Uploaded by Fahad Allafi

1

advertisement
‫رسالة في الطريق إلى ثقافتنا‬
‫إعداد الطالب‬
‫فهد أحمد الالفي‬
‫الرقم الجامعي‪0151120 :‬‬
‫افتتح المؤلف الكتاب والتي َبين فيها أنه َلِبث عشر سنوات من شبابه في حيرة وشكوك من‬
‫تلك الحياة األدبية الفاسدة التي كان منغمساً فيها من كل وجه‪ ،‬فخاف على نفسه الهالك‪ ،‬وأن‬
‫يخسر دنياه وآخرته‪ ،‬وكان في هذه الفترة في السابعة عشرة من عمره عام ‪ 1926‬م وحتى بلغ‬
‫السابعة والعشرين من عمره عام ‪ 1936‬م‪ ،‬وهذا الخوف أدى به إلى قراءة كل ما وقع تحت‬
‫يديه من الشعر العربي بتمهل‪ ،‬وتدبر‪ ،‬ونظر في طر ِ‬
‫يق البحث عن الحق‪ ،‬فأكسبته هذه المرحلة‬
‫هم بقراءة كل ما وقع تحت يديه من كتب السلف من تفسير للقرآن إلى‬
‫تذو ًق للغة الشعر‪ ،‬ثم ّ‬
‫علوم القرآن إلى دواوين السنة وشروحها إلى ما تفرع منها من كتب المصطلح‪ ،‬وكتب الرجال‬
‫‪ ،‬والجرح والتعديل إلى كتب الفقه وأصوله ‪ ،‬وكتب الملل والنحل ثم ُكتُ ْب األدب‪ ،‬والبالغة‪،‬‬
‫والنحو‪ ،‬والصرف‪ ،‬وما شئت من أبواب العلم‪َّ ،‬‬
‫فمن هللا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬عليه بعد هذا بابتكار‬
‫منهج يسمى " منهج التذوق" ‪ ،‬وهو تذوق الكالم العربي وما يقصد به وما وراءه من معاني‪.‬‬
‫أمدته هذه التجربة الجديدة بخبرات جمة متباينة متشعبة‪ ،‬أتاحت له أن يجعل من منهجه في‬
‫تذوق الكالم منهجاً جامعاً شامالً متشعب األنحاء واألطراف‪ ،‬يزداد مع تطاول األيام رحابة‬
‫وسعة‪ ،‬وحدة ومضاء‪ ،‬ونفاذاً ودقة‪ ،‬وشموالً واستقصاء‪.‬‬
‫ إن رأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام‪ ،‬والذي هو فطرة اإلنسان أي دين كان أو كان‬‫في معنى الدين‪ ،‬وبقدر شمول هذا الدين لجميع ما يكبح جموح النفس اإلنسانية ويحجزها‬
‫عن أن تزيغ عن الفطرة السوية العادلة‪ ،‬وبقدر تغلغله إلى أغوار النفس تغلغالً يجعل‬
‫صاحبها قاد اًر على ضبط األهواء الجائرة‪ ،‬ومريداً لهذا الضبط‪ ،‬بقدر هذا الشمول وهذا‬
‫التغلغل في بنيان اإلنسان تكون قوة العواصم التي تعصم صاحبها من كل عيب قادح‬
‫‪1‬‬
‫في مسيرة ما قبل المنهج ثم في مسيرة المنهج الذي يتشعب من شطره الثاني وهو شطر‬
‫التطبيق‪.‬‬
‫ رأى األوربيون أن أوربة سقطت في حمأة (القرون الوسطى) المظلمة منذ سقوط‬‫اإلمبراطورية الرومانية سنة ‪ ،476‬أي قبل الهجرة بنحو مائة وخمسين سنة‪ ،‬والحقيقة‬
‫أن أوربة هي قلب القارة‪ ،‬كانت ساقطة فيما هو أسوأ من (القرون الوسطى) قبل ذلك‬
‫بقرون طويلة‪ ،‬كانوا في جاهلية جهالء‪ ،‬أهلها همج هامج ال دين يجمعهم حتى جاء‬
‫(عصر النهضة) في القرن السادس عشر الميالدي أي بعد عشرة قرون وفي خالل‬
‫هذه الفترة حدث أمران مهمان‪:‬‬
‫• األمر األول‪ :‬الحروب الصليبية التي بدأت سنة ‪ 1096‬أي بعد ستة قرون من‬
‫سقوط اإلمبراطورية الرومانية وفي خاللها كان اإلسالم قد ظهر بدينه وثقافته وغلب‬
‫على رقعة ممتدة من حدود الصين إلى الهند إلى أقصى األندلس‪ ،‬إلى قلب إفريقية‪،‬‬
‫وأنشأ حضارة نبيلة متماسكة بعد أن رد النصرانية وأخرجها من األرض وحصرها‬
