Uploaded by sara fekri

الشّيخ والبحر الفصل الرابع

advertisement
‫ُ‬
‫ابع‬
‫الفصل ال ّر ُ‬
‫غاصت أسماك التّونة‪ ،‬والتّونة هو االسم‬
‫مر ًة أُخرى‪،‬‬
‫ْ‬
‫ّ‬
‫الصيّادون على األسماك جميعها من ذلك النّوع‪،‬‬
‫الّذي يطلقه َّ‬
‫الخاص عندما‬
‫كل سمكة من تلك األسماك باسمها‬
‫ويُميِّزون َّ‬
‫ِّ‬
‫حار ًة‬
‫يأتون لبيعها أو ُمقايضتها بسمك ُّ‬
‫الط ْعم‪ .‬وغدت َّ‬
‫الشمس َّ‬
‫وأحس بالعرق يتصبَّب‬
‫الشيخ بحرارتها في قفاه‪،‬‬
‫اآلن‪ ،‬وشعر ّ‬
‫ّ‬
‫يجدف‪ ،‬وقال في نفسه‪« :‬أستطيع أن أدع‬
‫على ظهره وهو ِّ‬
‫واضعا طرفًا من الخيط حول‬
‫القارب ينساب مع الّتيار‪ ،‬وأنام ً‬
‫والثمانون‪،‬‬
‫إبهام قدمي ليوقظني‪َّ ،‬‬
‫ولكن اليوم هو اليوم الخامس ّ‬
‫الصيد ممارس ًة جيِّدة هذا النهار»‪.‬‬
‫وينبغي أن أمارس َّ‬
‫الحظ ‪-‬وهو يُراقب خيوطه‪ -‬أن‬
‫في تلك اللَّحظة بالذّات‪َ ،‬‬
‫بحدة‪.‬‬
‫إحدى‬
‫العصي الخضراء النّاتئة تغطس َّ‬
‫ّ‬
‫قال‪:‬‬
‫ ‪«-‬نعم‪ ،‬نعم»‪.‬‬
‫ومد يده إلى‬
‫ورفع مجدافَيه دون أن يرتطما بالقارب‪َّ ،‬‬
‫وأمسك به في ٍ‬
‫وسبّابتها‪ ،‬لم‬
‫الخيط‪،‬‬
‫َ‬
‫رفق بين إبهام يده اليمنى َ‬
‫فظل ُم ً‬
‫بخفة‪ّ ،‬ثم جاءت‬
‫يحس بتوتُّ ٍر وال ٍ‬
‫بثقل َّ‬
‫مسكا بالخيط َّ‬
‫ّ‬
‫‪63‬‬
‫مترددة‪ ،‬ليست شديدة‬
‫المرة كانت جذبة ِّ‬
‫مر ًة أُخرى‪ ،‬وهذه َّ‬
‫َّ‬
‫بالضبط‪ ،‬هناك في العمق؛‬
‫وال ثقيلة‪ ،‬وأدرك ما كانت تعني ّ‬
‫غطي‬
‫السردين الّذي يُ ّ‬
‫على بُعد مائة قامة سمك ُة مارلين تأكل َّ‬
‫ص من رأس سمكة‬
‫الصنارة‪ ،‬وساقها حيث يبرز ِّ‬
‫طرف ِّ‬
‫الش ُّ‬
‫الصغيرة‪.‬‬
‫التّونة َّ‬
‫الشيخ الخيط بلطف‪ ،‬وحلَّه من العصا بيده اليسرى‬
‫َ‬
‫أمسك ّ‬
‫ٍ‬
‫بلطف‪ ،‬اآلن يمكنه أن يدعه ينفلت من بين أصابعه دون أن‬
‫بأي ش ّد‪.‬‬
‫السمكة ِّ‬
‫تشعر َّ‬
‫ّ‬
‫الشهر‪ ،‬وعلى هذا البُعد‪ ،‬ال بُ ّد أن تكون‬
‫وفك َر‪« :‬في هذا َّ‬
‫السمكة‪-‬‬
‫السمكة ضخمة‪ُ .‬كلي قطع ُّ‬
‫الطعم ‪-‬أيَّتها ّ‬
‫هذه َّ‬
‫ُكليها‪ ،‬أرجوك أن تأكليها‪ ،‬ما أطيبَها‪ِ ،‬‬
‫وأنت هناك على عمق‬
‫ستمائة قدم في الماء البارد وفي العتمة‪ ،‬دوري دور ًة أخرى‬
‫الط ْعم‪.‬‬
‫في الظالم‪ ،‬وعودي لتأكلي ُّ‬
‫الرقيق الخفيف‪ ،‬ث ُّم بجذب ٍة أش ّد عندما صعب‬
‫وشعر بالجذب َّ‬
‫ص ‪-‬كما يبدو‪ -‬ث ُّم ال شيء‪.‬‬
‫السردينة من ِّ‬
‫الش ّ‬
‫خلع رأس َّ‬
‫الشيخ بصوت مرتفع‪:‬‬
‫قال ّ‬
‫شميها‪ ،‬أليست شهيّة؟‬
‫ ‪«-‬هيّا‪ ،‬قومي باستدار ٍة ثانية‪ ،‬فقط ّ‬
‫‪64‬‬
‫ُكليها جيِّ ًدا اآلن‪ّ ،‬ثم هناك سمكة التّونة‪ ،‬إنّها صلب ٌة‬
‫السمكة‪ُ -‬كليها»‪.‬‬
‫وباردةٌ ولذيذةٌ‪ ،‬ال تخجلي ‪-‬أيَّتها َّ‬
‫انتظر والخيط بين إبهامه وسبّابته‪ ،‬وهو يُراقبه‪ ،‬ويُراقب‬
‫َ‬
‫السمكة قد‬
‫الخيوط األخرى في الوقت نفسه‪ ،‬فقد تكون َّ‬
‫الرقيقة‬
‫سبحت إلى األعلى أو إلى األسفل‪ّ ،‬ثم جاءت الجذب ُة ّ‬
‫مر ًة أخرى‪.‬‬
‫ذاتُها َّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬
‫الشيخ‬
‫قال ّ‬
‫ ‪«-‬ستبتلعه‪ ،‬ساعدها يا إلهي كي تلتهمه»‪.‬‬
‫انصرفت‪ ،‬ولم‬
‫ص‪ ،‬فقد‬
‫ومع ذلك َّ‬
‫السمكة لم تبتلع ِّ‬
‫ْ‬
‫الش ّ‬
‫فإن َّ‬
‫الشيخ بشي ٍء‪.‬‬
‫حس ّ‬
‫يُ َّ‬
‫قال‪:‬‬
‫ ‪«-‬ال يمكن أن تكون قد ذهبَ ْت‪ ،‬اهلل يعلم أَنَّها ال يمكنها‬
‫قت ِ‬
‫ص من‬
‫االنصراف‪ ،‬إنَّها تقوم بدورة‪ ،‬لعلّها َعلِ ْ‬
‫بش ّ‬
‫وتتذكر شيئًا من ذلك»‪.‬‬
‫قبل‪َّ ،‬‬
‫بالسعادة‪،‬‬
‫أحس باللَّمسة اللَّطيفة على الخيط‪،‬‬
‫وشعر َّ‬
