فقه مالكي وأصوله م س 1المحاضرة الثالثة: شروط تعتبر في طريقة أخذ المسروق: - 1أن يأخذ السارق المال بعد هتك الحرز (:)2 ال يعتبر مجرد األخذ سرقة عند جمهور الفقهاء ،إال إذا نتج عن هتك الحرز ،كأن يفتح السارق أغالله ويدخل ،أو يكسر بابه أو شباكه ،أو ينقب في سطحه أو سده شخص نائم ،أو جداره ،أو يدخل يده في الجيب ألخذ ما به ،أو يأخذ ثوبًا تو َّ نحو ذلك؛ وال يشترط عند الجمهور -خالفًا للحنفية -دخول السارق الحرز لتحقيق األخذ وهتك الحرز ،فدخول الحرز ليس مقصودًا لذاته ،بل ألخذ المال، فإذا تحقق المقصود بمد اليد داخل الحرز وإخراج المال ،كان ذلك كافيًا في هتك الحرز وأخذ المال. عا ...« :حتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر ويؤيده ما في حديث جابر مرفو ً قصبه في النار ،وكان يسرق الحاج بمحجنه ،فإذا فُطن له قال :إنما تعلَّق بمحجني؛ وإن غفل عنه ذهب به» (.)3 - 2أن يأخذ المال ُخفية: واستتارا ،بأن يكون ذلك يشترط الفقهاء إلقامة حد السرقة أن يؤخذ الشيء خفية ً دون علم المأخوذ منه ودون رضاه ،وقد نقل ابن حزم إجماع األمة على أن السرقة هي االختفاء بأخذ الشيء ليس له ،وأن السارق هو المختفي .اهـ. س ِّمي :مغالبة أو نهبًا أو خلسة أو اغتصابًا أو فإن أخذه على سبيل المجاهرة ُ انتهابًا ،ال سرقة. وإن حدث األخذ دون علم المالك أو من يقوم مقامه ثم رضي فال سرقة (.)4 ولهذا ال يعتبر الفقهاء الخائن ( )1وال المختلس ( )2وال المنتهب ( )3سارقًا، فال يوجبون عليه القطع ،وإن وجب التعزير ،ويحتجون بحديث جابر -رضي هللا عنه -أن النبي -صلى هللا عليه وسلم -قال« :ليس على خائن ،وال منتهب ،وال مختلس قطع» (.)4 1 وقد تقدم -في الشبهات حول قطع السارق -وجه الحكمة في قطع السارق دون الغاصب والمنتهب والمختلس. - 3إخراج المسروق من الحرز (:)5 اتفق جمهور الفقهاء على وجوب إخراج المسروق من الحرز لكي يقام حد السرقة ،فإن كانت السرقة من حرز بالحافظ ،فيكفي مجرد األخذ ،حيث ال اعتبار للمكان في الحرز بالحافظ. وإن كانت السرقة من حرز بنفسه فالبد من إخراج المسروق من المكان المعد لحفظه ،فإذا ضبط السارق داخل الحرز قبل أن يخرج بما سرقه ،فال يقطع ،بل َّ يعزر ،وفي هذا آثار عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز ،ذكرها ابن حزم في «المحلي» ( )320 /11وفي أسانيدها مقال، وذكر خالفه عن عائشة وابن الزبير وغيرهما. ويشترط الحنفية إلقامة الحد أن يخرج السارق بالمال من الحرز ،فلو رمي بالمال خارج الحرز ،ثم لم يتمكن هو من الحرز ،أو خرج فلم يجد المال الذي رماه ،فال يقام عليه الحد عندهم ،بل َّ يعزر. وأما الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة ،فقد اتفقوا على أن إخراج المسروق من حرزه ومن حيازة المسروق منه يستتبع حت ًما إدخاله في حيازة ً إدخاال فعليًّا أو حكميَّا -كما في المثال السابق -وبالتالي يجب عليه السارق القطع. قلت :وهو األرجح وهللا أعلم. فائدة :إذا لم تتم السرقة ،فال يقام الحد عند جمهور الفقهاء ،لكنهم يوجبون التعزير تكون بمجموعها جريمة السرقة ،ليس باعتباره على من يبدأ في األفعال التي ِّ عا في السرقة ،ولكن باعتباره مرتكبًا لمعصية تستوجب التعزير (.)1 شار ً االشتراك في السرقة: إذا اشترك جماعة في سرقة مال من حرز (:)2 2 - 1فإن كانت قيمة المسروق لو قسمت عليهم بلغ نصيب كل