أبو داود]‪ ،‬وإذا مّر بآية فيها تسبيح سّبح ﷺ‪ ،‬مثل قوله تعالى‪َ( :‬سِّبح) أو‬
‫(َسَّبح) أو (ُيَسِّبح) وفي ركوعه يقول‪« :‬سبحان ربي العظيم»‪ ،‬وفي سجوده يقول‪ُ« :‬سبحان رّبي‬
‫األعلى»‪ ،‬وُيسّبح أدبار الّص لوات فيقول‪« :‬سبحان هللا» ثالًثا وثالثين مرة‪ ،‬وكان يقول ﷺ في‬
‫ركوعه وسجوده‪ُ« :‬سُّبوٌح ُقُّدوٌس َر ُّب الَم الِئَكِة والُّر وِح» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فانظر كيف جمع ﷺ بين الّتنزيه وبين الّثناء والمدح‪ ،‬ليكون التسبيح كاماًل ‪ ،‬فنّز ه هللا تعالى‬
‫وقّدسه وأثبت له تمام القدسّية‪ ،‬وهي الّطهارة والعظمة والّر بوبية وُم نتهى القدرة والّتدبير‪.‬‬
‫وقال ﷺ في لفظ آخر‪« :‬سبحاَن ذي الجبروِت والمَلكوِت واْلكبرياِء والعظمِة » [رواه‬
‫النسائي]‪ ،‬فنّز ه هللا عّم ا ال يليق به‪ ،‬وأثبت له الجبروت؛ وهو تمام القوة والّسلطان‪ ،‬وأثبت له‬
‫الملكوت؛ وهو عّز ة الُم لك وعظيم الوالية‪ ،‬وأثبت له الكبرياء؛ وهو علو الّشأن والعظمة‪.‬‬
‫وكان عليه الّص الة والّسالم يحرص على الّتسبيح في نهاية المجلس ويقول‪« :‬من جلس في‬
‫مجلٍس فكُثَر فيه َلغُطه فقال قبل أن يقوَم من مجلِسه ذلك‪ :‬سبحانك اللهَّم وبحمدك أشهُد أن ال إله إاّل‬
‫أنت أستغفُر ك وأتوُب إليك؛ إاّل ُغِفَر له ما كان في مجلِسه ذلك» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وعند ضيق الّص در‪ ،‬وترادف الهّم ‪ ،‬وحصول الكرب؛ أرشد هللا نبّيه إلى الّتسبيح‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫{َو َلَقْد َنْعَلُم َأَّنَك َيِض يُق َص ْدُر َك ِبَم ا َيُقوُلوَن * َفَسِّبْح ِبَح ْم ِد َر ِّبَك َو ُكْن ِم َن الَّساِج ِديَن } [الحجر‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،.]98 - 97‬وقال سبحانه‪َ{ :‬فاْص ِبْر َعَلى َم ا َيُقوُلوَن َو َسِّبْح ِبَح ْم ِد َر ِّبَك َقْبَل ُطُلوِع الَّشْم ِس َو َقْبَل‬
‫اْلُغُر وِب * َو ِم َن الَّلْيِل َفَسِّبْح ُه َو َأْدَباَر الُّسُج وِد} [ق‪ :‬اآلية ‪.]40 - 39‬‬
‫فالّتسبيح من أنفع األدوية إلزالة الهموم والغموم وذهاب األحزان‪ .‬يقول تعالى عن نبّيه يونس‬
‫عليه السالم‪َ{ :‬فَلْو َال َأَّنُه َكاَن ِم َن اْلُمَسِّبِح يَن * َلَلِبَث ِفي َبْط ِنِه ِإَلى َيْو ِم ُيْبَعُثوَن } [الصافات‪ :‬اآلية ‪143‬‬
‫ ‪ ،]144‬فبالّتسبيح نّج اه هللا‪ ،‬وبالّتسبيح أنقذه هللا‪ ،‬وبالّتسبيح رضي هللا عنه‪ ،‬كان من الُم سبحين في‬‫الّر خاء فحفظه هللا في الّشدة؛ ولما وقع في الكرب سّبح رّبه‪ ،‬فمّد له حبل الّنجاة واستنقذه من الهالك‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا هبط في سفره من جبل أو مكان عال سّبح‪ ،‬كما جاء في الّص حيح عن جابر‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪ُ« :‬كَّنا إَذا َصِع ْد َنا َكَّبْر َنا‪ ،‬وإَذا نزلنا َسَّبْح َنا» [رواه البخاري]‪ .‬والمقصود أّنهم‬
‫كانوا إذا صعدوا الجبال كّبروا هللا؛ ألّنهم إذا ارتفعوا ذكروا العلو واالرتفاع فناسب أن ُيمّج دوا هللا‬
‫بأّن له الّر فعة والمجد سبحانه حتى يتواضع من يرتفع على الجبل‪ ،‬وإذا هبطوا تذّكروا االنخفاض‬
‫والّدنو ونّز هوا هللا عن ذلك وأثبتوا له الّر فعة والمجد ُسبحانه‪.‬‬
‫وأمر هللا تعالى نبّيه عليه الّص الة والّسالم بالّتسبيح عند ذكر ما ال يليق‪ ،‬كما سأل المشركون‬
‫أن يكون الّنبي َم لًكا من عند هللا وليس بشًر ا‪ ،‬فقال تعالى‪ُ{ :‬قْل ُسْبَح اَن َر ِّبي َهْل ُكْنُت ِإَّال َبَشًر ا‬
‫َر ُسوًال} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]93‬وكان ُيسّبح ﷺ عند التعّج ب واألمر الُم فرح‪ ،‬فيقول‪« :‬سبحان هللا»!‬
‫وفي رواية‪« :‬هللا أكبر»‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا رأى آيًة عظيمة سّبح كما في حديث أّم سلمة أّنه قال‪ُ« :‬سْبحاَن هللا‪ ،‬ماذا ُأْنِز َل‬
‫الَّلْيَلَة ِم َن الِفَتِن !؟ وماذا ُفِتَح ِم َن الَخ زاِئِن ‪ ،‬أْيِقُظوا َص واِح باِت الُحَج ِر ‪َ ،‬فُر َّب كاِسَيٍة في الُّد ْنيا عاِر َيٍة‬
‫في اآلِخ َر ِة» [رواه البخاري]؛ ولهذا أتى الّتسبيح في القرآن في مواطن‪ ،‬منها عند ذكر المعجزة‪،‬‬
‫مثل معجزة اإلسراء والمعراج؛ ألّنها ُم بهرة للعقول‪ ،‬فقال تعالى‪ُ{ :‬سْبَح اَن اَّلِذي َأْس َر ى ِبَعْبِدِه َلْيًال ِم َن‬
‫اْلَم ْس ِج ِد اْلَحَر اِم ِإَلى اْلَم ْس ِج ِد اَألْقَص ى} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬وأتى في نفي كّل وصف ال يليق باهلل‬
‫فقال سبحانه‪ُ{ :‬سْبَح اَن َر ِّبَك َر ِّب اْلِع َّز ِة َعَّم ا َيِص ُفوَن } [الصافات‪ :‬اآلية ‪ ،]180‬وكان ُيسّبح ﷺ بهذه‬
‫اآليات من آخر سورة آل عمران إذا نظر في األفق متفكًر ا متأماًل في الكون‪ ،‬وفي بديع الّص نع‬
‫وجالل القدرة‪ ،‬ويقول‪َ{ :‬ر َّبَنا َم ا َخ َلْقَت َهَذا َباِط ًال ُسْبَح اَنَك َفِقَنا َعَذاَب الَّناِر } [آل عمران‪ :‬اآلية‬
‫‪.]191‬‬
‫وعند ركوبه للّدابة كان ُيسّبح ﷺ ويقول‪ُ« :‬سْبحاَن الذي َسَّخ َر َلنا هذا‪َ ،‬و ما ُكّنا له ُم ْقِر ِنيَن »‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫وبعد أن ينتهي من وتره ﷺ كان ُيسبح هللا‪ ،‬ويقول‪ُ« :‬سبحاَن المِلِك القُّدوِس !» ثالَث مّر اٍت‪.‬‬
‫[رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكان أكثر تسبيحه ﷺ في الّص باح والمساء‪ ،‬وعند الّشروق والغروب كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َفُسْبَح اَن ِهَّللا ِح يَن ُتْم ُسوَن َو ِح يَن ُتْص ِبُح وَن } [الروم‪ :‬اآلية ‪.]17‬‬
‫والّظاهر مقصود الّتسبيح هنا أّن في إقبال الّنهار وإدبار الّليل جالل عظمة الباري‪ ،‬وبديع‬
‫صنعه حيث ُيقبل الّضوء وُيدبر الّظالم‪ ،‬ثم ُيدبر الّضوء وُيقبل الظالم‪ ،‬في مشهد ُم دهش عجيب يدل‬
‫على عظمة الخالق جّل في عاله‪.‬‬
‫وصّح عنه ﷺ أّنه أرشد إلى قول‪« :‬سبحان هللا وبحمده» مئة مرة في الصباح‪ ،‬ومئة مرة في‬
‫المساء‪ ،‬وقبل نومه يقول‪ُ« :‬سبحان هللا» ثالًثا وثالثين مرة‪ ،‬مع باقي أذكار الّنوم‪.‬‬
‫إذا سّبحت هللا أسقط عنك الّذنوب‪ ،‬وطّه رك من العيوب‪ ،‬ألّنك بتسبيحك له تنزهه عن‬
‫الّنقائص‪ ،‬وتنفي عنه المعايب‪ ،‬والجزاء من جنس العمل‪ ،‬فكما قّدست ذاته ُيطّه ر ذاتك من الخطايا‪،‬‬
‫حتى في جنات الّنعيم ‪ -‬وقد ُر فع قلم الّتكليف عن العباد ‪ -‬يبقى الّتسبيح مع أولياء هللا في دار الخلد‪،‬‬
‫ولو لم يكن إاّل هذا شرًفا للذاكرين لكفى به شرًفا‪ ،‬وأُّي شرف! قال تعالى‪َ{ :‬دْع َو اُهْم ِفيَه ا ُسْبَح اَنَك‬
‫الَّلُهَّم } [يونس‪ :‬اآلية ‪.]10‬‬
‫تسبيح خالقِه يطوُف ببالِه‬
‫وبقولِه وحبالِه وفعالِه‬
‫بحانك الّله ِع ط حديثِه‬
‫ُس‬
‫َم ُر‬
‫مد ا خلالقِه و سن جاللِه‬
‫ُح‬
‫ًح‬
‫حتميده ﷺ‪:‬‬
‫ومعنى «الحمد هلل»‪ُ :‬أثني على هللا بآالئه‪ ،‬وأشكره على إحسانه وَنعمائه‪ ،‬وقد عّلمنا رسولنا‬
‫ﷺ صيًغا في الحمد منها‪« :‬الحمد هلل»‪ ،‬و«الحمد هلل رب العالمين»‪ ،‬و«الحمد هلل حمًدا كثيًر ا طيًبا‬
‫ُم بارًكا فيه»‪ ،‬و«يا رب لك الحمد كما ينبغي لجالل وجهك وعظيم سلطانك»‪ ،‬و«الحمُد هلل عدَد ما‬
‫خلق‪ ،‬الحمُد هلل ِم ْل َء ما خلق‪ ،‬الحمُد هلل عدَد ما في السماواِت وما في األرِض ‪ ،‬الحمُد هلل عدَد ما‬
‫أحصى كتاُبه‪ ،‬والحمُد هلل عَدَد كِّل شيٍء ‪ ،‬والحمُد هلل ِم ْل ُء كِّل شيٍء »‪ ،‬وغيرها من صيغ الحمد‬
‫الكثيرة التي كان يقولها ﷺ‪.‬‬
‫وقد ذكر ﷺ أجوًر ا كثيرة على الحمد‪ ،‬ومنها ما جاء في «صحيح ُم سلم» أّنه قال‪« :‬واْلَح ْم ُد‬
‫هلل َتْم ُأل الِم يزاَن »‪ ،‬وصّح عنه عليه الّص الة والّسالم أّنه قال‪« :‬أفضُل الُّدعاِء الحمُد هلل» [رواه ابن‬
‫حّبان]‪.‬‬
‫وقرن ﷺ رضا هللا بحمد العبد‪ ،‬فقال‪« :‬إَّن َهللا َلَيْر َض ى َعِن الَعْبِد َأْن َيْأُكَل األْك َلَة َفَيْح َم َد ُه‬
‫َعَلْيَه ا‪َ ،‬أْو َيْش َر َب الَّشْر َبَة َفَيْح َم َد ُه َعَلْيَه ا» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وسّر احلمد أّنه أييت يف أحد أمرين‪:‬‬
‫إّم ا عند ذكر جالل هللا وأسمائه وصفاته وعظمته وعلّو شأنه‪ ،‬فُيحمد على األسماء الحسنى‬
‫والصفات الُعلى‪ ،‬أو يأتي الحمد على ذكر الّنعم الجزيلة واآليات الجليلة منه جّل في عاله‪ ،‬فهو‬
‫محمود على اإلحسان‪ ،‬ومحمود على عظيم الّشأن‪.‬‬
‫وقد ُذكر حمد هللا في مواطن كثيرة من القرآن‪ ،‬فُح مد سبحانه على إنزال الوحي الذي هو‬
‫رحمة للعالمين‪ ،‬فقال تعالى في أّو ل سورة الفاتحة‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َر ِّب اْلَعاَلِم يَن } ‪ ،‬وُح مد على إبداع‬
‫خلق السماوات واألرض‪ ،‬فقال سبحانه‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َفاِط ِر الَّسَم اَو اِت َو اَألْر ِض } [فاطر‪ :‬اآلية ‪،]1‬‬
‫وُح مد على بركة القرآن فقال تعالى‪ُ{ :‬سْبَح اَن اَّلِذي َأْس َر ى ِبَعْبِدِه َلْيًال ِم َن اْلَم ْس ِج ِد اْلَحَر اِم ِإَلى اْلَم ْس ِج ِد‬
‫اَألْقَص ى} [الكهف‪ :‬اآلية ‪ ،،]1‬وُح مد سبحانه أن سخر الُفلك لعباده فقال لنبّيه نوح عليه الّسالم‪َ{ :‬فِإَذا‬
‫اْس َتَو ْيَت َأْنَت َو َم ْن َمَعَك َعَلى اْلُفْلِك َفُقِل اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َنَّج اَنا ِم َن اْلَقْو ِم الَّظاِلِم يَن } [المؤمنون‪ :‬اآلية‬
‫‪ ،]28‬وذكر سبحانه وتعالى حمد نبيْيِه داود وسليمان عليهما الّسالم على العلم والّتفضيل على الّناس‪،‬‬
‫فقال تعالى‪َ{ :‬و َلَقْد آَتْيَنا َداُو وَد َو ُسَلْيَم اَن ِع ْلًم ا َو َقاَال اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َفَّض َلَنا َعَلى َكِثيٍر ِم ْن ِع َباِدِه‬
‫اْلُم ْؤ ِم ِنيَن } [النمل‪ :‬اآلية ‪.]15‬‬
‫مواطن حتميده ﷺ‪:‬‬
‫سّن لنا رسولنا ﷺ حمد هللا عند االنتهاء من الطعام والّشراب؛ ألّنها نعمة ُيشكر عليها هللا جّل‬