‫ّثم ّ‬
‫َ‬
‫وقال‪:‬‬
‫قامت بدورتها فقط‪ ،‬وستأكله»‪.‬‬
‫ ‪«-‬لقد ْ‬
‫‪65‬‬
‫حس بالجذب اللَّطيف‪ّ ،‬ثم شعر بشي ٍء‬
‫كان سعي ًدا عندما أَ َّ‬
‫السمكة‪َ ،‬‬
‫فترك الخيط‬
‫شدي ٍد ٍ‬
‫وثقيل بصور ٍة ال تُ َّ‬
‫صدق؛ إنَّه ثقل َّ‬
‫فاتحا بذلك‬
‫ينفلت إلى األسفل‪ ،‬وإلى األسفل‪ ،‬وإلى األسفل‪ً ،‬‬
‫ّأو َل الل ََّّفتَيْن االحتياطيَّتَيْن‪ ،‬وبينما كان الخيط ينساب إلى‬
‫الشيخ‪ ،‬كان اليزال بإمكانه أن‬
‫األسفل بخ ّفة من بين أصابع ّ‬
‫حس بالثِّقل العظيم‪ ،‬فقد كان ضغط إبهامه وسبّابته عديم‬
‫يُ ّ‬
‫األثر تقريبًا‪.‬‬
‫الشيخ‪:‬‬
‫قال ّ‬
‫ِ‬
‫ص في فمها‬
‫ ‪«-‬يا لها من سمكة! لقد‬
‫أخذت اآلن ِّ‬
‫الش َّ‬
‫بالع ْرض‪ ،‬وابتعدت به»‪.‬‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫السمكة ستدور ّثم تبتلعه»‪ ،‬لم ي ُقل ذلك؛ ألنَّه‬
‫وفك َر‪َّ :‬‬
‫«إن َّ‬
‫نطقت بشي ٍء َح َس ٍن‪ ،‬فإنّه قد ال يحصل‪،‬‬
‫كان يعلم أنّ َك إذا‬
‫َ‬
‫ابتعدت‬
‫السمكة‪ ،‬وتخيّلها وقد‬
‫ْ‬
‫لقد أدرك مدى ضخامة تلك َّ‬
‫بالع ْرض في‬
‫الم ّ‬
‫في الظالم‪ِّ ،‬‬
‫والش ّ‬
‫غطى بسمكة التّونة عال ًقا َ‬
‫ص ُ‬
‫بالسمكة قد توقّفت‪ ،‬ولكن‬
‫حس َّ‬
‫فمها‪ ،‬في تلك اللَّحظة‪ ،‬أَ َّ‬
‫الثِّقل مازال موجو ًدا‪ّ ،‬ثم ازداد الثِّقل‪ ،‬فأرخى مزي ًدا من الخيط‪،‬‬
‫ش ّدد من ضغط إبهامه وسبّابته لحظة‪ ،‬فازداد الثِّقل‪ ،‬واتَّجه‬
‫عموديًّا إلى األسفل‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ابتلعتْه‪ ،‬واآلن سأدعها تأكله جيِّ ًدا»‪.‬‬
‫ ‪«-‬لقد َ‬
‫وترك الخيط ينساب من بين أصابعه‪ ،‬فيما م ّد يده اليسرى‬
‫ليربط نهاية الل َّّفتَين االحتياطيتَين إلى طرف ٍ‬
‫خيط آخر في‬
‫ّ‬
‫ستعدا‪ ،‬فقد صار لديه‬
‫الل َّّفتَين األُخريَين‪ ،‬وهكذا غدا اآلن ُم ًّ‬
‫كل واحدة منها أربعون‬
‫خيط‬
‫ٌ‬
‫احتياطي لثالث ل ّفات‪ ،‬طول ِّ‬
‫ٌّ‬
‫قام ًة‪ ،‬باإلضافة إلى اللَّ ّفة الّتي كان يستعملها‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫قليل‪ُ ،‬كليه جيِّ ًدا»‪.‬‬
‫ ‪ُ -‬‬
‫«كلي أكثر ً‬
‫ص إلى قلبك‪،‬‬
‫وقال في نفسه‪ُ :‬كليه لكي ينفذ رأس ِّ‬
‫الش ّ‬
‫ويقتلك‪ ،‬اصعدي بسهولة‪ ،‬ودعيني أَغرز الحربة فيك ‪-‬حسنًا‪-‬‬
‫أنت مستع ّدة؟ هل ِ‬
‫هل ِ‬
‫الطعام؟‬
‫بقيت بما فيه الكفاية على مائدة َّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت مرتفع‪:‬‬
‫قال‬
‫فسحب يارد ًة من‬
‫وجذب بش ّد ٍة بكلتا ي َديه‪،‬‬
‫ ‪«-‬اآلن!»‪،‬‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ذراعيْه‬
‫مر َة ثانية‪ ،‬وثالثة بكلتا َ‬
‫الخيط‪ّ ،‬ثم جذب الخيط َّ‬
‫قو ِة ذراعيه وهو يدور بثقل جسده‪.‬‬
‫بالتَّناوب‪ِّ ،‬‬
‫وبكل َّ‬
‫ابتعدت ببط ٍء‪،‬‬
‫السمكة‬
‫لم يحدث شيء‪ُّ ،‬‬
‫ْ‬
‫كل ما هنالك َّأن َّ‬
‫‪67‬‬
‫ولم ِ‬
‫الشيخ أن يرفعها بوص ًة واحدة‪ ،‬كان خيطه متينًا‬
‫يستطع ّ‬
‫للسمك الثَّقيل؛ وقد ش ّده إلى ظهره حتّى صار‬
‫ً‬
‫ومصنوعا َّ‬
‫راحت ُحبَيبات الماء تتقافز منه‪ّ ،‬ثم راح الخيط‬
‫متوتِّ ًرا‪ ،‬بحيث ْ‬
‫هسيسا بطيئًا في الماء‪ ،‬وهو مازال ُم ِ‬
‫مس ًكا به ُمستن ًدا‬
‫يُح ِدث ً‬
‫ظهره إلى الخلف لمقاومة‬
‫المركب َو ُم ً‬
‫بنفسه إلى مقعد َ‬
‫ميل َ‬
‫حرك ببط ٍء مبتع ًدا في اتّجاه‬
‫الجذب‪ ،‬وأخذ القارب في التّ ُّ‬
‫رقي‪.‬‬
‫الشمال َّ‬
‫ّ‬
‫الش ّ‬
‫تحر ِ‬
‫مهل فوق سطح‬
‫السمكة باطِّراد‪ ،‬فأبحروا على ٍ‬
‫كت َّ‬
‫َّ‬
‫الط ْعمان اآلخران مازاال في الماء‪ ،‬ولكن‬