منهم النصاب :فإنه يقام الحد علميهم جميعًا بال خالف بين الفقهاء ،واشترط الشافعية أن يشتركوا جميعًا في إخراجه من الحرز ،وإال فإنه ال يُحد عندهم إال من اشترك في إخراج المسروق. - 2وإذا بلغت قيمة المسروق نصابًا لكن ال تكفي ليصيب كل واحد نصابًا فاختلف العلماء في قطعهم: فقال الحنفية والشافعية :ال قطع على أحد منهم ،وإنما َّ يعزرون. وقال المالكية والحنابلة :يُقطع الجميع ،سواء كان االشتراك في اإلخراج أو كان بإخراج البعض وإعانة البعض اآلخر ،وسواء حدثت اإلعانة بفعل مادي (كاإلعانة على حمل المسروق) أو بفعل معنوي (كاإلرشاد إلى مكان المسروق) أو لم يأت بعمل ما (كمن دخل الحرز مع السارق لتنبيهه إذا انكشف أمره) ألن فعل السرقة يضاف إلى كل واحد منهم. أما إذا لم يحصل تعاون بأن استقل كل واحد بإخراج بعض المسروق ،فال يقام ً كامال. الحد إال على من أخرج نصابًا قلت :األظهر أنهم إن اشتركوا في سرقة نصاب واحد قُطعوا سواء أخرجوه جملة ،أو أخرج كل واحد جز ًءا ،وهو اختيار شيخ اإلسالم ،فالحاجة إلى الزجر عن سرقة المال موجودة فوجب القطع ،وهللا أعلم. عقوبات السارق الحديَّة: (أ) العقوبة ِّ اتفق أهل العلم على أن ح َّد السارق قطع يده ،لقوله تعالى{ :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكاال من هللا وهللا عزيز حكيم} (.)1 وهو الحد الذي أقامه النبي -صلى هللا عليه وسلم -على من سرق في عهده كما تواترت األخبار بذلك ،وجرى عليه عمل الخلفاء الراشدين دون اعتراض عليهم، وأجمعت عليه األمة (.)2 3 لكنهم اختلفوا في أمور تتعلق بمحل القطع ومقداره ،وكيفيته ،وتكرره مع تكرار السرقة ،ونحو ذلك ،وإليك بيان أهم هذه األمور: - 1محل القطع (:)3 إذا ثبتت السرقة األولى ،فقد اتفق الفقهاء -إال ابن حزم -على وجوب قطع اليد اليمنى ،قالوا :لما ُروي عن النبي -صلى هللا عليه وسلم -أنه قطع اليد اليمنى ( )4وكذلك فعل األئمة من بعده ،ولقراءة عبد هللا بن مسعود« :فاقطعوا أيمانهما» وهي قراءة مشهورة عنه ،ولم يجمع على أنها قرآن لمخالفتها للمصحف اإلمام، مشهورا ،فيقيد إطالق النص ..ولو كان اإلطالق مرادًا خبرا ً فكانت ً واالمتثال لألمر في اآلية يحصل بقطع اليمين أو الشمال ،ل َما قطع النبي -صلى هللا عليه وسلم -إال اليسار على عادته من طلب األيسر لهم ما أمكن ،جريًا على عادته -صلى هللا عليه وسلم -في أنه« :ما ُخ ِّير بين أمرين إال أخذ أيسرهما ما لم يكن إث ًما» (.)1 وذهب ابن حزم إلى أن قطع اليمين مستحب وليس بواجب ،ور َّد دعوى اإلجماع بفعل علي -رضي هللا عنه ،-فعن ابن عمر قال« :سرق سارق بالعراق في زمان علي بن أبي طالب ،فقدم ليقطع يده ،فقدَّم السارق يده اليسرى ولم يشعروا فقطعت فأخبر علي بن أبي طالب خبره ،فتركه ولم يقطع يده األخرى» (.)2 فإذا كانت اليمنى غير صحيحة: بأن كانت َّ شالء أو ذهب أكثر أصابعها ،فاختلفوا في محل القطع: - 1فقال الحنفية :تقطع ألن القطع متعلق بها؛ وألنه إذا تعلق الحكم بالسليمة فإنها تقطع ،فألن تقطع المعيبة من باب أولى. - 2وقال المالكية :ال يجزئ قطع المعيبة؛ ألن مقصود الحد إزالة المنفعة التي يستعان بها على السرقة ،والشالء وما في حكمها ال نفع فيها فال يتحقق مقصود الشرع بقطعها ،ألن منفعتها التي يراد إبطالها باطلة من غير قطع ،ولذا ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى ،وهذا قول للشافعية -في مقطوعة األصابع كلها - ورواية عن الحنابلة. 