‫في ُعاله‪ ،‬فعن أبي أمامة الباهلي(رضي هللا عنه)‪« :‬أَّن النبَّي ﷺ كاَن إَذا َر َفَع َم اِئَد َتُه‪ ،‬قاَل ‪ :‬الَح ْم ُد هلل‬
‫َكِثيًر ا َطِّيًبا ُم َباَر ًكا ِفيِه ‪ ،‬غيَر َم ْك ِفٍّي وُمَو َّد ٍع وُم ْس َتْغًنى عْنه َر َّبَنا» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وعند االستيقاظ من الّنوم ُيسّن حمد هللا؛ ألّن إعادة الّر وح إلى النائم من الّنعم الجليلة التي‬
‫ُيحمد عليها الُم نعم سبحانه‪ ،‬وهبة الحياة ليوم جديد نعمة من هللا ال بد أن ُيشكر عليها ُسبحانه‪ ،‬فعن‬
‫أبي ذر الغفاري(رضي هللا عنه) قال‪ :‬كاَن النبُّي ﷺ إذا أَخ َذ َم ْض َج َعُه ِم َن الَّلْيِل ‪ ،‬قاَل ‪« :‬اللهَّم باْسِم َك‬
‫أُم وُت وَأْح يا»‪ ،‬فإذا اْس َتْيَقَظ‪ ،‬قاَل ‪« :‬الَح ْم ُد هلل الذي أْح يانا َبْعَد ما أماَتنا وإَلْيِه الُّنُشوُر » [رواه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫وعند انتباه الّنائم في الّليل عليه أن يحمد رّبه‪ ،‬ففي «صحيح البخاري» عن عبادة ابن‬
‫الصامت (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال الّنبُّي ﷺ‪َ« :‬م ن َتعاَّر «أي‪ :‬استيقظ» ِم َن الَّلْيِل ‪َ ،‬فقاَل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل‬
‫ُهللا وْح َد ُه ال َشِر يَك له‪ ،‬له الُم ْلُك وله الَح ْم ُد‪ ،‬وهو عَلى ُكِّل شيٍء َقديٌر ‪ ،‬الَح ْم ُد ِهَّلِل‪ ،‬وُسْبَح اَن هللا‪ ،‬واَل‬
‫إَلَه إاَّل ُهللا‪ ،‬وُهللا َأْك َبُر ‪ ،‬واَل َحْو َل واَل ُقَّو َة إاَّل باهلل‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬الَّلُه َّم اْغ ِفْر ِلي‪ ،‬أْو َدَعا؛ اْس ُتِج يَب له‪ ،‬فإْن‬
‫َتَو َّض َأ وَص َّلى ُقِبَلْت َص اَل ُتُه»‪.‬‬
‫ومن تعاّر الّليل للعباَدْة‬
‫عند البخاري جاء عن ُعَباَدْة‬
‫فيه دعا من رسول ِهللا‬
‫ٌء‬
‫يغفر ذنًبا فاستفْق اَي الِه ي‬
‫وكان ﷺ يحمد الواهب الُم عطي عند لبس الّثوب؛ ألّنه جّل في ُعاله الذي سّه ل هذا الّلباس‪،‬‬
‫وهيأ هذا الكساء‪ ،‬لستر العورة والتجّم ل‪ ،‬فعن معاذ بن أنس الجهني(رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال النبُّي‬
‫ﷺ‪َ« :‬م ْن لِبَس ثوًبا فقال‪ :‬الحمُد هلل اّلذي كَساِني هذا الثوب ورَز َقِنِيِه من غيِر حوٍل ِم ِّني وال ُقَّو ٍة؛‬
‫ُغِفَر لُه ما تقَّد َم من ذْنِبِه وَم ا تأَخ َّر » [رواه ابو داود]‪.‬‬
‫ويأتي حمد هللا تعالى بعد كل صالة مع األذكار األخرى؛ ألّن اإلعانة على الّطاعات ‪ -‬ومنها‬
‫أداء الّص لوات ‪ -‬من أجل الّنعم التي ُيحمد هللا عليها‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال النبُّي‬
‫ﷺ‪« :‬من سَّبَح هللا في ُدُبِر كِّل صالٍة ثالًثا وثالثيَن ‪ ،‬وحمَد هللا ثالًثا وثالثيَن ‪ ،‬وكَّبَر هللا ثالًثا وثالثيَن ‪،‬‬
‫فتلَك تسعٌة وتسعوَن ‪ ،‬وقاَل تماَم المئِة ‪ :‬ال إلَه إاّل هللا وحَد ُه ال شريَك لُه‪ ،‬لُه الملُك ولُه الحمُد وهَو‬
‫على كِّل شيٍء قدير؛ غفرت خطاياُه وإن كانت مثَل َز َبِد البحِر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحمد رّبه عند العطاس؛ ألّن العطاس عالمة العافية كما قال األطباء‪ ،‬فجاء حمد هللا‬
‫هنا ليناسب هذه الّنعمة‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬إذا َعَطَس أَح ُدُكْم َفْلَيُقْل‪ :‬الَح ْم ُد هلل» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وسّن ﷺ حمد هللا عند رؤية الُم بتلى وأهل األوجاع والمصائب؛ ليشكر المؤمن رّبه على أْن‬
‫سّلمه من هذا البالء‪ ،‬مع مراعاة أاّل ُيسمع الُم بتلى‪ ،‬فعن أبي هريرة(رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال الّنبُّي‬
‫ﷺ‪« :‬من رأى ُم بتًلى فقاَل ‪ :‬الحمُد هلل اَّلذي عافاني مّم ا ابتاَل َك ِبِه وفَّض لني على كثيٍر مَّم ن خلَق‬
‫تفضياًل ؛ لم يصْبُه ذِلَك البالُء » [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وإذا تذّكر العبد الّنعمة أو رآها فعليه أن يحمد رّبه‪ ،‬وهذا مذهب عباد هللا المفلحين‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َو َهَب ِلي َعَلى اْلِك َبِر ِإْس َم اِع يَل َو ِإْس َح اَق ِإَّن َر ِّبي َلَسِم يُع الُّدَعاِء } [إبراهيم‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]39‬وقال هللا تعالى‪َ{ :‬و ُقِل اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َسُيِر يُكْم آَياِتِه َفَتْعِر ُفوَنَه ا َو َم ا َر ُّبَك ِبَغاِفٍل َعَّم ا َتْعَم ُلوَن }‬
‫[النمل‪ :‬اآلية ‪ ،]93‬وقال تعالى‪َ{ :‬و َلِئْن َسَأْلَتُهْم َم ْن َخ َلَق الَّسَم اَو اِت َو اَألْر َض َلَيُقوُلَّن ُهَّللا ُقِل اْلَح ْم ُد ِهَّلِل‬
‫َبْل َأْكَثُر ُهْم َال َيْعَلُم وَن } [لقمان‪ :‬اآلية ‪ ،]25‬وقال جّل اسمه‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َخ َلَق الَّسَم اَو اِت‬
‫َو اَألْر َض َو َج َعَل الُّظُلَم اِت َو الُّنوَر ُثَّم اَّلِذيَن َكَفُر وا ِبَر ِّبِه ْم َيْعِد ُلوَن } [األنعام‪ :‬اآلية ‪ ]1‬إلى آخر تلك‬
‫اآليات العظيمة‪.‬‬
‫وجاء حمد هللا عند تدّبر وتأّم ل أسماء هللا الُح سنى وصفاته العلى عّز وجل‪ ،‬فأّنها من أعظم‬
‫المواضع التي ُيحمد هللا تعالى عليها‪ ،‬قال سبحانه‪{ :‬اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َفاِط ِر الَّسَم اَو اِت َو اَألْر ِض َج اِع ِل‬
‫اْلَم َالِئَكِة ُر ُسًال ُأوِلي َأْج ِنَح ٍة َم ْثَنى َو ُثَالَث َو ُر َباَع َيِز يُد ِفي اْلَخ ْلِق َم ا َيَشاُء ِإَّن َهَّللا َعَلى ُكِّل َشْي ٍء َقِديٌر }‬
‫[فاطر‪ :‬اآلية ‪ ،]1‬وقال تعالى‪ُ{ :‬هَو اْلَح ُّي َال ِإَلَه ِإَّال ُهَو َفاْدُعوُه ُم ْخ ِلِص يَن َلُه الِّديَن اْلَح ْم ُد ِهَّلِل َر ِّب‬
‫اْلَعاَلِم يَن } [غافر‪ :‬اآلية ‪.]65‬‬
‫وكان ﷺ يبدأ خطبه بالحمد وليس بغيره من األذكار األخرى‪ ،‬كالّتسبيح أو الّتكبير أو الّتهليل؛‬
‫ألّن العلم من أعظم الّنعم‪ ،‬ووعظ الّناس ونصحهم من فضل هللا تعالى‪ ،‬واجتماع الّناس في هذه‬
‫المشاهد ُتذكر فيه نعم هللا‪ ،‬وُيحمد عليها جّل في عاله‪ ،‬فعند مشاهد الخير ومجامع الفضل ُيثنى على‬
‫هللا بما هو أهله تباركت أسماؤه‪.‬‬
‫ومن المواضع العظيمة للحمد‪ :‬حمده سبحانه عند دخول الجّنة‪ ،‬جعلنا هللا وإياكم من أهلها‪،‬‬
‫فقد أخبر هللا تعالى أّن أولياءه إذا دخلوا الجّنة حمدوه جّل في عاله على ما سّه ل لهم من طاعٍة‪،‬‬
‫وأثابهم من نعيم‪ ،‬وغفر لهم من ذنوب‪ ،‬وأسعدهم في دار الكرامة‪ ،‬وأذهب عنهم الحزن‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{َو َنَز ْعَنا َم ا ِفي ُص ُدوِر ِه ْم ِم ْن ِغ ٍّل َتْج ِر ي ِم ْن َتْح ِتِهُم اَألْنَه اُر َو َقاُلوا اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َهَداَنا ِلَه َذا َو َم ا ُكَّنا‬
‫ِلَنْه َتِد َي َلْو َال َأْن َهَداَنا ُهَّللا} [األعراف‪ :‬اآلية ‪ ،]43‬وقال تعالى‪َ{ :‬و َقاُلوا اْلَح ْم ُد ِهَّلِل اَّلِذي َأْذَهَب َعَّنا‬
‫اْلَح َز َن } [فاطر‪ :‬اآلية ‪ ،]34‬وقد أخبرنا ﷺ كما عند أحمد والترمذي أّن في الجّنة بيًتا ُيسّم ى‪ :‬بيت‬
‫الحمد‪ ،‬بناه ُهللا لَم ن حمده على المصائب‪.‬‬
‫إّن من أسمى المنازل حمد المولى وشكره‪ ،‬وال َيحمد هللا من ال يرضى بمواهبه وأحكامه‪،‬‬
‫وصنعه وتدبيره‪ ،‬وأخذه وعطائه‪ ،‬فالحامد أنعم الّناس بااًل ‪ ،‬وأحسنهم حااًل ‪ ،‬فال تستصغر نعم هللا‬
‫عليك فيسلبها منك‪ ،‬فّكر في جسمك من رأسك إلى قدميك‪ ،‬تَر عطايا الُم نعم ُسبحانه في كل ذّر ة من‬
‫جسمك‪ ،‬فوّظفها في الخير‪ ،‬واحمد رّبك الذي أعطاك وحباك‪ ،‬وكّر ر‪« :‬الحمد هلل»‪ ،‬الحمد هلل الُم تكّفل‬
‫باألقوات‪ ،‬المرجّو في األزمات‪ ،‬المطلوب عند كشف الُكربات‪ ،‬الحمد هلل دائم الفضل واإلحسان‪،‬‬
‫جزيل الخير واالمتنان‪ ،‬حكيم الَخلق واإلتقان‪ ،‬الحمد هلل على مِّر الساعات‪ ،‬وفي كل األوقات‪ ،‬وطيلة‬
‫الّلحظات‪:‬‬
‫ويف كّل حاٍل حيمد َهللا َرَّبُه‬
‫ُيرّتل أْح َلى احلمد يِف كّل َس‬
‫اعٍة‬
‫َعَلى ِش ّد ة من دهرِه وِلياِن‬
‫أب َز اٍن أو أب كاِن‬
‫ّي َم‬
‫ّي َم‬
‫هتليله ﷺ‪:‬‬
‫الّتهليل هو تاج األذكار‪ ،‬وأفضلها‪ ،‬وأعظمها أجًر ا‪ ،‬وأشرفها على اإلطالق‪ ،‬وهو المقصود‬
‫من رسالته ﷺ التي أرسله هللا بها‪ ،‬رسالة الّتوحيد‪ ،‬رسالة‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪.‬‬
‫وسّر هذه الكلمة أّنها دعوة األنبياء جميًعا عليهم الّسالم‪ ،‬ومعناها‪ :‬ال معبود بحق إاّل هللا‪،‬‬
‫ففيها نفي وإثبات‪ ،‬نفي في قوله‪« :‬ال إله»‪ ،‬وإثبات في قوله‪« :‬إاّل هللا»‪.‬‬
‫كانت هذه الكلمة على طرف لسانه ﷺ‪ ،‬يقولها ويدعو إليها بقوله وفعله‪ ،‬وخطبه ومواعظه‪،‬‬
‫وأّو ل كلمة قالها لمشركي قريش‪« :‬قولوا‪ :‬ال إله إاّل هللا ُتفلحوا»‪ ،‬فجعل ﷺ الّسعادة والفالح والّنجاح‬
‫مع هذه الكلمة وهذا الّذكر الخالد الباقي الّطيب‪.‬‬
‫قد ذكر العلماء في هذه الكلمة أوصاًفا لم تجتمع في كلمة غيرها من كلمات الّذكر والّدعاء‪،‬‬
‫كقولهم‪ :‬أّنها كلمة الّتقوى‪ ،‬وكلمة التوحيد‪ ،‬والمنجية‪ ،‬والخاتمة‪ ،‬والّطيبة‪ ،‬والباقية‪ ،‬وكلمة اإلخالص‪،‬‬
‫وكلمة اإليمان‪ ،‬ودعوة الّر سل‪ ،‬ومفتاح الجّنة‪ ،‬والبراءة من الّشرك‪ ،‬والخلوص من الّنفاق‪ ...‬إلى غير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وورد في حديثه ﷺ صيغ عديدة للتهليل منها‪« :‬ال إله إاّل هللا»‪ ،‬و«ال إله إال هللا وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬له الملك‪ ،‬وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير»‪.‬‬
‫وقد رّتب ﷺ على الّتهليل من األجور العظيمة ما ال يوجد في غيره‪ ،‬منها‪:‬‬
‫عن جابر (رضي هللا عنه) قال‪ :‬سمعت رسول هللا ﷺ يقول‪َ« :‬أْفَض ُل الِّذ ْك ِر اَل ِإَلَه إاَّل هللا»‬