‫في الرقعة الشمالية التي فيها هذا الهمج الهامج وظل الصراع مشتعالً لمدة خمسة‬
‫قرون بين النصرانية المحصورة في الشمال وبين اإلسالم الذي يتاخمها جنوباً ولكن‬
‫جيوش النصرانية لم تستطع أن تفعل شيئاً يذكر‪.‬‬
‫• األمر الثاني‪ :‬بطل عمل السالح باإلخفاق واليأس وخمدت الحروب تقريباً بين‬
‫اإلسالم والصليبية نحو قرن ونصف قرن‪ ،‬ثم وقعت الواقعة اكتسحت األرض‬
‫المسيحية في آسية‪ ،‬وشمال الشام ودخلت برمتها في حوزة اإلسالم‪ ،‬ثم سقطت‬
‫القسطنطينية عاصمة المسيحية ودخلها محمد الفاتح بالتكبير والتهليل وارتفع اآلذان‬
‫في طرف أوربة الشرقي‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫ وبغتة كما كان اقتحام المسلمين قلب أوربة بغتة تهاوت الحواجز التي كانت تمنع حركة‬‫اليقظة والتنبه في أعقاب الحروب الصليبية ألن تؤتي ثمراها وخرجت أوربة من أصفاد‬
‫القرون الوسطى ودخلت بعد جهاد طويل مرير في القرون الحديثة‪ ،‬ومع تقوض هذه‬
‫الحواجز ظهرت براعيم الثمار الشهية وبظهورها غضة ناضرة زادت الحماسة وتعالت‬
‫الهمم ومعدت الطريق الوعر ودبت النشوة في جماهير المجاهدين وتحددت األهداف‬
‫والوسائل وارتفعت كفة أوربة بهذه اليقظة الهائلة الشاملة التي أحدثتها الهزائم القديمة‬
‫والحديثة وانخفضت كفة المسلمين بهذه الغفلة الهائلة الشاملة التي أحدثها الغرور‬
‫بالنصر القديم وبالنصر الحديث وفتح القسطنطينية‪.‬‬
‫ هناك أربعة م ارحل واضحة للصراع الذي دار بين المسيحية الشمالية واإلسالم‪:‬‬‫• المرحلة األولى‪ :‬صراع الغضب لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخول أهلها في‬
‫اإلسالم فبالغضب أملت اختراق دار اإلسالم لتسترد ما ضاع‪.‬‬
‫• المرحلة الثانية‪ :‬صراع الغضب المتفجر المتدفق من قلب أوربة مشحوناً ببغضاء‬
‫جاهلية عاتية عنيفة مكتسحة مدمرة سفاحة للدماء جاءت تريد اختراق دار اإلسالم‬
‫وذلك في عهد الحروب الصليبية‪.‬‬
‫• المرحلة الثالثة‪ :‬ص ارع الغضب المكظوم الذي أورثه اندحار الكتائب الصليبية من‬
‫تحته بغضاء متوهجة عنيفة‪ ،‬ولكنها مترددة يكبحها اليأس من اختراق دار اإلسالم‬
‫مرة ثالثة بالسالح والحرب‪ ،‬فارتدعت لكي تبدأ في إصالح خلل الحياة المسيحية‬
‫باالتكاء الشديد الكامل على علوم دار اإلسالم‪.‬‬
‫• المرحلة الرابعة‪ :‬صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية يزيده اشتعاالً‬
‫وتوهجاً وقود من لهيب البغضاء والحقد الغائر في العظام على المسلمين وهم شبح‬
‫‪3‬‬
‫مخيف مندفع في قلب أوربة‪ ،‬يلقي ظله على كل شيء ويفزع كل كائن حي أو‬
‫غير حي بالليل والنهار‪.‬‬
‫ من يومئذ عند أول بدء اليقظة تحددت أهداف المسيحية الشمالية وتحددت وسائلها لم‬‫يغب عن أحد منهم قط أنهم في سبيل إعداد أنفسهم لحرب صليبية رابعة ألنهم كانوا‬
‫يومئذ يعيشون في ظل شبح مخيف متوغل في أرض أوربة ببأس شديد وقوة ال تردع‪،‬‬
‫بل هو شبح يطوف أنحاء القارة كلها ال يطرف فيها جفن حتى يراه ماثالً في عينه آناء‬
‫الليل وأطراف النهار‪.‬‬
‫ فكان من األهداف والوسائل بعثة أعداد كبيرة ممن تعلموا العربية وأجادوها إجادة ما‪،‬‬‫تخرج لتسيح في أرض اإلسالم‪ ،‬وتجمع الكتب شراء أو سرقة وتالقي الخاصة من‬
