Uploaded by So Bou

BORGES Y SUS RECURSOS ORIENTALISTAS

advertisement
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫ِ‬
‫بورخ س ومصادره االستشراقية‬
‫أ‪.‬باهرة محمد عبد اللطيف‬
‫جامعة أوتونوما بمد ريد‬
‫‪Abstract:‬‬
‫‪Throughout his life, Borges was‬‬
‫‪interested in the Orient in its widest‬‬
‫‪sense, especially the cultural,‬‬
‫‪dedicating to the Islamic Arab‬‬
‫‪Orient a generous extension of his‬‬
‫‪readings and writings, in prose and‬‬
‫‪poetry.‬‬
‫‪Although the world has celebrated‬‬
‫‪his literary production through a‬‬
‫‪huge number of studies, analyzing it‬‬
‫‪from distinct perspectives, however,‬‬
‫‪the Arab world -with few exceptions‬‬
‫‪–still lack such kind of efforts about‬‬
‫‪Borges as Orientalist. Therefore, the‬‬
‫‪idea of this work intents to analyze‬‬
‫‪the‬‬
‫‪orientalist‬‬
‫‪literary‬‬
‫‪and‬‬
‫‪intellectual sources of Borges.‬‬
‫‪Borges, with his universal fondness,‬‬
‫‪reding about various cultures and‬‬
‫‪civilizations, the Arab and Islamic‬‬
‫‪were one of them and its influence‬‬
‫‪in his work are obvious. He was‬‬
‫‪keen to follow the example of his‬‬
‫‪favorite philosophers and writers‬‬
‫‪fascinated by the Islamic Arab‬‬
‫‪Orient who, mostly, represented a‬‬
‫‪literary‬‬
‫‪and‬‬
‫‪epistemological‬‬
‫‪Orientalism. Borges's example is‬‬
‫‪unique in the Latin American‬‬
‫‪Orientalism, thanks to his diverse‬‬
‫‪sources; theme of this research.‬‬
‫‪Key words:‬‬
‫‪Borges, Orientalism, Arabism ,‬‬
‫‪Orient, Islam, Arabic Literature,‬‬
‫‪Thousand and One Nights‬‬
‫ملخص‪:‬‬
‫اىتم بورخس‬
‫‪(Jorge Luis‬‬
‫)‪ Borges‬بالشرق‪ ،‬مبعناه الثقايف الواسع‪ ،‬طوال‬
‫كرس لو ولًتاثو الكثَت من أعمالو اإلبداعية‪،‬‬
‫حياتو و ّ‬
‫وخص الشرق العريب اإلسالمي مبساحة سخيّة من‬
‫ّ‬
‫قراءاتو ومن نتاجو األديب شعراً ونثراً‪.‬‬
‫كم ىائل‬
‫ومع أ ّن العامل قد احتفى بو عرب ّ‬
‫من الدراسات اظتتنوعة لرصد وحتليل أعمالو من كافة‬
‫جوانبها؛ فإن العامل العريب ‪ -‬باستثناءات قليلة‪ -‬ال يزال‬
‫يفتقر إىل الدراسات اطتاصة ببورخس مستشرقاً‪ .‬من‬
‫ىنا تنطلق فكرة ىذا البحث الذي يتناول بالتحليل‬
‫مصادر بورخس األدبية والفكرية االستشراقية‪.‬‬
‫ب ورخس هباجسو الثقايف الكوين‪ ،‬هنل من‬
‫حضارات وثقافات شىت وكان اىتمامو بالشرق العريب‬
‫اإلسالمي واضح البصمة يف جزء كبَت من أعمالو‪،‬‬
‫مقتفياً هبذا النهج خطى ونتاج مفكرين وفالسفة وأدباء‬
‫عاظتيُت ‪-‬أحبهم ‪ -‬كان الشرق قد اجتذهبم ومثّلوا يف‬
‫أغلبهم رموزا لالستشراق األديب واظتعريف (‪.)1‬وىو يطرح‬
‫فتوذجا فريداً يف االستشراق األمريكي الالتيٍت والعاظتي؛‬
‫ألنّو حظي مبصادر استشراقية متنوعة قلّما حظي هبا‬
‫سيتطرق إليها‬
‫كاتب أو مستشرق آخر صتملة أسباب‬
‫ّ‬
‫البحث يف الصفحات القادمة‪.‬‬
‫الكلمات المفتاحية‪:‬‬
‫بورخس‪ ،‬االستشراق‪ ،‬االستعراب‪ ،‬الشرق‪،‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬األدب العريب‪ ،‬ألف ليلة وليلة‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪59‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫لقد ُكتب عن بورخس منذ أواسط القرن العشرين وحىت يومنا ىذا مئات‬
‫الكتب والدراسات اليت تناولت شىت أوجو حياتو وإبداعو‪ .‬وأخضعت أعمالو األدبية‬
‫كل‬
‫إىل حتليالت نقدية من ؼتتلف اظتنظورات األدبية والفلسفية والتارمتية واىتمت بو ّ‬
‫ألهن ا وجدت نفسها بنحو أو آخر منعكسة يف مرآة أدبو‬
‫الشعوب والثقافات ّ‬
‫الكوزموبولييت‪ .‬وكذلك فعلت حبذ ر ثقافتنا العربية اليت ال تزال تقف مًتددة على أعتاب‬
‫عوامل بورخس اإلبداعية وتضميناتو واقتباساتو وإشاراتو القادمة من الًتاثُت العريب‬
‫واإلسالمي ‪ .‬ىذا على الرغم من جهود بعض الكتاب يف اظتغرب ومصر والعراق‬
‫وسوريا‪ ،‬على وجو التحديد‪ ،‬يف تررتة قلة من أعمالو – عن الفرنسية واإلؾتليزية وقليل‬
‫منها عن اإلسبانية ‪ -‬ويف نشر بعض الدراسات األولية اظتًترتة أو اظتوضوعة حول نتاجو‬
‫األديب والفكري‪ .‬ومع التأكيد على ضرورة تررتة اظتزيد من أعمال بورخس وإعادة تررتة‬
‫بعض كتبو اليت قدمت للقراء العرب على ؿتو أخفق يف تقدًن حقيقة ىذا الكاتب‪ ،‬فإ ن‬
‫موضوع الدراسة ىذه يأمل يف لفت أنظار الدارسُت إىل مستوى آخر من أدبو‪ ،‬هبدف‬
‫قراءة بورخس مستشرقاً أدبياً ومعرفياً عرب مصادره االستشراقية ‪-‬موضوع البحث‪.‬‬
‫بطبيعة اضتال لن نشَت ىنا إىل االستشراق مبعناه الواسع الذي يضم ثقافات‬
‫الصُت واليابان واعتند ‪-‬وىي أيضاً كانت من بُت اىتماماتو وإن كان ذلك على ؿتو‬
‫أقل ‪ -‬بل نقصد التنبيو إىل نزعة بورخس االستشراقية من خالل اىتمامو بالثقافتُت‬
‫العربية واإلسالمية‪ .‬وذلك أوالً ألن ىذا الوجو نتثّل ملمحاً أساسياً من مالمح أدب‬
‫بورخس (‪ ،)2‬وأل ّن الباحث أو الناقد الغريب قد أقتلو لعقود طويلة واكتفى باإلشارة إىل‬
‫البُت يف كتاباتو‪ ،‬ثانياً‪ .‬ولعل السبب يف إقتال الباحث‬
‫"ألف ليلة وليلة" ضتضورىا ّ‬
‫العدة اظتعرفية اليت تتيح لو القيام مبهمة‬
‫الغريب أو عدم تنبهو يعود إىل عدم توفره على ّ‬
‫التحليل والكشف عن ىذه اآلثار العربية اإلسالمية يف نتاج ىذا الكاتب‪،‬ـ ليظل ىذا‬
‫اصتانب مهمالً حىت وقت قريب‪ .‬إذ ظهرت يف السنوات األ خَتة دراسات متفرقة‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪60‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫لباحثُت ومستعربُت‪ ،‬من إ سبانيا وأمريكا الالتينية على وجو اطتصوص‪ ،‬حبكم اطّالعهم‬
‫وترسخو يف تكوينهم الثقايف واظتعريف‪ ،‬وىذا ما جعلهم يفطنون إىل‬
‫على تراث األندلس ّ‬
‫ىذا اصتانب من نتاج بورخس اضتافل بالعناصر العربية واإلسالمية‪ .‬يذكر اظتستعرب‬
‫اإلسباين خوسيو رامَتيث ديل ريّو )‪ (José Ramírez Del Río‬هبذا الصدد‪:‬‬
‫"إن شغف خورخو لويس بورخس باألدب العريب ىو أمر شائع لدى حتليل‬
‫يبسط‪ ،‬بل‬
‫أعمالو‪ ،‬ومع أنو أمر ال جدال فيو؛ فإنو على غرار كل األقوال الشائعة ّ‬
‫ومتفي جزئياً‪ ،‬ذلك الكم اعتائل من األعمال واظتوضوعات اظتستقاة من األدب العريب‬
‫الكالسيكي الذي استخدمو ىذا الكاتب كأساس لبعض أعمالو‪ .‬كما أن االستعانة‬
‫مبوضوعات أدبية عربية يف أعمال بورخس كانت تتجاوز بكثَت مسألة توظيف كتاب‬
‫ألف ليلة وليلة يف أعمالو" (‪.)3‬‬
‫أما بالنسبة للباحثُت العرب فقد كانت ىناك مبادرات لنشر مقاالت أو‬
‫القصة أو ذاك اظتقال بالتحليل واإلشارة السريعة إىل األثر العريب‬
‫دراسات تناولت ىذه ّ‬
‫كتاب عرب ولكنها بقيت‬
‫الزمن‪ ،‬قام هبا ّ‬
‫لدى بورخس منذ أكثر من عقدين من ّ‬
‫معمقة وذلك لعدم اإلظتام مبجمل نتاج بورخس األديب‪ ،‬وىو واسع‬
‫دراسات غَت ّ‬
‫متشعب‪ -‬أكثر من ذتانُت مؤلفاً‪ -‬فضالً عن صعوبتو وغموضو وتعدد مصادره اظتعرفية‬
‫يصد القارئ والباحث‪.‬‬
‫على ؿتو ّ‬