‫[رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وفي الّص حيحين قال ﷺ‪َ« :‬م ن قاَل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل ُهللا‪ ،‬وْح َد ُه ال َشِر يَك له‪ ،‬له الُم ْلُك وله الَح ْم ُد‪،‬‬
‫وهو عَلى ُكِّل َشيٍء َقِديٌر ‪ ،‬في َيوٍم ِم َئَة َمَّر ٍة؛ كاَنْت له َعْد َل َعْش ِر ِر قاٍب‪ ،‬وُكِتَبْت له ِم َئُة َحَسَنٍة‪،‬‬
‫وُم ِح َيْت عْنه ِم َئُة َسِّيَئٍة‪ ،‬وكاَنْت له ِح ْر ًز ا ِم َن الَّشْيطاِن َيوَم ُه ذلَك حَّتى ُيْم ِس َي ‪ ،‬وَلْم َيْأِت أَح ٌد بَأْفَض َل‬
‫مَّم ا جاَء به‪ ،‬إاَّل أَح ٌد َعِم َل أْك َثَر ِم ن ذلَك »‪.‬‬
‫وعن سعد بن أبي وقاص (رضي هللا عنه) قال‪َ :‬ج اَء َأْع َر اِبٌّي إلى َر سوِل هللا ﷺ‪َ ،‬فقاَل ‪َ :‬عِّلْم ِني‬
‫َكاَل ًم ا َأُقوُلُه‪ ،‬قاَل ‪ُ« :‬قْل‪ :‬ال إَلَه إاّل هللا َو ْح َد ُه ال َشِر يَك له» [رواه مسلم]‪ ،‬وهي أيًض ا سبب في شفاعة‬
‫الّنبي ﷺ لقائلها يوم القيامة‪ ،‬كما صّح عنه ﷺ أّنه قال‪« :‬أْسَعُد الّناِس بَشَفاَعتي َيوَم الِقَياَم ِة ‪َ ،‬م ن قاَل ‪:‬‬
‫ال إَلَه إاّل هللا‪َ،‬خ اِلًص ا ِم ن َقْلِبِه » [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وأخبر ﷺ أّنها سبب في غفران الذنوب ومحو الخطايا‪ ،‬فقال‪َ« :‬م ن قاَل ِح يَن َيْسَمُع الُم َؤ ِّذ َن ‪:‬‬
‫أْش َه ُد أْن ال إَلَه إاَّل ُهللا وْح َد ُه ال َشِر يَك له‪ ،‬وأَّن ُم َح َّم ًدا َعْبُدُه وَر سوُلُه‪َ ،‬ر ِض يُت باهلل َر ًّبا وِبُم َح َّم ٍد‬
‫َر سواًل ‪ ،‬وباإلْس اَل ِم ِديًنا‪ُ ،‬غِفَر له َذْنُبُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وأرشد ﷺ أّن «ال إله إاّل هللا» عقيدة‪ ،‬وعمل‪ ،‬وأخالق‪ ،‬ودعوة‪ ،‬وتحكيم‪ ،‬وأّنها أفضل‬
‫اإليمان‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬اِإل يماُن بْض ٌع وَسْبُعوَن ‪ ،‬أْو بْض ٌع وِس ُّتوَن ‪ُ ،‬شْعَبًة‪ ،‬فأْفَض ُلها َقْو ُل ‪ :‬ال إَلَه إاّل هللا‪،‬‬
‫وَأْدناها إماَطُة األَذى َعِن الَّطِر يِق » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ودّل ﷺ على أّنها سبب في تجديد اإليمان فقال‪« :‬جِّددوا إيماَنُكم‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسوَل هللا َو َكيَف‬
‫نجِّدُد إيماَننا؟ قاَل ‪َ :‬أْك ِثروا ِم ن َقوِل ‪ :‬ال إَلَه إاّل هللا» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وبّشر ﷺ أّن «ال إله إاّل هللا» ُتحّر م وجه قائلها على الّنار‪ ،‬فقال‪َ« :‬م ن كان آِخ ُر َكالِم ه ‪:‬ال إله‬
‫إاّل هللا‪َ ،‬و َجَبْت له الجَّنُة» [رواه أبو داود]‪ ،‬وقال ﷺ‪« :‬إَّن هللا قْد َح َّر َم َعَلى الَّناِر َم ن قاَل ‪ :‬ال إَلَه إَاّل‬
‫هلل‪َ ،‬يْبَتِغ ي بذلَك وْج َه هللا» [ُم تفق عليه]‪ ،‬وعن ُعَباَدَة ْبِن الَّص اِم ِت َقاَل ‪َ :‬قاَل َر ُسوُل هللا ﷺ‪َ« :‬م ْن َقاَل ‪:‬‬
‫أْش َه ُد أْن ال إَلَه إاَّل ُهللا وْح َد ُه ال َشِر يَك له‪ ،‬وأَّن ُم َح َّم ًدا َعْبُدُه وَر سوُلُه‪ ،‬وأَّن ِع يَسى عبُد هللا‪ ،‬وابُن‬
‫أَم ِتِه ‪ ،‬وَكِلَم ُتُه أْلقاها إلى َمْر َيَم وُر وٌح منه‪ ،‬وأَّن الَج َّنَة َحٌّق ‪ ،‬وأَّن الَّناَر َحٌّق ‪ ،‬أْد َخ َلُه ُهللا ِم ن أِّي أْبواِب‬
‫الَج َّنِة الَّثماِنَيِة شاَء » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫مواطن هتليله ﷺ‪:‬‬
‫صّح عنه ﷺ أّنه كان ُيلّقن من أراد الّدخول في اإلسالم‪« :‬ال إله إاّل هللا‪ ،‬وأّن محمًدا رسول‬
‫هللا»‪ ،‬وفي الّص حيحين أّنه قال لعلٍّي (رضي هللا عنه) لّم ا أرسله لليهود‪« :‬اْدُعُه ْم إلى ال إله إاّل هللا‪،‬‬
‫وأِّني رسول هللا‪َ ،،‬فَو هللا َأَلْن َيْهِد َي ُهللا بَك َر ُج اًل َخ ْيٌر لَك ِم ن أْن َيكوَن لَك ُح ْم ُر الَّنَعِم »‪.‬‬
‫وبعد االنتهاء من الوضوء‪ ،‬كما جاء عن ُعقبة بن عامر (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪:‬‬
‫«ما ِم نُكم ِم ن أَح ٍد َيَتَو َّض ُأ فُيْبِلُغ ‪-‬أْو فُيْس ِبُغ ‪ -‬اْلَو ُضوَء ُثَّم يقوُل ‪ :‬أْش َه ُد أْن ال إَلَه إاَّل ُهللا وْح َد ُه ال َشِر يَك‬
‫له وَأْش َه ُد أَّن ُم َح َّم ًدا َعْبُدُه وَر سوُلُه؛ إاَّل ُفِتَح ْت له أْبواُب الَج َّنِة الَّثماِنَيُة َيْد ُخ ُل ِم ن َأِّيَه ا شاَء » [رواه‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وعند استيقاظه من نومه في الّليل‪ ،‬فعن عبادة بن الّص امت (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ‬
‫قال‪َ« :‬م ْن َتَعاَّر ِم َن الَّلْيِل َفَقاَل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل ُهللا وْح َد ُه ال َشِر يَك له‪ ،‬له الُم ْلُك وله الَح ْم ُد‪ ،‬وهو عَلى ُكِّل‬
‫شيٍء َقديٌر ‪ ،‬الَح ْم ُد ِهَّلِل‪ ،‬وُسْبَح اَن هللا‪ ،‬واَل إَلَه إاَّل ُهللا‪ ،‬وُهللا َأْك َبُر ‪ ،‬واَل َحْو َل واَل ُقَّو َة إاَّل باهلل‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪:‬‬
‫الَّلُه َّم اْغ ِفْر ِلي‪ ،‬أْو َدَعا؛ اْس ُتِج يَب له‪ ،‬فإْن َتَو َّض َأ وَص َّلى ُقِبَلْت َص اَل ُتُه» [رواه البخاري]‪.‬‬
‫وفي أذكار الّص باح والمساء صّح عنه ﷺ أّنه قال‪َ« :‬م ن قال حين يصبُح أو يمسي‪ :‬اللهَّم‬
‫إني أصبحُت ُأشهدَك وأشهُد حملَة عرِش ك ومالئكَتك وجميَع خلِقك أّنك أنت ُهللا ال إله إال أنت‪ ،‬وأَّن‬
‫محمًدا عبُدك ورسوُلك؛ أعتَق ُهللا ربَعه من الَّناِر ‪ ،‬فمن قالها مَّر تَيِن أعتق ُهللا نصَفه‪ ،‬ومن قالها‬
‫ثالًثا أعتق ُهللا ثالثَة أرباِع ه‪ ،‬فإن قالها أربًعا أعتَقه ُهللا من الَّناِر » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وعند الّتشهد في الّص الة‪َ ،‬عِن اْبِن َعَّباٍس (رضي هللا عنهما) َأَّنُه َقاَل ‪َ :‬كاَن َر ُسوُل هللا ﷺ‬
‫ُيَعِّلُم َنا الَّتَشُّه َد َكَم ا ُيَعِّلُم َنا الُّسوَر َة ِم َن اْلُقْر آِن ‪َ ،‬فَكاَن َيُقوُل‪« :‬الَّتِح َّياُت الُم َباَر َكاُت ‪ ،‬الَّص َلَو اُت الَّطِّيَباُت ِهلِل‪،‬‬
‫الَّساَل ُم َعَلْيَك أُّيها النبُّي وَر ْح َم ُة هللا وَبَر َكاُتُه‪ ،‬الَّساَل ُم َعَلْيَنا وعَلى ِعَباِد هللا الَّص اِلِح يَن ‪ ،‬أْش َه ُد أْن ال‬
‫إَلَه إاَّل ُهللا‪ ،‬وَأْش َه ُد أَّن ُم َح َّم ًدا َر سوُل هللا» [رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫وبعد الّسالم من الّص الة‪َ ،‬كاَن َيُقوُل ﷺ ِفي ُدُبِر ُكِّل َص اَل ٍة‪« :‬ال إَلَه إاَّل ُهللا وْح َد ُه ال َشِر يَك له‪،‬‬
‫له الُم ْلُك وله الَح ْم ُد‪ ،‬وهو عَلى ُكِّل شيٍء َقديٌر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعند رجوعه من غزو أو حج أو عمرة‪ ،‬صّح عنه ﷺ أّنه إَذا َقَفَل ِم ن َغْز ٍو أْو َح ٍّج أْو‬
‫ُعْم َر ٍة‪ ،‬كان يقوُل‪« :‬ال إله إاّل هللا وْح َد ُه ال َشِر يَك له‪ ،‬له الُم ْلُك وله الَح ْم ُد‪ ،‬وهو عَلى ُكِّل شيٍء َقِديٌر »‬
‫[ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وعند الكرب كان ﷺ ُيهلل ويقول‪« :‬ال إله إاّل هللا الَعِظ يُم الَحِليُم ‪ ،‬ال إله إاّل هللا َر ُّب الَعْر ِش‬
‫الَعِظ يِم ‪ ،‬ال إله إاّل هللا َر ُّب الَّسَم اواِت وَر ُّب األْر ِض ‪ ،‬وَر ُّب الَعْر ِش الَكِر يِم » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وصّح عنه ﷺ أّنه قال‪«:‬دعَو ُة ذي الُّنوِن إذ دعا ِبها َو هَو في َبطِن الحوِت‪ :‬ال إلَه إاَّل أنَت ‪،‬‬
‫سبحاَنَك إِّني ُكنُت مَن الَّظالميَن لم َيدُع ِبها رجٌل مسلٌم في شيٍء قُّط‪ ،‬إاَّل استجاَب ُهللا َلُه» [رواه‬
‫الترمذي]‪.‬‬
‫وعند احتضار الميت‪ ،‬أوصى الّنبي ﷺ بتلقين الميت بها فقال‪َ« :‬لِّقُنوا َمْو تاُكْم ‪ :‬ال إله إاّل هللا»‬
‫[رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫اجعل «ال إله إاّل هللا» مشروعك في الحياة‪ ،‬وقضيتك الكبرى‪ ،‬آمن بها‪ ،‬ورّددها‪ ،‬واعتقدها‪،‬‬
‫واعمل بمقتضاها‪ ،‬وانشرها‪ ،‬فهي أصدق كلمة‪ ،‬وأجمل عبارة‪ ،‬وأقوى لفظ‪ ،‬وأعظم حجة‪ ،‬وأنبل‬
‫رسالة‪.‬‬
‫فادع إليها‪ ،‬وتزّو د منها‪ ،‬فأّنها تحرق جبال الّذنوب‪ ،‬وُتخرجك من الّظلمات إلى الّنور‪ ،‬ومن‬
‫الهّم إلى الّسرور‪ ،‬ومن الكفر إلى اإليمان‪ ،‬ومن الّنار إلى الجنان‪.‬‬
‫روحُه هتتُف ابلّتهليل ُح ًّبا‬
‫ُمفِرًدا ابملدِح والتقديِس راَّب‬
‫إّن أغلى َثروٍة ميلُك ها‬
‫ِكْلمُة الّتوحيِد كْم َتعُمُر قلَبا‬
‫تكبريه ﷺ‪:‬‬
‫يتذكر رسولنا ﷺ عظمَة رّبه وجبروَته وكبرياَء ه‪ ،‬وعظيم سلطانه‪ ،‬وقوة قهره‪ ،‬وعّز َته؛‬
‫فتنبعث من قلبه‪« :‬هللا أكبر» صادقة قوّية‪ ،‬مع أنفاسه الّطاهرة‪ ،‬هللا أكبر من الكون وما فيه‪ ،‬هللا أكبر‬
‫في ملكوته وجبروته‪ ،‬هللا أكبر في ذاته الُم قّدسة وأسمائه الُح سنى وصفاته الُعلى‪.‬‬
‫وعّلمنا رسولنا ﷺ أّن من مقاصد «هللا أكبر» أن نأتي بضعفنا إلى قوته‪ ،‬وبفقرنا إلى غناه‪،‬‬
‫وبذّلتنا إلى عّز ته‪ ،‬وبذنوبنا إلى رحمته‪ ،‬فهو األكبر سبحانه‪ ،‬يجبر كسرنا‪ ،‬ويقيل عثرتنا‪ ،‬ويغفر‬
‫زّلتنا‪.‬‬
‫ومّم ا ُأوحي إلى‬
‫«الكبير»‪ ،‬وفي ذلك سّر‬
‫اْلَباِط ُل َو َأَّن َهَّللا ُهَو اْلَعِلُّي‬
‫رسول هللا ﷺ من القرآن اقتران اسم هللا العظيم «العلي» باسمه األجل‬
‫عظيم إذ يقول تعالى‪َ{ :‬ذِلَك ِبَأَّن َهَّللا ُهَو اْلَح ُّق َو َأَّن َم ا َيْدُعوَن ِم ْن ُدوِنِه ُهَو‬
‫اْلَكِبيُر } [الحج‪ :‬اآلية ‪ ،]62‬وقال تقّدس اسمه‪َ{ :‬ذِلُكْم ِبَأَّنُه ِإَذا ُدِع َي ُهَّللا َو ْح َدُه‬
‫َكَفْر ُتْم َو ِإْن ُيْش َر ْك ِبِه ُتْؤ ِم ُنوا َفاْلُح ْك ُم ِهَّلِل اْلَعِلِّي اْلَكِبيِر } [غافر‪ :‬اآلية ‪ ،]12‬فهو كبير في علّو ه‪ ،‬علٌّي‬
‫في عظمة شأنه‪ ،‬فمن جبروته سبحانه أّن له العلّو الُم طلق‪ ،‬والعظمة التي ال نهاية لها‪ ،‬وكمال العّز ة‬
‫وتمام القهر‪ ،‬يحكم ال معّقب لحكمه وال راّد لقضائه‪ ،‬ذّلت له الجباه‪ ،‬وخضعت له الّر قاب‪ ،‬وتصاغر‬
‫لكبريائه كّل كبير‪.‬‬