4 - 3وقال الشافعية والحنابلة :يجزئ قطع اليمين إذا كانت شالَّء إال إذا خيف من قطعها أال يكف الدم وال يرقأ ،فحينئذ ينتقل القطع إلى الرجل اليسرى. وإذا كانتا اليمين مقطوعة :سواء بآفة أو جناية أو قصاص ،فذهب الجمهور - خالفًا للحنفية -إلى انتقال القطع إلى الرجل اليسرى ،إذا ذهبت اليد اليمنى قبل السرقة ،وإلى سقوط الحد إذا ذهبت بعد السرقة سواء كان ذهابها قبل الخصومة أو بعدها ،وقبل القضاء أو بعده ،ألنه بمجرد السرقة تعلق القطع باليد اليمنى ،فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط. وكذلك قال الحنفية إذا كان زوال اليمنى ولو بعد السرقة قبل المخاصمة ،أما لو ذهبت اليد اليمنى بعد المخاصمة وقبل القضاء أو بعد المخاصمة والقضاء فيسقط الحد عندهم (.)1 - 2موضع القطع ومقداره (:)2 ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب األربعة وغيرهم إلى أن قطع اليد يكون من الكوع ،وهو مفصل الكف ،قالوا :ألن النبي -صلى هللا عليه وسلم -قطع السارق من الكوع ( ،)3ولقول أبي بكر وعمر -رضي هللا عنهما « :-إذا سرق السارق ،فاقطعوا يمينه من الكوع» (.)4 وذهب بعض الفقهاء إلى أن موضع القطع من اليد :المنكب ،ألن اليد اسم للعضو من أطراف األصابع إلى المنكب ،وذهب بعضهم إلى أن موضع القطع :مفاصل األصابع التي تلي الكف (!!). قال ابن حزم -مؤيدًا ما ذهب إليه الجمهور بعد تصحيح إيقاع اسم اليد على كل ما تقدم « :-فإذا كان ذلك كذلك ،فإنما يلزمنا أقل ما يقع عليه اسم يد ،ألن اليد محرمة قطعها قبل السرقة ثم جاء النص بقطع اليد ،فوجب أن ال يخرج من التحريم المتيقن المتقدم شيء إال ما تيقن خروجه ،وال يقين إال في الكف فال يجوز قطع أكثر منها ،وهكذا وجدنا هللا تعالى إذ أمرنا في التيمم بما أمر إذ يقول تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ( .)5ففسر 5 رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -مراد هللا تعالى بذكر األيدي ههنا وأنه الكفان فقد كان على ما قد أوردناه »...اهـ. الرجل هو :مفصل الكعب من الساق ،فعل ذلك عمر -رضي هللا وموضع قطع ِّ عنه ،-وذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية ،وهو رواية عن أحمد .والرواية األخرى عنه -وبها قال بعض الفقهاء -أن موضع القطع: أصول الرجل ،لما روي عن علي ِّ أنه« :كان يقطع من شطر القدم ،ويترك أصابع ِّ للسارق عقبه يمشي عليها» (.)1 - 3كيفية القطع: ال خالف بين الفقهاء في أنه ينبغي مراعاة اإلحسان في إقامة الحد ،لقوله -صلى هللا عليه وسلم « :-ال تكونوا عون الشيطان على أخيكم». وقد ذكر الفقهاء أنه ينبغي على الحاكم أن يتخيَّر الوقت المالئم للقطع بحيث يجتنب الحر والبرد الشديدين ،إن كان ذلك يؤدي إلى اإلضرار بالسارق ،وال يقيم الح َّد أثناء مرض يرجى زواله ،وال يقيم الحد على الحامل والنفساء. كما ينبغي أن يساق السارق إلى مكان القطع سوقًا رفيقًا ،فال يعنف به ،وال يعيَّر، وال يُسب ،فإذا وصل إلى مكان القطع: (يجلس ،ويضبط لئال يتحرك فيجني على نفسه ،وتُشد يده بحبل ،ويُجر حتى يبين مفصل الذراع ،ثم توضع بينهما سكين حادة ،ويدق فوقها بقوة ليقطع في مرة علم قطع أوحى من ذلك - واحدة ،أو توضع على المفصل وتمد مدة واحدة ،وإن ُ أي أسرع -قطع به) اهـ (.)2 َح ْس ُم موضع