‫العلماء وتخالط العامة من المثقفين والدهماء وتدون في العقول وفي القراطيس ما عسى‬
‫أن ينفعهم في فهم هذا العالم الذي استعصى على المسيحية واستعلى قروناً طواالً‪.‬‬
‫ ومن يومئذ نشأت هذه الطبقة من األوربيين الذين عرفوا فيما بعد باسم (المستشرقين)‬‫وهم أهم وأعظم طبقة تمخضت عنها اليقظة األوربية ألنهم جند المسيحية الشمالية‬
‫الذين وهبوا أنفسهم للجهاد األكبر‪ ،‬ورضوا ألنفسهم أن يظلوا مغمورين في حياة بدأت‬
‫تموج بالحركة والغنى والصيت الذائع‪.‬‬
‫ ومع انتشار األساطيل التي تقصد بالد اإلسالم خرجت من مكامنها أعداد وافرة من‬‫رجال يجيدون اللسان العربي وألسنة دار اإلسالم اآلخر‪ ،‬ومنهم رهبان وغير رهبان‪،‬‬
‫وركبوا البر والبحر‪ ،‬وزحفوا زرافات ووحداناً في قلب دار اإلسالم على ديار الخالفة‬
‫في تركيا‪ ،‬وعلى الشام‪ ،‬وعلى مصر‪ ،‬وعلى جوف إفريقية وممالكها المسلمة‪ ،‬ولبسوا‬
‫‪4‬‬
‫لجمهرة المسلمين كل زي‪ :‬زي التاجر‪ ،‬وزي السائح‪ ،‬وزي الصديق الناصح‪ ،‬وزي العابد‬
‫المسلم‪ ،‬وتوغلوا يستخرجون كل مخبوء كان عنهم من أحوال دار اإلسالم‪.‬‬
‫ وما هو إال قليل حتى كان تحت يد (االستشراق) آالف مؤلفة من مخطوطات من كتب‬‫دار اإلسالم نفيسة منتقاة مشتراة أو مسروقة‪ ،‬موزعة مفرقة في جميع أرجاء أوربة‬
‫وأديرتها ومكتباتها وجامعاتها‪ ،‬وأكب عليها (المستشرقون) المجاهدون الصابرون‬
‫ليدرسونهم‪.‬‬
‫ والمستشرقون المتبتلون بال شك عندهم من أهل الخبرة بكل ما في دار اإلسالم قديماً‬‫وما هو كائن فيها حديثاً من دقيق العلوم عند خاصة المسلمين إلى خفي أحوال‬
‫المسلمين من عاداتهم ومعايشهم وطرائق أفكارهم وخصائص حياتهم‪ ،‬إلى علم وثيق‬
‫بشأن دولهم وأقاليمهم وبلدانهم التي تغطي أكبر رقعة من األرض‪ ،‬وهم قد جمعوا كل‬
‫ذلك وعكفوا عليه وتأملوه ودرسوه ونظموه ورتبوه بعناية فائقة‪ ،‬وبهمة وجلد ونفاذ بصر‪،‬‬
‫وهذه األشياء ال يقوم بها إال دارس صابر ذو معرفة بهذا اللسان الغريب متصف‬
‫بصفتين البد منهما حتى يكون مأموناً مصدقاً‪:‬‬
‫• الصفة األولى‪ :‬أن في قلبه كل الحمية التي أثارها الصراع بين المسيحية المحصورة‬
‫في الشمال وبين دار اإلسالم الممتنعة على االختراق على مدى عشرة قرون على‬
‫األقل‪.‬‬
‫• الصفة الثانية‪ :‬أن في صميم قلبه كل ما تحمله قلوب خاصة األوربيين وعامتهم‬
‫وملوكهم وسوقتهم‪ ،‬من األحالم البهيجة واألشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار‬
‫اإلسالم من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫ يبين لك بال خفاء أن كتب االستشراق ومقاالته ودراساته كلها مكتوبة أصالً للمثقف‬‫األوروبي وحده ال غيرها وأنها كتبت لهدف معين وفي زمان معين وبأسلوب معين ال‬
‫يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا األوربي‬
‫المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التي يستقبلها زحف المسيحية الشمالية‬
‫على دار اإلسالم في الجنوب‪.‬‬