‫وعلمنا نبّينا ﷺ أّن من أسرار «هللا أكبر» أّنها قاهرة للّشيطان‪ ،‬قاصمة لظهر إبليس‪ ،‬وما‬
‫سمعها إاّل تصاغر وتضاءل‪ ،‬وخنس واختفى؛ ألّن ذكر الكبير جّل في عاله يقصم ظهر عدّو ه‪.‬‬
‫وقد عّظم هللا شأن نفسه‪ ،‬وأمر نبّيه ﷺ وأتباعه إلى يوم الّدين فقال سبحانه‪َ{ :‬و َر َّبَك َفَكِّبْر }‬
‫[المدثر‪ :‬اآلية ‪ ،]3‬وقال تعالى‪َ{ :‬و َكِّبْر ُه َتْك ِبيًر ا} [اإلسراء‪ :‬اآلية ‪ ]111‬أي تكبيًر ا ُم تصاًل كثيًر ا‬
‫عظيًم ا‪ ،‬فبتكبيره سبحانه َيهزم العدو‪ ،‬وَيغلب الخصم‪ ،‬وُيذهب الكروب‪ ،‬وُيزيح الخطوب؛ ألّنك‬
‫التجأت إلى الكبير الُم تعال ورددت «هللا أكبر»‪ ،‬فاهلل أكبر من همومك‪ ،‬وهللا أكبر من أحزانك‪ ،‬وهللا‬
‫أكبر من شدائدك‪ ،‬فالتجئ إليه‪ ،‬وتوّكل عليه‪ ،‬وفّو ض أمرك إليه‪ ،‬وكرر دائًم ا وأبًدا‪« :‬هللا أكبر»‪،‬‬
‫ليكفيك الكبير الُم تعال‪ ،‬فعطاؤه كبير‪ ،‬وخيره كثير‪ ،‬وإليه المصير‪.‬‬
‫والّتكبير مسنون في المواضع الهامة‪ ،‬والمجامع العامة‪ ،‬زماًنا ومكاًنا وحااًل ‪ ،‬مشروع في‬
‫األعياد واللقاءات‪ ،‬وعند الّنصر والفتوحات استشعاًر ا لعظمة من قّدر هذا التقدير‪ ،‬وأنزل هذا‬
‫الوحي‪ ،‬ونصر هذا الّنبي‪ ،‬وقهر األعداء‪ ،‬وأتّم الّنعمة‪ ،‬وأكمل الّشريعة‪ ،‬فهو ذكٌر مسنون عند كل‬
‫أمر مهول‪ ،‬وعند كل خبر ُم ْفرح‪ ،‬شكًر ا هلل على الّنعماء‪ ،‬وبراءًة مّم ا َنسب إليه األعداء‪.‬‬
‫مواطن تكبريه ﷺ‪:‬‬
‫كان ﷺ ُيكّبر عند افتتاح الّص الة؛ ألّن في ذلك شعوًر ا بأّن من أقبلَت عليه أكبر من كّل شيء‬
‫تركته‪ ،‬ومن ُتَص ِّلي له أكبر من الّدنيا وما فيها فال تتشاغل بغيره‪.‬‬
‫وسّن ﷺ الّتكبير في األذان واإلقامة إلعالم الناس بعظمة هللا وجبروته ليقبلوا إلى بيته‬
‫وعبادته‪ ،‬وَسّن ﷺ الّتكبير عند كل خفض ورفع‪ ،‬في الّر كوع والّسجود‪ ،‬ليتذكر الُم صلي عظمة‬
‫وكبرياء من يصلي له‪.‬‬
‫وكان ﷺ يحث على اإلكثار من األعمال الصالحة في العشر األوائل من ذي الحجة ومنها‬
‫الّتكبير؛ ألّن العشر من ذي الحجة يجتمع فيها الحجيج‪ ،‬وتظهر فيها معالم عظمة اإلسالم فُتذّكر‬
‫بجبروت الكبير الُم تعال‪ ،‬فحُسن أن ُيكّبر فيها‪ ،‬وكان يقول ﷺ‪« :‬ما َأَهَّل ُم ِه ٌّل َقُّط إاّل ُبِّشر‪ ،‬وال كَّبَر‬
‫ُم َكَّبٌر َقُّط‪ ،‬إاّل ُبِّش َر »‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول هللا بالجَّنة؟‪ ،‬قال‪« :‬نعم» [رواه الطبراني]‪.‬‬
‫وقد صح عنه عليه الّص الة والّسالم أّنه قال‪« :‬ما من أّياٍم أعَظُم عنَد هللا وال أَح ُّب إليه الَعَم ُل‬
‫فيِه َّن من هذه األّياِم الَعْش ِر ‪ ،‬فأْك ِثروا فيِه َّن من الَّتْهليِل والَّتْكبيِر والَّتْح ميِد» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وُيسّن الّتكبير عند رمي الجمرات‪ ،‬وعند الّص عود من منى إلى عرفات‪ ،‬وعند الّطواف‬
‫وغيرها من مواطن الّتكبير في مشاعر الحج؛ ألّن فيها هيبة الحجيج واجتماعهم‪ ،‬وهو ذكر مناسب‬
‫للحال‪.‬‬
‫وكان ﷺ ُيكثر من الّتكبير أيام عيد الفطر وعيد األضحى‪ ،‬فالعيد مظهر من مظاهر الجالل‬
‫والجمال لإلسالم والمسلمين‪ ،‬فناسب تكبير الباري سبحانه صاحب العظمة‪ ،‬وصاحب هداية العباد‪،‬‬
‫فكّبروه وشكروه على إرشادهم وهدايتهم جّل في عاله‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و ِلُتَكِّبُر وا َهَّللا َعَلى َم ا َهَداُكْم }‬
‫[البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]185‬فكان يكّبر ﷺ في العيد ويقول‪« :‬هللا أكبر‪ ،‬هللا أكبر‪ ،‬هللا أكبر‪ ،‬ال إله إاّل هللا‪،‬‬
‫وهللا أكبر‪ ،‬هللا أكبر‪ ،‬وهلل الحمد»‪ ،‬وورد‪« :‬هللا أكبر كبيًر ا‪ ،‬والحمد هلل كثيًر ا‪ ،‬وُسبحان هللا ُبكرًة‬
‫وأصيل»‪ ،‬وجاء عن َعمِر و بِن ُشَعيٍب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن َج ِّده‪« :‬أَّن الَّنِبَّي ﷺ كَّبر في عيٍد ِثْنَتْي َعْشرَة‬
‫َتكبيرًة‪ ،‬سبًعا في األوَلى‪ ،‬وخمًسا في اآلخرة‪ ،‬ولم ُيصِّل َقبَلها وال َبعَدها» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وعند ركوب الّدابة وعند الّسفر كان ﷺ ُيكّبر‪ ،‬كما صّح عنه أّنه كان إذا استَو ى على ظهر‬
‫الداَّبة قال‪« :‬الَح مُد هلل»‪ ،‬ثم قال‪ُ « :‬سْبَح اَن الِذي َسَّخ َر َلَنا َهَذا َو َم ا ُكَّنا َلُه ُم ْقِر ِنيَن َو ِإَّنا ِإَلى َر ِّبَنا‬
‫َلُم ْنَقِلُبوَن »‪ ،‬ثم قال‪« :‬الَح مُد هلل‪ ،‬الَح مُد هلل‪ ،‬الَح مُد هلل‪ ،‬هللا َأْك َبُر ‪ ،‬هللا َأْك َبُر ‪ ،‬هللا َأْك َبُر » ثم قال‪:‬‬
‫«ُسبحاَنَك إِّني َظلْم ُت َنْفسي‪ ،‬فاغِفْر لي‪ ،‬إَّنه ال َيغِفُر الذنوَب إاَّل أنَت » [رواه أبو داود]؛ ألن ركوب‬
‫الّدابة قد ُيشعر الّر اكب بالّز هو‪ ،‬فتذّكره بأّن األكبر واألعظم واألعلى هو هللا ُيوجب عليه أن يتَم ْسكن‪،‬‬
‫وأن يتواضع‪ ،‬ويكّبر خالقه سبحانه‪.‬‬
‫وكان ﷺ إذا عال شرًفا «أي‪ :‬مكاًنا مرتفًعا» كّبر رّبه‪ ،‬وكان ُيوصي بذلك الّص حابة رضوان‬
‫هللا عليهم‪ .‬والّسر في ذلك أّن اإلنسان إذا ارتفع على جبل أو هضبة قد تجّر ه نفسه للُعجب فُأمر أن‬
‫ُيكّبر رّبه في تلك الّلحظات؛ ألّن العظمَة والعزَة والجالَل والكماَل له وحده سبحانه‪ ،‬وكان الّنبي ﷺ‬
‫ُيوِص ي الُم سافَر فيقول له‪« :‬عليك بتقَو ى هللا‪ ،‬والّتكبير على كل شَر ف» [رواه الترمذي]‪ ،‬وعند كل‬
‫ذبٍح كان ﷺ ُيكّبر هللا‪ ،‬يقول أنس (رضي هللا عنه)‪َ« :‬ض َّح ى رسول هللا ﷺ بكبشين أملحين أقرنين‪.‬‬
‫وقال‪« :‬باسم هللا‪ ،‬وهللا أكبر» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫والّتكبير هنا فيه إخالص العبودية هلل؛ ألن المشركين كانوا يذبحون لغير هللا‪ ،‬أّم ا رسول هللا‬
‫ﷺ فكان يذبح هلل‪ ،‬وينحر هلل‪ ،‬ممتثاًل ألمر هللا جّل في عاله‪َ{ :‬فَصِّل * ِلَّر ِبَك * َو اْنَح ْر *} [الكوثر‪:‬‬
‫اآلية ‪ .]2‬وكّبر هللا لعظم هذا المشهد‪.‬‬
‫وكان التكبير شعار مجلسه ﷺ عند األخبار السارة والبشارات الُم فرحة‪ ،‬فعن أبي سعيد‬
‫الخدري (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬إِّني َأَلْر ُج و أْن َتُكوُنوا ُر ُبَع أْه ِل الَج َّنِة ‪َ .‬فَكَّبْر نا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪:‬‬
‫ُثُلَث أْه ِل الَج َّنِة ‪َ .‬فَكَّبْر نا‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪َ :‬شْط َر أْه ِل الَج َّنِة ‪َ .‬فَكَّبْر نا» [ُم تفق عليه]‪ .‬فمواضع الفرح والبشارة‬
‫ُيشرع فيها الّتكبير‪.‬‬
‫وفي صالة االستسقاء كان ﷺ ُيكبر‪ ،‬فقد روى الدارقطني من حديث ابن عباس (رضي هللا‬
‫عنهما) ‪« :‬أّنه يكبر فيها سبًعا وخمًسا كالعيد»‪ ،‬وقد ذكر ابن عبد البر عن ابن عباس أّن التكبير في‬
‫االستسقاء كالّتكبير في العيد‪.‬‬
‫ومن الُسَّنة الّنبوية المطّه رة الّتكبير في الّص الة على الميت أربع تكبيرات‪ ،‬كما صح عنه ﷺ؛‬
‫ألّن الموت فيه رسالة ودليل على فناء اإلنسان وبقاء الواحد الدّيان‪ ،‬فناسب هنا تكبيره سبحانه‪.‬‬
‫وحّث رسولنا ﷺ على اإلكثار من الّتكبير؛ ألّنه يمأل ما بين السماوات واألرض‪ ،‬فقد ورد في‬
‫الحديث الّنبوي‪« :‬الَّتسِبيُح نِص ُف الِم يزاِن ‪ ،‬والحمُد هلل َيملُؤ ُه‪ ،‬والَّتكِبيُر َيمُأل ما بين الّسماِء‬
‫واألرِض » [رواه الترمذي]‪ .‬وبالّتكبير ُتفتح أبواب السماوات‪ ،‬فعن عبدهللا بن عمر (رضي هللا‬
‫عنهما) ‪ ،‬قال‪« :‬بْينَم ا َنْح ُن ُنَصِّلي مع َر سوِل هللا ﷺ إْذ قاَل َر ُجٌل ِم َن الَقْو ِم ‪ :‬هللا َأكبُر َكِبيًر ا‪ ،‬والحمُد‬
‫هلل َكِثيًر ا‪َ ،‬و ُسْبحاَن هللا ُبْك َر ًة َو َأِص ياًل ‪َ ،‬فقاَل رسول هللا ﷺ‪َ :‬م ِن القاِئُل َكلَم َة َكذا َو َكذا؟‪ ،‬قاَل َر ُج ٌل ِم َن‬
‫الَقْو ِم ‪َ :‬أنا‪ ،‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬قاَل ‪َ :‬عِج ْبت َلها‪ُ ،‬فِتَح ْت َلها َأْبواُب الَّسماِء »‪ .‬قاَل ابُن ُعَمَر ‪َ« :‬فما َتَر ْكُتُه َّن‬
‫ُم ْنُذ َسِم ْعُت َر سوَل هللا ﷺ يقوُل ذلَك »‪[ .‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫هللا أكبر كّلما تبّلج صباح وأسفر‪ ،‬وكلما نّو ر روض وأزهر‪ ،‬وكّلما تراكم غيث وأمطر‪ ،‬هللا‬
‫أكبر تكَّسرت بها آماُل األكاسرة‪ ،‬وتقّص رت بها أعمار القياصرة‪ ،‬ورغمت بها أنوف الجبابرة‪.‬‬
‫هللا أكُرب كُّل هّم َيْنجلي‬
‫عن قلِب كِّل مكٍرِّب ومَه ِّلِل‬
‫ِه َي اتُج َه اماِت الكالم وإهّن ا‬
‫ألجُّل لفٍظ يف الكتاِب اُملنَزِل‬
‫ذكره ﷺ للكلمات األربع‪ُ« :‬س بحان هللا‪ ،‬واحلمد هلل‪ ،‬وال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكرب»‪.‬‬
‫مّيز هللا تعالى هذه الكلمات األربع بفضائل جميلة‪ ،‬وخصال جليلة‪ ،‬ودعا رسوله ﷺ إلى‬
‫قولها‪ ،‬وبّيان فضلها وذكر الّثواب الجزيل لمن قالها‪ ،‬واألجر العظيم لمن أكثر منها‪.‬‬
‫ومن يتأمل هذه الكلمات األربع يجد أّنها جمعت مقاصد الّدين‪ ،‬وأهداف المّلة‪ ،‬ورسائل‬
‫الّشريعة فإن «سبحان هللا»‪ ،‬تنزيه هلل جّل في ُعاله‪ ،‬ويدخل في ذلك تنزيه رسوله ﷺ وتنزيه‬
‫شريعته‪ ،‬و«الحمد هلل» إثباٌت للكمال والّشكر والّثناء له تقّدست أسماؤه‪ ،‬و«ال إله إاّل هللا» اعتراف‬
‫بالوحدانّية هلل تعالى والّدعوة إلى عبوديته‪ ،‬و«هللا أكبر» إثبات العظمة والعّز ة والكبرياء له وحده‪.‬‬
‫فالكلمات األربع وافية في بابها‪ ،‬شافية في مضمونها‪ ،‬عظيمة في قدرها‪ ،‬وأسوق إليك ما‬
‫ورد فيها من خصائص وفضائل عّل الّنفوس مع تردادها تطير شوًقا‪ ،‬وعّل األرواح مع تكرارها‬
‫ُتسافر فرًح ا إلى جّنات الّنعيم في جوار رب كريم‪.‬‬
‫الكلمات األربع أحّب الكالم إىل هللا‪:‬‬
‫أخبر ﷺ أّن الكلمات األربع هي أحّب الكالم إلى هللا‪ ،‬فعن سمرة بن جندب (رضي هللا عنه)‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪َ« :‬أَح ُّب الَكالِم إلى هللا أْر َبٌع ‪ُ :‬سْبحاَن هللا‪ ،‬واْلَح ْم ُد هلل‪ ،‬وال إَلَه إاَّل هللا‪ ،‬وهللا‬