‫بورخس واالستشراق‪ :‬البيئة األولى‪:‬‬
‫كان لوالدة بورخس عام ‪ 1899‬يف مدينة بوينوس آيريس‬
‫(‪) Buenos Aires‬‬
‫يف كنف عائلة مستنَتة متعددة الثقافات ومنفتحة على ما سواىا‪ ،‬أكرب األثر يف توجهو‬
‫ؿتو األ دب والقراءة‪ ،‬اخاصة ؿتو األدب اإلؾتليزي الذي مثل يف مطلع حياتو ّبوابة أوىل‬
‫انطلق منها ؿتو الثقافات األخرى‪ ،‬بسبب من جدتو –لوالده ‪ -‬اإلؾتليزية اليت علّمتو‬
‫أوىل اضتروف هبذه اللغة‪ ،‬وقادتو منذ الطفولة إىل عوامل حكايات‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪61‬‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫ستيفنسن‬
‫)‪(Stevenson‬‬
‫وكبلنغ‬
‫)‪(Kipling‬‬
‫والسَت أدوين أرنولد‬
‫‪(Edwin‬‬
‫)‪Arnold‬اليت كانت تقرأىا لو باإلؾتليزية‪.‬‬
‫ويعود الفضل يف توجهو يف وقت مبكر ؿتو الشرق لوالده خورخو غيَتمو‬
‫بورخس ‪ )1938-1874( Guillermo Borges) (Jorge‬اظتث ّقف احملامي الليربايل‬
‫(الفوضوي اظتؤمن بأفكار الفيلسوف ىربرت سبنسر ( ‪ )Herbert Spencer‬والكاتب‬
‫واظتًتجم اظتولع باظتؤلفات اإلؾتليزية واإلسبانية‪ .‬وكان اؾتذاب األب الشديد ؿتو الشرق‪،‬‬
‫قد دفعو لنقل رباعيات اطتيام بًترتة فيتزجَتالد )‪ (Edward Fitzgerald‬من اإلؾتليزية‬
‫إىل اإل سبانية‪ ،‬فضالً عن رواية كتبها مستلهماً فيها طاغية من الشرق‪ ،‬وغتموعة قصص‬
‫شرقية كتبها على غرار "ألف ليلة وليلة" وعمل مسرحي ضاع ومل يصلنا (‪ .)4‬ومل يكن‬
‫غريباً اىتمام الوالد بالشرق أل ّن مثقفي األرجنتُت يف ذلك الوقت كانوا قد شرعوا يف‬
‫استكشافو منذ زمن كما سنرى الحقاً‪ .‬مث إ ّن جذوره اإلؾتليزية وتواصلو مع االستشراق‬
‫الربيطاين ش ّكل بالنسبة لو ‪ -‬والبنو بورخس الحقاً‪ -‬معيناً ال ينضب يوم كانت‬
‫اإل مرباطورية الربيطانية وحشد مستشرقيها يتوجهان بكل ثقلهما ؿتو الشرق يف أوج‬
‫مرحلة االستعمار الربيطاين‪.‬‬
‫حتدث بورخس يف سَتتو الذاتية الصادرة باإلؾتليزية عام ‪1970‬‬
‫وقد ّ‬
‫(‪)5‬‬
‫عن‬
‫تعُت علي أن أشَت إىل اضتدث األعظم يف‬
‫تأثَت والده وعاظتو الثقايف فيو بقولو‪" :‬لو ّ‬
‫يفصل لنا قراءات‬
‫حيايت لقلت بأنو كان مكتبة والدي"‪ .‬ويف موضع آخر من سَتتو ّ‬
‫اظتفضلة يف األدب والفلسفة (بَتكلي)‪ (Berkeley‬وىيوم )‪ (Hume‬وويليام‬
‫والده‬
‫ّ‬
‫جيمس‬
‫)‪(William James‬‬
‫والكتب اليت تتحدث عن الشرق للُت‬
‫)‪(Lane‬‬
‫وبَتتون )‪ (Burton‬وباين )‪ )..(Payne‬وكلها غدت الحقاً قراءات واىتمامات بورخس‬
‫الكاتب‪.‬‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪62‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫بورخس والقراءات االستشراقية‪:‬‬
‫الثرية بتنوعها الثقايف‪ ،‬نشأ بورخس ثنائي اللغة يقرأ‬
‫يف ىذه البيئة األوىل ّ‬
‫باإلسبانية واإلؾتليزية وتفتّح وعيو يف مكتبة والده اضتافلة بالكتب اإلؾتليزية اليت سيبقى‬
‫يتحدث عنها طوال حياتو‪ .‬ومن ىناك انطلق ولعو الشديد بالكتب ورغبتو اظتتصلة يف‬
‫اإلحبار يف عوامل الثقافات واللغات اظتتعددة اليت أتقنها يف مراحل حياتو اظتبكرة‪ .‬وىذه‬
‫الرغبة ستجعل منو أسطورة يف عامل القراءة اليت فضلها على الكتابة مراراً سواء عرب‬
‫حواراتو‪ ،‬أو تأمالتو الغزيرة هبذا الصدد‪ .‬فقد حلم بورخس بـ"الكتاب الكّلي" الذي‬
‫كتمع تراث البشرية كلها‪ ،‬وتاقت روحو لـ"كتاب الرمل" الذي " ليس فيو صفحة أوىل‬
‫(‪)6‬‬
‫والبد لدارس أدب بورخس من أن يدرك بأن "كتاب الرمل" كان‬
‫أو أخَتة" ‪ّ .‬‬
‫كرس لو‬
‫بشكل أو آخر ىو كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي افتنت بو ىذا الكاتب و ّ‬
‫كتابات مطولة شعراً ونثراً‪.‬‬
‫كان بورخس هبذا اظتعٌت قارئاً استثنائياً للثقافات األخرى‪ ،‬استطاع أن لتيل‬
‫قراءاتو إىل كتابات مشرق ة‪ .‬وكان يعزو الفضل يف ذلك إىل اظتنجز اإلنساين العظيم الذي‬
‫قرأه وتأثّر بو فأعاد توليده أو كتابتو وفق رؤية خاصة بو‪ ،‬إذ كان يؤمن بأن الكتاب ‪-‬‬
‫أي كتاب ‪ -‬إفتا يعاد ابتكاره مع كل قراءة جديدة لو‪ .‬وقد ختيل بورخس الفردوس على‬
‫ّ‬
‫ظل يعاصتها يف كتاباتو حىت‬
‫شكل مكتبة وأحاعتا إىل واحدة من ثيماتو اظتتعددة‪ ،‬اليت ّ‬
‫رحيلو عن اضتياة‪ .‬كما أعلى شأن القراءة واعتز ببورخس قارئاً أكثر منو كاتباً‪ ،‬تعينو يف‬
‫ذلك ذاكرة ثاقبة‪ ،‬وولع استثنائي بالقراءة والتوغل يف اظتوضوعات الفلسفية واألدبية‬
‫والتارمتية حىت أن النقاد كانوا لترضونو على اضتديث بأسئلة وحوارات ال تنتهي‬
‫ليستزيدوا من معارفو‪ .‬ومل يكن ليخيب ظنهم أبداً إذ كان يدىش اظتستمعُت واحملاورين‬
‫دوماً بذاكرتو اليت تتنقل بتلقائية وألفة ما بُت األفكار والفلسفات القدنتة واألشعار‬
‫أحب من الشعراء‬
‫اطتالدة‪ّ ،‬‬
‫مر العصور‪ ،‬وما أكثر من ّ‬
‫لكتاب وفالسفة ومبدعُت على ّ‬
‫الكتاب‪ .‬لقد كان يردد بعفوية على مسامع ػتدثيو أبياتاً من الشعر اإلؾتليزي‪ ،‬وأخرى‬
‫و ّ‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪63‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫من الفرنسي أو األظتاين‪ ،‬والعريب أيضاً‪ .‬فقد كان اىتمامو بالشعر العريب واضحاً حُت‬
‫ينشد ألصدقائو تررتة إسبانية لبيت شعري كان قد ذكره ىو يف إحدى مقاالتو ‪ -‬نقالً‬
‫عن بَتتون ‪ -‬للعظيم اظتتنيب (‪:)7‬‬
‫القرطاس والقلم‬
‫الرمح و‬
‫الليل والبيداءُ تعرفٍت و ُ‬
‫السيف و ُ‬
‫ُ‬
‫اطتيل و ُ‬
‫ُ‬
‫أو حُت يبحث يف قصتو اظتعروفة " حبث ابن رشد"‪ ،‬حول مضمون بيت شعري لزىَت‬
‫بن أيب سلمى (‪:)8‬‬
‫ط عشواء من تُ ِ‬
‫صب‬
‫ر ُ‬
‫أيت اظتنايا َخب َ َ َ َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫يهرِم‬
‫ُدتتوُ ومن ُختطئ يـُ َع َّمر فَ َ‬
‫ىذا فضالً عن إشاراتو لشعراء آخرين من أصحاب اظتعلقات وشعراء األندلس‪ .‬وأوىل‬
‫اىتماماً خاصاً بعمر اطتيام ورباعياتو ‪ -‬سَتاً على خطى والده‪ -‬وبًتاث الصوفية العريب‬
‫والفارسي الذي كتب وحاضر فيو أيضاً عندما عمل أستاذاً يف اصتامعات األرجنتينية‬
‫واألمريكية واألوروبية‪.‬‬
‫إىل جانب بيئتو األوىل تلك‪ ،‬ومواىبو الف ّذة فقد سافر بورخس وتن ّقل بُت‬
‫عدة منذ صباه األول‪ ،‬وأقام مع أسرتو يف جنيف (‪ )1919-1914‬حيث تعّلم‬
‫بلدان ّ‬
‫الكتاب األظتان والفرنسيُت من فالسفة وأدباء‬
‫األظتانية والفرنسية‪،‬‬
‫وتشبع بًتاث ّ‬
‫ّ‬
‫ومف ّكرين‪ .‬مث ارحتل ىو وأسرتو إىل إسبانيا (‪1921-1919‬و ‪ )1924-1923‬واختلط‬
‫مبثقفيها يف مطلع عشرينات القرن اظتاضي‪ .‬وىناك انفتح على الًتاث العريب اإلسالمي‬
‫يشق طريقو يف عامل‬
‫من خالل حضارة األندلس‪ ،‬قبل أن يعود إىل األرجنتُت كاتباً شاباً ّ‬
‫الشعر واظتقالة والًترتة والسرد القصصي الحقاً‪.‬‬
‫ال يفوتنا ىنا التذكَت بعمل بورخس أميناً ظتكتبة ػتلية يف شبابو‪ ،‬ومع فقدان‬
‫عُت مديراً للمكتبة الوطنية يف بوينوس آيريس (‪،)1955‬‬
‫بصره يف أواسط ستسيناتو ّ‬
‫وكانت تلك واحدة من مفارقات ال قدر الذي أىداه الليل والكتب معاً على حد قولو‪.‬‬