‫ المستشرق فتى أعجمي ناشئ في لسان أمته وتعليم بالده‪ ،‬ومغروس في آدابها وثقافتها‬‫حتى استوى رجالً في العشرين من عمره أو الخامسة والعشرين فهو قادر أو مفترض‬
‫أنه قادر تمام القدرة على التفكير والنظر وهو مؤهل أيضاً أن ينزل في ثقافته ميدان‬
‫(المنهج) وما (قبل المنهج) بقدم ثابتة‪.‬‬
‫ إذا كان أمر اللغة شديداً ال يسمح بدخول المستشرق تحت هذا الشرط الالزم للقلة التي‬‫تنزل ميدان (المنهج) وما (قبل المنهج) فإن شرط الثقافة أشد وأعتى ألن الثقافة سر‬
‫من األسرار الملثمة في كل أمة من األمم وفي كل جيل من البشر وهي في أصلها‬
‫الراسخ البعيد الغور معارف كثيرة ال تحصى متنوعة أبلغ التنوع ال يكاد يحاط بها‬
‫مطلوبة في كل مجتمع إنساني‪.‬‬
‫ الثقافة في جوهرها لفظ جامع يقصد بها الداللة على شيئين أحدهما مبني على اآلخر‬‫أي هما طوران متكامالن‪:‬‬
‫• الطور األول‪ :‬أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس (اإلنسان) منذ مولده ونشأته‬
‫األولى حتى يشارف حد اإلدراك البين‪ ،‬جماعها كل ما يتلقاه عن أبويه وأهله‬
‫وعشيرته ومعلميه ومؤدييه حتى يصبح قاد اًر على أن يستقل بنفسه وبعقله‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫• الطور الثاني‪ :‬فروع منبثقة عن هذه األصول المكتسبة بالنشأة وهي تنبثق حين‬
‫يخرج الناشئ من إسار التسخير إلى طالقة التفكير‪ ،‬وإنما سميت الطور األول‬
‫(إسار التسخير) ألنه طور ال انفكاك ألحد من البشر منه منذ نشأته في مجتمعه‪،‬‬
‫فإذا بلغ مبلغ الرجال استوت مداركه‪ ،‬وبدأت معارفه يتفصى بعضها من بعض أو‬
‫يتداخل بعضها في بعض ويبدأ العقل عمله المستتب في االستقالل بنفسه‪ ،‬ويستبد‬
‫بتقليب النظر والمباحثة وممارسة التفكير والتنقيب والفحص ومعالجة التعبير عن‬
‫الرأي الذي هو نتاج مزاولة العقل لعمله‪.‬‬
‫ ثقافة كل أمة هي حصيلة أبنائها المثقفين بقدر مشترك من أصول وفروع كلها مغموس‬‫في الدين المتلقى عند النشأة‪ ،‬فهو لذلك صاحب السلطان المطلق الخفي على اللغة‬
‫وعلى النفس وعلى العقل جميعاً‪.‬‬
‫ إن دوافع المستشرق إلى الدخول الجريء المستبشع وركوب هذا المركب الوعر كانت‬‫ضرورة تحمله على أن يخدم أبناء جلدته وعشيرته وأهل ملته‪ ،‬بما أوجبه الصراع المحتدم‬
‫قروناً بين اإلسالم والمسيحية المحصورة في الشمال‪ ،‬فانبعث يكتب ما يكتب حامالً‬
‫هموم المسيحية الشمالية في أعماق قلبه‪.‬‬
‫ االستشراق هو عين االستعمار التي يبصر بها ويحدق‪ ،‬وبيده التي بها يحس ويبطش‪،‬‬‫ورجله التي يمشي بها ويتوغل‪ ،‬وعقله الذي به يفكر ويستبين‪ ،‬ولواله لظل في عميائه‬
‫يتخبط ومن جهل هذا فهو ببدائة العقول ومسلماتها أجهل‪ ،‬فلما فزع (االستشراق) فزعت‬
‫معه كل المسيحية الشمالية ودولها التي كانت أساطيلها تطوق دار اإلسالم من أطرافها‬
‫البعيدة‪ ،‬وتتوغل بسيطرتها على سواحلها‪ ،‬متحسسة طريقها إلى قلب هذه الدار المترامية‬
‫األطراف بالدهاء والمكر والخديعة‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫ شركة الهند الشرقية البريطانية وهو أول جهاز استعماري قوي‪ ،‬وتبعتها فرنسا فأنشأت‬‫جهازها االستعماري باسم (شركة الهند الشرقية الفرنسية) وهي في الحقيقة جيش غاز‬