‫أْك َبُر ؛ ال َيُض ُّر َك بَأِّيِه َّن َبَد ْأَت [رواه ُم سلم]‪ ،‬فإذا كانت هذه الكلمات أحّب الكالم إلى هللا‪ ،‬فعلينا أن‬
‫ُنعّطر بها أنفاس الحياة‪.‬‬
‫الكلمات األربع أحّب إىل الّنيب ﷺ ّمما طلعت عليه الّش مس‪:‬‬
‫أخبر ﷺ أّن هذه الكلمات األربع أحّب إليه مّم ا طلعت عليه الّشمس‪ ،‬أي أحّب إليه من الّدنيا‬
‫كّلها‪ ،‬بزخرفها‪ ،‬وزينتها‪ ،‬وكنوزها‪ ،‬وقناطيرها الُم قنطرة من الّذهب والفضة‪ ،‬فعن أبي هريرة‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ َأِلْن َأُقوَل ‪ُ« :‬سْبَح اَن هللا‪َ ،‬و اْلَح ْم ُد هلل‪َ ،‬و اَل ِإَلَه ِإاَّل هللا‪َ ،‬و هللا‬
‫َأْك َبُر ‪َ ،‬أَح ُّب ِإَلَّي مَّم ا َطَلَعْت عليه الَّشْم ُس » [رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫الكلمات األربع ُمكّف رات للّذ نوب‪:‬‬
‫ومن األجور العظيمة لهذه الكلمات األربع أّنها ُم كّفرات للّذنوب‪ ،‬فعن عبدهللا ابن عمرو بن‬
‫العاص (رضي هللا عنهما) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬ما عَلى األرِض رجٌل يقوُل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل هللا‪ ،‬وهللا‬
‫َأْكبُر ‪ ،‬وُسبحاَن هللا‪ ،‬والحمُد هلل‪ ،‬وال َح وَل وال قَّو َة إاَّل باهلل‪ ،‬إاَّل َكَّفرت عنُه ِم ن ذنوِبِه وإن كاَنت مثَل‬
‫زبِد البحِر » [رواه أحمد]‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك (رضي هللا عنه) أن النبَّي ﷺ مّر بشجرٍة يابسِة الورِق فضربها بعصاُه‬
‫فتناثر الورُق فقال‪« :‬إَّن ‪ -‬الحمُد هلل‪ ،‬وسبحاَن هللا ‪ ،-‬وال إله إاّل هللا‪ ،‬وهللا َأْكبُر لُتساقط ذنوَب العبِد‬
‫كما تساقُط ورُق هذه الّشجرة» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫الكلمات األربع غراس اجلّنة‪:‬‬
‫كانت الكلمات األربع أجمل هدية من خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى رسولنا وجميع‬
‫األنبياء الّص الة والّسالم‪ ،‬فعن عبدهللا بن مسعود (رضي هللا عنه) عن الّنبي ﷺ أّنه قال‪َ« :‬لِقيُت‬
‫إبراهيَم ليلَة ُأْس ِر َي بي‪ ،‬فقال‪« :‬يا ُم َح َّم ُد ! َأْقِر ْئ أمَتك ِم ِّني السالَم ‪ ،‬وَأْخ ِبْر هم أن الجنَة َطِّيَبُة الُّتْر َبِة ‪،‬‬
‫َعْذَبُة الماِء ‪ ،‬وأنها ِقيعاٌن ‪ ،‬وأن ِغ َر اَسها‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬والحمُد هلل‪ ،‬وال إله إال ُهللا‪ ،‬وُهللا أكبُر » [رواه‬
‫الترمذي]‪.‬‬
‫جّنتك تنتظرك فاغرس فيها ما استطعت لتجني ثمرها‪ ،‬وتتفيأ ظاللها‪.‬‬
‫الكلمات األربع تعدل الّصدقة ابملال‪:‬‬
‫وبّشر رسول هللا ﷺ بأّن الكلمات األربع تعدل لقائلها الّص دقة بالمال‪ ،‬فعن أبي ذٍّر (رضي هللا‬
‫عنه) أَّن َناًسا ِم ن َأْص َح اِب النبِّي ﷺ قالوا‪ :‬يا َر سوَل هللا‪َ ،‬ذَهَب أْه ُل الُّد ُثوِر باُألجوِر ‪ُ ،‬يَص ُّلوَن كما‬
‫ُنصِّلي‪َ ،‬و َيُص وُم وَن كما َنُص وُم ‪َ ،‬و َيَتَص َّد ُقوَن بُفُضوِل َأْم َو اِلِه ْم !‪ ،‬قاَل ‪َ :‬أَو ليَس قْد َجَعَل هللا َلُكْم ما‬
‫َتَّص َّد ُقوَن ؟‪ ،‬إَّن بُكِّل َتْس ِبيَحٍة َص َد َقًة‪َ ،‬و ُكِّل َتْك ِبيَر ٍة َص َد َقًة‪َ ،‬و ُكِّل َتْح ِم يَد ٍة َص َد َقًة‪َ ،‬و ُكِّل َتْهِليَلٍة َص َد َقًة»‬
‫[رواه مسلم]‪ ،‬فإذا عجزت عن إنفاق المال‪ ،‬فُج د على نفسك وتصّدق بهذه الكلمات الُم باركات‬
‫الّطاهرات‪.‬‬
‫الكلمات األربع جُت زئ عن قراءة القرآن‪:‬‬
‫ومن فضائلهن أّنها تقوم مقام القرآن لمن عجز عن حفظ شيء منه كما أخبر ﷺ‪ ،‬فعن ابن‬
‫أبي أوفى‪(-‬رضي هللا عنهما) ‪ -‬قال‪ :‬جاء رُج ٌل إلى الَّنبِّي ﷺ فقال‪ :‬يا رسوَل هللا إِّني ال أستطيُع أْن‬
‫أتعَّلَم الُقرآَن فعِّلْم ني ما ُيجِز ُئني ِم ن الُقرآِن ‪ ،‬قال‪ُ « :‬قْل‪ُ :‬سبحاَن هللا‪ ،‬والَح مُد هلل‪ ،‬وال إلَه إاَّل هللا‪ ،‬وُهللا‬
‫أكَبُر ‪ ،‬وال َح وَل وال ُقَّو َة إاَّل باهلل» [رواه والّنسائي]‪.‬‬
‫فهذه الكلمات من الوحي الُم بارك الُم نّز ل على نبّينا ﷺ‪.‬‬
‫قائل الكلمات األربع من أفضل عباد هللا وأعالهم درجة‪:‬‬
‫ومن فضائل الكلمات األربع التي أخبرنا بها ﷺ أّن من قضى عمره في قولها وتكرارها‬
‫صار من أفضل عباد هللا وأعظمهم درجة عنده‪ ،‬قال ﷺ‪« :‬ليس أحٌد أفضَل عنَد هللا ِم ْن مؤمٍن ُيعَّمُر‬
‫في اإلسالِم لتسبيِح ه وتكبيِر ه وتهليِله»‪[ .‬رواه أحمد]‪.‬‬
‫ُيذكر قائل الكلمات األربع عند عرش الّرمحن‪:‬‬
‫وأخبر ﷺ أن الكلمات األربع سبب في ذكر قائلها في المأل األعلى حول العرش العظيم‬
‫عرش الّر حمن الّر حيم‪ ،‬فعن الّنعمان بن بشير (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬إَّن مَّم ا تذكروَن‬
‫من جالِل ِهللا التسبيَح والتهليَل والتحميَد ينعِط ْفَن حوَل العرِش لهَّن دوٌّي كدوِّي النحِل ‪ُ ،‬تذِّك ُر‬
‫بصاحِبها‪ .‬أَم ا ُيحُّب أحُدكم أن يكوَن له‪-‬أو ال يزاَل له‪ -‬من ُيذِّك ُر به» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫فإذا أردت الّشرف والّر فعة والمجد فأكثر من هذه األربع لُتذكر عند ملك الملوك ُسبحانه‪.‬‬
‫الكلمات اليت اصطفاها هللا لعباده الّصاحلني‪:‬‬
‫وقد اصطفى هللا هذه الكلمات األربع للمصطفين من عباده‪ ،‬واختارها للموّفقين من أتباع‬
‫رسوله ﷺ‪ ،‬فعن أبي هريرة وأبي سعيد (رضي هللا عنهما) أّن رسول ﷺ قال‪ِ« :‬إَّن َهللا اْص َطَفى من‬
‫اْلَكالِم َأْر َبًعا‪ُ :‬سْبحاَن هللا‪َ ،‬و الَح مُد هلل‪َ ،‬و ال ِإَلَه ِإال ُهللا‪َ ،‬و ُهللا َأْك َبُر ‪ُ ،‬ثَّم قاَل ‪ :‬من َقال‪ُ :‬سْبحاَن هللا ُكِتَب َلُه‬
‫ِع ْش ُر وَن َحَسَنًة‪َ ،‬و ُح َّط عنُه ِع ْش ُر وَن َسِّيَئًة‪ ،‬ومن َقال‪ :‬هللا َأْك َبُر َفِم ْثُل َذِلَك ‪ ،‬ومن َقال‪ :‬ال ِإَلَه ِإال ُهللا‬
‫َفِم ْثُل َذِلَك ‪ ،‬ومن قال‪ :‬الَح مُد هلل َر ِّب اْلعاَلميَن من ِقَبِل َنْفِسِه ُكِتَبت َلُه ِبها َثالثوَن َحَسَنًة‪َ ،‬و ُح َّط عنُه‬
‫َثالثوَن َسِّيَئًة» [رواه أحمد]‪.‬‬
‫الكلمات األربع وقاية وحجاب من الّنار‪:‬‬
‫وأخبر ﷺ من فضائل الكلمات األربع أّنها تقي قائلها من الّنار‪ ،‬ومن غضب الجبار‪ ،‬فعن أبي‬
‫هريرة (رضي هللا عنه) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪ُ« :‬خ ُذوا ُج َّنَتُكْم » َقاُلوا‪َ :‬يا َر ُسوَل هللا‪َ ،‬أِم ْن َعُدٍّو َقْد‬
‫َح َض َر ؟ َقاَل ‪:‬اَل ‪ُ ،‬ج َّنُتُكم ِم َن الَّناِر ‪ُ ،‬قولوا‪ُ :‬سبحاَن هللا‪ ،‬والحمُد ِهلل‪ ،‬وال إلَه إاَّل ُهللا‪ ،‬وُهللا أكبُر ؛ َفِإَّنُه َّن‬
‫يأِتيَن َيْو َم اْلِقَياَم ِة ُم َجِّنَباٍت َو ُم َعِّقَباٍت‪َ ،‬و ُهَّن اْلَباِقَياُت الَّصاِلحاُت » [رواه الّنسائي]‪ ،‬والباقيات هي التي‬
‫تبقى ذخًر ا عند هللا‪ ،‬ويدوم أجرها يوم القيامة‪ ،‬وال ينقطع ثوابها‪ ،‬قال ُسبحانه‪َ{ :‬و اْلَباِقَياُت الَّص اِلَح اُت‬
‫َخْيٌر ِع ْنَد َر ِّبَك َثَو اًبا َو َخْيٌر َأَم ًال} [الكهف‪ :‬اآلية ‪.]46‬‬
‫الكلمات األربع ثقيالت يف ميزان الّرمحن‪:‬‬
‫ومن فضائلهّن أّنهّن ثقيالت في الميزان العظيم‪ ،‬ميزان ملك الملوك ُسبحانه‪ ،‬فعن أبي َسلمى‬
‫(رضي هللا عنه) قال‪ :‬سمعت رسول هللا ﷺ يقول‪َ« :‬بٍخ َبٍخ ‪ -‬وأشار بيِده بَخ ْم ٍس ‪ -‬ما أثَقَلهَّن في‬
‫الميزاِن ! ُسبحاَن هللا‪ ،‬والحمُد ِهلل‪ ،‬وال إله إاّل هللا‪ ،‬وُهللا أكَبُر » [رواه الّنسائي]‪ .‬و«َبٍخ َبٍخ»‪ :‬هي كلمة‬
‫استحسان ُتقال عند اإلعجاب بّشيء‪ ،‬فامأل ميزان رّبك بتسبيحه‪ ،‬وتحميده‪ ،‬وتهليله‪ ،‬وتكبيره‪.‬‬
‫الكلمات األربع يرتتب عليها جوائز مثينة وأجور عظيمة‪:‬‬
‫جوائز عظيمة وأجور جسيمة تحصل عليها في دقائق معدودة بتكرار هذه الكلمات‬
‫المباركات الطيبات الطاهرات‪ ،‬عن أّم هانئ بنت أبي طالب (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬مَّر بي ذات‬
‫يوٍم رسوُل هللا ﷺ‪ ،‬فقلُت ‪ :‬يا رسوَل هللا قد َكِبرُت وضعفُت (أو كما قالت) فمرني بعمٍل أعمُله وأنا‬
‫جالسٌة‪ .‬قال‪ :‬سِّبحي َهللا مئَة تسبيحٍة فأّنها تعدُل لك مئَة رقبٍة تعتقينها من ولِد إسماعيَل ‪ ،‬واحمدي‬
‫َهللا مئَة تحميدٍة فأّنها تعدُل لِك مئَة فرٍس مسُر جٍة ُم لجمٍة تحملين عليها في سبيِل هللا‪ ،‬وكبري َهللا‬
‫مئَة تكبيرٍة فأّنها تعدُل لِك مئَة بدنٍة ُم قلدٍة متقبلٍة‪ ،‬وهِّللي َهللا مئَة تهليلٍة تمُأل ما بين الّسماِء‬
‫واألرِض ‪ ،‬وال يرفُع يومئٍذ ألحٍد مثُل عملك إاّل أْن يأتَي بمثِل ما أتيِت » [رواه أحمد]‪ ،‬فهل من ُم بادر‬
‫وهل من مثابر!؟‬
‫حوقلته ﷺ‪:‬‬
‫أعظم المتوكلين والمفّو ضين أمرهم إلى هللا هو ُم لهم العالم ﷺ‪ ،‬فقد آوى إلى ركن شديد‪ ،‬وهو‬
‫الحميد المجيد‪ ،‬واستمد حوله وقوته من حول هللا وقوته‪ ،‬فنصره وأّيده وجعل العاقبة له‪.‬‬
‫كان ﷺ يكثر من قول‪« :‬ال حول وال قوة إاّل باهلل»؛ ألّنها كلمة الّتفويض والّتسليم‪ ،‬وُج ملة‬
‫الّثقة بالّر حمن الّر حيم‪ ،‬وعبارة تمأل الوجود توحيًدا ويقيًنا ورغبة فيما عند هللا‪ ،‬وثقة به سبحانه‪.‬‬
‫ومعناها ال إرادة‪ ،‬وال قدرة‪ ،‬وال تأييد‪ ،‬وال نصر‪ ،‬وال َفَر ج‪ ،‬وال عون‪ ،‬وال كفاية‪ ،‬وال طاقة‪،‬‬
‫إاّل باهلل العظيم‪ ،‬وليس لنا من األمر شيء‪ ،‬وأّن األمر ُكّله ُيدَّبر وُيصَّر ف من هللا وحده‪ ،‬ونحن عباد‬
‫ُم ستسلمون‪ ،‬صاغرون‪ ،‬ضعفاء‪ ،‬مساكين‪ ،‬تحت قّو ته‪ ،‬وقدرته‪ ،‬وجبروته‪ ،‬نطلب عونه وحده‬
‫سبحانه‪ ،‬وقد سّن ﷺ قولها في مناسبات ومقامات منها‪:‬‬
‫عند قول املؤذن‪« :‬حّي على الّصالة»‪ ،‬و«حّي على الفالح»‪:‬‬
‫فإّنه ُيستحب لمن سمعها أن يقول‪« :‬ال حول وال قوة إاّل باهلل»‪ ،‬ألّن فيها نداء لالستنهاض‬
‫وللّدعوة وطلب الحضور لبيت هللا‪ ،‬فناسب طلب المدد والعون من هللا بقول‪« :‬ال حول وال قوة إاّل‬
‫باهلل»‪.‬‬
‫وعند اخلوف من العني واحلسد‪:‬‬
‫فُشرع للمؤمن إذا رأى نعمته أو داره أو مزرعته أو رأى مثله غيره أن يقول‪ :‬ما شاء هللا ال‬