‫الماء الهادئ‪ ،‬وكان ُ‬
‫ليس ّثم َة ما يمكن فعله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت مرتفع‪:‬‬
‫الشيخ‬
‫قال ّ‬
‫جرني‪ ،‬وأنا‬
‫ ‪«-‬أَتمنّى لو كان َّ‬
‫بي معي‪َّ ،‬‬
‫فالسمكة تَ ُّ‬
‫الص ُّ‬
‫السمكة‬
‫الوتد‪ ،‬كان بإمكاني أن أش ّد الخيط أكثر‪َّ ،‬‬
‫ولكن َّ‬
‫قد تقطعه‪ ،‬يجب أن أُ ِ‬
‫استطعت‪ ،‬وأعطيها‬
‫مسك بها ما‬
‫ُ‬
‫من الخيط عندما تحتاج إليه‪ ،‬أحمد اهلل على أنَّها تسافر‬
‫دما‪ ،‬وال تغوص إلى األسفل»‪.‬‬
‫قُ ً‬
‫رت أن تغوص إلى األسفل؟ ال‬
‫ما الّذي سأفعله لو أنَّها َّقر ْ‬
‫أعرف‪ ،‬وماذا سأفعل إذا أطل َق ْت صوتًا‪ ،‬وماتت؟ ال أدري‪،‬‬
‫‪68‬‬
‫كثير من األشياء الّتي أستطيع‬
‫ولكنَّني سأفعل شيئًا ما‪ّ ،‬ثمة ٌ‬
‫فعلها‪.‬‬
‫شد الخيط إلى ظهره‪ ،‬وراقب ميالنه في الماء‪ ،‬وراح‬
‫َّ‬
‫المركب يتحرك ٍ‬
‫رقي‪.‬‬
‫الشمال ّ‬
‫بثبات إلى جهة ّ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫الش ّ‬
‫ّ‬
‫الشيخ‪« :‬هذا سيقتلها‪ ،‬ال يمكنها أن تفعل هذا إلى‬
‫فكر ّ‬
‫السمكة مازالت‬
‫األبد»‪ ،‬ولكن بعد أربع ساعات‪ ،‬كانت َّ‬
‫تواصل سباحتها في اطِّراد نحو ُعرض البحر‪ ،‬وهي تقطر‬
‫بقوة‪.‬‬
‫المركب‪ّ ،‬‬
‫والشيخ مايزال يش ّد الخيط حول ظهره ّ‬
‫َ‬
‫قال‪:‬‬
‫ُهرا عندما علقتُها‪ ،‬ولم أَ َرها إلى اآلن»‪.‬‬
‫ ‪«-‬كان الوقت ظ ً‬
‫كان قد دفع ب ُقبَّعته المصنوعة من الخوص بش ّد ٍة في رأسه‬
‫تحز جبهته‪،‬‬
‫السمكة‪ ،‬واآلن أخذت قُبَّعته ُّ‬
‫قبل أن تعلق تلك َّ‬
‫لئل يضغط على‬
‫كان ظمآ َن كذلك‪ ،‬فركع على ركبتَيْه بحذ ٍر ّ‬
‫المركب‪،‬‬
‫الخيط‪ ،‬وزحف إلى أقصى ما يمكنه نحو ُم َّ‬
‫قدم َ‬
‫قليل‪ّ ،‬ثم‬
‫ومد ي ًدا واحدة إلى قنّينة الماء‪ ،‬وفتحها‪ ،‬وشرب ً‬
‫َّ‬
‫السارية غير‬
‫استند إلى ُم َّ‬
‫قدم المركب‪ ،‬واستراح بالجلوس على ّ‬
‫والشراع‪ ،‬وحاول ّأل ِّ‬
‫يفكر‪ ،‬بل يحتمل فقط‪.‬‬
‫المرفوعة ِّ‬
‫‪69‬‬
‫نظر خلفه‪ ،‬فوجد َّأن البَ َّر لم يَ ُع ْد على مدى البصر‪،‬‬
‫ّثم َ‬
‫دائما العودة ُم ِ‬
‫ّ‬
‫سترش ًدا بوهج‬
‫وفك َر‪« :‬ال أَهميّة لذلك‪ ،‬أستطيع ً‬
‫الشمس‪ ،‬وقد‬
‫األضواء من (هافانا)‪ ،‬بقيَ ْت ساعتان لغروب َّ‬
‫السمكة قبل ذلك‪ ،‬وإذا لم تفعل فقد تظهر عند بزوغ‬
‫ترتفع َّ‬
‫الشمس‪،‬‬
‫القمر‪ ،‬وإذا لم تفعل ذلك فقد تطلع عند شروق َّ‬
‫بالقوة‪ ،‬إنَّها هي الّتي عندها‬
‫ليست عندي أَيَّة تشنُّجات‪ ،‬وأشعر َّ‬
‫ولكن‪ ،‬يا لها من سمكة‪ ،‬بحيث تستطيع أن‬
‫ّ‬
‫الش ّ‬
‫ص في فمها‪ْ .‬‬
‫الشكل‪ ،‬ال بُ َّد َّأن فمها ُمطبِق بإحكام على‬
‫الجر بهذا َّ‬
‫تواصل ّ‬
‫مر ًة‬
‫ِّ‬
‫السلك‪ ،‬كم أَتمنّى أن أراها‪ ،‬أَتمنّى لو أستطيع أن أراها َّ‬
‫أي غريم يجابهني»؟‬
‫واحدة فقط؛ ألعرف َّ‬
‫خط سيرها‪ ،‬وال اتّجاهها أَب ًدا طوال تلك‬
‫السمكة َّ‬
‫لم تُغيِّر َّ‬
‫الشيخ أن يحكم به من مالحظة‬
‫اللّيلة‪ ،‬حسب ما يستطيع ّ‬
‫وجف‬
‫النُّجوم‪ ،‬أَمسى َّ‬
‫الشمس‪َّ ،‬‬
‫الطقس بار ًدا بعد أن غابت َّ‬
‫وذراعيْه وساقَيْه الهرمتَيْن‪ ،‬وكان‬
‫َعرق ّ‬
‫الشيخ بار ًدا على ظهره َ‬
‫الط ْعم‪،‬‬
‫يغطي صندوق ُّ‬
‫خالل النهار‪ -‬قد أخذ الكيس الّذي ّ‬‫الشمس‪ ،‬أَخ َذ‬
‫الشمس لينشف‪ ،‬وبعد أن غربَ ِت َّ‬
‫ونشره في َّ‬
‫ذلك الكيس‪ ،‬وربطه حول عنقه بحيث يتدلّى على ظهره‪،‬‬
‫وزحزحه بحذر إلى األسفل ليكون تحت الخيط الّذي صار‬
‫‪70‬‬
‫الكيس وساد ًة للخيط‪ ،‬ووجد‬
‫على كتفيه اآلن‪ ،‬حتّى أصبح‬
‫ُ‬
‫المركب‪ ،‬بحيث صار في‬
‫ّ‬