‫مسلح مهمته النهب والسلب وقطع الطريق وتخويف الضعفاء الذين ال يملكون عن‬
‫أنفسهم دفعاً‪.‬‬
‫ قيض هللا لفرنسا قائداً أوربياً محنكاً مظف اًر شديد البأس‪ ،‬خواضاً لغمرات الموت‪ ،‬ضرسته‬‫الحروب في أوربة حتى صار اسمه مثي اًر للرعب في القلوب بأنه قائد ال يقهر وهو‬
‫الصليبي الميكافلي المغامر المفتون الفاجر (نابليون)‪ ،‬فلما فرغ من حروبه في أوربة‬
‫منصو اًر أصاخ سمعه لنذير االستشراق ولنصحه وإرشاده فقدر أن الحين قد حان ليكون‬
‫أول قائد أوربي استطاع بقوته التي ال تقهر أن يخترق قلب دار اإلسالم من الشمال‬
‫وأن يداهم اليقظة التي أرقت منام االستشراق وأن يبطش بها في عقر دارها بطشة جبار‬
‫عات ال يبقي على شيء‪.‬‬
‫ في أول يوليه سنة ‪ 1798‬هوى نابليون هوى العقاب على مهد (اليقظة) في الديار‬‫المصرية على اإلسكندرية فجأة بجحافله وأساطيله مزودة بكل أداة للحرب الجديدة مما‬
‫تمخض عنه علم أوربة يومئذ مصطحباً معه عشرات من صغار المستشرقين وكبارهم‬
‫وطائفة من العلماء في كل علم وفن معهم كل غريبة مما كشفت عنه العلم المستحدث‪.‬‬
‫ قضى نابليون بحملته الصليبية التي غزت مصر على أكبر قوة مقاتلة في دار اإلسالم‬‫بعد قوة دار الخالفة‪ ،‬قضى على بأس المماليك المصرية وشتتهم ومزقهم كل ممزق‪،‬‬
‫وتتبعهم ينهب القرى في األقاليم ويبيد من أهلها ما يبيد‪ ،‬وبقى جمهور األمة في القاهرة‬
‫أعزل بال سالح يدفع به عن نفسه‪ ،‬وال حكومة تدير شؤونه‪ ،‬واضطرب أمر الناس‬
‫وماج فأنشأ نابليون حكومة جديدة سماها (الديوان) وهو مهزلة من المهازل السخيفة‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫ بقي هذا القائد نحو سبعة أشهر في القاهرة يخرب ويفعل األفاعيل إلى أن جاءت‬‫هزيمته في عكا هزيمة منكرة فآب إلى القاهرة وفي قلبه الخوف من العواقب التي تفجوه‬
‫بها دار اإلسالم‪ ،‬وترك األمر كله إلى خليفته (كليبر) ليعاني منه ما يعاني وقد كتم‬
‫عنه عزيمته على السفر ثم راوغه حتى رحل قبل أن يلقاه‪.‬‬
‫ وما كاد كليبر يستقر على عرش خالفة نابليون أشهر قالئل حتى أفاقت القاهرة من‬‫ذهولها واستعدت لمقاومة الغزاة وانفجرت فيها الثورة شه اًر كامالً وارتكب كليبر في سبيل‬
‫إخمادها أفظع ما يرتكبه قاطع طريق مجنون من الفظائع والجرائم‪ ،‬وضرب القاهرة‬
‫بمدافعه فخرب الدور والقصور والمساجد والحمامات والزوايا والقباب واألسوار حتى‬
‫انقض عليه المجاهد سليمان الحلبي فعاجله بطعنة خنجر في قلبه وخر صريعاً‪.‬‬
‫ ثم خلف كليبر على عرش نابليون في مصر (مينو) فأصاخ سمعه لسخفاء االستشراق‬‫ومخادعيهم الكبار فقرر أن يتقرب إلى شعوب دار اإلسالم بإعالن إسالمه بشهادة أن‬
‫ال إله إال هللا وأن محمداً رسول هللا وأنه أحب اإلسالم وأهله ورغب فيهما تاركاً لدين‬
‫النصرانية واألديان الرديئة‪.‬‬
‫ وبقى مينو في إمارته يالقي األمرين وينزل بالناس المصائب والباليا ويعيث هو وبقايا‬‫الحملة الفرنسية في األرض فساداً وتخريباً حتى انتهى جالء هذه الحملة الجاهلة التي‬
‫جاء بها نابليون ليخترق دار اإلسالم في أعظم معقل من معاقلها‪.‬‬
‫‪9‬‬
Download