‫قوة إال باهلل‪ ،‬كما ذكر سبحانه وتعالى‪َ{ :‬و َلْو َال ِإْذ َدَخ ْلَت َج َّنَتَك ُقْلَت َم ا َشاَء ُهَّللا َال ُقَّو َة ِإَّال ِباِهَّلل ِإْن َتَر ِن‬
‫َأَنا َأَقَّل ِم ْنَك َم اًال َو َو َلًدا} [الكهف‪ :‬اآلية ‪.]39‬‬
‫وعند اخلروج من املنزل‪:‬‬
‫فأّنها سبب لهداية من قالها وكفايته ووقايته من الّشيطان الّر جيم‪ ،‬فعن أنس (رضي هللا عنه)‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬إذا خرج الّر جُل من بيِتِه فقال‪ِ :‬بْس ِم هللا‪ ،‬توكلُت على هللا‪ ،‬ال حوَل وال قوَة‬
‫إال باهلل‪ .‬قال‪ُ :‬يقاُل ِح يَنِئٍذ‪ُ :‬هِديَت وُكِفيَت وُو ِقيَت ‪ ،‬فَتَتَنَّح ى له الشياطيُن » [رواه الّنسائي]‪.‬‬
‫وعند االستيقاظ من الّنوم يف أثناء الّليل‪:‬‬
‫وإّنما ذكر ﷺ هذه الكلمة عند االستيقاظ من الّنوم في أثناء الّليل؛ ألّنها تمد الُم ستيقظ بطاقة‬
‫وقّو ة‪ ،‬وال يكون ذلك إاّل باالستعانة باهلل وحده جّل في ُعاله؛ ألن هذا الوقت هو وقت راحة وكسل‪،‬‬
‫كما جاء في حديث عبادة بن الّص امت‪ ،‬وهو حديث صحيح رواه البخاري‪.‬‬
‫وأخرب ﷺ أهّن ا كنز من كنوز اجلّنة‪:‬‬
‫والكنز هو الشيء الّنفيس الغالي الُم ّدخر الُم قتنى‪ ،‬فعن أبي موسى األشعري (رضي هللا عنه)‬
‫قال‪ :‬قال لي رسول هللا ﷺ‪« :‬أاّل َأُدُّلَك عَلى َكْنٍز ِم ن ُكُنوِز الَج َّنِة ؟» َفُقلُت ‪َ :‬بلى‪َ ،‬فقاَل ‪« :‬ال َحْو َل وُقَّو َة‬
‫ِإاّل باهلل» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وهي أيًض ا كّفارة للّذنوب مع الكلمات األربع‪ ،‬فقد روى اإلمام أحمد عن عبدهللا بن عمرو‬
‫(رضي هللا عنهما) قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬ما عَلى األرِض رجٌل يقوُل ‪ :‬ال إَلَه إاَّل هللا‪ ،‬وهللا َأْكبُر ‪،‬‬
‫وُسبحاَن هللا‪ ،‬والحمُد هلل‪ ،‬وال َح وَل وال قَّو َة إاَّل باهلل‪ ،‬إاَّل َكَّفرت عنُه ِم ن ذنوِبِه وإن كاَنت مثَل زبِد‬
‫البحِر »‪.‬‬
‫وهي باب من أبواب الجّنة‪ ،‬فعن قيس بن سعد (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬أال أدُّلَك‬
‫على باٍب من أبواِب الجَّنِة !؟ قلُت ‪ :‬بلى‪ ،‬قاَل ‪ :‬ال حوَل وال قَّو َة إاّل باهلل» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫وهذه الكلمة لها أثر قوّي في مدد أهل األعمال الّشاقة‪ ،‬وُتقال عند الخوف ومواقف الكرب‬
‫واألهوال‪ ،‬فقد ُر وي عن َح بيب بن َم سَلمة أّنه كان يقولها هو وجيشه إذا لقوا عدًو ا‪ ،‬أو فتحوا حصًنا‪،‬‬
‫ويرددون‪« :‬ال حول وال قوة إاّل باهلل»‪ ،‬فيغنمون‪ ،‬ويسلمون‪ ،‬وينتصرون‪[ .‬رواه ابن أبي الدنيا في‬
‫الَفَر ج بعد الشّدة]‪.‬‬
‫وجاء في األثر أّن المالئكة لما ُأمروا بحمل العرش‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه‬
‫عظمتك وجاللك؟ فقال‪ :‬قولوا‪ :‬ال حول وال قوة إاّل باهلل العلي العظيم‪ ،‬فلما قالوها حملوه‪.‬‬
‫ومن ثمارها أّن هللا ُيصّدق قائلها‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ قال‪« :‬من‬
‫قال‪« :‬ال إَلَه إاَّل هللا وال حوَل وال قَّو َة إاَّل باهلل‪ ،‬قاَل هللا‪ :‬ال إَلَه إاَّل َأنا‪ ،‬وال حوَل وال قَّو َة إاَّل بي‪َ ،‬و كاَن‬
‫يقوُل ‪َ :‬م ن قاَلها في مرِض ِه ثَّم ماَت لم َتطعمُه الَّناُر » [رواه الترمذي]‪ ،‬فقد جعل ﷺ كلمة «ال حول‬
‫وال قوة إاّل باهلل» عّدته في الّشدائد‪ ،‬وذخره في الّنوائب؛ ألّنه يطلب العون والمدد والقوة ممّن يملكها‬
‫وحده سبحانه وتعالى‪ ،‬فْلتكن عدتك في مصاعب الحياة‪ ،‬وفي أزمات األيام‪.‬‬
‫«ال حول وال قوة إاّل باهلل» كلمة االستسالم للواحد الّقهار‪ ،‬والّثقة بالعزيز الغّفار‪ ،‬والّتوّكل‬
‫على من يملك الّسمع واألبصار‪ ،‬رّددها بقلبك قبل لسانك‪ ،‬فهي رحلتك في ملكوت هللا من عالم‬
‫األرض الفاني‪ ،‬القصير‪ ،‬الفقير‪ ،‬الزائل‪ ،‬إلى عالم الجبروت حيث القّو ة‪ ،‬والعّز ة‪ ،‬والُنصرة‪،‬‬
‫والّر زق‪ ،‬والتأييد‪« ،‬ال حول وال قوة إاّل باهلل»‪ ،‬بها ُتفتح األقفال‪ ،‬وَيصلح الحال‪ ،‬وُيشرح البال‪،‬‬
‫ويرضى ذو الجالل‪.‬‬
‫«ال حول وال قوة إاّل باهلل» قولها توفيٌق من هللا‪ ،‬وأن ُتحضر قلبك عند ُنطقها فتٌح من هللا‪،‬‬
‫وأن تعمل بُم قتضاها في حياتك عطاٌء من هللا‪ ،‬فقلها وأبشر بما يسّر ك من رحمة هللا العظيمة‪،‬‬
‫وعطاياه الجسيمة‪:‬‬
‫اَل حوَل إاّل َح ولُه ُس بحاَنُه‬
‫وُه َو القوّي إليه َيْرُك ُن أَمحُد‬
‫ِق‬
‫هزَم اخلصوَم َهِبا وَدّك الَعهْم‬
‫وَهبا يُرُّد العادايِت ويْص َم ُد‬
‫استعاذته ﷺ‪:‬‬
‫االستعاذة باهلل هي االلتجاء إليه والّتحصن واالستجارة به جّل في عاله‪ ،‬وطلب الغوث منه‬
‫والّنجاة من كل ما يخيف المستعيذ في أمر دينه أو دنياه‪.‬‬
‫«أعوذ باهلل»‪ ،‬كلمة من أعظم الكلمات‪ ،‬وأجّل العبارات؛ ألن فيها طلب عون هللا ونصره‬
‫وحفظه من شياطين اإلنس والجن‪ ،‬ومن كّل ما ُيخاف منه؛ فهو ُسبحانه إله كل شيء‪ ،‬والقادر على‬
‫كل شيء‪ ،‬وفي الحديث الُقدسي يقول تعالى‪( :‬وإْن َسَأَلِني ُأَلْع ِط َيَّنُه‪ ،‬وَلِئِن اْس َتعاَذِني) [رواه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫وكان ُم لهم العالم محمد بن عبدهللا نبّي هللا ورسوله ﷺ يستعيذ باهلل‪ ،‬ويلجأ إليه‪ ،‬ويتحّص ن به‪،‬‬
‫في كل أحواله‪ ،‬وأوقاته‪ ،‬وأموره‪ ،‬ولهذا قّدس ﷺ االستعاذة باهلل‪ ،‬وعّظم أمرها فقال‪« :‬مِن استعاَذ‬
‫باهلل فَأِع يُذوُه» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫اَي رِب أنت اُملستعاُن ِش عارُه‬
‫يِف كّل َك رٍب اَن زٍل وداثرُه‬
‫يعتُّز ابلّرمحِن جّل جاللُه‬
‫حىت حَت ّق ق َنصـُرُه وَفخارُه‬
‫مواطن استعاذته ﷺ‪:‬‬
‫قبل تالوة القرآن‪ :‬كان ﷺ يستعيذ قبل أن يبدأ تالوة كتاب هللا عماًل بقوله سبحانه‪َ{ :‬فِإَذا َقَر ْأَت‬
‫اْلُقْر آَن َفاْس َتِع ْذ ِباِهَّلل ِم َن الَّشْيَطاِن الَّر ِج يِم } [النحل‪ :‬اآلية ‪]98‬؛ وألن تالوة القرآن من أجّل الّنعم‪ ،‬فعدو‬
‫اإلنسان الّشيطان الرجيم يريد صرفه وإشغاله عن التدّبر والّتلذذ بهذه الّنعمة‪ ،‬وألّن في القرآن أعظم‬
‫هداية‪ ،‬والّشيطان صاحب غواية فهو يريد صرف القارئ عن االهتداء بنور القرآن‪ ،‬وأمر ﷺ من‬
‫وجد لّم ة الشيطان أن يتعوذ باهلل من الّشيطان الّر جيم‪ ،‬ثم َقَر َأ‪{ :‬الَّشْيَطاُن َيِع ُدُكُم اْلَفْقَر َو َيْأُمُر ُكْم‬
‫ِباْلَفْح َشاِء } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]268‬وأمر ﷺ عقبة بن عامر(رضي هللا عنه) أن يستعيذ بسورة الفلق‬
‫وسورة الناس‪[ ،‬كما رواه الّنسائي]‪ .‬وأمر عبدهللا بن ُخ بيب(رضي هللا عنه) أن يستعيذ إذا أصبح‬
‫بالمعوذات ثالًثا‪ ،‬وإذا أمسى ثالًثا‪« :‬قل أعوذ برب الفلق»‪ ،‬و«قل أعوذ برب الناس» كما [رواه‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫عند الغضب‪ :‬عندما يغضب اإلنسان تعمى بصيرته‪ ،‬وُتصّم ُأذناه‪ ،‬وُيحجب الّر شد عن عقله‪،‬‬
‫وُيشعل الّشيطان في فؤاده نار الغضب؛ ألّنه ُخ لق من نار‪ ،‬فأمر ﷺ بااللتجاء إلى هللا واالستعاذة به‬
‫في هذه الحالة‪.‬‬
‫فاالستعاذة كالماء البارد الذي ُيطفئ هذه الّنار‪ ،‬فُتصبح الّر وح برًدا وسالًم ا‪ ،‬فعن ُسَلْيَم اَن بن‬
‫ُص َر ٍد(رضي هللا عنه) قال‪ُ« :‬كْنُت َج اِلًسا مع النبِّي ﷺ َو َر ُج اَل ِن َيْس َتَّباِن ‪ ،‬فأَح ُدُهما اْح َمَّر وْج ُه ُه‪،‬‬
‫واْنَتَفَخ ْت أْو َداُج ُه‪ ،‬فقال الّنبي ﷺ‪« :‬إِّني َأَلْع َلُم َكِلَم ًة لو قاَلَه ا َذَهَب عْنه ما َيِج ُد‪ ،‬لو قاَل ‪ :‬أُعوُذ باهلل‬
‫ِم َن الَّشْيَطاِن ‪َ ،‬ذَهَب عْنه ما َيِج ُد»‪َ ،‬فَقاُلوا له‪ِ :‬إَّن الّنبي ﷺ قال‪َ« :‬تَعَّو ْذ ِباهلل من الَّشْيَطاِن »‪ُ[ .‬م تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫عند الصالة‪ :‬كان ﷺ يستعيذ من الّشيطان الّر جيم عند الّص الة ألّنه يريد أن ُيحّص ن روحه في‬
‫كنف هللا‪ ،‬والّشيطان من عداوته يريد أن يصرف القلب عن الّسجود في محراب الّر ب‪ ،‬وعن َأِبي‬
‫َسِع يٍد الُخْدِر ِّي(رضي هللا عنه)‪َ ،‬قاَل ‪َ :‬كاَن َر ُسوُل هللا ﷺ ِإَذا َقاَم إَلى الَّص اَل ِة ِبالَّلْيِل كَّبَر ‪ُ ،‬ثَّم َيُقوُل‪:‬‬
‫«ُسْبَح اَنَك اللهَّم َو ِبَح ْم ِد َك ‪َ ،‬و َتَباَر َك اْس ُم َك ‪َ ،‬و َتَعاَلى َج ُّدَك ‪َ ،‬و اَل إلَه َغْيُر َك »‪ُ ،‬ثَّم َيُقوُل‪« :‬هللا َأْك َبُر‬
‫َكِبيًر ا»‪ُ ،‬ثَّم َيُقوُل‪َ« :‬أُعوُذ ِباهلل الَّسِم يِع الَعِليِم ِم َن الَّشْيَطاِن الَّر ِج يِم ‪ِ ،‬م ْن َهْم ِز ِه َو َنْفِخ ِه َو َنْفِثِه »‪[ .‬رواه‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫وكذلك حّث ﷺ على االستعاذة عند ورود الوساوس في الّص الة‪ ،‬فالّص الة قّر ة عيون‬
‫الموحدين‪ ،‬وهي مناجاة المؤمن لرّبه في محراب العبودية‪ ،‬فيريد الشيطان أن يقطع هذا الحبل‬
‫الممدود من المناجاة والوّد بين العبد ورّبه‪ ،‬فعن ُعْثَم اَن بَن َأِبي الَعاِص (رضي هللا عنه) أّنه َأَتى الّنبَّي‬
‫ﷺ َفقاَل له‪ :‬يا َر سوَل هللا‪ ،‬إَّن الَّشْيَطاَن قْد َح اَل َبْيِني وبْيَن َص اَل تي َو ِقَر اءتَي َيْلِبُسَه ا َعلَّي ‪َ ،‬فقاَل‬
‫َر سوُل هللا ﷺ‪َ« :‬ذاَك شيَطاٌن ُيَقاُل له‪َ :‬خْنَز ٌب ‪َ ،‬فِإَذا َأْح َسْس َتُه َفَتَعَّو ْذ باهلل منه‪َ ،‬و اْتِفْل عَلى َيَساِر َك‬
‫َثاَل ًثا‪ ،‬قاَل ‪َ :‬فَفَعْلُت ذلَك فأْذَهَبُه هللا َعِّني» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫عند دخول الخالء‪ :‬ألّن الخالء بيت الّشيطان ودار إبليس؛ ولذا سّن ﷺ التعّو ذ باهلل من شّر ه‬
‫ومكره قبل دخول الخالء‪ ،‬فعن أنس(رضي هللا عنه) قال‪ :‬كان الّنبي ﷺ إذا دخل اْلَخ اَل َء قال‪« :‬الَّلُه َّم‬
‫إِّني أُعوُذ بَك ِم َن الُخ ُبِث والَخ َباِئِث» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫عند نهيق الحمير ونباح الكالب‪ :‬سّن لنا ﷺ التعوذ عند نباح الكالب لنجاستها‪ ،‬وشؤمها‪،‬‬