‫الشيخ طريق ًة لالتِّكاء على ُم َّ‬
‫قدم َ‬
‫مجرد‬
‫وض ٍع ُم ٍ‬
‫ريح تقريبًا‪ ،‬كان وضعه ‪-‬في حقيقة األمر‪َّ -‬‬
‫حتمل‪ ،‬ولكنَّه اعتبره‬
‫وض ٍع ّ‬
‫يقل ً‬
‫نوعا ما عن الوضع الّذي ال يُ َ‬
‫مريح تقريبًا‪.‬‬
‫بمثابة وض ٍع ٍ‬
‫ّ‬
‫السمكة‪،‬‬
‫وفك َر ّ‬
‫الشيخ‪« :‬ال أستطيع أن أفعل شيئًا لهذه َّ‬
‫دامت تواصل َمسلكها‬
‫وال هي تستطيع أن تفعل شيئًا لي‪ ،‬ما ْ‬
‫ذاك»‪.‬‬
‫المركب تطلَّع إلى‬
‫مر ٍة‪ ،‬نهض‪ ،‬ومن فوق جانب َ‬
‫وذات َّ‬
‫ٍ‬
‫شريط‬
‫السير‪ ،‬وبدا له الخيط مثل‬
‫النُّجوم‪ ،‬ودقَّق في ِّ‬
‫خط َّ‬
‫تحر ًكا‬
‫فوسفوري ُّ‬
‫ٍّ‬
‫يتحركون ّ‬
‫يمتد من كت َفيه إلى الماء‪ ،‬أخذوا َّ‬
‫أقل لمعانًا‪ ،‬بحيث‬
‫أبطأَ اآلن‪ ،‬وصار َو َه ُج أضواء (هافانا) َّ‬
‫الشرق‪َّ ،‬‬
‫أَ َ‬
‫وفك َر‪« :‬إنَّني‬
‫درك أَنَّه ال بُ َّد َّأن الّتيار يحملهم نحو َّ‬
‫الشرق؛ ألنَّه‬
‫أَفقد لمعان (هافانا)‪ ،‬وال بُ َّد أَنَّنا نتَّجه أكثر نحو َّ‬
‫مستقيما‪ ،‬فهذا يعني أَنَّني َّ‬
‫أتمكن‬
‫السمكة‬
‫ً‬
‫إذا كان َخ ُّط سير َّ‬
‫وتساءل في نفسه‪ :‬يا‬
‫من رؤية لمعان (هافانا) ع ّدة ساعات»‪.‬‬
‫َ‬
‫تُرى‪ ،‬كيف كانت نتيجة مباراة (البيسبول) في نهائي البطولة‬
‫كنت أفعل هذا وأنا أُتابع المباريات بالمذياع‪ ،‬لكان‬
‫اليوم؟ لو ُ‬
‫‪71‬‬
‫دائما‪،‬‬
‫قائل‪ :‬فَ ِّك ْر في‬
‫رائعا‪ّ .‬ثم َّ‬
‫َ‬
‫ذك َر نفسه ً‬
‫ذلك شيئًا ً‬
‫عملك ً‬
‫ِّ‬
‫فعل شائنًا‪.‬‬
‫دائما‪ ،‬يجب ّأل تقترف ً‬
‫فك ْر بما تفعل ً‬
‫ٍ‬
‫بصوت مسموع‪:‬‬
‫ّثم قال‬
‫بي معي‪ ،‬ليساعدني وليشاهد هذا‬
‫ ‪«--‬أَتمنّى لو كان َّ‬
‫الص ُّ‬
‫بعينه»‪.‬‬
‫َّ‬
‫وفك َر‪« :‬ال أَح َد ينبغي أن يكون بمفرده في شيخوخته‪،‬‬
‫لي أن آكل‬
‫مما ليس منه بُ ّد‪ ،‬يجب أن َّ‬
‫ولكن ال بُ َّد ّ‬
‫أتذكر أَ َّن َع ّ‬
‫تذك ْر مهما‬
‫التّونة قبل أن تفسد؛ ألبقى قويًّا‪ .‬وقال لنفسه‪َّ :‬‬
‫الصباح‪،‬‬
‫كانت شهيّتك قليلة‪ ،‬فإنّه يجب أن تأكل التّونة في َّ‬
‫تذك ْر‪.‬‬
‫َّ‬
‫الدالفين من القارب‪ ،‬وكان‬
‫وخالل اللَّيل‪ ،‬اقترب اثنان من َّ‬
‫بوسعه أن يسمعهما وهما يتقلَّبان وينفخان‪ ،‬وكان بمقدوره‬
‫أن يميِّز بين صوت الذّكر وصوت األُنثى‪.‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫ ‪«-‬إنّهما لطيفان؛ فهما يلعبان‪ ،‬ويمرحان‪ ،‬إنَّهما إخوة لنا‪،‬‬
‫الطائرة»‪.‬‬
‫مثل األسماك ّ‬
‫السمكة العظيمة الّتي جعلها‬
‫ّثم أخذ يشعر َّ‬
‫بالشفقة على َّ‬
‫‪72‬‬
‫ومن‬
‫تعلق بصنّارته‪ ،‬وقال في نفسه‪ :‬إنَّها سمك ٌة عجيب ٌة غريبة‪َ ،‬‬
‫اصطدت سمك ًة بهذه‬
‫يدري ما عمرها؟ لم يحدث أب ًدا أَنَّني‬
‫ُ‬
‫الطريقة الغريبة‪ ،‬ولعلَّها أَ ْعقل‬
‫فت بهذه َّ‬
‫تصر ْ‬
‫ّ‬
‫القوة‪ ،‬وال سمك ًة َّ‬
‫من أن تقفز‪ ،‬إنّها تستطيع تدميري بالقفز أو االندفاع األهوج‪،‬‬
‫مرات من قبل‪ ،‬وهي‬
‫ولكن‪ ،‬لعلَّها قد‬
‫علقت ّ‬
‫ص َّ‬
‫ْ‬
‫بالش ِّ‬
‫عدة ّ‬
‫تعرف كيف ينبغي لها أن تخوض معركتها‪ ،‬ليس بمقدورها‬
‫رجل واح ًدا فقط‪ ،‬وأَنَّه رجل طاعن‬
‫أًن تعرف أَنَّها تجابه ً‬
‫علي‬
‫عظمها من سمكة‪ ،‬وماذا ُّ‬
‫الس ّن‪ ،‬ولكن‪ ،‬ما أَ َ‬
‫في ِّ‬
‫ستدر ّ‬
‫الط ْعم مثل‬
‫السوق إذا كان لحمها جيِّ ًدا‪ ،‬إنَّها تناولت ُّ‬
‫في ّ‬
‫تجره مثل َذ َكر‪ ،‬وليس من ُذع ٍر في‬
‫ذكي‪ ،‬وهي ُّ‬
‫َذ َك ٍر شجاع ٍّ‬
‫خطة تتّبعها أم‬
‫السمكة َّ‬
‫معركتها‪ ،‬أتساءل ما إذا كانت لهذه َّ‬
‫مجرد يائسة مثلي؟‬
‫أنَّها َّ‬
‫زوج‬
‫َّ‬
‫المرة الّتي أصاب بصنّارته سمك ًة من ٍ‬