القطع (:)3 ُروي عن أبي هريرة -رضي هللا عنه « :-أن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم - أُتي بسارق سرق شملة ،فقالوا :يا رسول هللا إن هذا قد سرق ،فقال رسول هللا - صلى هللا عليه وسلم « :-اذهبوا به فاقطعوه ،ثم احسموه ،ثم ائتوني به »... الحديث (.)4 6 وهو حديث ضعيف ،ومع هذا فقد اتفق الفقهاء على حسم موضع القطع ،وذلك باستعمال ما يسد العروق ،ويوقف الدم ،لما فيه من مصلحة السارق وحفظه من الهالك. لكنهم اختلفوا في حكم الحسم :فذهب الحنفية والحنابلة وهو القول مقابل األصح عند الشافعية إلى أنه واجب عيني على من قام بالقطع لألمر بذلك في الحديث (!!) وذهب المالكية إلى أنه فرض على الكفاية ،فال يلزم واحدًا بعينه ،فإذا قام به القاطع أو المقطوع أو غيرهما فقد حصل المقصود. وقال الشافعية -في األصح عندهم :-األمر بالحسم يحمل على الندب؛ ألنه حق للمقطوع إلتمام الحد ،فيجور لإلمام تركه ،وحينئذ يندب لإلمام ولغيره أن يفعله، وال يمنع ذلك من وجوبه على السارق إذا لم يقم به أحد ،فإن تعذَّر عليه فعل الحسم وترتب على تركه تلف محقق فال يجوز لإلمام إهماله ،بل يجب عليه فعله. هل تعلَّق اليد المقطوعة في عنق السارق؟ ()1 عا سن -عند الشافعية والحنابلة -تعليق اليد المقطوعة في عنق السارق ،رد ً يُ َ للناس ،واستدلوا بما ُروي عن فضالة بن عبيد« :أن النبي -صلى هللا عليه وسلم أُتي بسارق فقطعت يده ،ثم أمر بها فعلقت في عنقه» ( )2وهو حديث ضعيف.وذهب الحنفية إلى أن تعليق اليد ال يُسن ،بل يترك األمر لإلمام ،إن رأى فيه مصلحة فعله ،وإال فال. مأثورا عن السلف. قلت :وهذا أقرب ،لضعف الحديث المرفوع وإن كان ً - 4تكرر السرقة بعد القطع (:)3 (أ) إذا قطعت يمين السارق ،قم عاد للسرقة مرة ثانية فكيف تكون عقوبته؟ اختلف أهل العلم في ذلك على ثالثة أقوال: األول :ال قطع عليه ،وإنما يضرب ويُحبس ،وهو مذهب عطاء بن أبي رباح - رحمه هللا -فعن ابن جريج أنه قال لعطاء :إن سرق ثانية؟ قال :ما أرى أن تقطع إال في السرقة األولى اليد فقط ،قال هللا تعالى{ :فاقطعوا أيديهما} ( .)1ولو شاء أمر 7 بالرجْ ل ،ولم يكن هللا تعالى نسيًّا (.)2 ِّ الثاني :تُقطع يده اليسرى فإن عاد فال قطع عليه وإنما َّ يعزر بالضرب والحبس وهو مذهب ربيعة وداود وابن حزم الظاهريين؛ ألن هللا تعالى أمر بقطع األيدي وهي تشمل اليمنى واليسرى ،وإدخال األرجل في القطع زيادة على النص ،وألنها آلة السرقة والبطش ،فكانت العقوبة بقطعها أولى. الثالث :تُقطع رجلُه اليُسرى ،وهو مذهب عامة الفقهاء وجماهير أهل العلم من األئمة األربعة وغيرهم ،وهو مروي عن أبي بكر وعمر -رضي هللا عنهما .- واستدلوا بجملة أحاديث مرفوعة تشتمل على هذا الحكم ،إال أنها جميعًا ضعيفة ال تقوم يها الحجة ،وكذلك استندوا إلى آثار عن الصحابة -رضي هللا عنهم ،- وسيأتي ذكر طرف من هذه األحاديث واآلثار عما قريب ،إن شاء هللا. قال ابن عبد البر« :ثبت عن الصحابة -رضي هللا عنهم -قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (.)3 قلت :وثبت عن عمرو بن دينار أن نجدة بن عامر كتب إلى ابن عباس :السارق يسرق فتُقطع يده ،ثم يعود فتقطع يده األخرى؟ قال هللا تعالى{ :فاقطعوا أيديهما}. قال :قال« :بلى ،ولكن ورجله من خالف» (.)4 وثبت عن عائشة -في قصة الرجل األسود الذي كان أبو بكر يُدنيه يقرئه القرآن ثم قطعت يده في سرقة -قالت ...