‫وكذلك عند نهيق الحمير لنكارة أصواتها وبشاعته‪ ،‬فعن أبي هريرة (رضي هللا عنه) أّن الّنبي ﷺ‬
‫قال‪« :‬إذا َسِم ْعُتْم َنِه يَق الِح ماِر َفَتَعَّو ُذوا باهلل ِم َن الَّشْيطاِن ‪ ،‬فإَّنه َر أى شيطاًنا» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫عند األرق والفزع‪ :‬وحينما تقر عين المؤمن بالّنوم‪ ،‬وتهدأ نفسه‪ ،‬ويرتاح جسده‪ ،‬يأبى‬
‫الّشيطان إاّل أن ُيزعجه في نومه وُيشّو ش عليه راحته‪ ،‬فُشرع أن نستعيذ منه بالّلجوء إلى هللا‪ ،‬فقال‬
‫ﷺ‪« :‬الُّر ْؤ يا الّص اِلَح ُة ِم َن هللا‪ ،‬والُح ُلُم ِم َن الَّشْيطاِن ‪ ،‬فإذا َح ُلَم أَح ُدُكْم ُح ُلًم ا َيخاُفُه َفْلَيْبُصْق عن‬
‫َيساِر ِه ‪ ،‬وْلَيَتَعَّو ْذ باهلل ِم ن َشِّر ها‪ ،‬فأّنها ال َتُض ُّر ُه» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫عند وسوسة الّشيطان وتشكيكه‪ :‬قال أبو هريرَة (رضي هللا عنه)‪ :‬قال رسوُل هللا ﷺ‪« :‬يأتي‬
‫الشيطاُن أحَدكم فيقول‪ :‬من َخ َلَق كذا؟ من َخ لَق كذا؟ حتى يقول‪ :‬من َخ لَق رَّبك؟ فإذا بَلَغُه َفلَيْس تِع ْذ‬
‫باهلل وْلَيْنَتِه » [ُم تفق عليه]‪ ،‬وقوله ﷺ‪َ« :‬فلَيْس تِع ْذ باهلل وْلَيْنَتِه »‪ ،‬أي عن االستمرار في تحديث الّنفس‬
‫بهذه الوساوس التي أمالها الّشيطان؛ ألّن مقصود الّشيطان إفساد عقيدة المؤمن وتشكيكه في رّبه جّل‬
‫في عاله‪ ،‬فُأمر حينها أن يلتجئ إلى رّبه ليقطع عنه تلبيس إبليس‪ ،‬وقال تعالى‪َ{ :‬و ُقْل َر ِّب َأُعوُذ ِبَك‬
‫ِم ْن َهَم َز اِت الَّشَياِط يِن * َو َأُعوُذ ِبَك َر ِّب َأْن َيْح ُض ُر وِن } [المؤمنون‪ :‬اآلية ‪.]98 - 97‬‬
‫ومن َص َدق في االلتجاء إلى هللا‪ ،‬وأخلص العبودّية له‪ ،‬وصَّح ح توحيده‪ ،‬حماه ُهللا ووقاه‬
‫وحفظه ورعاه‪ ،‬قال ُسبحانه‪ِ{ :‬إَّنُه َلْيَس َلُه ُسْلَطاٌن َعَلى اَّلِذيَن آَم ُنوا َو َعَلى َر ِّبِه ْم َيَتَو َّكُلوَن } [النحل‪:‬‬
‫اآلية ‪.]99‬‬
‫عند الّر قية‪ :‬وكان ﷺ ُيعيذ َم ن رقاه من الّشيطان الّر جيم‪ ،‬كما عّو ذ ﷺ الَحَسَن والُح َسْيَن ‪،‬‬
‫وقال‪« :‬إَّن َأباُكما كاَن ُيَعِّو ُذ بها إْس ماِع يَل وإْس حاَق ‪َ :‬أُعوُذ بَكِلماِت هللا الّتاَّم ِة ‪ِ ،‬م ن ُكِّل شيطاٍن‬
‫وهاَّم ٍة‪ ،‬وِم ْن ُكِّل عْيٍن الَّم ٍة » [رواه البخاري]‪ .‬والهاَّم ة بتشديد الميم‪ :‬هي كل ذات سم يقتل كالحّية‬
‫وغيرها‪ ،‬وأما العين الاَّل َّم ُة بتشديد الميم‪ :‬فهي التي تصيب كل ما نظرت إليه بسوء‪ ،‬فاستعاذ ﷺ من‬
‫هذه الّثالث؛ ألّنها مصدر الّشر واألذى‪ ،‬وال ُيحّص ن منها إاّل هللا وحده‪ ،‬وَعْن ُعْثَم اَن ْبِن َأِبي اْلَعاِص‬
‫(رضي هللا عنه) َأَّنُه َشَكا ِإَلى َر ُسوِل هللا ﷺ َو َجًعا َيِج ُدُه ِفي َجَسِدِه ُم ْنُذ َأْس َلَم ‪َ ،‬فَقاَل َلُه ﷺ‪َ« :‬ض ْع َيَدَك‬
‫َعَلى َاَّلِذي َتَأَّلَم ِم ْن َجَسِد َك ‪َ ،‬و ُقْل‪ِ :‬بْس ِم هللا‪َ ،‬ثاَل ًثا‪َ ،‬و ُقْل َسْبَع َمَّر اٍت‪َ :‬أُعوُذ ِباهلل َو ُقْد َر تِه ِم ْن َشِّر َم ا‬
‫َأِج ُد َو ُأَحاِذ ُر » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن أعظم الحصون التي يتحّص ن بها الُم سلم من كل شر وبالء سورة الفلق وسورة الّناس‪،‬‬
‫فقد دعا ﷺ إليها بفعله وقوله‪ ،‬وكان يرقي بها نفسه إذا مرض‪ ،‬ويقرؤها ثالًثا ثالًثا عند نومه‪ ،‬وعند‬
‫أدبار الّص لوات‪ ،‬وفي الّص باح والمساء؛ ألّنها جمعت أجّل حصن وأعظم وقاية من كّل شّر وضرر‪،‬‬
‫فعن أم المؤمنين عائشة (رضي هللا عنها) ‪« :‬أَّن َر سوَل هللا ﷺ كاَن إذا اْش َتَكى َيْقَر ُأ عَلى َنْفِسِه‬
‫بالُم َعِّو ذاِت وَيْنُفُث ‪َ ،‬فَلَّم ا اْش َتَّد وَج ُعُه ُكْنُت أْقَر ُأ عليه وَأْم َسُح بَيِدِه َر جاَء َبَر َكِتها»‪ُ[ .‬م تفق عليه]‪.‬‬
‫عند الّنزول بمكان جديد‪ :‬ال أمان في أي مكان إاّل بحماية الّر حمن‪ ،‬يقول ﷺ‪َ« :‬م ْن َنَز َل‬
‫َم ْنِز الً‪ُ ،‬ثَّم َقاَل ‪َ :‬أُعوُذ ِبَكِلَم اِت هللا الَّتاَّم اِت ِم ْن َشِّر َم ا َخ َلَق ‪َ ،‬لم َيُض َّر ُه َشْي ٌء ‪َ ،‬ح َّتٰى َيْر َتِح َل ِم ْن َم ْنِز ِلِه‬
‫ٰذ ِلَك » [رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫عند الّص باح والمساء وعند الّنوم‪ :‬ألهم ﷺ ُأّم ته وسّن لهم إذا أصبحوا‪ ،‬وإذا أمسوا‪ ،‬وإذا‬
‫أخذوا مضاجعهم أن يستعيذوا باهلل من أن يكونوا مصدًر ا للّشر‪ ،‬أو مّم ن يقع عليهم هذا الّشر‪ ،‬لينعموا‬
‫بحفظ هللا في ليلهم ونهارهم‪ ،‬وصباحهم ومسائهم‪ ،‬وهذا الحديث حصن حصين لَم ن أحضر قلبه عند‬
‫قوله‪ ،‬وهو أجمل هدّية من رسول الهدى ألحّب إنسان لديه «أبو بكر الّص ديق (رضي هللا عنه)»‬
‫عندما سأله فَقاَل ‪َ« :‬ياَر ُسوَل هللا ُمْر ِني بشيٍء َأُقوُلُه إَذا َأْصَبْح ُت َو إَذا َأْم َسْيُت ‪َ .‬قاَل ﷺ‪ُ :‬قْل ‪ :‬اللهَّم َعاِلَم‬
‫الَغْيِب َو الّشَه اَد ِة‪َ ،‬فاِط َر الَّسَم اواِت واَألْر ِض ‪َ ،‬ر َّب ُكِّل َشيٍئ َو َم ِليَكُه‪ ،‬أْش َه ُد َأن ِإله إاِّل أْنَت ‪ ،‬أُعوُذ ِبَك‬
‫ِم ْن َنْفِسي َو ِم ْن الَّشيْط َاِن وِش ْر ِكِه وأن َأْقَترَف على َنْفِسي ُسْو ًء ا أو َأجَر ُه على ُم ْسِلم‪َ .‬قاَل ‪ُ :‬قْلُه إَذا‬
‫َأْصَبْح َت ‪َ ،‬و إَذا َأْم َسْيَت ‪ ،‬وِإَذا أَخ ْذَت َم ْض َجَعَك » [رواه أحمد]‪ .‬وكان رسول هللا ﷺ إذا أَو ى إلى فراِش ه‬
‫قال‪« :‬أعوُذ بك من شِّر كل شيٍء أنت آِخ ٌذ بناصيِته» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫عند الجماع‪ :‬ومن حرصه ﷺ على أمته أّنه حّث الّز وج بالّتعوذ من الّشيطان عند اللقاء‪،‬‬
‫ليبارك هللا لهما في الّذرّية الُم حّص نة من كيد إبليس‪ ،‬فقال‪« :‬لو أَّن أحَدكم إذا أَتى أهَله قال‪ :‬بسِم هللا‪،‬‬
‫الّلهم جِّنبنا الّشيطان‪ ،‬وجِّنب الّشيطان ما رزقَتنا‪ ،‬فُقِض َي بينهما ولٌد لم يُض َّر ُه شيطاٌن أبًدا» [ُم تفق‬
‫عليه]‪.‬‬
‫عند الّشعور بالهموم واألحزان‪ :‬إذا بحثنا في قاموس الّشقاء وديوان الّتعاسة فلن نجد قائمة‬
‫تشمل كل أصول المعاناة واألزمات‪ ،‬وأسباب الكدر والّتعاسة‪ ،‬وأسس ضيق الّص در وشتات األمر‪،‬‬
‫كهذه الوصفة التي ذكرها ﷺ واستعاذ منها‪ ،‬فكان يقول ‪ -‬كما في «الّص حيحين»‪« :-‬اللهَّم إِّني أُعوُذ‬
‫بَك ِم َن اَلهِّم والَح َز ِن ‪ ،‬والَعْج ِز والَكَسِل ‪ ،‬والُبْخ ِل والُجْبِن ‪ ،‬وَض َلِع الَّد ْيِن ‪ ،‬وَغَلَبِة الِّر َج اِل »‪.‬‬
‫فاستعاذ من الهّم الحاضر والمستقبلي‪ ،‬والحزن على مآسي الماضي‪ ،‬والعجز الذي يكسر‬
‫الهّم ة فيصيب صاحبها بالفشل‪ ،‬والكسل الذي يهدم البدن فيعود صاحبه ُم حبًطا مترهاًل ‪ ،‬والبخل الذي‬
‫يحمل اإلنسان على إمساك ماله ومعروفه‪ ،‬والجبن الذي ُيحدث أزمة في القلب فُيشتت الخوف بسببه‬
‫الّر وح‪ ،‬وضلع الّدين ألّنه هّم بالليل وذل بالّنهار‪ ،‬وغلبة الّر جال ألّنها تكسر اإلنسان فيعيش مقهوًر ا‬
‫مظلوًم ا‪ ،‬فمن استعاذ برّبه ونجا من هذه الّثمانية عاش الّسعادة واألمل‪ ،‬والحياة الّطيبة‪ ،‬والعّز ة‬
‫والكرامة‪ ،‬فُسبحان من ألهم رسوله جوامع الكلم‪ ،‬وأفاض عليه من ُح سن البيان ما يخلب األلباب‪.‬‬
‫عند الخوف من الّض اللة‪ :‬وكان ﷺ يستعيذ من الّضاللة واالنحراف عن منهج هللا‪ ،‬فكان‬
‫يقول‪« :‬اللهَّم إِّني َأُعوُذ بِع َّز ِتَك ‪ ،‬ال إَلَه إاَّل أْنَت ‪َ ،‬أْن ُتِض َّلِني» [ُم تفق عليه]‪ .‬فإذا كان إمام المهتدين‬
‫يدعو بهذا الّدعاء‪ ،‬فكيف بحالنا نحن؟!‬
‫وكان يستعيذ ﷺ من ثالث‪ ،‬وهي أصول الباليا وأسس الّشدائد‪ ،‬فقال‪« :‬الَّلهَّم إِّني أعوُذ بَك‬
‫ِم ن الُكفِر ‪ ،‬والَفقِر ‪ ،‬وَعذاِب القبِر » [رواه الّنسائي]‪ .‬فانظر ما أوجز الّلفظ! وما أعظم الداللة!‪.‬‬
‫ومن هديه ﷺ أّنه كان إذا خرَج من بيته توّج ه باالستعاذة إلى هللا؛ ألن اإلنسان ُم عّر ض في‬
‫طريقة إلى أزمات ونغزات وفتن وأشرار‪ ،‬فعن أّم سلمة (رضي هللا عنها) قالت‪« :‬ما خرج النبُّي ﷺ‬
‫من بيتي َقُّط إاّل رفع َطْر َفه إلى الّسماِء فقال‪ :‬اللهم أعوُذ بك أن َأِض َّل أو ُأَض َّل ‪ ،‬أو َأِز َّل أو ُأَز َّل ‪ ،‬أو‬
‫َأْظ ِلَم أو ُأْظ َلَم ‪ ،‬أو َأْج َهَل أو ُيْج َهَل َعَلَّي » [رواه أبو داود]‪ ،‬ومن أسرار الحديث أّنه استعاذ ﷺ من‬
‫ضالل الّنفس وضالل الغير؛ حتى ال يقع منه خطأ أو يقع عليه‪.‬‬
‫من شّر الجوارح‪ :‬إذا ُأهملت األعضاء بغير ُهدى من هللا ضّلت وانحرفت وجّر ت على‬
‫صاحبها الويالت‪ ،‬فكان ﷺ يستعيذ من شرورها فيقول‪« :‬اللهَّم إِّني أعوُذ بك من شِّر سمعي ‪ ،‬ومن‬
‫شِّر بصري ‪ ،‬ومن شِّر لساني ‪ ،‬ومن شِّر قلبي ‪ ،‬ومن شِّر َم ِنِّيي» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫واستعاذ ﷺ من أمور ُتصاحب اإلنسان في حياته‪ ،‬فقال‪« :‬اللهَّم ِإِّني َأُعوُذ بَك ِم ن ِع ْلٍم ال‬
‫َيْنَفُع ‪َ ،‬و ِم ْن َقْلٍب ال َيْخ َشُع ‪َ ،‬و ِم ْن َنْفٍس ال َتْش َبُع ‪َ ،‬و ِم ْن َدْع َو ٍة ال ُيْس َتجاُب َلها» [رواه مسلم]‪ .‬فإّن العلم‬
‫غير الّنافع يجر إلى الّضاللة‪ ،‬والقلب غير الخاشع يوقع في الهالك‪ ،‬والنفس التي ال تشبع ُتنزل‬
‫صاحبها منازل الّطمع‪ ،‬والّدعاء الذي ال ُيسمع هو المحجوب بمعاصي صاحبه‪.‬‬
‫من الظلم‪ :‬فالّظلم سبب في هالك الحرث والّنسل وانتشار الفساد في العالم‪ ،‬وقد استعاذ ﷺ‬
‫منه‪ ،‬كما صح عنه أّنه كان إذا سافَر يتعَّو ُذ من دعوة المظُلوم‪ ،‬وكان يقول ﷺ‪« :‬الّلهم ِإَّني أعوُذ بك‬
‫من الفقِر والقَّلِة والَّذلِة ‪ ،‬وأعوُذ بك من أْن أَظِلَم أو ُأظَلُم » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫من سوء الُخ ُلق‪ :‬ال أعلم تاًج ا أشرف من تاج الُخ ُلق الحسن‪ ،‬وال وساًم ا على الّص در أجمل‬
‫منه‪ ،‬فقد أتى رسولنا ﷺ بالخلق الجميل كّله‪ ،‬حتى وصفه هللا بذلك وامتدحه فقال ُسبحانه‪َ{ :‬و ِإَّنَك َلَعَلى‬
‫ُخ ُلٍق َعِظ يٍم } [القلم‪ :‬اآلية ‪ ،]4‬وحّث أّم ته على االستعاذة من سوء الُخ ُلق؛ ألّنه من أسوأ الّص فات‬