‫وتذك َر تلك ّ‬
‫ِ‬
‫المرلين‪ ،‬وكان الذَّكر يدع األنثى تأكل َّأو ًل‬
‫من‬
‫أسماك َ‬
‫السمكة األنثى الّتي علقت بالصنّارة‪ ،‬معرك ًة‬
‫ً‬
‫دائما‪ .‬وخاضت َّ‬
‫يائس ًة مذعور ًة عنيف ًة‪ ،‬سرعان ما أنهكتها‪ ،‬وطَوال الوقت‪،‬‬
‫َّكر إلى جانبها‪ ،‬يعبر الخيط‪ ،‬ويدور معها عند سطح‬
‫بقي الذ ُ‬
‫الشيخ خشي أنَّه سيقطع الخيط‬
‫الماء‪ ،‬بقي قريبًا لدرجة َّأن ّ‬
‫‪73‬‬
‫الشكل‬
‫بذيله الّذي كان حا ًدا مثل‬
‫ٍ‬
‫منجل تقريبًا من حيث َّ‬
‫بالخطاف‪ ،‬وضربها بالهراوة‪،‬‬
‫الشيخ ّ‬
‫والحجم‪ .‬وعندما طعنها ّ‬
‫وهو ُم ِ‬
‫الزجاج‪،‬‬
‫السيف ذي الحافّة الحا ّدة كورق ّ‬
‫مسك بأنفها ّ‬
‫قمة رأسها حتّى استحال لونها إلى‬
‫وراح يضربها بالهراوة على ّ‬
‫بي‪ -‬رفعها‬
‫لون يشبه ظَهر المرايا تقريبًا‪ّ ،‬ثم ‪-‬وبمساعدة َّ‬
‫الص ّ‬
‫ظل الذَّكر بجانب القارب‪ ،‬وبعد ذلك‪ ،‬وفيما‬
‫إلى القارب‪ّ ،‬‬
‫ويجهز الحربة‪ ،‬قفز الذّكر عاليًا‬
‫كان ّ‬
‫الشيخ يجمع الخيوط‪ّ ،‬‬
‫السمكة األنثى‪،‬‬
‫في الهواء بجانب القارب؛ ليرى أين صارت َّ‬
‫ّثم غاص عمي ًقا في الماء‪ ،‬وكان جناحاه األرجوانيّان ‪-‬أي‬
‫نبسطيْن باتِّساع‪ ،‬بحيث بانت خطوطه‬
‫الصدريَّتان‪ُ -‬م َ‬
‫زعنفتاه َّ‬
‫جميل‪ ،‬وبقي في‬
‫األرجوانيّة العريضة‪َّ ،‬‬
‫الشيخ أنَّه كان ً‬
‫وتذك َر ّ‬
‫الماء‪.‬‬
‫وقع لي مع األسماك‪،‬‬
‫وقال ّ‬
‫الشيخ في نفسه‪ :‬ذلك أَ ْحزن أَم ٍر َ‬
‫السمكة األنثى أن‬
‫وكان َّ‬
‫بي حزينًا كذلك‪ ،‬والتمسنا من َّ‬
‫الص ُّ‬
‫تعفو عنّا‪ ،‬وجزرناها في الحال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬
‫عال‪،‬‬
‫الصبي هنا»‪ .‬قال ذلك‬
‫ ‪«-‬أَتمنّى لو كان َّ‬
‫قدم‬
‫المستديرة في ُم َّ‬
‫واستقر على األلواح الخشبيّة ُ‬
‫َّ‬
‫يلفه على كت َفيه‪،‬‬
‫القارب‪ ،‬ومن خالل الخيط الّذي كان ُّ‬
‫‪74‬‬
‫تتحرك بثبات في‬
‫أحس ّ‬
‫بقوة َّ‬
‫َّ‬
‫السمكة العظيمة وهي َّ‬
‫االتّجاه الّذي اختارته‪.‬‬
‫ّ‬
‫مرة‪ -‬أن‬
‫وفك َر ّ‬
‫الشيخ‪« :‬كان من َّ‬
‫الضروري لها ‪-‬ذات َّ‬
‫تختار في مقابل أحابيلي»‪.‬‬
‫كانت قد اختارت أن تبقى في المياه العميقة بعيدة عن‬
‫المصايد والكمائن واألحابيل جميعها‪ّ ،‬أما اختياري فكان أن‬
‫أذهب إلى هناك ألعثر عليها‪ ،‬بعي ًدا عن الناس جميعهم في‬
‫الشاكلة منذ‬
‫معا‪ ،‬ونحن على هذه ّ‬
‫العالَم‪ ،‬واآلن نحن مرتبطان ً‬
‫الظهر‪ ،‬وال أحد يساعد أَيًّا ِمنّا‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ّ‬
‫ولكن ذلك‬
‫«ربّما ما كان ينبغي أن أَكون صيّا ًدا‪َّ ،‬‬
‫وفك َر‪ُ :‬‬
‫بكل تأكيد‬
‫دت من أجله‪ ،‬يجب أن َّ‬
‫أتذكر ِّ‬
‫هو َّ‬
‫الشيء الّذي ُولِ ُ‬
‫آكل التّونة بعد أن يطلع النّهار»‪.‬‬
‫أَن َ‬
‫شيء ما أح َد‬
‫وقبل أن يطلع ضوء النّهار بقليل‪ ،‬أخذ ٌ‬
‫تتكسر‪ ،‬والخيط‬
‫ُّ‬
‫الطعمين اللَّذين كانا خلفه‪ ،‬وسمع العصا ّ‬
‫فاستل ّ‬
‫سكينه من‬
‫يأخذ في االنفالت من فوق حافّة المركب‪ّ ،‬‬
‫السمكة إلى كتفه‬
‫ِغ ْمدها في َّ‬
‫الظالم‪ّ ،‬‬
‫وحول الثِّقل الّذي تُسبِّبه َّ‬
‫طع الخيط على خشب حافّة‬
‫اليُسرى‪ ،‬ومال إلى الخلف‪ ،‬وقَ َ‬
‫‪75‬‬
‫الظالم‪،‬‬
‫قطع الخيط اآلخر األقرب إليه‪ ،‬وفي َّ‬
‫المركب‪ّ ،‬ثم َ‬
‫َ‬
‫عمل بمهارة بي ٍد واحد ٍة‬
‫ربط نهايتَي الل ّفتَيْن االحتياطيّتَيْن‪ .‬لقد َ‬
‫الخيطيْن‬
‫اللفتَين ليثبِّتهما‪ ،‬بينما كان يعقد‬
‫َ‬
‫واضعا قدمه على َّ‬
‫ً‬
‫ست ل ّف ٍ‬
‫ات احتياطيّة من الخيط‪،‬‬
‫بإحكام‪ ،‬واآلن صارت لديه ّ‬