‫وقد زاده عملو ىذا شغفاً بالقراءة وإقباالً على الثقافات األخرى‪ ،‬ومن بينها الثقافة‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪64‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫العربية واإلسالمية وحضارات الشرق العريقة الرافدينية واظتصرية القدنتة والفارسية‪ ،‬إضافة‬
‫إىل اىتمامو حبضارات الشرق األقصى الصينية واليابانية واعتندية‪ .‬وبورخس قرأ وكتب‬
‫كثَتاً يف الفلسفات واألديان التوحيدية كاليهودية واظتسيحية واإلسالم‪ ،‬واألديان القدنتة‬
‫األخرى كالصابئة اظتندائية واليزيدية والزرادشتية والبوذية واعتندوسية‪ ،‬وعٍت بتجلياهتا‬
‫األدبية بوجو خاص‪ .‬كما كتب عن الشعر الصويف اإلسالمي واظتسيحي‪ ،‬واىتم‬
‫بالتيارات والطوائف الدينية األخرى كاإلشتاعيلية والدرزية والبهائية والعلوية وأىل اضتق‪.‬‬
‫وقد وظّف ىذا كلو أدبياً يف شعره وقصصو ومل يكتف فقط بتناولو يف مقاالتو‬
‫وػتاضراتو (‪.)9‬‬
‫ذتة سبب آخر من بُت األسباب اليت زتلت بورخس على االؾتذاب ؿتو‬
‫"الشرق" الذي ظهر كواحد من أبرز ثيماتو‪-‬إضافة إىل موضوعاتو األخرى األثَتة‬
‫كاظتكتبة والعمى والزمن واظتتاىة والفلسفة واللغات واألديان والشعر‪ -‬دتثّل يف عملو‬
‫ػترراً يف غتلة (سور‪ .)SUR‬وىي غتلة أدبية فكرية أسستها الكاتبة واظتثقفة األرجنتينية‬
‫فيكتوريا‬
‫أوكامبو(‪Victoria Ocampo Aguirre‬‬
‫)‪ ،‬فتحت أبواهبا لعدد كبَت من‬
‫الكتاب العاظتيُت وتررتات أعماعتم‪ .‬وكان االىتمام بالشرق اآلسيوي واضحاً يف‬
‫ّ‬
‫منشوراهتا‪ ،‬رمبا بتأثَت من صداقة احتفظت هبا الكاتبة أوكامبو مع شاعر اعتند الكبَت‬
‫كتاهبا‬
‫طاغور )‪ (Tagore‬أو ألن االىتمام بالشرق يف تلك اجمللة كان قاشتاً مشًتكاً بُت ّ‬
‫وػترريها‪ .‬ويف ىذه اجمللة نشر بورخس عدداً كبَتاً من اظتوضوعات الشرقية العربية‬
‫ّ‬
‫اإلسالمية اليت كان يًترتها مباشرة من مصادره اإلؾتليزية بالدرجة األوىل‪ ،‬أو يستلهمها‬
‫من قراءاتو باإلسبانية أو بلغات أخرى ظتؤلّفُت عنوا هبذا اظتوضوع(‪.)10‬‬
‫ومن بُت األسباب األخرى اليت دعت بورخس لالىتمام بالشرق ونتاجو يف‬
‫األرجنتُت‪ ،‬بوسعنا أن نذكر اعتجرة العربية إىل أمريكا الالتينية‪ ،‬األرجنتُت على وجو‬
‫اطتصوص‪ ،‬واضتضور الثقايف العريب لبعض اظتغًتبُت العرب يف تلك األعوام‪ .‬فقد نشطت‬
‫على الساحة األدبية األرجنتينية شخصية دبل وماسية عربية استثنائية كان عتا حضورىا‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪65‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫اظتؤثر‪ ،‬ىو األمَت أمُت أرسالن )‪ (Emin Arslan‬ودوره يف نشر الثقافة العربية والدفاع‬
‫عدة من بينها‪" :‬حقيقة اضترًن" (‪ )1916‬و" ذكريات الشرق" (‪)1930‬‬
‫عنها عرب كتب ّ‬
‫و"أسرار الشرق" (‪ )1932‬و"الثورة السورية ضد االنتداب الفرنسي" (‪ )1933‬وكتاب‬
‫"العرب" (‪.)1941‬‬
‫كان األمَت أرسالن من الطائفة الدرزية – وىي طائفة دينية استهوت بورخس‬
‫يف كتاباتو‪ -‬وقد وصل األرجنتُت قنصالً مبعوثاً من الدولة العثمانية (‪ )1910‬إال أنو‬
‫وقرر البقاء ىناك مغًتباً‪ ،‬بعد أن‬
‫ّ‬
‫غَت مساره إثر اهنيارىا يف أعقاب اضترب العاظتية األوىل ّ‬
‫صدر حبقو حكماً باإلعدام ظتعارضتو الشديدة للسياسة العثمانية يف البالد العربية‪ .‬وقد‬
‫أسس غتلة "النوتا" )‪)1921-1916( (La Nota‬‬
‫نشر الكثَت من األعمال واظتؤلّفات و ّ‬
‫اليت استقطبت أقالماً مهمة من األدباء كليوبولدو لوغونيس )‪(Leopoldo Lugones‬‬
‫والفونسينا ستورين )‪ (Alfonsina Storni‬وأرتورو كانثيال )‪.)11((Arturo Cancela‬‬
‫يهمنا ىنا ىو أن بورخس قد تعرف إىل ىذه الشخصية العربية االستثنائية‬
‫ما ّ‬
‫يف قاعة حترير غتلة (أوغار)‪ ،‬حيث عمل بورخس كاتباً‪ ،‬والتقاه أيضاً يف غتلة (سور) إذ‬
‫ارتبط كالقتا بصداقة مع الكاتبة فيكتوريا أوكامبو‬
‫)‪Ocampo‬‬
‫‪ . (Victoria‬وقد‬
‫استلهم بورخس شخصية األمَت أرسالن يف واحدة من قصصو اظتعروفة اليت ألّفها‬
‫اظتفضل أدولفو بيوي كاساريس)‪ (Adolfo Bioy Casares‬يف‬
‫باالشًتاك مع صديقو ّ‬
‫كتاب‪":‬ست مشكالت للدون إيسيدرو بارودي" (‪ ،)12‬وأطلق على الشخصية‬
‫الرئيسية‪ ،‬رئيس طائفة الدروز‪ ،‬اسم "ابن خلدون"‪ .‬وذلك كنوع من التوازي بُت حياة‬
‫األمَت أرسالن الدبلوماسي والكاتب وصاحب القضية‪ -‬وكان رئيساً للطائفة الدرزية يف‬
‫األرجنتُت‪ -‬وحياة اظتؤرخ وعامل االجتماع اظتف ّكر والدبلوماسي أيضاً ابن خلدون‪.‬‬
‫تقدم وألسباب أخرى ال ّيتسع اجملال لسردىا ىنا‪ ،‬فقد أتيحت‬
‫لكل ما ّ‬
‫ّ‬
‫لبورخس فرصة ىائلة لالطالع على ثقافات الشرق وكانت كتاباتو تزخر مبعلومات‬
‫دقيقة عن العرب واظتسلمُت وتراثهم‪ .‬وما كان يبدو حكراً معرفياً على مستشرقُت من‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪66‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫ىذا البلد أو ذاك كان يف متناول عقلو اظتنفتح على ثقافات العامل‪ .‬وقد أخضع رتيع‬
‫مصادر معرفتو لذاكرة ذلك الضرير الف ّذة ولعبقريتو يف دتثّل وإعادة إنتاج قراءاتو خدمة‬
‫ألدبو اإلنساين‪ .‬لذا أيضاً بدت نتاجاتو مستعصية على الفهم‪ ،‬ألنّو يتحرك يف مدارات‬
‫معرفية كونية كتهلها القارئ‪ ،‬مع أن ىذا األخَت غالباً ما كتد نفسو مأخوذاً هبا بسبب‬
‫من روعة أسلوب بورخس ولغتو اظتشرقة اظتستفزة بتقشفها‪.‬‬
‫بورخس واكتشاف الشرق‪:‬‬
‫"لقد كان اضتدث العظيم يف تاريخ األمم الغربية ىو اكتشاف الشرق"‪ .‬ىكذا‬
‫أوجز بورخس اكتشاف الشرق بالنسبة للغربيُت ‪-‬وىو ما يذ ّكرنا باضتدث األعظم يف‬
‫ال‪:‬‬
‫حياتو أيضاً باكتشاف مكتبة والده‪ -‬ويضيف قائ ً‬
‫"عندما نقول "الشرق" أحسب أننا رتيعاً نفكر مبدئياً بالشرق اإلسالمي‪،‬‬
‫ومن مث بالشرق اظتتمثّل بشمال اعتند‪ .‬ىذا ىو اظتعٌت األول الذي تستدعيو ىذه اظتفردة‬
‫وىو بفعل تأثَت "ألف ليلة وليلة"‪ .‬وذتة شيء ما نستشعره من خاللو "الشرق" شيء مل‬
‫أحس بو يف إسرائيل ولكٍت أحسست بو يف غرناطة وقرطبة‪ .‬لقد أحسست حبضور‬
‫ّ‬
‫"الشرق" وىو أمر ال أدري إن كان بوسعنا تعريفو‪ ،‬وبأية حال ال أعرف إن كان من‬
‫اجملدي وضع تعريف لشيء ؿتن رتيعاً نستشعره على ؿتو زتيم‪ .‬فنحن مدينون‬
‫بإلتاءات ىذه اظتفردة لكتاب "ألف ليلة وليلة" وىذا ىو أول ما متطر ببالنا‪ ،‬بعد ذلك‬
‫لنا أن نف ّكر يف ماركو بولو أو أساطَت الكاىن يوحنا وبأهنار الرمال وأشتاك الذىب‬
‫تلك‪ .‬فنحن يف اظتقام األول نف ّكر يف اإلسالم" (‪.)13‬‬
‫اكتشف الغرب الشرق من خالل "ألف ليلة وليلة" بًترتة أنطوان غاالن‬
‫)‪ ،(Antoine Galland‬بيد أن بورخس اكتشف الشرق (العريب اإلسالمي) يف طفولتو‬
‫اظتب ّكرة حُت قرأ‪ ،‬وىو مل يبلغ بعد العاشرة من العمر كتاب "ألف ليلة وليلة" بًترتة‬
‫ريتشارد بَتتون‪ .‬لقد أعتب ىذا العمل خيال بورخس الطفل وسكن ذاكرتو وظل يهذي‬
‫بو حىت آخر ضتظة يف حياتو‪ .‬يقول عن ىذا العمل اطتالد‪ ،‬يف سَتتو‪:‬‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪67‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫يعد آنذاك من‬
‫" كان كتاب "ألف ليلة وليلة" بًترتة بَتتون – اضتافلة مبا كان ّ‬
‫علي‪ ،‬وكان ال بد يل من قراءتو خفية على سطح الدار‪ .‬لكٍت يف‬
‫الفواحش ‪ -‬ػتظوراً ّ‬