‫وأقبح الّشمائل‪ ،‬فكان يقول ﷺ‪« :‬الَّلهَّم ِإَّني أعوُذ ِبَك من منكراِت اَألخالِق واألعماِل واَألْه واِء »‬
‫[رواه الترمذي]‪ .‬وكان يقول ﷺ‪« :‬اللهَّم ِإَّني َأُعوُذ بَك ِم ن َشِّر ما َعِم ْلُت ‪َ ،‬و ِم ْن َشِّر ما َلْم َأْع َم ْل»‬
‫[رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫من تقّلب أحوال الّدنيا‪ :‬ال يستقيم للّدنيا حال‪ ،‬فهي تتقّلب بك بين سّر اء وضّر اء‪ ،‬وشّدة‬
‫ورخاء‪ ،‬فصّح عنه ﷺ أّنه قال‪ « :‬الَّلُه َّم إِّني َأُعوُذ بَك ِم ن َز َو اِل ِنْعَم ِتَك ‪َ ،‬و َتَح ُّو ِل َعاِفَيِتَك ‪َ ،‬و ُفَج اَءِة‬
‫ِنْقَم ِتَك ‪َ ،‬و َجِم يِع َسَخ ِط َك » [رواه مسلم]‪ ،‬فطلب ﷺ من رّبه استمرار العافية ودوام الخير والبركة‪،‬‬
‫واستعاذ به من تحّو ل الحال‪ ،‬واستعاذ ﷺ من أربع تجتمُع فيها مكاره الّدنيا واآلخرة‪ ،‬وأّن الّسالمة‬
‫منها أصل األمن والعافية والبركة‪ ،‬فصّح عنه ﷺ أّنه كان يتعّو ذ ِم ن‪َ« :‬جهِد البالِء ‪ ،‬وَد َر ِك الَّشقاِء ‪،‬‬
‫وسوِء الَقضاِء ‪ ،‬وَشماَتِة األْعداِء » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫وكذلك الغنى والفقر‪ ،‬فهما بابان إّم ا إلى الخير وإما إلى الّشر‪ ،‬أو إلى الّنجاة أو الهالك‪،‬‬
‫ولذلك صّح عنه ﷺ أّنه كان يقول‪« :‬اللهَّم إِّني أُعوُذ بَك ِم ن َعذاِب الّناِر ‪ ،‬وِفْتَنِة الّناِر ‪ ،‬وِفْتَنِة الَقْبِر‬
‫وَعذاِب الَقْبِر ‪ ،‬وَشِّر ِفْتَنِة الِغ نى‪ ،‬وَشِّر ِفْتَنِة الَفْقِر » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫تغّير أحوال الطقس والبيئة‪ :‬لقد استعاذ ﷺ من تغّير أحوال الطقس والبيئة‪ ،‬فكان إذا هّبت‬
‫الّر يح قال‪« :‬اللهَّم إِّني َأْس َأُلك َخ ْيَر ها‪َ ،‬و َخ ْير ما ِفيها‪َ ،‬و َخ ْير ما ُأْر ِس َلْت به‪َ ،‬و َأُعوُذ بَك ِم ن َشِّر ها‪،‬‬
‫وَشِّر ما ِفيها‪ ،‬وَشِّر ما ُأْر ِس َلْت به» [رواه ُم سلم]‪.‬‬
‫وإذا أبصر غمامة في الّسماء قال‪« :‬الَّلهَّم إِّني أعوُذ ِبَك من شِّر ها‪ ،‬فإن ُم ِط َر قاَل ‪ :‬الَّلهَّم‬
‫صِّيًبا َهنيًئا» [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫وكان إذا رأى سحاًبا قال‪« :‬اللهم إّنا نعوُذ بك من شِّر ما ُأرِس ل به» [رواه ابن ماجه وأصله‬
‫عند ُم سلم]‪ ،‬وهنا ُيلحظ االحتياط والحذر من كل الّظواهر‪ ،‬وااللتجاء إلى هللا تعالى‪ ،‬فإّن اإلنسان ال‬
‫يدري ما ُخ بئ له فيها‪ ،‬هل هو خير أم شر!؟‬
‫من سوء الجار‪ :‬وقد استعاذ ﷺ من جار السوء؛ ألّن الجار يّطلع على األسرار‪ ،‬ويعرف‬
‫األخبار‪ ،‬وهو أقرب الّناس إلى جاره فإذا تحّو ل إلى األذى كان أضّر شيء عليه‪ ،‬ولذلك قال ﷺ‪:‬‬
‫«تعَّو ذوا باهلل من جاِر الُّسوِء في داِر الُم قاِم ‪ ،‬فإَّن جاَر البادية يتحوُل عنك» [رواه النسائي]‪.‬‬
‫من الفتن‪ :‬إّن للفتن أشكااًل ‪ ،‬وصوًر ا‪ ،‬وأحوااًل ‪ ،‬وقد تخفى حتى على أذكياء العالم‪ ،‬ولذلك‬
‫أمرنا رسوُلنا ﷺ كما جاء في «صحيح مسلم» فقال‪َ« :‬تَعَّو ُذوا باهلل ِم َن الِفَتِن ‪ ،‬ما َظَه َر منها َو ما‬
‫َبَطَن »‪.‬‬
‫ولو ظّن اإلنسان أّنه على صواب فعليه أن يستعيذ باهلل ألّنه ال يدري بعواقب األمور‪.‬‬
‫ومن الفتن التي وّج ه ﷺ بالّتعوذ منها فتنة الّدنيا؛ فأّنها تتبرج بزخرفها؛ وتخدع القلوب‬
‫بغرورها‪ ،‬فكان يدعو ﷺ ويقول‪« :‬وأعوُذ بك من فتنِة الّدنيا» [رواه البخاري]‪ ،‬وقال أيًض ا‪« :‬اللهَّم‬
‫ِإِّني َأُعوُذ ِبَك‬
‫ِبَك ِم ْن اْلَم ْأَثِم‬
‫ِم ْن ِفْتَنِة الَم ِسيِح الَّد َّج اِل ‪َ ،‬و َأُعوُذ ِبَك ِم ْن ِفْتَنِة الَم ْح َيا‪َ ،‬و ِفْتَنِة الَمَم اِت‪ ،‬اللهَّم إِّني َأُعوُذ‬
‫َو اْلَم ْغَر ِم ‪َ ،‬فَقاَل َلُه َقاِئٌل ‪ :‬ما أْك َثَر ما َتْس َتِع يُذ ِم َن الَم ْغَر ِم !‪َ ،‬فَقاَل ‪ِ :‬إِّن الَّر ُجَل ِإَذا َغِر َم َح َّد َث‬
‫َفَكَذَب » [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫ومن مصاعب الحياة‪ :‬فهي ُتشِّتت القلب عن ذكر هللا‪ ،‬وعن طاعته‪ ،‬ومنها الّسفر لما فيه من‬
‫ُم فارقة لألهل واألوطان‪ ،‬فُيصبح مشغواًل في الغالب عن العبادة وذكر هللا‪ ،‬فشرع ﷺ االستعاذة فيه‬
‫فكان يقول‪« :‬اللهَّم ِإِّني َأُعوُذ بَك ِم ن َو ْعثاِء السَفِر ‪َ ،‬و َكآَبِة الَم ْنَظِر ‪َ ،‬و ُسوِء الُم ْنَقَلِب في الماِل‬
‫واألْه ِل » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫واحتمال وجود الفتن والّشرور في األبناء والّز وجات والخدم واألموال وارد في الكتاب‬
‫والّسنة‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُنوا ِإَّن ِم ْن َأْز َو اِج ُكْم َو َأْو َالِد ُكْم َعُدًّو ا َلُكْم َفاْح َذُر وُهْم } [التغابن‪:‬‬
‫اآلية ‪ ،]14‬ولهذا تعّو ذ ﷺ من شّر الّز وجة والخادم‪ ،‬فقال‪« :‬إذا تزَّو َج أحُدكُم امرأًة أو اشَترى خاِد ًم ا‬
‫فليقِل ‪ :‬الَّلهَّم إِّني أسأُلَك خيَر ها وخيَر ما جبلَتها عليِه ‪ ،‬وأعوُذ ِبَك من شِّر ها ومن شِّر ما جبلَتها‬
‫عليِه » [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫ومن غضب هللا وعذابه‪ :‬غاية مطُلوِبِه عليه الّص الة والّسالم‪ ،‬ومنتهى أمنياته أن يرضى هللا‬
‫عنه‪ ،‬ألّنه عرفه فأحّبه فخاف غضبه وسخطه وعقابه جّل في عاله‪ ،‬ولذلك كان يستعيذ به سبحانه‬
‫فيقول‪« :‬الَّلُه َّم أُعوُذ بِر َضاَك ِم ن َسَخ ِط َك ‪ ،‬وِبُم َعاَفاِتَك ِم ن ُعُقوَبِتَك ‪ ،‬وَأُعوُذ بَك ِم ْنَك ال ُأْح ِص ي َثَناًء‬
‫َعَلْيَك أْنَت كما أْثَنْيَت عَلى َنْفِس َك » [رواه ُم سلم]‪ .‬وهنا أبلغ الكالم‪ ،‬وأوجزه‪ ،‬وأفصحه‪ ،‬فمقّدر األقدار‬
‫هو هللا وحده‪ ،‬فهو الذي قّدر الّر ضا عّم ن يرضى عنه‪ ،‬والغضب لمن يغضب عليه‪ ،‬فكل القضاء‬
‫يعود إليه ُسبحانه‪ ،‬ال يخرج شيء عن ُح كمه‪ ،‬فَم ن فّر من غضبه إّنما فّر إليه‪ ،‬وَم ن ذهب يطلب‬
‫رضاه إّنما ذهب إليه‪ ،‬فكّلها من هللا‪ ،‬وعلى هللا‪ ،‬وإلى هللا‪ ،‬وباهلل‪ ،‬فاختصرها رسول هللا في كلمٍة‬
‫ُم وجزة ُم عجزة‪« :‬وأعوذ بَك منَك »‪ ،‬وهذا قبس من مشكاة الّنبّو ة‪ ،‬ونور من شمس الّر سالة‪.‬‬
‫َأعاذَك هللا اَي خَري النبّييَنا‬
‫ُدنَياَك َعَّم رَه ا ُهللا والِّد يَنا‬
‫إَذا َدعوَت إلَه الكون يِف َخ طر‬
‫لىّب ِنداَك وقاَل الّد هُر ‪ :‬آميَنا‬
‫ومدح ﷺ الّذاكرين‪ ،‬وبّلغنا عن رّب العالمين عشر رسائل في الّذكر‪:‬‬
‫الّر سالة األولى‪ :‬بّشرنا ﷺ بأربع جوائز لمن اجتمع لذكر هللا تعالى‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬ال َيْقُعُد َقْو ٌم‬
‫َيْذُكُر وَن َهللا َعَّز َو َجَّل إاّل َح َّفْتُه ُم الَم الِئَكُة‪َ ،‬و َغِش َيْتُه ُم الَّر ْح َم ُة‪َ ،‬و َنَز َلْت َعَلْيِه ُم الَّسِك يَنُة‪َ ،‬و َذَكَر ُهُم ُهللا‬
‫ِفيَم ْن ِع ْنَد ُه» [رواه مسلم]‪.‬‬
‫الّر سالة الّثانية‪ :‬حياُة اإلنسان كُّلها ذكٌر هلل في يقظته ومنامه‪ ،‬وليله ونهاره‪ ،‬وحّله وترحاله‪،‬‬
‫وكل حاالته‪ ،‬امتثااًل ألمر الباري ُسبحانه‪{ :‬اَّلِذيَن َيْذُكُر وَن َهَّللا ِقَياًم ا َو ُقُعوًدا َو َعَلى ُج ُنوِبِه ْم } [آل‬
‫عمران‪ :‬اآلية ‪.]191‬‬
‫الّر سالة الثالثة‪ :‬أّن اإلعراض عن ذكر هللا ُيورث ضنك المعيشة‪ ،‬وكدر الخاطر‪ ،‬وضيق‬
‫الّص در‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬و َم ْن َأْع َر َض َعْن ِذ ْك ِر ي َفِإَّن َلُه َم ِع يَشًة َض نًكا َو َنْح ُشُر ُه َيْو َم اْلِقَياَم ِة َأْع َم ى}‬
‫[طه‪ :‬اآلية ‪ ،]124‬أّم ا من أراد الّسكينة واالطمئنان والّر احة فعليه بذكر هللا‪ ،‬فبذكره ُسبحانه تحلو‬
‫الحياة‪ ،‬وبذكره تأمن وتسعد‪ ،‬وبذكره يهدأ خاطرك‪ ،‬ويطمئن قلبك‪ ،‬كما قال ُسبحانه‪{ :‬اَّلِذيَن آَم ُنوا‬
‫َو َتْط َم ِئُّن ُقُلوُبُهْم ِبِذ ْك ِر ِهَّللا َأَال ِبِذ ْك ِر ِهَّللا َتْط َم ِئُّن اْلُقُلوُب } [الرعد‪ :‬اآلية ‪.]28‬‬
‫الّر سالة الّر ابعة‪ :‬اختر أّي نوع من الّذكر فجزاؤك من جنس ما ذكرت‪َ ،‬يُقوُل ُهللا سبحانه‬
‫وَتَعاَلى ‪ -‬في الحديث القدسي‪« :-‬أَنا ِع ْنَد َظِّن َعْبِدي ِبي‪َ ،‬و أَنا َمَعُه ِإَذا َذَكرِني‪َ ،‬فِإْن َذَكرِني ِفي َنْفِسِه‬
‫َذَكْر ُتُه ِفي َنْفِسي‪ ،‬وإْن َذَكَر ِني في َمٍإَل َذَكْر ُتُه في َمٍإَل َخ ْيٍر ِم ْنُه ْم ‪ ،‬وإْن َتَقَّر َب إَلَّي بِشْبٍر َتَقَّر ْبُت إَلْيِه‬
‫ِذ َر اًعا‪ ،‬وإْن َتَقَّر َب إَلَّي ِذ َر اًعا َتَقَّر ْبُت إَلْيِه باًعا‪ ،‬وإْن أتاِني َيْم ِشي أَتْيُتُه َهْر َو َلًة» [ُم تفق عليه]‪.‬‬
‫الّر سالة الخامسة‪ :‬لم َيرد في القرآن الكريم طلب اإلكثار من الطاعات إاّل في الذكر‪َ{ :‬ياَأُّيَه ا‬
‫اَّلِذيَن آَم ُنوا اْذُكُر وا َهَّللا ِذ ْك ًر ا َكِثيًر ا * َو َسِّبُح وُه * ُبْك َر ًة * َو َأِص يًال * * ُهَو اَّلِذي ُيَص ِّلي َعَلْيُكْم‬
‫َو َم َالِئَكُتُه ِلُيْخ ِر َج ُكْم ِم َن الُّظُلَم اِت ِإَلى الُّنوِر َو َكاَن ِباْلُم ْؤ ِم ِنيَن َر ِح يًم ا * َتِح َّيُتُهْم َيْو َم َيْلَقْو َنُه َسَالٌم َو َأَعَّد‬
‫َلُهْم َأْج ًر ا َكِر يًم ا} [األحزاب‪ :‬اآلية‪ ،]44 - 41 :‬كل هذه الجوائز الّثمينة‪ ،‬واألعطيات الجسيمة‪،‬‬
‫والمواهب العظيمة للّذاكرين هللا كثيًر ا والّذاكرات‪ ،‬قال تعالى‪َ{ :‬و الَّذاِك ِر يَن َهَّللا َكِثيًر ا َو الَّذاِك َر اِت َأَعَّد‬
‫ُهَّللا َلُهْم َم ْغِفَر ًة َو َأْج ًر ا َعِظ يًم ا} [األحزاب‪ :‬اآلية ‪.]35‬‬
‫الّر سالة الّسادسة‪ :‬أخبرنا ﷺ أّن الّذاكرين هم الّسابقون من العباد‪ ،‬فقال ﷺ‪َ« :‬سَبَق‬
‫الُم َفِّر ُدوَن ‪َ .‬قاُلوا‪َ :‬و َم ا الُم َفِّر ُدوَن َيا َر ُسوَل هللا!؟‪َ ،‬قاَل ‪ :‬الَّذاِك ُر وَن َهللا َكِثيًر ا َو الَّذاِك َر اُت » [رواه مسلم]‪.‬‬
‫الّر سالة الّسابعة‪ :‬أّن َم ن َذكر هللا‪َ ،‬ذكره هللا جّل في ُعاله‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬فاْذُكُر وِني‬
‫َأْذُكْر ُكْم } [البقرة‪ :‬اآلية ‪ ،]152‬ما أجملها من بشارة! نذكره نحن العباد الّ
Download