‫قطع خيطه‪ ،‬إضاف َة إلى َّلفتَي‬
‫كانت هناك ل ّفتان من ِّ‬
‫ُع ٍم َ‬
‫كل ط ْ‬
‫كل هذه اللَّ ّفات‬
‫السمكة الكبيرة‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ُ‬
‫وخيوط ِّ‬
‫الط ْعم الّذي أكلته َّ‬
‫متّصلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الطعم الّذي‬
‫يعم ضوء النَّهار‪ ،‬سأعود إلى ُّ‬
‫وفك َر‪« :‬بعد أن ّ‬
‫على عمق أربعين قامة‪ ،‬وأقطع خيطه كذلك‪ ،‬وأربطه باللّ ّفات‬
‫فقدت مائتي قامة من الحبال‬
‫االحتياطيّة‪ ،‬وهكذا سأكون قد ُ‬
‫الصنّارات ورؤوسها‪ ،‬وذلك يمكن تعويضه‪،‬‬
‫الجيّدة إضافة إلى ّ‬
‫شص منّي بسمكة‬
‫السمكة إذا علق ٌّ‬
‫ولكن َمن ِّ‬
‫يعوض هذه ّ‬
‫السمكة الّتي أكلت‬
‫أخرى‪ ،‬وقطعتها عنّي؟ ال أدري ما نوع َّ‬
‫الطعم قبل قليل‪ ،‬يمكن أن تكون من نوع المارلين‪ ،‬أو سمكة‬
‫ُّ‬
‫عريضة األنف‪ ،‬أو من أسماك القرش‪ ،‬لم أشعر بها أب ًدا‪ ،‬وكان‬
‫علي أن أتخلَّص منها بأسرع ما يمكن»‪.‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬
‫وقال‬
‫بي»‪.‬‬
‫ ‪«-‬أَتمنّى لو كان َّ‬
‫لدي َّ‬
‫الص ّ‬
‫‪76‬‬
‫ّ‬
‫نفسك فقط‪،‬‬
‫بي‪ ،‬لديك‬
‫َ‬
‫وفك َر‪« :‬ولكنَّك ليس لديك َّ‬
‫الص ّ‬
‫الظالم‪،‬‬
‫ومن األفضل اآلن أن تعود إلى آخر خيط لديك‪ ،‬في َّ‬
‫الظالم‪ ،‬وتقطعه‪ ،‬وتوصل الل ََّّفتَيْن االحتياطيتَيْن»‪.‬‬
‫أو ليس في َّ‬
‫الظالم‪ ،‬وقامت‬
‫عمل صعبًا في َّ‬
‫وهكذا فعل‪ ...‬وكان ذلك ً‬
‫جرته إلى األسفل‪ ،‬وأوقعته‬
‫َّ‬
‫مر ًة واحدة بحركة مفاجئة ّ‬
‫السمكة ّ‬
‫خده‬
‫الدم على ِّ‬
‫بت بجرح تحت عينه‪ ،‬وسال َّ‬
‫على وجهه‪ ،‬وتسبَّ ْ‬
‫وجف قبل أن يصل إلى حنكه‪ ،‬واتَّخذ‬
‫ً‬
‫قليل‪ ،‬ولكنَّه تخثَّر‪َّ ،‬‬
‫وعد َل‬
‫قدم القارب‪ ،‬واتكأ على الخشب‪َّ ،‬‬
‫طريقه عائدا إلى ُم َّ‬
‫يمر عبر جز ٍء جديد‬
‫الكيس‪ ،‬وغيَّ َر موضع الخيط بعناية‪ ،‬بحيث ُّ‬
‫بجر‬
‫من كت َفيْه‪ ،‬وحينما ثبَّ َت الخيط على منكبيه‪ ،‬أخذ يشعر ِّ‬
‫المركب في الماء‪.‬‬
‫تحسس بيده سرع َة حركة َ‬
‫السمكة‪ّ ،‬ثم َّ‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫السمكة بتلك الحركة‬
‫وفك َر‪« :‬أتساءل‪ ،‬لماذا قامت َّ‬
‫السلك قد انزلق على انحناءة ظهرها العظيمة‪،‬‬
‫المفاجئة‪ ،‬البُ َّد َّأن ِّ‬
‫المؤكد َّأن ظهرها ال يؤلمها كما يؤلمني ظهري‪ ،‬ولكنَّها‬
‫ومن َّ‬
‫المركب إلى األبد‪ ،‬مهما كانت ضخمة‪.‬‬
‫ال تستطيع َج َّر هذا َ‬
‫احتياطي‬
‫ولدي‬
‫َّصت من ِّ‬
‫كل شي ٍء قد يُسبِّب المتاعب‪َّ ،‬‬
‫اآلن تخل ُ‬
‫ٌّ‬
‫كل ما يستطيع أن يتمنّاه المرء»‪.‬‬
‫كبير من الخيط‪ ،‬وهو ُّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬
‫وبرقّ ٍة قال‬
‫‪77‬‬
‫السمكة‪ ،‬سأبقى ِ‬
‫معك حتّى الموت»‪.‬‬
‫ ‪«-‬أيَّتُها َّ‬
‫«وأفترض أَنَّها ستبقى معي كذلك»‪.‬‬
‫قائل في نفسه‪:‬‬
‫وأضاف ً‬
‫ُ‬
‫الجو بار ًدا اآلن قبيل ضوء‬
‫وراح ينتظر مطلع النّهار‪ ،‬صار ُّ‬
‫للدفء‪ّ ،‬‬
‫وفك َر‪ :‬إنَّني‬
‫النَّهار‪ ،‬فاتكأَ على خشب القارب طلبًا ِّ‬
‫السمكة تستطيع ذلك‪ ،‬وعند انبالج‬
‫أستطيع االستمرار مادامت َّ‬
‫وتحر َك‬
‫النّور‪،‬‬
‫انسحب الخيط متّ ً‬
‫َ‬
‫جها إلى األسفل في الماء‪َّ ،‬‬
‫الشمس‪ ،‬كان‬
‫القارب بثبات‪ ،‬وعندما طلع َّأول حاف ٍة من قرص ّ‬
‫الشيخ اليُ ْمنى‪.‬‬
‫شعاعها على كتف ّ‬
‫الشيخ‪:‬‬
‫فقال ّ‬
‫شمال»‪.‬‬
‫ ‪«-‬إنّها تتَّجه ً‬
‫ّ‬
‫الشرق‪ ،‬أَتمنّى‬
‫وفك َر‪َّ :‬‬
‫«إن الّتيّار سيجرفنا بعي ًدا في اتِّجاه َّ‬