‫ذلك الوقت كنت متأثراً جداً بسحر الكتاب حىت أين مل أتنبو لتلك األجزاء اظتمنوعة‬
‫وقرأت اضتكايات‪ ،‬ومل أكن أعي أي معٌت آخر سوى ذلك السحر" (‪.)14‬‬
‫خص بورخس ىذا اظتؤلف بدراسات واستلهمو كثَتاً يف الشعر‬
‫من ىنا فقد ّ‬
‫أىم ما كتبو ىو تلك الدراسة اليت تناول فيها تررتات ىذا العمل‬
‫والقصة والنقد‪ .‬ومن ّ‬
‫االستثنائي واظتقارنة اليت عقدىا ما بُت تررتات اظتستشرقُت اظتعروفُت‪ :‬ريتشارد بَتتون‬
‫وإدوارد لُت باإلؾتليزية‪ ،‬وأنطوان غاالن والدكتور ماردروس‬
‫وكانسينوس أسينس‬
‫)‪(Cansinos Asséns‬‬
‫)‪(Mardrus‬‬
‫بالفرنسية‪،‬‬
‫باألسبانية‪ ،‬وليتمان )‪(Littmann‬‬
‫عدة يف بالده وخارجها للحديث عن ىذا األثر اطتالد‪،‬‬
‫كرس ػتاضرات ّ‬
‫باألظتانية‪ .‬وقد ّ‬
‫وكان يستشهد بو مراراً يف حواراتو وكتاباتو‪ .‬كما أنو استفاد أيضاً من البناء الروائي‬
‫واألسلوب اضتكائي للعمل‪ ،‬بل وانتحل بعضاً من قصصو ومتاىاتو أيضاً يف أسلوب‬
‫غدا واحداً من شتات بورخس يف السرد القصصي‪ :‬االنتحال األديب‪.‬‬
‫لعل من اظتناسب أن نشَت ىنا إىل أن بورخس –الصيب ‪ -‬قرأ العمل وافتنت بو‬
‫يتحدث عن كل ما لو صلة‬
‫من قبل أن يتش ّكل وعي الكاتب بورخس‪ ،‬لذا فهو حُت ّ‬
‫بالعرب وبثقافتهم‪ ،‬ال يفعل ىذا فقط من خالل وعي اظتثقف الكوين‪ ،‬بل ىو يستعيد‬
‫أيضاً بعضاً من جتربتو الروحية مع عامل "ألف ليلة وليلة" وأجوائو وبيئاتو العربية‬
‫واإلسالمية‪ ،‬ورتيعاً نعرف ما للقراءات األوىل من أثر باق يف النفس‪ -‬ويف التواصل مع‬
‫جزء من الطفولة والشباب اظترتبط هبا‪ .‬أي أنو يف ىذا اإلقبال ؿتو الشرق العريب اظتسلم‬
‫عد عتا لكتّاب غربيُت‬
‫ال ينطلق من مواقف براغماتية استشراقية ميزت كتابات ال ّ‬
‫ومواقفهم اليت ارتبطت يف كثَت من األحيان بالعقلية االستعمارية أو بالرؤية التبشَتية‬
‫اظتنطلقة من اظتسيحية اظتتشددة‪ ،‬اليت رأت يف اإلسالم خطراً داقتاً وعدواً ال بد من‬
‫ػتاربتو‪ ،‬وفتوذجاً حسياً يتهدد طهرانيتها‪ .‬رمبا ألن بورخس مل يعش يف كنف عائلة‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪68‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫مسيحية تقليدية بل ترىب على أفكار أبيو الفوضوي الليربايل‪ .‬وىو نفسو كان الأدرياً‬
‫متشككاً ومل يتوان عن نقد الفكر اظتسيحي يف أعمالو وحواراتو‪ .‬لذا فإن تقبلو لألفكار‬
‫واظتعتقدات الدينية األخرى مل يكن باألمر اظتستغرب‪ ،‬ألنو يتعامل مع رتيع الفلسفات‬
‫واألديان من منظور اظتعرفة ال اإلنتان بالفكرة أو األيديولوجيا (‪ .)15‬وىكذا فإن ّقراءه‬
‫من اليسار واليمُت ومن شىت اظتشارب الفكرية واظتعتقدات الدينية والثقافات‪ ،‬يقبلون‬
‫على قراءة أعمالو بشغف عظيم ألنو أوالً وأخَتاً قد أعلن انتماءه لقيم رواقية ثقافية‬
‫خالدة‪ ،‬وانتمى طواعية لزمان قدًن‪ .‬فهو يعًتف ببساطة وقناعة قائالً‪" :‬ال أعرف شيئاً‬
‫معاصري ىم اإلغريق" (‪.)16‬وقد ّبرر نظرتو‬
‫عن األدب اظتعاصر‪ ،‬ومنذ زمن بات‬
‫ّ‬
‫الرجعية ىذه وميولو اليمينية بقولو‪ :‬إنو حُت فقد بصره يف عام ‪ 1955‬مل يعد قادراً على‬
‫التواصل مع معاصريو من الكتاب‪ ،‬ومبا أنو كان يستعُت بآخرين للقراءة لو فإنو كان‬
‫لتبذ أن يقرؤوا لو – أو يعيدوا قراءة ‪ -‬كتب األدب والفلسفة والتاريخ اليت أحبها‪ .‬وكان‬
‫ّ‬
‫يهمٍت ألين أعتقد أنو سيشبهٍت‪ ،‬فأنا أوالً وأخَتاً معاصر أيضاً‪،‬‬
‫يعًتف بأن "اظتعاصر ال ّ‬
‫يف حُت أن اظترء عندما يدرس آداب العصور األخرى نتكن لو أن يعثر على‬
‫(‪) 17‬‬
‫يكرر باستمرار أ ّن ما من كاتب يرغب يف أن يكون مديناً‬
‫مستجدات" ‪ .‬وكان ّ‬
‫بشيء ظتعاصريو‪.‬‬
‫كان بورخس لتلم بأن يصبح كاتباً ينتمي لساللة كبار شخصيات التاريخ اليت‬
‫أسرتو منذ طفولتو واحتلت أفق حياتو الفكرية‪ .‬وكان يعرف أن الطبيعة قد سلبتو الكثَت‬
‫على صعيد القوة اصتسدية وقابلياتو االجتماعية – وىو اطتجول اعتش اظتنطوي يف فًتة‬
‫طفولتو وشبابو‪ .‬وكان يوقن بأنو لن يكون صانع تاريخ مبعٌت الفعل أو اضتدث كما فعل‬
‫أسالفو من القادة العسكريُت‪ ،‬بل عرب الكتابة‪ .‬لذا فقد تنبو منذ مطالع حياتو ألثر قوة‬
‫وتأثر هبم وحلم‬
‫العقل‪ ،‬وحاول أن لتاور من خاللو ّ‬
‫كتابو وفالسفتو الذين عشقهم ّ‬
‫بق در ؽتاثل لقدرىم‪ .‬ومل يًتدد طوال حياتو يف التصريح بإعجابو هبم‪ ،‬وتأثره بنتاجهم‬
‫الفكري بغض النظر عن اظتكان أو الزمان أو الثقافة اليت ينتمي إليها ىؤالء ألنو كان‬
‫تشبو بو يف كثَت من خصالو (‪ .)18‬وحُت شعر بدنو‬
‫كوين النزعة‪ ،‬كوالده الذي لطاظتا ّ‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪69‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫أجلو أراد أن يؤكد نزعتو الكونية ىذه‪ ،‬فقرر أن نتوت ويدفن يف مدينة جنيف‪ ،‬مرتع‬
‫صباه‪ ،‬قائال لصديق عمره الكاتب أدولفو بيوي كاساريس الذي أعرب عن استغرابو‬
‫لفكرة رحيلو عن الوطن وقد استفحل لديو اظترض العضال عام ‪ :1986‬إن أية بقعة يف‬
‫األرض تصلح كي نتوت اظترء فيها‪.‬‬
‫بورخس ومصادره االستشراقية‪:‬‬
‫قدر لبورخس بسبب من كونو كاتباً أرجنتينياً من أمريكا الالتينية من أب‬
‫لقد ّ‬
‫يطل‬
‫ذي أصل إؾتليزي وأم من أصول إسبانية برتغالية‪ ،‬أن يتحاور مع ثقافات شىت وأن ّ‬
‫على الشرق العريب اإلسالمي من مصادر استشراقية متنوعة‪ .‬لذا فهو نتثل فتوذجاً يف‬
‫االستشراق الرامي إىل اظتعرفة اإلنسانية لذاهتا واالكتفاء بلذة النص واكتشافو بغض‬
‫النظر عن انتمائو ألي من الثقافات أو الشعوب‪ .‬وبسبب من نزعتو اظتعرفية اظتتشككة‬
‫فهو ال يأخذ مضمون القراءة أياً كان على ؿتو قاطع‪ ،‬بل يبقيو ضمن نطاق اظتمكن‬
‫واحملتمل‪.‬‬
‫وبوجو عام ؿتن ال ؾتد يف كتابات بورخس ميالً لسإسراف يف اإلطراء أو الذم‬
‫بل نراه يعتمد اضتجة اظتنطقية اظتستندة إىل الشواىد والنصوص عرب حتليالت مفتوحة‬
‫النهايات‪ .‬وبورخس اظتتشكك الالأدري ال يسّلم بالفكرة على عواىنها مهما بدت‬
‫ويتعمق‪ ،‬وغالباً ما يطرح تساؤالت ويربز معضالت فكرية‪ ،‬لكنو‬
‫جذابة بل ين ّقب فيها ّ‬
‫عدتو يف اظتسائل الشرقية آنذاك كانت يف كثَت‬
‫يقدم حلوالً بل خيارات‪ .‬ومع أن ّ‬
‫أبداً ال ّ‬
‫من األحيان تستند إىل غتلدات اظتوسوعات اظتتنوعة ‪-‬وخصوصاً اإلنسكلوبيديا‬
‫الربيطانية واألظتانية والفرنسية‪ -‬اليت رافقتو منذ طفولتو حىت آخر حياتو‪ ،‬فإنو كان‬
‫يضاىي تلك اظتعلومات مبصادر من لغات أخرى أتقنها وصوالً إىل االستنتاج اظتناسب‪.‬‬
‫وىذا ما فعلو مثالً يف دراستو اظتهمة "مًترتو ألف ليلة وليلة"اليت قام من خالعتا مبراجعة‬
‫تررتات ؼتتلفة بلغات عدة عتذا العمل اإلنساين العظيم الذي عشقو وبالغ يف استثمار‬
‫عناصره (‪.)19‬‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪70‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫ولعل أعظم ما أتيح لو ىو فرصة قراءة آداب الشعوب األخرى بلغاهتا فهو مل‬
‫يقف على أعتاب الثقافات األخرى بل تو ّغل فيها وارحتل مستكشفاً الكثَت ؽتا يفوت‬
‫عادة على قراء الًترتات فقط‪ .‬وهبذا كان يتفادى التسليم مبا تنطوي عليو تلك‬