« :ثم أدناه [أي :أبو بكر] ولم يحول منزلته التي كانت له منه ،فلم يغب إال ً عا، قليال حتى فقد آ ُل أبي بكر حليًّا لهم ومتا ً فقال أبو بكر :طرق الحي الليلة ،فقام األقطع فاستقبل القبلة ،ورفع يده الصحيحة واألخرى التي قطعت ،فقال :اللهم أظهره على من سرقهم -أو نحو هذا -فما انصرف النهار حتى ظهر المتاع عنده ،فقال له أبو بكر :ويلك ،إنك لقليل العلم باهلل ،فأمر به فقطعت رجله» (.)1 وعن ابن عباس قال« :رأيت عمر بن الخطاب قطع يد رجل ،بعد يده ورجله» (.)2 (ب) إذا عاد للسرقة ثالثة ورابعة وخامسة: 8 ثم اختلف هؤالء -أعني الجمهور -فيما إذا عاد السارق للسرقة -بعد قطع رجله اليسرى -ثالثة ورابعة وخامسة ،على ثالثة أقوال كذلك: األول :ال قطع عليه في المرة الثالثة ،وإنما يضرب ويحبس :وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأحمد في المشهور عنه -وهو المذهب -وبه قال الحسن والشعبي والثوري والزهري والنخعي واألوزاعي وحماد ،وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب -رضي هللا عنهما -وحجة هذا القول ما يلي: - 1عن عمر -رضي هللا عنه -أنه «أُتي برجل قد سرق يقال له سدوم ،فقطعه ثم أتى به الثانية فقطعه ،ثم أتى به الثالثة فأراد أن يقطعه ،فقال له علي« :ال تفعل ،إنما عليه يد ورجل ،ولكن أحبسه» وفي لفظ« :فحبسه عمر» (.)3 - 2وعن أبي الضحى قال« :كان علي بن أبي طالب ال يزيد في السرقة على قطع اليد والرجل». - 3وعن عبد أهلل بن مسلمة :أن علي بن أبي طالب أتى بسارق فقطع يده ،ثم أتى به فقطع رجله ،ثم أُتي به الثالثة ،فقال« :إني استحيي أن أقطع يده ،فبأي شيء يأكل؟! أو أقطع رجله ،فعلى أي شيء يعتمد؟!» فضربه وحبسه (.)4 - 4وألن في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس ،فلم يُشرع في حد ،كالقتل. - 5وألنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثانية؛ ألنها آلة البطش كاليمنى ،وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها. الثاني :تقطع يده اليسرى في الثالثة ،ثم رجله اليمنى في الرابعة ،ثم إن عاد في الخامسة يعزر ويحبس :وهذا مذهب الجمهور (المالكية والشافعية والرواية األخرى في مذهب أحمد) وهو مروي عن أبي بكر وعمر (!!) -رضي هللا عنهما -وبه قال إسحاق وقتادة وأبو ثور ،واحتج هؤالء بما يلي: - 1آية المحاربة (!!) قال تعالى{ :إنما جزاء الذين يحاربون هللا ورسوله ويسعون في األرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خالف أو ينفوا من األرض} (.)1 9 - 2حديث أبي هريرة أن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -قال« :إذا سرق السارق فاقطعوا يده ،فإن عاد فاقطعوا رجله ،فإن عاد فاقطعوا يده ،فإن عاد فاقطعوا رجله» ( )2وسنده تألف (!!). - 3حديث عصمة بن مالك -رضي هللا عنه -قال :سرق مملوك في عهد النبي - صلى هللا عليه وسلم -فرفع إلى النبي -صلى هللا عليه وسلم -فعفى عنه .. (أربع مرات) ...ثم رفع إليه الخامسة وقد سرق ،فقطع يده ،ثم رفع إليه السادسة فقطع رجله ،ثم رفع إليه السابعة فقطع يده ،ثم رفع إليه الثامنة فقطع رجله ،وقال رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم « :-أربع بأربع» ( )3وسنده ساقط (!!). - 4أنه فعل أبي بكر وعمر -رضي هللا عنهما )!!