‫ُّ‬
‫سيدل على أَنَّها‬
‫ِجهتها مع الّتيّار‪ ،‬فهذا‬
‫السمكة و ْ‬
‫أن تُ ِّ‬
‫حول َّ‬
‫ُم َتعبة»‪.‬‬
‫الشمس أكثر‪ ،‬أَ َ‬
‫السمكة لم‬
‫درك ّ‬
‫وعندما ارتفعت َّ‬
‫الشيخ َّأن َّ‬
‫ُ‬
‫جهدة‪ ،‬وليس ّثمة سوى عالمة إيجابيّة واحدة‪ :‬تلك هي‬
‫تكن ُم َ‬
‫السمكة تسبح على ُع ٍ‬
‫انحراف الخيط الّذي ُّ‬
‫مق‬
‫يدل على أَ َّن ّ‬
‫بالضرورة أَنَّها ستقفز‪ ،‬ولكنَّها‬
‫ّ‬
‫السابق‪ ،‬وهذا ال يعني َّ‬
‫أقل من ّ‬
‫‪78‬‬
‫قد تفعل ذلك‪.‬‬
‫الشيخ‪:‬‬
‫قال ّ‬
‫َدي ما يكفي من الخيط‬
‫ ‪«-‬دعها‬
‫يارب‪ -‬تقفز‪ ،‬فَل ّ‬‫ِّ‬
‫لِتَدبُّرها»‪.‬‬
‫َّ‬
‫قليل‬
‫وفك َر‪« :‬لعلَّني إذا ما‬
‫الضغط عليها ً‬
‫استطعت أن أزيد َّ‬
‫ُ‬
‫نهارا‪،‬‬
‫فقط‪ ،‬فإ ّن ذلك سيؤلمها‪ ،‬وستقفز‪ ،‬ومادام الوقت اآلن ً‬
‫الفقري بالهواء‪،‬‬
‫فلتقفز لكي تمأل الخياشيم على طول عمودها‬
‫ّ‬
‫وحينئ ٍذ ال تستطيع الغوص إلى األعماق لتموت هناك»‪.‬‬
‫َ‬
‫ولكن الخيط كان ُمتوتِّ ًرا إلى الغاية‬
‫الض َ‬
‫حاول أَن يزيد َّ‬
‫غط‪َّ ،‬‬
‫بالسمكة‪،‬‬
‫القصوى لدرجة االنقطاع‪ ،‬منذ أن علق ِّ‬
‫الش ّ‬
‫ص َّ‬
‫ليجر‬
‫وشعر ّ‬
‫الشيخ بهذه ُّ‬
‫الصعوبة عندما مال بظهره إلى الخلف َّ‬
‫َ‬
‫فأدرك أَنَّه ال يمكنه أَن يش ّده أكثر من ذلك‪َّ ،‬‬
‫َ‬
‫وفك َر‪:‬‬
‫الخيط‪،‬‬
‫فكل جذب ٍة ِ‬
‫مفاجئ ٍة‬
‫«إنّني يجب ّأل أجذب الخيط بش ّد ٍة أب ًدا‪ُّ ،‬‬
‫السمكة‪ ،‬وحينذاك‪،‬‬
‫توسع الجرح الّذي أحدثه ِّ‬
‫الش ُّ‬
‫ِّ‬
‫ص في فم َّ‬
‫ص‪ ،‬وعلى أيّة حال‪ ،‬فإنَّني‬
‫السمكة فقد ترمي ِّ‬
‫الش ّ‬
‫عندما تقفز َّ‬
‫لدي‬
‫حسن بعد شروق َّ‬
‫الم َّرة ال رغبة ّ‬
‫الشمس‪ ،‬وهذه َ‬
‫أشعر بالتّ ُّ‬
‫في التَّحديق فيها»‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫ولكن‬
‫علقت بالخيط‪،‬‬
‫صفراء قد‬
‫طحالب‬
‫كانت هناك‬
‫ْ‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫السمكة‪،‬‬
‫ّ‬
‫تجره َّ‬
‫الشيخ يُدرك أنّها فقط تزيد من الحمل الّذي ّ‬
‫كثيرا‬
‫الصفراء الّتي أَح َد ْ‬
‫فَ ُس َّر بذلك‪ ،‬إنَّها طحالب الخليج َّ‬
‫ثت ً‬
‫الفوسفوري خالل اللَّيل‪.‬‬
‫من اللَّمعان‬
‫ّ‬
‫الشيخ‪:‬‬
‫قال ّ‬
‫ِ‬
‫جدا‪،‬‬
‫السمكة‪ ،‬إنّني أُحبُّ ِك‬
‫كثيرا ًّ‬
‫ ‪«-‬أيَّتها َّ‬
‫وأحترمك ً‬
‫ِ‬
‫سأقتلك قبل أن ينقضي هذا اليوم»‪.‬‬
‫ولكنَّني‬
‫وقال في نفسه‪« :‬لنأمل ذلك»‪.‬‬
‫ِ‬
‫الشمال‪ ،‬كان من‬
‫صغير في اتّجاه‬
‫المركب من جهة َّ‬
‫طير ٌ‬
‫أقبل ٌ‬
‫مستوى منخ ِف ٍ‬
‫جدا فوق الماء‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ض ًّ‬
‫المغردة‪ ،‬ويحلِّق على ً‬
‫الطيور ِّ‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫الشيخ أن يفهم أ ّن َّ‬
‫كان من اليسير على ّ‬
‫الط َير ُم َتع ٌب ً‬
‫وحط عليه ليستريح‪ّ ،‬ثم حام حول‬
‫بلغ ّ‬
‫مؤخر القارب‪َّ ،‬‬
‫الط ُير َّ‬
‫ارتياحا أفضل‪.‬‬
‫الشيخ‪،‬‬
‫رأس ّ‬
‫واستقر على الخيط حيث ارتاح ً‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫الط َير‪:‬‬
‫الشيخ ّ‬
‫سأل ّ‬
‫حلتك األولى؟»‪.‬‬
‫عمر َك؟ أهذه هي ِر َ‬
‫ ‪«-‬كم ُ‬
‫جدا لدرجة‬
‫الط ُير إليه عندما تكلَّم‪ ،‬وكان َّ‬
‫نظر َّ‬
‫الط ُير ُم َتعبًا ًّ‬
‫َ‬
‫حط عليه وهو يتأرجح وقدماه‬
‫يتفحص الخيط عندما َّ‬
‫أَنَّه لم ّ‬
‫‪80‬‬
‫بشدة‪.‬‬
‫الرقيقتان تتشبَّثان به َّ‬
‫َّ‬
‫الشيخ له‪:‬‬
‫قال ّ‬
‫ ‪«-‬إنّه ثابت‪ ،‬وفي غاية الثَّبات‪ ،‬وينبغي ّأل تكون على تلك‬
‫الحالة من التَّعب بعد ليلة ال ريح فيها‪ ،‬فما الّذي يأتي‬