‫الًترتات من أحكام ومن أخطاء بريئة ‪-‬أو متعمدة‪ -‬باستثناء بعض اللغات اليت كان‬
‫كتهلها ومن بينها العربية‪ .‬مع ذلك فقد خصص‪ ،‬ومنذ وقت مبكر‪ ،‬مساحة من جهده‬
‫لفهم اللغة العربية وألفاظها وقواعدىا ومعانيها‪ ،‬فضالً عن النتاج األديب والفكري‬
‫اظتكتوب هبا‪ .‬بل وحاول مذ كان يف العشرين من عمره أن يتعلمها يوم كان يعيش يف‬
‫أشبيلية بإسبانيا مع والديو (‪.)20‬‬
‫بورخس واالستشراق البريطاني‪:‬‬
‫لقد كان االستشراق اإلؾتليزي ىو فاحتة الطريق الذي وصل بورخس بشرق‬
‫توارث االفتتان بو عن أبيو‪ .‬ومنذ الطفولة األوىل كان تراث اظتستشرقُت اإلؾتليز الذي‬
‫أىم‬
‫زخرت بو مكتبة والده اضتافلة مبؤلفاهتم ىو اظتعُت األول‪ ،‬ورأينا كيف أ ّن من أوىل و ّ‬
‫األعمال اليت قرأىا يف صغره كان كتاب "ألف ليلة وليلة" بًترتة بَتتون‪ .‬والالفت‬
‫لالنتباه أن أول عمل تررتو بورخس يف طفولتو ونشره لو والده‪ ،‬وىو مل يتجاوز الثانية‬
‫عشرة من عمره بعد كان قصة "األمَت السعيد" ألوسكار وايلد )‪ .(Oscar Wild‬وىي‬
‫حكاية رتيلة فيها عناصر شرقية تتحدث عن دتثال األمَت والطائر الذي يريد أن يرحتل‬
‫إىل مصر‪ ،‬وفيها إشارات إىل النيل واألىرامات وأيب اعتول‪ .‬مث قرأ يف شبابو وكهولتو‬
‫مؤلفات ال حتصى لكبار األدباء اظتهتمُت بالشرق واظتستشرقُت اإلؾتليز‪ ،‬وأعجب بكثَت‬
‫مطولة من كتاباتو وحتليالتو النقدية‪ .‬وال ننسى ىنا كا راليل‬
‫منهم وأفرد عتم صفحات ّ‬
‫)‪ (Thomas Carlyle‬الذي أعجب بو وكتب عن عملو اظتعروف "عن األبطال وعبادة‬
‫حتدث فيو عن شخصية النيب ػتمد (ص)‪ .‬وال يسعنا يف ىذه العجالة إال‬
‫البطل" الذي ّ‬
‫رحالة ومغامرين بريطانيُت‪ ،‬ؽتن‬
‫أن نورد بعض تلك األشتاء اظتعروفة ّ‬
‫لكتاب وأدباء أو ّ‬
‫اىتموا بالشرق وانعكس ذلك يف كتاباهتم‪ ،‬منهم من جاب الشرق ووضع كتباً‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪71‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫ودراسات فيو ألغراض متعددة‪ ،‬بعضها يتجاوز اعتاجس األديب ليصبح أداة للسياسي‪:‬‬
‫ريتشارد بَتتون‪ ،‬توماس كا راليل‪ ،‬أتش جي ويلز )‪ ، (H.G.Wells‬برناردشو ‪(Bernad‬‬
‫)‪ ،Shaw‬إدوارد لُت‪ ،‬مونتجمري وات‬
‫) ‪Watt‬‬
‫‪ ،(Montgomery‬إدوارد‬
‫جيبون )‪ ،(Edward Gibbon‬تشيسًتتون )‪،(Chesterton‬دي كنس)‪، (Di Quincey‬‬
‫يت أي لورنس)‪ ،(T.E.Lawrence‬اللورد بايرون‬
‫(‪) 21‬‬
‫)‪Byron‬‬
‫‪، (Lord‬‬
‫شيللي)‪...(Shelly‬‬
‫القائمة تطول إال أ ّن ما يعنينا ىنا ىو أ ّن بورخس اطّلع على كتابات‬
‫اظتستشرقُت اظتتحاملُت على اإلسالم‪ ،‬ؽتن غمطوا العرب ح ّقهم كصناع ثقافة وشركاء يف‬
‫اضتضارة اإلنسانية‪ ،‬بيد أنّو مل يقع أسَت النظرة الشوفينية اظتناوئة للعرب واظتسلمُت‬
‫وتراثهم‪ ،‬بل راح يعرض الكثَت من أفكار اظتستشرقُت اظتنصفُت ويفرد عتا مساحات من‬
‫كتاباتو ويرددىا يف حواراتو‪ ،‬ألنو يدرك حجم اإلسهام الفكري اإلنساين الذي خلفتو‬
‫معٍت باصتانب الثقايف ‪-‬‬
‫اضتضارة العربية واإلسالمية‪ ،‬وأل ّن بورخس ّ‬
‫ظل طوال حياتو ّ‬
‫وصرح بو يف أحاديثو الصحفية‪.‬‬
‫اظتعريف أكثر من السياسي يف كل ما قرأ وكتب ّ‬
‫بورخس واالستعراب اإلسباني‪:‬‬
‫مل يكن بورخس ككاتب أرجنتيٍت ينتمي إىل اظتركزية األوروبية واستشراقها دتاماً‪،‬‬
‫بل كان ينتمي أو ًال إىل االستشراق اإلسباين‪ -‬األمريكي الالتيٍت‪ ،‬أما االستشراق‬
‫الربيطاين فقد فتح أبواب الشرق اظتعرفية أمامو على مصراعيها منذ طفولتو األوىل قبل أن‬
‫يتعرف عليو الحقاً ك شرق (مشرقن) على يد حركة االستشراق الكولونيالية‪ .‬وبوسعنا‬
‫القول إ ّن االستعراب – وليس االستشراق ‪ -‬اإلسباين‪ ،‬من خالل تراث العرب اظتسلمُت‬
‫وما خلفوه من شواىد آثارية قائمة يف األندلس حىت يومنا ىذا‪ ،‬كان التجسيد األول‬
‫لقراءاتو اإلؾتليزية عن الشرق الفانتازي الذي سكن خيال الصيب مبغامرات "ألف ليلة‬
‫وليلة"‪ .‬وىكذا راحت قصائده حتفل بإشارات لًتاثهم‪ ،‬وىو بعد يف مطلع عشريناتو‬
‫وصارت تًتدد أشتاء ظتعامل عربية إسالمية‪ ،‬كقصر اضتمراء وجامع قرطبة‪ ،‬وإشارات إىل‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪72‬‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫ضمها‬
‫شخصيات من تاريخ اإلسالم ورسولو وخلفائو‪ .‬ومل يًتدد يف القول يف قصيدة ّ‬
‫ديوانو الشعري األول الذي أصدره لدى عودتو من إسبانيا عام ‪ 1923‬بأ ّن يف عروقو‬
‫تسري دماء أسالف ىم‪:‬‬
‫"الساكسون والعرب والقوط‪ /‬الذين من غَت أن أدرك أؾتبوين" (‪.)22‬‬
‫يف إسبانيا التقى بورخس بتاريخ العرب واظتسلمُت وقصصهم ومالزتهم‬
‫وعما رهتم‪ ،‬بفالسفتهم وشعرا ئهم وأبطاعتم‪ ،‬بانتصاراهتم وانكساراهتم‪ ،‬واستلهم من كل‬
‫مهمة أثّرت فيو‪ ،‬ىو‬
‫تعرف على شخصية ّ‬
‫ذلك الكثَت يف قصصو وقصائده‪ .‬ىناك أيضاً ّ‬
‫الكاتب اإلسباين اإلشبيلي رافائيل كانسينوس أسينس‬
‫‪Rafael Cansinos Assens‬‬
‫(‪ )1964-1882‬الشاعر والروائي والناقد واظتًتجم الذي رتع ثقافة الشرق والغرب‪،‬‬
‫حتول إ ىل‬
‫وكان يزىو بقدرتو على "حتية النجوم بأربع عشرة لغة"‪ .‬كان ىذا الكاتب قد ّ‬
‫اليهودية بعد أن اكتشف أن جذوره تعود إليها‪ ،‬وأن أسالفو قد حتولوا إىل اظتسيحية‬
‫خوفاً من بطش ػتاكم التفتيش‪ .‬وقد كتب وترجم يف غتاالت ؼتتلفة حبكم تنوع قراءاتو‬
‫بلغات عدة من بينها‪ ،‬العربية اليت كتب هبا أجزاء من مذكراتو حول اضترب األىلية‬
‫اإلسبانية‪ .‬وقد ترجم لغوتو‬
‫‪Goethe‬‬
‫ودستويفسكي‬
‫‪Dostoïevski‬‬
‫وبلزاك‬
‫‪Balzac‬‬
‫وباربوس بلغاهتم‪ ،‬وترجم أيضاً من العربية ؿتو اإلسبانية القرآن الكرًن وكتاب "ألف ليلة‬
‫وليلة"‪ ،‬ووضع كتاباً يف سَتة الرسول ػتمد (ص) بعنوان "ػتمد والقرآن" حتدث فيها‬
‫بتقريض كبَت وإعجاب بشخصية الرسول بوصفو واحداً من أعظم العباقرة – كموسى‬
‫وزرادشت‬
‫‪Zoroastre‬‬
‫وبوذا‬
‫‪Bouddha‬‬
‫وكونفوشيوس ‪ - Confucius‬الذين أؾتبتهم‬
‫متص اصتميع (‪ .)23‬كما نقل عن الفارسية‬
‫البشرية‪ّ ،‬‬
‫وحث على قراءة القرآن كونو مرجعاً ّ‬
‫قصائد من الشعر الصويف للخيام وشَتازي وجامي وسعدي والعطار وآخرين‪ .‬وكان ىذا‬
‫اظتستشرق اإل سباين من أىم الشخصيات اليت أثرت يف بورخس حُت التقاه يف إسبانيا‬
‫خصو بورخس فيما بعد بأكثر من قصيدة ومقال‪ ،‬من بينها‬
‫يف مطلع عشريناتو‪ .‬وقد ّ‬
‫مقالو "كانسينوس وألف ليلة وليلة" (‪ ،)1960‬واحتفظ معو بصداقة واحًتام دفعاه ألن‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪73‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫يناديو طوال حياتو بـ" معلّمي" ألنّو كان يرى فيو عاظتاً معرفياً مصغراً رتع الشرق والغرب‬
‫يف ثقافتو ونتاجو الفكري‪ ،‬عاظتاً يليب تطلّعاتو ؿتو الكونية‪.‬‬
‫من تراث األندلس أيضاً استلهم بورخس شخصيات معروفة يف التاريخ العريب‬
‫اإلسالمي كابن خلدون‪ -‬كما رأينا آنفاً‪ -‬كما وظّف رواية ابن رشد وموقف اظتستشرق‬
‫قصتو اظتعروفة "حبث‬
‫رينان )‪ (Ernest Renan‬منو يف كتابو "ابن رشد والرشدية"‪ ،‬يف ّ‬
‫ابن رشد"‪ .‬وأفاد من الًتاث الفلسفي اإلسالمي فاستلهم اظتذىب الظاىري يف قصتو‬