( -فعن القاسم بن محمد «أن أبا بكر قطع يد سارق في الثالثة» ( )4وهو منقطع. الثالث :كالقول السابق ،إال أنه إن عاد في الخامسة يُقتل ،وهو مروي عن عثمان بن عفان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز ،وأبي مصعب المالكي وذكره قوال عن مالك ً الحافظ ً أوال ثم إنه رجع عنه واستقر رأيه على تعزيره دون قتله -وهو ما ذهب إليه الشافعي في القديم ،واستدلوا بما يلي: - 1حديث جابر قال :جيء بسارق إلى النبي -صلى هللا عليه وسلم -فقال: «اقتلوه» فقالوا :يا رسول هللا إنما سرق ،فقال« :اقطعوه» قال :فقطع ،ثم جيء به الثانية ،فقال« :اقتلوه» فقالوا :يا رسول هللا ،إنما سرق ،قال« :اقطعوه» ..فأتي به الخامسة فقال« :اقتلوه» قال جابر :فانطلقنا به فقتلناه ،ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ،ورمينا عليه الحجارة ( )1وهو ضعيف. - 2حديث الحارث بن حاطب بنحو حديث جابر مع شيء من المغايرة في لفظه، وهو منكر كما قال النسائي والذهبي (.)2 - 3حديث عبد هللا بن زيد الجهني -رضي هللا عنه -قال :قال رسول هللا -صلى عا فاقطعوا يده ،فإن سرق فاقطعوا رجله ،فإن هللا عليه وسلم « :-من سرق متا ً سرق فاقطعوا يده ،فإن سرق فاقطعوا رجله ،فإن سرق فاضربوا عنقه» ()3 وسنده تالف. 10 وقد أجاب العلماء عن حديث جابر بأنه ضعيف ،وعلى فرض صحته ،فقيل: منسوخ ،وهو محكي عن الشافعي ،وناسخه هو عين الناسخ لقتل شارب الخمر في الرابعة -على ما تقدم -وقيل :هذه حكومة مختصة بهذا الرجل وقد علم رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -أن المصلحة في قتله ،ولذلك أمر بقتله من أول مرة ،وقيل :يخرج على أن هذا الرجل كان من المفسدين في األرض ،وهذا يعزي لإلمام مالك ،رحمه هللا. الترجيح: الذي يظهر لي بعد هذا العرض لمذاهب العلماء ودراسة أدلتهم أن أقوى هذه كرر السرقة ثانية -بعد قطع يده اليمنى - األقوال األول ،القائل ،بأن السارق إذا َّ فإنه تقطع رجله اليسرى ،ثم ال قطع عليه إن عاد ،وإنما يضرب ويحبس -ولو مدى الحياة -حتى يظهر الصالح ،لقضاء الصحابة -رضي هللا عنهم -بذلك. ولو ذهب ذاهب إلى قول ربيعة وابن حزم من أنه تقطع يده اليسرى في الثانية - بعد اليمنى -ثم ال قطع عليه وإنما ي َّ ُعزر ،فال يكون بعيدًا وال شاذًّا كما قيل ،وهللا أعلم .ما يسقط به الحد: - 2 ،1الشفاعة ،وعفو المسروق منه (:)1 أجمع الفقهاء على جواز الشفاعة بعد السرقة وقبل أن يصل األمر إلى الحاكم ،إذا سترا له وإعانة على التوبة. كان السارق ال يُعرف بشرً ، وأما إذا وصل األمر إلى الحاكم فالشفاعة فيه حرام ،كما تقدم بيانه في بداية «كتاب الحدود». وكذلك الشأن في العفو ،لقوله -صلى هللا عليه وسلم « :-تعافوا الحدود فيما بينكم ،فما بلغني من حد فقد وجب» (.)2 وقوله -صلى هللا عليه وسلم -لصفوان لما تصدق بردائه على سارقه بعد رفعه إلى النبي -صلى هللا عليه وسلم « :-فهال قبل أن تأتيني به؟!» (.)3 فإذا عفا المسروق منه عن السارق -قبل رفعه -سقط عنه الحد. 11 - 3الرجوع عن اإلقرار (:)4 اتفق جمهور الفقهاء من المذاهب األربعة على أن السارق إذا رجع عن إقراره (اعترافه) قبل القطع ،سقط عنه الحد ،ألن الرجوع عن اإلقرار يورث شبهة. وذهب بعض الفقهاء إلى أن رجوع السارق في إقراره ال يقبل منه ،وال يسقط عنه الحد ،ألنه لو أقر آلدمي بقصاص أو بحق لم يُقبل رجوعه عنه ،فكذلك الحكم إذا أقر بالسرقة. - 4هل يسقط الحد بتوبة السارق؟ اتفق الفقهاء على أن التوبة النصوح ،أي :الندم الذي يورث عز ًما على إرادة الترك تسقط عذاب اآلخرة عن السارق ،واتفقوا على أنه إذا تاب بعد القدرة عليه وقيام البينة عليه ورفعه للحاكم ،لم يسقط عنه الحد. ثم اختلفوا فيما إذا تاب قبل القدرة عليه ورفعه إلى الحاكم على قولين ،تقدم بسطهما في مقدمة «كتاب الحدود» ورجحنا هناك أن التوبة تسقط الح َّد عمو ًما، حد السرقة قوله تعالى -عقب ذكر عقوبة السارق{ :فمن ومما يدل على ذلك في ِّ تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن هللا يتوب عليه إن هللا غفور رحيم} ( .)1وهو يدل على أن التائب ال يقام عليه الحد ،إذ لو أقيم عليه الحد بعد التوبة لما كان لذكرها فائدة. وهذا مهب الشافعية -في أصح القولين -والحنابلة في رواية (.)2 لكن تبقى مسألة وهي: هل من شرط التوبة ضمان المسروق ورده لصاحبه؟ ()3 - 1إن كانت العين المسروقة موجودة :فأجمعوا على أن من شرط صحة توبته: معسرا ،وسواء أقيم عليه الحد موسرا أو أداؤها إلى صاحبها ،سواء كان السارق ً ً أو لم يقم ،وسواء ُوجد المسروق عنده أو عند غيره. - 2إن كانت العين المسروقة قد تلفت :فإن لم يُقم الحد على السارق لسبب يمنع القطع فيجب عليه رد قيمة المسروق بال خالف. 12 وإن كان أقيم عليه الحد ،اختلف العلماء في وجوب ضمان المسروق على ثالثة أقوال: معسرا :وهو مذهب موسرا أو األول :يلزمه الضمان لتمام توبته سواء كان ً ً الجمهور ،منهم :الشافعي وأحمد وإسحاق والليث والنخعي والحسن والزهري وغيرهم ،قالوا :ألن هذه العين تعلَّق بها حقان :حق هلل ،وحق لمالكها ،وهما حقان لمستحقين متباينين فال يبطل أحدهما اآلخر ،بل يستوفيان معًا ،أن القطع حق هلل، والضمان حق لمالكها. عا« :على اليد ما أخذت حتى وقد ُروي من طريق الحسن عن سمرة مرفو ً تؤدي» (.)4 الثاني :ال يجب الضمان مطلقًا ،وال تتوقف صحة توبته عليه ،وهو مذهب أبي حنيفة ،وبه قال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول وغيرهم ،وحجتهم: - 1قوله تعالى{ :والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكاال من هللا} ( .)1قالوا :فسمى القطع جزاء ،والجزاء يبنى على الكفاية ،فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافيًا فلم يكن جزا ًء ،فعلم أن التضمين عقوبة زائدة على الجزاء فال تُشرع. وأجاب الجمهور بأن مجموع الجزاء -إن أريد به :مجموع العقوبة -فصحيح هو القطع ،والقول بالتضمين ال دخل له في العقوبة ،ولهذا يجب الضمان في حق غير الجاني :كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكرا ًها ،ولهذا فإن سقوط الحد ال يسقط الضمان لتفاوت الحقين -حق هللا وحق العبد -بتفاوت جهتهما. - 2حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي هللا عنه -عن النبي -صلى هللا عليه وسلم « :-أنه قضي في السارق إذا أقيم عليه الحد أنه ال غرم غليه» ( )2ولذا قالوا :ال يجتمع حد وضمان ،ألن الحكم بالضمان يجعل المسروق مملو ًكا للسارق ،مستندًا إلى وقت األخذ فال يجوز إقامة الحد عليه ،ألنه ال يقطع أحد في ملك نفسه. وأجاب الجمهور بأنه حديث ضعيف ال يحتج به. 13 موسرا ،وإال لم يلزمه ،وهو مذهب مالك وغيره الثالث :يلزمه الضمان إن كان ً من فقها المدينة واستحسنه ابن القيم. قالوا :لئال تجتمع على السارق -المعسر -عقوبتان :قطع يده ،واتباع ذمته. قال ابن القيم :وهذا استحسان حسن جدًّا ،وما أقربه من محاسن الشرع ،وأواله بالقبول ،وهللا سبحانه وتعالى أعلم .