‫بالطيور؟»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ّ‬
‫الصقور الّتي تخرج إلى البحر لمالقاة‬
‫وفك َر ّ‬
‫الشيخ‪« :‬إنّها ُّ‬
‫للطير الّذي ال‬
‫الطيور»‪ ،‬ولكنَّه لم ي ُقل شيئًا من ذلك َّ‬
‫هذه ُّ‬
‫يستطيع أن يفهمه على أيّة حال‪ ،‬والّذي سيتعلَّم شيئًا عن‬
‫الصقور في القريب العاجل‪.‬‬
‫ُّ‬
‫الشيخ‪:‬‬
‫قال ّ‬
‫اذهب إلى‬
‫«انعم براحة جيّدة ‪-‬أيُّها َّ‬
‫الطير َّ‬
‫الصغير‪ّ -‬ثم ْ‬
‫ ‪ْ -‬‬
‫أي إنسا ٍن أو طي ٍر أو سمكة»‪.‬‬
‫البَ ِّر‪،‬‬
‫واغتنم فُ َ‬
‫رصتك مثل ِّ‬
‫ْ‬
‫شجعه على الكالم أن ظهره قد تيبَّ َس خالل اللّيل وصار‬
‫وما ّ‬
‫بحق‪.‬‬
‫اآلن يؤلمه ّ‬
‫قال‪:‬‬
‫«حل ضي ًفا في منزلي إذا أحببْ َت‪ ،‬ولكن يؤسفني ‪-‬أيّها‬
‫ ‪َّ -‬‬
‫َ‬
‫وآخذك‬
‫الشراع‪،‬‬
‫َّ‬
‫الطير‪ -‬أنّني ال أستطيع اآلن أن أنشر ّ‬
‫‪81‬‬
‫يهب‪ ،‬ال أخفي عليك‬
‫إلى البَ ِّر مع النَّسيم الخفيف الّذي ّ‬
‫ذلك‪ ،‬فأنا أتح ّدث مع صديق»‪.‬‬
‫السمكة بحرك ٍة ِ‬
‫مفاجئة‬
‫في تلك اللّحظة بالذّات‪ ،‬قامت َّ‬
‫ستجره إلى خارج‬
‫الشيخ على ِ‬
‫أسقطت ّ‬
‫قاع َ‬
‫المركب‪ ،‬وكانت ّ‬
‫الشيء‪.‬‬
‫يتماس ْك‪ ،‬ويُ ْر ِخ الخيط بعض َّ‬
‫المركب لو لم َ‬
‫الشيخ لم َّ‬
‫يتمكن‬
‫لقد طار َّ‬
‫ولكن ّ‬
‫الطير حال اهتزاز الخيط‪ّ ،‬‬
‫وتحس َس الخيط بيده اليُ ْمنى في‬
‫حتّى من رؤيته وهو يرحل‪،‬‬
‫َّ‬
‫عناي ٍة ‪ ،‬فالحظ أ ّن ال ّدم يسيل من يده‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬
‫الشيخ‬
‫قال ّ‬
‫السمكة»‪.‬‬
‫ ‪«-‬إذن‪ ،‬ال بُ ّد أن شيئًا َ‬
‫آلم َّ‬
‫وسحب الخيط إلى الخلف ليرى ما إذا كان باستطاعته أن‬
‫َ‬
‫ولكن ما إن وصل الخيط إلى نقطة االنقطاع‪،‬‬
‫السمكة‪ْ ،‬‬
‫يقلب َّ‬
‫السحب‪ ،‬واستقر في المركب ِ‬
‫ليواجه‬
‫حتّى توقّ َف ّ‬
‫الشيخ عن َّ‬
‫َّ‬
‫ش ّد الخيط‪.‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫السمكة‪ ،‬ويعلم اهللُ أنَّني‬
‫ ‪«-‬إنَّ ِك تشعرين باأللم اآلن‪ ،‬أيَّتها َّ‬
‫كذلك»‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫الراب ِع‬
‫أسئل ُة‬
‫ِ‬
‫الفصل ّ‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬
‫‪5‬‬
‫‪6‬‬
‫عدم االستسال ِم‪،‬‬
‫يظه ُر على ّ‬
‫عب َ‬
‫الشيخ‪ ،‬لكنُّه آث ََر َ‬
‫‪.‬بدأ التّ ُ‬
‫فما الّذي يُضي ُف ُه هذا إلى صفاتِ ِه؟‬
‫للسمكة؟ وما الّذي‬
‫الش ِ‬
‫ستشعر ُه ِم ْن ُمخاطب ِة ّ‬
‫‪.‬ما الّذي تَ‬
‫يخ ّ‬
‫ُ‬
‫تظن أنُّه كا َن يشعر بِ ِه في تلك الل ِ‬
‫ّحظات؟‬
‫ُّ‬
‫ُ‬
‫مر ٍة ‪-‬وهو يُقاسي في البح ِر وح َد ُه‪،‬‬
‫‪َ .‬ك ّر َر ّ‬
‫الش ُ‬
‫يخ أكثر من ّ‬
‫سحبُ ُه بِال هواد ٍة‪ -‬قولَُه‪« :‬أَتمنّى‬
‫والس َمك ُة تَ َ‬
‫نفس ُه‪ّ ،‬‬
‫َويُ َصبِّ ُر َ‬
‫بي»‪ ،‬فما الّذي ُّ‬
‫يدل عليه ذلك؟‬
‫لو كان َّ‬
‫لدي َّ‬
‫الص ُّ‬
‫ِ‬
‫رح ُ‬
‫الكبرى أو‬
‫أيميل اإلنسا ُن ‪-‬عاد ًة‪ -‬في‬
‫‪ُ .‬‬
‫لحظات ال َف ِ‬
‫الصمو ِد ُ ِ‬
‫الرفق ِة أم‬
‫التَّ َرقُّ ِب واالنتظا ِر‪ ،‬أو ّ‬
‫والمقاومة إلى ِّ‬
‫رأيك‪.‬‬
‫الوحد ِة؟ دافِ ْع َع ْن َ‬
‫َ‬
‫مع التّيّا ِر‬
‫‪.‬لماذا تَمنّى ّ‬
‫الش ُ‬
‫السمك ُة وجهتَها َ‬
‫يخ ْأن تُ َح ِّو َل ّ‬
‫الشرق‪،‬‬
‫وفق قولِِه‪َّ :‬‬
‫«إن الّتيّار سيجرفنا بعي ًدا في اتِّجاه َّ‬
‫َ‬
‫ِجهتها مع الّتيّار»؟‬
‫السمك ُة و ْ‬
‫أَتمنّى أن تُ ِّ‬
‫حول َّ‬
‫الرواي ِة‪ ،‬كيف تتوقّ ُع أن تكو َن النّهاي ُة؟‬
‫‪.‬حتّى هذه النَقطة من ّ‬
‫‪83‬‬
Download