‫اظتشهورة "الظاىر" (‪ .)24‬وكذلك أشار يف كتاباتو إىل الكثَت من الشخصيات العربية‬
‫واإلسالمية كهارون الرشيد واظتأمون وعمر بن اطتطاب (رضي اهلل عنو) وطارق بن زياد‬
‫وموسى بن نصَت وسواىم من الشخصيات التارمتية‪ ،‬اليت نسج منها قصائد وقصصاً‬
‫ومقاالت‪ .‬دتاماً كما أفاد من قبل من شخوص وعناصر السرد يف "ألف ليلة وليلة"‬
‫(شهرزاد‪ ،‬شهريار‪ ،‬السندباد‪ ،‬طائر الرخ‪ ،‬جبل قاف ‪ )..‬وأعمل فيها قلمو النقدي‬
‫عده األرتل يف العامل‪ ،‬ويف بناء ىذا العمل‬
‫مفسراً وشارحاً ومتأمالً يف العنوان الذي ّ‬
‫الفٍت وأسلوبو ومضامينو‪.‬‬
‫الثري هنل بورخس من تأثَتات الثقافتُت العربية‬
‫ومن الًتاث األديب اإلسباين ّ‬
‫واإلسالمية‪ ،‬فأعجب برواية سربانتس ‪" Cervantes‬الدون كيخوتة" اليت قرأىا يف‬
‫طفولتو باإلؾتليزية وكتب عنها نقداً واستلهمها يف عملو القصصي "بيار مينارد مؤلف‬
‫الكيخوتة"(‪ .)25‬وكما ىو معروف فإ ّن ىذا العمل اإلنساين اطتالد حافل يف مواضع‬
‫كثَتة بتأثَتات الثقافة العربية واإلسالمية‪ ،‬وكان ثربانتس ؽتن تعاملوا باحًتام مع الدين‬
‫اإلسالمي برغم أعوام األسر اليت قضاىا يف اصتزائر (‪ .)26‬كما أن بورخس قرأ وتفاعل‬
‫مع مؤلفات إ سبانية أخرى كثَتة زاخرة باألجواء والتأثَتات العربية اإلسالمية‪ ،‬من بينها‬
‫"ملحمة السيد القمبيطور"‬
‫(‪)27‬‬
‫وكتاب "اضتب احملمود" طتوان رويث‬
‫‪Juan Ruiz‬‬
‫وىو العمل اظتتأثّر مبؤلّف "طوق اضتمامة" البن حزم األندلسي (‪.)28‬‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪74‬‬
‫‪،‬‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫لقد قرأ بورخس –وىذا ما نستنتجو من خالل كتاباتو ‪ -‬مؤلفات لكبار‬
‫أقتهم‪:‬‬
‫اظتميزة ومن ّ‬
‫اظتستعربُت من نتاج حركة االستعراب اإلسباين ذي اطتصوصيات ّ‬
‫آسُت باالثيوس )‪ ( Miguel Asín Palacios‬الذي ّنبو إىل التأثَتات اإلسالمية يف‬
‫"الكوميديا اإلعتية" من خالل كتابو "دانيت واإلسالم" (‪ )1927‬كما أصدر كتاب "آثار‬
‫اإلسالم" عام ‪ .1941‬وكذلك دراسات أمَتكو كاسًتو )‪ (Américo Castro‬اظتهمة‬
‫اليت ّنبهت اإل سبان لتاريخ العرب يف األندلس‪ ،‬واظتستعرب أميليو غارثيا غوميث‬
‫)‪ (Emilio García Gómez‬الذي ترجم إىل اإلسبانية مؤلف "طوق اضتمامة" والكثَت‬
‫من الشعر العريب األندلسي واصتاىلي‪.‬‬
‫بورخس واالستشراق الفرنسي‪:‬‬
‫مل يقتصر ىذا الولع االستشراقي البورخسي على النهل من اظتصدرين اإلؾتليزي‬
‫أطل بورخس على النتاج‬
‫واإلسباين فقط يف التعرف على الشرق العريب اإلسالمي‪ ،‬بل ّ‬
‫االستشراقي الفرنسي وخصوصاً ما ألّفو كبار الكتاب الفرنسيُت حول ىذا الشرق‪ .‬فقد‬
‫تعلم بورخس الفرنسية يف اطتامسة عشرة من عمره حُت أقام مع أسرتو يف جنيف‬
‫وأتقنها إىل جانب األظتانية‪ ،‬وتعرف على أعمال كبار األدباء واظتفكرين بكلتا اللغتُت‪.‬‬
‫وىناك أيضاً قرأ بالفرنسية عتوغو)‪ (Victor Hugo‬والكساندر دوماس ‪(Alexandre‬‬
‫)‪ Dumas‬وفلوبَت)‪Flaubert‬‬
‫وفَتلُت‬
‫)‪Verlaine‬‬
‫‪(Paul‬‬
‫‪ (Gustave‬وموباسان‬
‫ورامبو)‪Rimbaud‬‬
‫) ‪De Maupassant‬‬
‫‪ (Arthur‬وبودلَت‬
‫‪(Guy‬‬
‫‪(Charles‬‬
‫)‪Baudelaire‬والمارتُت ‪ Lamartine) (Alphonse de‬وغوستاف لوبون ‪(Gustave‬‬
‫وخصهم باىتمامو يف الكثَت‬
‫)‪ Le Bon‬ولويس ماسينيون )‪ّ ..،(Louis Massignon‬‬
‫الكتاب على موضوعة الشرق‪ ،‬مع اختالف‬
‫من مقاالتو‪ ،‬ومعلوم مدى انكباب ىؤالء ّ‬
‫الرؤى‪.‬‬
‫تذكر الكاتبة أليثيا خورادو )‪ (Alicia Jurado‬يف كتاهبا عن بورخس‪ ،‬وكانت‬
‫حد ثها عن أول رواية قرأىا بالفرنسية يف جنيف‪ ،‬عندما‬
‫مقربة لو‪ ،‬أ ّن بورخس ّ‬
‫صديقة ّ‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪75‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫سن اطتامسة عشرة‪ ،‬وىي رواية "تارتاران من تاراسكون" أللفونس دوديو‬
‫كان يف ّ‬
‫) ‪ )1872((Alphonse Daudet‬اليت تدور أحداثها ومغامرات بطلها يف اصتزائر (‪.)29‬‬
‫وىذا االختيار يؤكد من جديد اىتمامات بورخس الفىت اظتبكرة‪ .‬رمبا ألهنا بأجوائها‬
‫الشرقية مثّلت لو امتداداً لعوامل "ألف ليلة وليلة" اليت عشقها منذ طفولتو ولشرقها الذي‬
‫اؾتذب إليو‪.‬‬
‫بورخس واالستشراق األلماني‬
‫أما اخصوص مصادره االستشراقية األخرى‪ ،‬ونعٍت هبا األظتانية حتديداً‪ ،‬فقد قرأ‬
‫بورخس يف جنيف أيضاً باألظتانية ويف سن مبكرة مؤلفات كانت )‪(Immanuel Kant‬‬
‫وشوبنهاور‬
‫)‪(Arthur Schopenhauer‬‬
‫وأقبل على قراءة األعمال األدبية لغوتو‬
‫)‪ . (Goethe‬ومعروف مدى إعجاب غوتو بالشعر العريب والًتاث اإلسالمي واىتمامو‬
‫باظتتنيب وأيب دتام وشعراء اظتعّلقات وسواىم‪ ،‬وببعض الشعراء الفرس‬
‫بنحو خاص‬
‫ّ‬
‫كحافظ الشَتازي والفردوسي وجالل الدين الرومي‪ ،‬وىو اظتسار الذي انتهجو بورخس‬
‫الحقاً باالىتمام هبذه الرموز الشعرية العربية واإلسالمية عرب قراءاتو األظتانية وتوظيف‬
‫ىذه الشخصيات ونتاجها األديب يف كتاباتو واإلشارة إليها يف أحاديثو (‪.)30‬‬
‫وال متفى على اظتعنيُت بشؤون وشجون االستشراق الغريب‪ ،‬أن االستشراق‬
‫األظتاين نأى دوماً بنفسو عن اظتشروع الكولونيايل يف منطقتنا‪ .‬وىكذا تشرب بورخس‬
‫كتاب أظتانيا ومستشرقيها بعيداً‬
‫ىذه اظتوضوعات الشرقية عرب قراءاتو واىتمامو بفالسفة و ّ‬
‫عن النظرة االستشراقية التقليدية السالبة‪ ،‬والنربة الشوفينية اظتتعالية لبعض اظتستشرقُت‬
‫الغربيُت‪ .‬وقد ساعده يف ذلك أنو استوعب نتاجات الفالسفة والكتاب األظتان بلغتهم‪،‬‬
‫دتاماً كما فعل مع كتابات اظتستشرقُت اإلؾتليز واألمريكان ‪-‬واشنطن إيرفنج‪ -‬ومع‬
‫الفرنسيُت واإليط اليُت‪ ،‬واإلسبان بطبيعة اضتال‪.‬‬
‫ختص العامل‬
‫ومل يكتف بورخس بقراءة نتاج ىؤالء اظتستشرقُت وموضوعاهتم اليت ّ‬
‫العريب واإلسالمي‪ ،‬بل تأثّر هبم وكتب عنهم وعنها مراراً وذكرىم يف حواراتو ولقاءاتو‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪76‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫قدم للًترتات اليت صدرت عن أعماعتم باللغة‬
‫الصحفية وػتاضراتو‪ ،‬وترجم لبعضهم أو ّ‬
‫اإلسبانية‪.‬‬
‫بورخس واالستشراق األمريكي الالتيني‪:‬‬
‫غالباً ما يُقرن االستشراق بالعامل الغريب‪ ،‬األورويب والواليات اظتتحدة األمريكية‪،‬‬
‫إال أ ّن الواقع يثبت أ ّن ىذه الظاىرة امتدت لتشمل العامل كلو مبا يف ذلك القارة‬
‫األمريكية الالتينية (الناطقة باإلسبانية والربتغالية) على الرغم من بعد اظتسافة اصتغرافية‪.‬‬
‫القارة‬
‫وقد بدأ ذلك االىتمام مب ّكراً نظراً لوجود تأثَتات إسالمية وعربية واضحة يف ىذه ّ‬
‫يرجح طروحات القائلُت بانتقال ىذه العناصر إليها مع‬
‫منذ زمن بعيد‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫زتالت ماجالن‬
‫‪Fernand de Magellan‬‬
‫وكرستوفر كولومبس‬
‫‪Christophe‬‬
‫(‪)31‬‬
‫حتدثت عن‬
‫‪ . Colomb‬والحقاً ذتّة الكثَت من األعمال األدبية واظتؤلفات اليت ّ‬
‫للحج إىل األرض‬
‫ومبشرون قصدوا الشرق‬
‫ورحالة ّ‬
‫الشرق وضعها أدباء ومثقفون ّ‬
‫ّ‬