اهـ. الراجح (:)3 والذي يترجح لي هو ما ذهب إليه الجمهور من إيجاب الضمان على السارق موسرا مطلقًا وأنه من تمام توبته من غير فرق بين الموسر والمعسر ،فإن كان ً تعيَّن دفعه ،وإن كان غير قادر فقد قال هللا تعالى في حق غير القادرين{ :وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (.)1 وأما رأي المالكية -الذي استحسنه ابن القيم -فهو مجرد استحسان. واالستحسان هو «الحكم على مسألة بحكم يخالف نظائرها لدليل شرعي» ولم يذكروا ً دليال شرعيًّا يقضي بهذا االستحسان ،وهللا أعلم. - 5هل يسقط الحد بتملك السارق المسروق قبل الحكم؟ ()2 إذا تملَّك السارق المسروق قبل القضاء ،بأن اشتراه أو ُوهب له أو نحو ذلك ،فإن القطع يسقط عنه عند الجمهور ،ألن المطالبة شرط للحكم بالقطع ،فإذا تملكه السارق قبل القضاء امتنعت المطالبة ،وخالف المالكية -لعدم اشتراطهم المطالبة فقالوا :ال يسقط الحد.أما إذا حدث الملك بعد القضاء -وقبل القطع -فال يسقط الحد عند الجمهور - الحد لم يوجد شبهة في الوجوب ،فلم خالف للحنفية -ألن ما حديث بعد وجوب ِّ يؤثر في الحد ،ولو كان حدوث الملك -بعد القضاء -يسقط الحد ،لما قطع النبي - صلى هللا عليه وسلم -سارق رداء صفوان بعدما تصدق به عليه ،بل قال له - صلى هللا عليه وسلم « :-فال قبل أن تأتيني به» (.)3 14 ال يسقط الحد بالتقادُم (:)4 ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وزفر -من الحنفية -إلى أن الحد ال يسقط بالتقادم ،ألن الحكم لم يصدر إال بعد أن ثبتت السرقة ،فوجب تنفيذه مهما طال الزمن ،وال ينبغي أن يكون هروب الجاني أو تراخي التنفيذ من أسباب سقوط الحد ،وإال كان ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود هللا. بينما ذهب الحنفية -عدا زفر -إلى أن تقادم التنفيذ بعد القضاء يسقط القطع؛ ألن القضاء في باب الحدود -عندهم -إمضاؤها ،فما لم تمض فكأنه لم يقض ،وألن التقادم في التنفيذ كالتقادم في اإلثبات بالبينة (!!). قلت :وقول الجمهور هو الصواب ،ألن الح َّد إذا ثبت بيقين ،فال يسقط إال بدليل. (ب) العقوبات التعزيرية للسارق (:)1 تجوز العقوبة بالتعزير على كل سرقة لم تكتمل أركانها ،أو لم تستوف شروطها، لعدم وجوب الحد فيها ،وعلى سرقة دُرئ الحد فيها لوجود شبهة ،فيترتب على السارق -بالتعزير -عقوبتان :عقوبة بدنية ،بالضرب ونحوه ً نكاال له ،وعقوبة مالية :بتضعيف الغُرم للمسروق ،وبهذا قضي النبي -صلى هللا عليه وسلم -لما أسقط القطع عمن أخذ بفمه من الثمر المعلق وهو محتاج ،وحكم على من خرم بشيء منه غرامة مثليه والعقوبة (أي :الضرب) وكذلك على من سرق من الثمر بعد أن يوضع في مخزنه -ولم يبلغ نصاب القطع -كما تقدم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (.)2 وكذلك تجوز العقوبة بالتعزير على السرقة التي سقط فيها القطع. وتقدَّم ذِّكر تعزير السارق في الثالثة أو الخامسة -على خالف -ويكون بالحبس أو الضرب ونحوه ،وهذه العقوبات يرجع في تقديرها إلى اجتهاد األئمة في كل زمان ومكان حسب المصلحة. 15 (« )1المغني» ( ،)271 /10و «األحكام السلطانية» للماوردي (ص ،)236و «معالم السنن» ( ،)313 /3و «الحدود والتعزيرات (ص.)403 : مرارا. ( )2حديث حسن :تقدم تخريجه ً 16