‫اظتقدسة يف فلسطُت‪ ،‬أو لزيارة مصر أو مشال أفريقيا‪ .‬ولعل أول ىؤالء ىو فرانثيسكو‬
‫مَتاندا‬
‫‪Francisco de Miranda‬‬
‫الذي زار مليلة يف عام ‪1774‬م‪ ،‬ومن مث زار مصر‬
‫والدولة العثمانية عام ‪ 1786‬وكتب الكثَت من التعليقات اليت امتدح فيها روعة اظتدن‪،‬‬
‫وحسن التنظيم وقارن بُت ما رأى من نظافة األتراك وقذارة الفرنسيُت (‪.)32‬‬
‫ويف القرن التاسع عشر ذىب دومينغو فاوستينو سارميينتو ‪(Domingo‬‬
‫)‪Faustino Sarmiento‬‬
‫الكاتب والسياسي ‪-‬ورئيس األرجنتُت (‪- )1874-1868‬‬
‫إىل اصتزائر وكتب "رحالت يف أوروبا وأفريقيا وأمريكا"‪ ،‬وأصدر أيضاً كتابو الشهَت‬
‫"فاكوندو" الذي عكس الكثَت من العناصر الشرقية‪ .‬كذلك قام الكاتب الصحفي‬
‫مانسيا )‪(1831-1913) (Lucío Victorio Mansilla‬‬
‫لوثيو بيكتوريو ّ‬
‫والدبلوماسي ّ‬
‫بزيارة البحر األزتر ومصر وألّف كتاباً بعنوان "زيارة إىل األىرامات" (‪.)33‬‬
‫الكتاب الذين اىتموا بالشرق‪،‬‬
‫ّأما يف القرن العشرين‪ ،‬فقد ظهر عدد كبَت من ّ‬
‫خاصة يف األرجنتُت حيث برزت أشتاء ظتث ّقفُت من أمثال‪ :‬أـتل أسًتادا ‪(Ángel de‬‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪77‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫)‪ )1918-1840(Astrada‬الذي أظهر ولعاً شرقياً يف عدة أعمال من بينها "صوت‬
‫حتدث عن رحلتو إىل مصر‪ ،‬وألبارو ميليان الفينور ‪(Álvaro‬‬
‫النيل" (‪ )1903‬وفيو ّ‬
‫)‪ Millán Lafinur‬وكارلوس ألداو )‪ (Carlos Aldao‬وأرنيستو كيسادا ‪(Ernesto‬‬
‫)‪Quesada‬‬
‫)‪Galvéz‬‬
‫وريكاردو غويرالديس‬
‫)‪(Ricardo Güiraldes‬‬
‫ومانويل غالبيث‬
‫‪ .)34(...(Manuel‬وقد استأثر عامل الشرق باىتمامهم ووجدوا أنفسهم‬
‫مدفوعُت برغبة اكتشاف ذاك العامل الذي مثّلت "ألف ليلة وليلة" ّبوابتو‪ ،‬وىو ما‬
‫حدث مع الكاتب ليوبولدو لوغونيس )‪ (Leopoldo Lugones‬وجيل اضتداثة األدبية‬
‫الناطقة باإلسبانية‪ ،‬ورمزىا األشهر الشاعر روبن داريّو‬
‫باستدعاءاتو وإحاالتو الشرقية‪ .‬كانت رغبة ىؤالء تتخطى مسألة االؾتذاب العابر ؿتو‬
‫)‪Darío‬‬
‫‪ (Rubén‬اظتعروف‬
‫غرابة الشرق أو البحث عن معادل روحي أو صويف‪ ،‬يستعيضون بو عن مادية الغرب أو‬
‫أفول قيمها يف أعقاب اضترب العاظتية األوىل؛ إذ كانوا كلهم تقريباً قد جابوا ؼتتلف‬
‫البالد ال شرقية يف الوقت عينو الذي زاروا فيو أوروبا أو الواليات اظتتحدة األمريكية‪.‬‬
‫وكانت نقطة االنطالق بالنسبة إليهم أيضاً‪ ،‬ىي قراءة العمل اطتالد "ألف ليلة‬
‫وليلة" بًترتاتو اظتتعددة ابتداء بغاالن ومروراً ببَتتون ولُت وماردروس‪ .‬وذتة الكثَت من‬
‫تبُت مدى االىتمام‬
‫األعمال االستشراقية اليت مل ختضع بعد للدراسات اظتعمقة‪ ،‬وكلها ّ‬
‫بالعرب وثقافتهم وباظتسلمُت وديانتهم‪ .‬وقد تنبهت عتذا األمر بعض اصتامعات يف‬
‫توجو اىتمامها ؿتو دراسات االستشراق وذلك يف أعقاب‬
‫أمريكا الالتينية فأخذت ّ‬
‫التحول الذي طرأ على‬
‫األصداء الكبَتة اليت أحدثتها آراء اظتف ّكر الراحل إدوارد سعيد‪ ،‬و ّ‬
‫كرد فعل على كتابو "االستشراق"‪.‬‬
‫الدراسات االستشراقية ّ‬
‫على أية حال فإن "الشرق" الذي طرحو استشراق "األطراف" األمريكي‬
‫ظل يًتاوح ما بُت الواقعي واظتتخيل‪ ،‬مالػتو تكاد دتاثل يف بعض األوجو‬
‫الالتيٍت ّ‬
‫االستشراق الغريب‪ ،‬ولكنو يبقى ؼتتلفاً من حيث األىداف‪ ،‬فهو ال يشاطر االستشراق‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪78‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫"الكالسيكي" طروحاتو االستعمارية واإلمربيالية اليت وشتت حركة االستشراق الغريب‬
‫اظتركزي‪.‬‬
‫ويف ىذا السياق برز االىتمام برموز الثقافة العربية واإلسالمية‪ ،‬من خالل‬
‫مؤلفات روبن داريّو النيكاراغوي (‪ )1867‬وخوليو ّإريرا إي ريسيغ ‪(Julio Herrera‬‬
‫)‪(Y Reissig‬أوروغواي) ولوغونيس وسارميينتو (األرجنتُت) وخوسيو ماريت ‪(José‬‬
‫كتاب الحقُت كبورخس (األرجنتُت) وجورج أمادو‬
‫)‪( Martí‬كوبا)‪ .‬وتواصل على يد ّ‬
‫)‪((Jorge Amado‬الربازيل) واوكتافيو باث )‪( (Octavio Paz‬اظتكسيك) وغابرييل‬
‫غارثيا ماركيث‬
‫)‪Lima‬‬
‫)‪Cohello‬‬
‫)‪García Márquez‬‬
‫‪( (Gabriel‬كولومبيا) وليثاما ليما ‪(Lezama‬‬
‫وأليخو كاربنتيَت ) ‪((AlejoCarpentier‬كوبا) وباولو كويللو‬
‫‪(Paulo‬‬
‫الربازيلي اظتعاصر‪ .‬وكان للهجرة العربية إىل أمريكا الالتينية يف هناية القرن‬
‫التاسع عشر ومطالع القرن العشرين‪ ،‬أثر كبَت يف لفت األنظار إىل الشرق مع وصول‬
‫اظتهاجرين العرب الذين كانوا لتملون جنسية الدولة العثمانية‪ ،‬األمر الذي حدا‬
‫بالس ّكان األصليُت يف بلدان أمريكا الالتينية على مناداهتم بـ"األتراك"‪ ،‬وىو ما يسهل‬
‫تقصيو يف أعمال الكثَت من الكتاب الذين وردت أشتاؤىم آنفاً (‪.)35‬‬
‫ّ‬
‫الخاتمة‬
‫أطل على الشرق عرب بوابات‬
‫يبقى بورخس فتوذجاً فريداً يف عامل االستشراق‪ ،‬ألنو ّ‬
‫االستشراق األديب اظتتعددة‪ ،‬األوروبية واألمريكية الالتينية‪ ،‬واغًتف من تراثو لذا فهو ال‬
‫يقف فيو موقف اظتهيمن اظتتعايل على اآلخر‪ ،‬بل وظف معارفو لصاحل األدب واظتعرفة‬
‫وحسب‪ .‬هبذا يصلح أن يكون فتوذجاً لالستشراق الالنفعي‪ ،‬االستشراق اظتعريف الذي‬
‫يكتفي باظتعلومة لذاهتا هبدف االستمتاع الفكري واللذة األدبية اليت ينشدىا القارئ‪.‬‬
‫وما إعجابو الشديد بـ"ألف ليلة وليلة" بدءاً بالعنوان ومروراً باظتضمون واألسلوب وصو ًال‬
‫إىل تقليد بعض حكايات ىذا العمل أو انتحال مقاطع منو‪ ،‬إال فتوذج ساطع عتذه‬
‫اظتتعة اليت حبث عنها يف قراءاتو (‪ .)36‬وىذا ما أوضحو يف كتاباتو‪ ،‬خصوصاً حول‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪79‬‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫كتاب "ألف ليلة وليلة" فهو مل يوظّفو لسإساءة للعرب واظتسلمُت على غرار ما فعل‬
‫قدموا من خاللو "اضتياة العربية واإلسالمية وكأهنا كينونة‬
‫كثَت من اظتستشرقُت الذين ّ‬
‫قدرية نتتطيها سالطُت قساة‪ ،‬وتنخرىا شهوانية تعدد الزوجات واضترًن‪ ،‬كينونة ال يتوفر‬
‫(‪) 37‬‬
‫حتدث عنو ككتاب يهدف إىل اظتتعة‬
‫اضتد األدىن من األمان أو التي ّقن" ‪ ،‬بل ّ‬
‫فيها ّ‬
‫اطتالصة والتسلية وهبجة االستكشاف‪ .‬كما أ ّن بورخس اليميٍت بأفكاره احملافظة مل‬
‫يتعامل مع ىذا اظتؤلف كوثيقة اجتماعية وتارمتية‪ ،‬بل كنمط قصصي فولكلوري يراد منو‬
‫اإلمتاع والتسلية واضتكمة‪ .‬وىو يف حديثو عن الشرق والغرب ينطلق من فكرة اضتوار‬
‫بُت االثنُت‪ ،‬مردداً أن "ألف ليلة وليلة" قد مثّلت "حواراً" بُت الشرق والغرب‪ ،‬حواراً مل‬
‫متل من بعض اضتلقات الدامية باعًتافو ىو‪.‬‬
‫تقدم بوسعنا القول إ ّن مصادر بورخس االستشراقية اظتتعددة بكل ما‬
‫لكل ما ّ‬
‫قرأه واطّلع عليو من نتاجات أدبية وفنية وفكرية‪ ،‬تنتمي إىل العاظتُت العريب واإلسالمي‬
‫وتأثّره هبا وتفاعلو معه ا من خالل قصصو وشعره ومقاالتو‪ ،‬نتكن أن يندرج حتت عنوان‬
‫االستشراق اظتعريف وجتسيده األرقى‪ :‬األدب‪ .‬وقد ذىب إىل أبعد من ذلك حُت شعر‬
‫حباجتو إىل التعمق يف معرفة ىذا الشرق‪ ،‬من خالل تعّلم لغتو العربية يف أخريات أيامو‬
‫مدرس مصري (‪ ،)38‬إال أن اظتوت قطع مشروعو يف قراءة تراث شرق‬
‫يف جنيف على يد ّ‬
‫عرفو وهنل منو الكثَت عرب لغات أخرى (‪.)39‬‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫معدة تبحث يف دوافع ىذا‬
‫‪ -1‬بورخس واالستشراق األديب واظتعريف‪ :‬ىو عنوان دراسة أخرى ّ‬
‫االستشراق ومظاىره لدى بورخس‪ ،‬انطالقا من طروحات اظتستعرب األسباين الكبَت‬
‫الربوفيسور بيدرو مارتينيث مونتابيث اليت تؤكد على تعدد أشكال ودوافع‬
‫االستشراق وضرورة التعامل مع كل نوع من االستشراق حسب طبيعتو وأىدافو‪.‬‬
‫‪ -2‬كتب بورخس زاخرة هبذه اآلثار من بينها دواوينو الشعرية‪" :‬توىج بوينوس آيريس"‪" ،‬‬
‫اآلخر والذات"‪" ،‬الصانع"‪" ،‬مديح الظل"‪" ،‬ذىب النمور"‪" ،‬العملة اظتعدنية"‪،‬‬
‫"الرقم "‪" ،‬اظتتآمرون"‪ . ..‬وكذلك أعمالو القصصية‪" :‬التاريخ الكوين للعار"‪،‬‬
‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري ‪8102‬‬
‫‪80‬‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
ِ
‫باهرة محمذ عبذ اللطيف‬.‫أ‬
‫ "حجم‬:‫ ومن كتبو النقدية‬. .."‫ "كتاب الرمل‬،"‫ "تقرير برودي‬،"‫ "األلف‬،"‫"قصص‬
"‫ "سبع ليال‬،"‫ "استقصاءات أخرى‬،"‫ "تاريخ األبدية‬،"‫ "لغة األرجنتينيُت‬،"‫أملي‬
.‫وسواىا من األعمال فضالً عن تلك اليت كتبها باالشًتاك مع كتاب آخرين‬
3- José Ramírez del Río; “Borges, Al- Mundir de Hira y La Lotería
de Babilonia”, Variaciones Borges, 16/ 2003, p. 16,
Universityof Aarhus, Dinamarca.
4- Barnatán, Marcos- Ricardo, Borges, Biografía Total, Temas de
Hoy, Biografías, 1995, España, pág. 51.
5- Norman Thomas, Di Giovanni, Autobiografía (1899-1970).
Título original AutobiographicalEssay, El Ateneo,
Argentina, 1999, p. 29.
6- Borges, Jorge Luis, ObrasCompletas III, EMECE Editores,
Barcelona, 1997, P. 68.
7- Borges, Jorge Luis,Museo, ObrasenColaboración, EMECÉ,
Argentina, 2002, p. 94.
8- Borges, Obras Completas I, p.582.
9- Borges, Jorge Luis. Borges, libros y lecturas, Catálogo de la
colección Jorge Luis Borges en la Biblioteca Nacional.
Edición, estudio preliminar y notas: Laura Rosato y Germán
Álvarez. Biblioteca Nacional, Buenos Aires, 2011
10- Borges en SUR, 1931-1980, EMECE, 1ª edición, España, 1999.
11- Ortiz, Lautaro. Árabes 1: Poemas, crónicas y
relatosenSudamerica, EIMFC, p. 17.
12- Borges, Jorge Luis y Casares, Adolfo Bioy: Seis problemas para
don Isidro Parodi. EMECÉ, Argentina,1995.
13- Borges, Jorge Luis, Siete Noches, Las Mil y Una Noche, Obras
completas, p. 232.
14- Borges, Autobiografía. P. 25- 26.
:‫ من أقتهم‬،‫كتاب سَتة بورخس كثَتون‬
-15
Emir Rodríguez Monegal, María Esther Vázquez, Alicia
Jurado, Roberto Alifano Alejandro Vaccaro, Woscoboinik,
SilvinaBulrich, Estela Cano, Sara Kriner de Haines, …
16- Matamoro, Blas: Diccionario privado de JLB, Ediciones
Altalena, Madrid 1979
17- Bravo, Pilar y Paoletti, Mario: Borges Verbal. EMECÉ, España,
1999, p.62- 63.
18- Monegal, Rodríguez: Borges. Una biografía literaria,México,
fondo de Cultura Económica, 1987
81
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
ِ
‫باهرة محمذ عبذ اللطيف‬.‫أ‬
19- Borges, Jorge Luis: Obras Completas I, EMECE Editores,
Barcelona, 1997, 793 p.
20- Borges, Textos recobrados (1956-1986), “El taller del escritor”,
Buenos Aires, 2003, p. 353.
21- British RomanticWriters and the East: AnxietiesofEmpire,
byNigel Leask, James Chandler (Editor), Marilyn Butler
(Editor).
22- Borges, Jorge Luis, Obras Completas I, EMECE Editores,
Barcelona, 1997, p. 51.
23- Assens, Rafael Cansinos, Mahoma y el Korán, Arca Ediciones,
Madrid 2006, p. 11.
24- Borges, Jorge Luis, El Aleph, El Zahir, Obras Completas I, p.
589.
25- Borges, J. L. ObrasCompletas I, P.444.
26- Medina, Antonio: Cervantes y el Islam, El Quijote a Cielo
Abierto. CARENA, 2005.
‫نتكن أيضاً مراجعة أطروحة الدكتوراه للباحث الدكتور ػتسن الرملي من العراق‬
."‫ "تأثَتات الثقافة اإلسالمية يف الكيخوتة‬:‫حول‬
‫وقدم عتا بدراسة قيّمة صدرت عن دار‬
ّ ‫ قام بًترتتها الدكتور الطاىر أزتد مكي‬-27
‫ حتت عنوان "ملحمة السيد أول ملحمة أندلسية‬1970 ‫اظتعارف بالقاىرة عام‬
."‫كتبت باللغة القشتالية‬
:"‫تنظر دراسة الدكتور وليد صاحل اطتليفة "البصمة العربية يف كتاب اضتب احملمود‬
-28
http://www.hottopos.com/collat6/waleed.htm
29- Jurado, Alicia, Borges. Genio y Figura de Jorge Luis Borges,
EUDEBA S. E. M., Buenos Aires, 1997, p 40.
‫تنظر الًترتة العربية لكتاب "جوتو وبعض شعراء العصر اإلسالمي" تأليف كاتارينا‬
.2005 ‫ بغداد‬،‫ تررتة الدكتور عدنان عباس علي ديوان اظتسار‬،‫مومسزن‬
-30
31- Macías Brevis, Sergio, InfluenciaÁrabeen las
LetrasIberoamericanas, Fundación CajaRual. Spain, 2009.
32- De Miranda Francisco, Colombia, Caracas, Presidencia de la
república, 1979.
33- Taboada, Hernán G. H., Un Orientalismo Periférico: Viajeros
Latinoamericanos, 1786-1920. Estudios deAsia y Africa
XXXIII, 2, 1998.
82
8102 ‫مجلت رؤى فكريت – العذد السابع – فيفري‬
‫أ‪.‬باهرة محمذ عبذ اللطيف‬
‫بورخس ومصادره االستشراقيت‬
‫ِ‬
‫‪34- Gasquet, Axel:TRANSMODERNITY: JournalofPeripheral‬‬
‫‪Cultural Productionofthe Luso-HispanicWorld, 2(2), 2013.‬‬
‫‪http://escholarship.org/uc/item/5b75d9bd#page‬‬
‫‪35- G. H. Taboada, Hernán, Los orientales y el nombre. Estudios de‬‬
‫‪Asia y África, vol. XLV, núm. 1, enero-abril, 2010, pp. 201‬‬‫‪208, El Colegio de México. México.‬‬
‫‪36-Jorge Luis Borges, Siete Noches, “Las Mil y Una Noches” O.C.‬‬
‫‪IV, EMECÉ, p. 232.‬‬
‫‪-37‬‬
‫ينظر كتاب الدكتور ػتمد الدعمي "االستشراق‪ ،‬االستجابة الثقافية الغربية للتاريخ‬
‫العريب اإلسالمي"‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بَتوت ‪ ،2006‬ص‪. 208‬‬
‫‪-39‬‬
‫ىذا الوجو االستشراقي اظتعريف ال ينفي اصتانب اآلخر من شخصية بورخس واىتمامو‬
‫صب يف‬
‫الشديد باليهودية كأفق معريف إنساين يف بادئ األمر‪ ،‬ليغدو الحقاً موقفاً ّ‬
‫‪38-Fernández- Santos, Elsa, “Borges se agranda después de‬‬
‫‪Borges”, El País, el 11 de junio de 2011.‬‬
‫مصلحة الكيان الصهيوين الذي احتفى كثَتا ببورخس ما أدى إىل حجب الوجو‬
‫االستشراقي اظتعريف (العريب‪-‬اإلسالمي) لو‪ .‬وىو موضوع دراسة معمقة ال يتسع عتا‬
‫اجملال يف ىذا البحث‪.‬‬
‫مجلت رؤى فكريت – مخبر الذراساث اللغويت واألدبيت – جامعت سوق أهراس‬
‫‪83‬‬
Download